logo
الأدب السري لمسلمي إسبانيا الأواخر.. الألخميادو وتلمس سبل النجاة بالكتابة

الأدب السري لمسلمي إسبانيا الأواخر.. الألخميادو وتلمس سبل النجاة بالكتابة

الجزيرةمنذ 6 أيام

في زوايا التاريخ المنسي، حيث الكلمات كانت تكتب خلسة، وتخفى تحت الأرض أو بين الجدران، ولد أدب لا يشبه سواه، إنه "الأدب السري لمسلمي إسبانيا الأواخر" الذي يكشف عن وجدان الموريسكيين، أولئك الذين نزعوا من أوطانهم أو أجبروا على التخلي عن معتقداتهم، فاختاروا أن يقاوموا بالصمت، بالحروف، وبما استطاعوا إليه سبيلا.
في هذا الكتاب، تقدم الكاتبة لوثي لوبيت بارالت، وهي من أبرز الباحثين في الدراسات الإسبانية ومن أحفاد أولئك المنفيين، عملا علميا وإنسانيا بالغ الأهمية، ينبش في ذاكرة أندلسية مطمورة، ويعيد بعث أصوات أريد لها أن تدفن.
وهو كتاب يتجاوز حدود البحث الأكاديمي، ليغدو مرآة لوجع حضاري، ووثيقة شاهدة على زمن الصمت المجبر والمقاومة المواربة ونال جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي في دورتها التاسعة 2023م.
وتقول مؤلفته في إهدائه:
إلى المؤلفين المجهولين الذين دونوا -مخاطرين بحياتهم- هذا الأدب السري؛ الذين هم على الحقيقة مؤلفو هذا الكتاب.
وصدر الكتاب عن مركز البحوث والتواصل المعرفي بالرياض مع مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات بتونس، بإشراف الدكتور عبد الجليل التميمي، وترجمة كل من الدكتورين محمد برادة ونادية العشيري، ومراجعة كل من د. حسام الدين شاشية، ود. ياسر سرحان.
ومؤلفة الكتاب لوثي بارالت من أبرز الأكاديميين والباحثين في الدراسات الأدبية الإسبانية، وتعمل أستاذة للأدب المقارن في جامعة بورتوريكو، تولت منصب نائب رئيس الجمعية العلمية الدولية لدارسي اللغة والآداب الإسبانية، وتولت أيضا منصب نائب رئيس اللجنة العالمية للدراسات الموريسكية بتونس منذ سنة 1983، وخلال عملها استطاعت الوصول إلى مخطوطات في أهم مكتبات أوروبا وتركيا وبعض البلدان العربية، مخطوطات كتبت في هذه المرحلة التي هي مرحلة التهجير القسري وتغيير المعتقدات، فكانت اكتشافاتها هذه سببا لنشرها عددا من الأعمال الأكاديمية المتميزة، وقد نشرت أعمالها بالإسبانية والإنكليزية والفرنسية، وترجمت إلى لغات عدة، تجمع أعمالها كلها صورة أندلس الحضارة المشرقة مع حنين وحزن كامن يتسلل إليك من بين السطور.
السياق التاريخي لأدب الموريسكيين
بين سقوط غرناطة عام 1492م إلى نحو عام 1609 تبدت نتائج المأساة الكبرى للشعب الموريسكي، وهم مسلمو الأندلس المضطهدون سواء منهم من تعرض للتهجير الجماعي قسرا، ومن بقي في بلاده وأجبر إثر هذا على تغيير معتقده بالإكراه.
وكان ذلك حين أذاق الإسبان أهل تلك البلاد ألوان العذاب والتنكيل، ومن صور تلك المأساة التقارير التي كانت ترفع إلى دوائر الحكم في غرناطة وإلى الكنائس للتحذير من هؤلاء الموريسكيين خشية ثقافتهم وتأثيرهم على غيرهم، فكانت نتيجة هذه التقارير والتحذيرات صدور قرارات كثيرة تحظر عادات الموريسكيين، فضلا عن دينهم، بل لقد صدر قرار جعل التخاطب والتعامل باللغة العربية جريمة عام 1566م مما جعلهم يبتدعون لغة خاصة يكتبون بها بينهم، عرفت بلغة الألخميادو وهي خليط من القشتالية والعربية ولهجات أخرى محلية.
فهو أدب إسباني، كتبه الموريسكيون بالحروف العربية، يكشف عن اهتماماتهم اليومية ويعبرون فيه عن أفكارهم ومشاعرهم الدفينة، فكان أدب الألخميادو وسيلة لحفظ وجودهم من الانقراض الثقافي والشخصي الذي كان يهددهم، وكانت هذه اللغة حصن الأندلس الأخير التي حاول المسلمون توريث عقيدتهم لأبنائهم بها سرا.
فهي إذن كتابات إسبانية، خطها العربي، تتخللها مصطلحات عربية وإسلامية.
ومؤلفة هذا الكتاب، واحدة من أحفاد الموريسكيين الذين ذاقوا المعاناة وتعرضوا للمضايقات ولاضطهاد محاكم التفتيش من الإسبان، الذين فروا إلى أميركا اللاتينية.
وأفصحت المخطوطات والوثائق الأدبية الموريسكية المبعوثة من موت حقيقي-حيث كان الموريسكويون يكتبون ما تخفي صدورهم، ثم يخفون كتاباتهم ما استطاعوا، وكثيرا ما كانوا يدفنونها في الجدران وفي الأسقف وفي الأرضيات حتى خرجت مع التنقيبات -عن سيل من الفظائع التي كانت ترتكبها السلطات الإسبانية.
سعت الكاتبة إلى إبراز الحقائق برؤية موضوعية واضحة ومنهج علمي رصين وتناغم وعمل مع مجموعة من الباحثين الشباب المهرة الجادين لإبراز أدب الموريسكيين الأندلسي.
إعلان
ومما يجدر ذكره، ملاحظة أشارت المؤلفة إليها؛ هي أن الموريسكيين ليسوا جميعا مسلمين بكل ما تحمله الكلمة من معنى، لكنها آثرت وصفهم بالمسلمين عامة احتراما لذاكرتهم وثقافتهم.
عرض الكتاب
تحتوي فصول الكتاب التي توزعت على مجلدين في 1153 صفحة على مخطوطات في علم التنجيم الإسلامي، ومخططات لنبوءات عمّا سيكون في نهاية الزمان بإسبانيا، ومخطوطات تتحدث عن مشروبات وتمائم وتعاويذ تقي من السوء، ومخطوطات في تفسير الأحلام، ووثائق لأطباء ومعالجين موريسكيين، ومخطوط أشبه ما يكون بدليل سفر من إسبانيا إلى تركيا مع تنبيهات على الطريق.
ومخطوط لمسلم ريكوتي يخبرنا عن محنته الخفية في منفاه بتونس، ومخطوطات عن آداب الزواج، وأخرى لأساطير وقصص ذات طابع إسلامي للاجئ في تونس.
فهذا الكتاب يحتوي على كل ما استطاعت المؤلفة الوصول إليه من معارف، كتبها أهل تلك المحنة بوصفهم شاهدين على عصرهم في عموم العلوم، أدبية كانت بالمعنى الاصطلاحي، أم غيرها، فقد اهتمت المؤلفة بكتاباتهم في الطب أو التداوي والوصفات السحرية والنبوءات الأخروية وتفسير الأحلام وفي النجوم وفي الرحلات وفي كتاباتهم في بعض الآداب الإسلامية وكتابات المنفى، حيث اقتفت الكاتبة آثار خطى لوبي دي فيغا في المنفى في مسالك سرية، كان قد سلكها فرارا من إسبانيا.
وجاءت الكاتبة إلى هذه الوثائق الأدبية جميعها، وترجمتها، وأتبعت الترجمة نبذة تاريخية عنها.
الكتابة من أشكال النجاة
وحاولت بارالت في عملها فك رمزية النصوص الموريسكية التي عثرت عليها في المخطوطات؛ ما كان منها حصيلة فكر المسلمين الموريسكيين ورؤاهم، وما ورثوه عن آبائهم وأجدادهم من نصوص، حرصوا أشد الحرص على تناقلها بسرية بينهم، وسعت بارالت إلى قراءة ما تنم عنه تلك الكتابات من صراعات داخلية ومعاناة، وما تحمله سطورهم تلك من ملامحهم المهاجرة التي حاول الحكام الإسبان تغييبها وطمسها.
ولمقاربة تلك النصوص المكتوبة بالوجه الأمثل، فقد نظرت إليها الكاتبة على أنها كتابات متناصّة في أصلها، متفاعلة في جوهرها مع النصوص الإسلامية القديمة التي حافظ عليها الموريسكيون وتناقلوها هذا من جهة، ومن جهة أخرى فقد بحثت عنها الكاتبة في الكتابات الإسبانية التي كانت معاصرة لها في تلك المرحلة.
نموذج من تلك الرسائل السرية التي عثر عليها في إحدى المخطوطات، رسالة موجهة إلى فقيه أو عالم بالشريعة تطلب فيها منه صاحبة الرسالة، أن يرسل إليها سرا سجادة لتصلي عليها، ويشرح أن نسيجها ينبغي أن تكون مادته حلالا ويؤرخ الرسالة العاجلة التي وصلته بالجمعة الرابع من رمضان.
View this post on Instagram
A post shared by ابن الأندلس بالتبني ❤ (@ajzkhanh)
أدب الألخميادو
يبيّن هذا الكتاب في ثناياه أهمية أدب الألخميادو ودوره في الحفاظ على الهوية الإسلامية للموريسكيين زمنا في ظل الاضطهاد الديني.
ويشتمل على وصف السياق التاريخي للموريسكيين بتحليل الظروف التاريخية والسياسية التي أحاطت بالموريسكيين بعد سقوط الأندلس، والتحديات التي واجهوها للحفاظ على دينهم وثقافتهم، يفهم ذلك في سياق تحليل مخطوطاتهم والحديث عنها، وفيه وصف لنشأة وتطور أدب الألخيمادو بصفته وسيلة للتعبير والحفاظ على التعاليم الإسلامية، مع تحليل للخصائص اللغوية لأدب الألخميادو.
ومن أبرز ما يلاحظ بخصوص هذه المخطوطات ما خرج منها إلى النور بعد طباعته وترجمته أنه ذو طبيعة هجينة مولدة افترضتها طبيعة المرحلة، وذو طبيعة ملغزة خفية اقتضاها التضييق والتنكيل والخشية على النفس والمعتقد.
ولعل المزية الأساسية لهذه المخطوطات السرية قيمتها الإنسانية والتاريخية والثقافية، فهي شهادة على زمن من المأساة وعلى مقاومة الإنسان المسلم سلخه هويته حتى الرمق الأخير.
وفي ظل الاهتمام المتزايد في الوسط الأكاديمي منذ خمسة عقود بهذا الأدب الموريسكي الذي كان مرآة عكست كثيرا مما حوته صدور هؤلاء المظلومين من أسى، فهذا الكتاب حلقة من هذه السلسلة، وهو كما يقول الدكتور عبد الجليل التميمي صفحة جديدة وواعدة لعلم الموريسكولوجيا.
وكتاب "الأدب السري" بما يحتويه من مخطوطات أصيلة وترجمة وتحليلات صفحة مهمة ومركزية في الحديث عن أدب المسلمين الأواخر في إسبانيا إذ صارت هذه الكتابات أسلحة للنضال الثقافي وضمانات لهوية كادت تضيع.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

ريال مدريد يهنئ إنريكي بدوري الأبطال ويستذكر ابنته الراحلة
ريال مدريد يهنئ إنريكي بدوري الأبطال ويستذكر ابنته الراحلة

الجزيرة

timeمنذ 4 ساعات

  • الجزيرة

ريال مدريد يهنئ إنريكي بدوري الأبطال ويستذكر ابنته الراحلة

بعث ريال مدريد تهنئة خاصة إلى الإسباني لويس إنريكي، مدرب باريس سان جيرمان، بعد تتويج الفريق الفرنسي بلقب دوري أبطال أوروبا لكرة القدم. واكتسح سان جيرمان بقيادة إنريكي أمس نظيره إنتر ميلان الإيطالي 5-0 في المباراة النهائية للبطولة الأوروبية العريقة التي جرت على ملعب أليانز أرينا في مدينة ميونخ الألمانية. ونشر ريال مدريد عبر حسابه الرسمي على منصة إكس "تهانينا لباريس سان جيرمان وجماهيرهم على فوزهم المستحق بدوري أبطال أوروبا لموسم 2024-2025". وأضاف "تهنئة خاصة للعزيز لويس إنريكي مع تحية حب وتقدير لابنته الراحلة تشانا". وتوفيت تشانا ابنة إنريكي يوم 29 أغسطس/آب 2019 وعمرها 8 أعوام بعد معاناة مع مرض سرطان العظام قاومته 5 أشهر. وفضّل إنريكي الاستقالة من منصبه كمدرب لمنتخب إسبانيا في يونيو/حزيران 2019 لأسباب شخصية، قبل أن تكشف تقارير إسبانية، أن السبب المباشر هو التفرّغ لمتابعة حالة ابنته الصحية ومساعدتها أثناء رحلتها العلاجية. وبعد شهرين من استقالته، شارك إنريكي خبر وفاة ابنته الصغرى عبر حسابه الرسمي على منصة "إكس". يُذكر أنه وأثناء مسيرته الاحترافية لاعباً ارتدى إنريكي قميص ريال مدريد 5 مواسم في الفترة ما بين عامي 1991 حتى 1996، قبل أن ينتقل إلى الغريم برشلونة حتى اعتزاله صيف عام 2004. وفي تلك المواسم الخمسة خاض إنريكي مع ريال مدريد 213 مباراة بجميع البطولات سجل خلالها 18 هدفا وصنع 9 وفق أرقام موقع "ترانسفير ماركت" الشهير المتخصص في بيانات اللاعبين والأندية. كما تُوج مع الفريق بـ4 ألقاب هي الدوري الإسباني (1994-1995)، وكأس ملك إسبانيا (1992-1993)، وكأس السوبر الإسباني (2). وتوترت علاقة إنريكي بجمهور ريال مدريد بُعيد انتقاله إلى الغريم برشلونة عام 1996، كما تعرض قبل ذلك لصفارات الاستهجان أكثر من مرة بسبب تذبذب مستواه. ومع تصاعد هذه الصفارات والانتقادات قرّر إنريكي الرحيل بانتهاء عقده، فرفض التمديد ليوقّع لبرشلونة الذي لم تتقبل جماهيره الصفقة في البداية قبل أن يتحوّل إلى بطل قومي في كتالونيا. وخلال فترة وجوده في برشلونة شارك إنريكي ضد ريال مدريد في 19 مباراة وسجل فيها 5 أهداف وصنع هدفا وحيدا وفق موقع "ترانسفير ماركت" الشهير. وما زاد التوتر بين إنريكي وجماهير الميرنغي إدلاؤه بتصريح قال فيه، إنه لم يحب ريال مدريد يوما ولم يشعر بالانتماء للفريق، وإن برشلونة حلمُه وفخره الحقيقي. واستمر شعور كراهية جماهير ريال مدريد لإنريكي حتى بعد استلامه تدريب منتخب إسبانيا، حيث اتُهم بأنه يجامل لاعبي برشلونة أكثر من نظرائهم في النادي الملكي باستدعائهم أكثر للمباريات الدولية.

المظاهرات العالمية تتواصل تضامنا مع الشعب الفلسطيني بغزة
المظاهرات العالمية تتواصل تضامنا مع الشعب الفلسطيني بغزة

الجزيرة

timeمنذ 7 ساعات

  • الجزيرة

المظاهرات العالمية تتواصل تضامنا مع الشعب الفلسطيني بغزة

تتواصل المظاهرات الشعبية حول العالم رفضا للعدوان الإسرائيلي المستمر على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وتطالب برفع الحصار، في ظل تفاقم الكارثة الإنسانية وارتفاع أعداد الضحايا. في تركيا، تظاهر آلاف المواطنين في إسطنبول، إحياء للذكرى الـ15 للهجوم الإسرائيلي على سفينة " مافي مرمرة" عام 2010، الذي أسفر عن مقتل 10 أتراك كانوا في طريقهم لكسر الحصار عن غزة. وندد المتظاهرون بـ"الكيان المجرم"، مطالبين المجتمع الدولي بالتدخل لوقف حرب التجويع والقتل، كما اتهموا العالم بالتواطؤ من خلال صمته. وفي إقليم الباسك شمالي إسبانيا، نظّمت بلدية مدينة سان سيباستيان بالتعاون مع جمعيات داعمة للقضية الفلسطينية وقفة تضامنية مع غزة. ورفع المشاركون الأعلام الفلسطينية ولافتات تطالب بوقف "حرب الإبادة"، ورفع الحصار، وإدخال المساعدات الإنسانية. كما دعوا إلى مقاطعة إسرائيل ومحاسبتها على جرائم الحرب، وناشدوا حكومات العالم للاعتراف بدولة فلسطين. أما في السويد، فقد خرجت مظاهرة حاشدة في مدينة مالمو، ثالث أكبر مدن البلاد، دعما لفلسطين وتنديدا بالحرب الإسرائيلية. ورفع المتظاهرون الأعلام الفلسطينية، مرددين شعارات مناهضة للصهيونية ومؤيدة لحقوق الشعب الفلسطيني. وتأتي هذه التحركات الشعبية بالتزامن مع استمرار العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، الذي خلف عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى، وسط تحذيرات أممية من مجاعة وشيكة تهدد حياة أكثر من مليوني فلسطيني محاصرين داخل القطاع.

المستعرب الإسباني خوسيه بويرتا: غرناطة مركز التراث الأندلسي وبوابة الإبداع العربي في أوروبا
المستعرب الإسباني خوسيه بويرتا: غرناطة مركز التراث الأندلسي وبوابة الإبداع العربي في أوروبا

الجزيرة

timeمنذ 11 ساعات

  • الجزيرة

المستعرب الإسباني خوسيه بويرتا: غرناطة مركز التراث الأندلسي وبوابة الإبداع العربي في أوروبا

الدوحة – من غرناطة، المدينة التي لا تزال أصداء الأندلس تتردد في أزقتها، تنبعث " جائزة رضوى عاشور للأدب العربي" شاهدا ثقافيا حيا على الترابط العميق بين الثقافتين العربية والإسبانية، ومُكرِّمةً لإرث أدبي استثنائي نسجته الناقدة والروائية الراحلة من خيوط التاريخ المشترك وأوجاع الحاضر. في طليعة هذا الجهد الثقافي، وفي سياق النقاشات الفكرية التي أثارها ال مؤتمر الدولي الأول للاستشراق بالدوحة (26-27 أبريل/نيسان 2025)، تأتي أهمية الحوار مع المستعرب الإسباني خوسيه ميغيل بويرتا فليشيت ، عضو لجنة تحكيم الجائزة، وأحد أبرز فرسان الاستعراب الإسباني الذي نذر جهده لإضاءة فصول الذاكرة الأندلسية وتأثيرها المتجدد. بين أروقة المدرسة اليوسفية العريقة في غرناطة، حيث أُعلنت الجائزة التي تحتفي بالإبداع العربي في قلب مدينة ألهمت أدباء كبارا كمحمود درويش، وباعتباره خبيراً أكاديمياً أغنى المكتبة الإسبانية بدراساته عن التراث العربي، يكشف بويرتا فليشيت للجزيرة نت، عن الدوافع الكامنة وراء هذه المبادرة الأدبية، ورمزية اختيار غرناطة كفضاء للإلهام، والدور الحيوي للاستعراب الإسباني في صون هذا الإرث العظيم، وتأثير كل ذلك على الاهتمام المعاصر بالأدب والثقافة العربية. ولد بويرتا فليشيت عام 1959 في قرية دوركل الواقعة جنوب غرناطة. تدرج في سلم المعرفة حتى نال شهادة الدكتوراه في اللغة العربية من جامعة غرناطة عام 1995 عن رسالته "مفاهيم الفن والجمال والإدراك البصري في الفكر الأندلسي"، ليصبح في ما بعد أستاذاً لتاريخ الفن في الجامعة ذاتها وعضواً في الأكاديمية الملكية للفنون الجميلة بغرناطة. ووفقا لما قاله فليشيت عن الاستعراب الإسباني، فإن الجائزة تمثل ربطا حيا بين الأدب العربي المعاصر ومدينة غرناطة، التي لطالما كانت مصدر إلهام كثير من الكتاب، أبرزهم محمود درويش، الذي استلهم من غرناطة رمزية الفقد والهوية في أعماله. فإلى الحوار: كعضو في لجنة التحكيم في جائزة "رضوى عاشور للأدب العربي".. ارو لنا الدوافع والأهداف التي تقف وراء إطلاقها، وما الذي يميزها عن غيرها من الجوائز الأدبية العربية؟ تم إطلاق "جائزة رضوى عاشور للأدب العربي" في شهر ديسمبر الماضي، في مقر المدرسة اليوسفية التابعة لجامعة غرناطة. وقد جاءت هذه الجائزة بمبادرة شخصية من الشاعر والكاتب المعروف تميم البرغوثي، تكريما لوالدته الكاتبة الراحلة رضوى عاشور، تزامنا مع مرور عشر سنوات على وفاتها. تحظى الجائزة بدعم ورعاية من مؤسسة قطر من جهة، ومن جهة أخرى بدعم جامعة غرناطة. وقد رحبت جامعة غرناطة بهذه الفكرة بحماس ومحبة، نظرا للعلاقة الخاصة التي تربط رضوى عاشور بمدينة غرناطة، فهي صاحبة الرواية الشهيرة ثلاثية غرناطة التي تناولت مأساة طرد المسلمين من الأندلس، وربطت في أعمالها بين سقوط غرناطة وما حل بالموريسكيين وبين قضايا الشرق الأوسط ، لا سيما القضية الفلسطينية. وقد كان تميم البرغوثي قد زار غرناطة برفقة والدته ووالده الشاعر الفلسطيني الراحل مريد البرغوثي في عام 2008، حين شاركوا في مهرجان أدبي بمدينة غرناطة، وكانت تلك آخر زيارة له للمدينة قبل رحيل والديه. وبعد وفاة والديه، عاد تميم البرغوثي إلى غرناطة مطلع عام 2024، حيث أهدى والديه قصيدة ضمنها في ديوان "شرف لقصر الحمراء". إثر ذلك، تعاونت كل من مؤسسة قطر وجامعة غرناطة على إعداد وثيقة الجائزة، وجرى الإعلان عنها رسميا بحضور تميم البرغوثي وثلاث باحثات مصريات متخصصات وصديقات مقربات من رضوى عاشور، وذلك في المدرسة اليوسفية في ديسمبر الماضي. ومن المقرر فتح باب الترشح للجائزة خلال الأيام أو الأسابيع المقبلة، على أن تمنح أول جائزة بعد الصيف، حيث جرى التفكير في شهر ديسمبر كتوقيت مناسب. والجائزة عبارة عن إقامة أدبية لشخصين يكتبان باللغة العربية، بهدف إنجاز مشروع أدبي أو تطويره؛ سواء كان قصة أو رواية أو حتى مقالة نقدية. ولا تقدم الجائزة في شكل مادي، بل تتيح للمبدعين إقامة لمدة شهر كامل في فيلا أندلسية مطلة على قصر الحمراء، مع إتاحة الوصول إلى القصر طوال اليوم، إلى جانب زيارة المواقع التاريخية الأخرى. ونحن في جامعة غرناطة نشعر بفرح بالغ بهذه المبادرة، لأنها تخلق صلة حية بين الأدب العربي المعاصر ومدينة غرناطة. وستمنح الجائزة لشخصين: أحدهما دون الأربعين من العمر، والآخر فوق الأربعين. كما يمكن أن تكون المشاريع المقدمة شعرية أو سردية أو حتى نقدية. ما العوامل التاريخية والثقافية والشخصية التي جعلت تميم البرغوثي يختار غرناطة تحديدا لإطلاق جائزة رضوى عاشور للأدب العربي؟ في رأيي، تمتلك مدينة غرناطة طاقة إلهامية معروفة عالميا منذ زمن بعيد، وليس فقط في وقتنا الحالي. وقد صادف أنه كان هناك سابقا في جامعة غرناطة جائزة أدبية أخرى تتضمن الإقامة في المكان ذاته، إذ إن هذا المكان أندلسي الطابع ويتبع لمعهد الدراسات العربية، الذي يضم مكتبة أندلسية وعربية مهمة، إلى جانب حدائق مطلة على قصر الحمراء. وقد استفادت العديد من الجوائز المشابهة من هذه المقومات سابقا، للكتاب بين العرب وأوروبا. أما في الوقت الحاضر، فإن تميم البرغوثي لم يكن على دراية بهذه الأمور سابقا عندما اختار هذا المكان بعينه، إنما اختار مدينة غرناطة بطبيعة الحال تكريما لوالدته. إضافة إلى أنه شعر، خلال زياراته لغرناطة بصحبتي أو بصحبة مرشد سياحي مصري، فضلا عن زيارات أخرى مستقلة، بإلهام عميق ينبع من أجواء مدينة غرناطة، إذ إنها مدينة تقع على هامش التاريخ، وكانت يوما ما عاصمة دولة ذات موانئ مشهورة عالميا. تضم غرناطة أيضا واحدة من أهم الجامعات في إسبانيا، وهي الجامعة التي تحظى بأعلى نسبة اختيار من طلاب برنامج "إيراسموس" الأوروبي، إذ تعد غرناطة المدينة الأكثر جذبا للطلاب الأوروبيين في إطار هذا البرنامج. ويرجع ذلك إلى كونها مدينة متوسطة الحجم، ليست ضخمة، وإلى ما تزخر به من آثار أندلسية، فضلا عن طابع الحياة الاجتماعية فيها، سواء في الشوارع أو المقاهي أو الحدائق والموانئ. ومن المصادفات الجديرة بالذكر أيضا، أن غرناطة هي المدينة الوحيدة التي بنيت فيها مدرسة خلال تاريخ الأندلس كله، وهي المدرسة اليوسفية التي شيدها السلطان يوسف الثالث عام 1349. وقد احتفلنا أخيرا بمرور 675 عاما على تأسيس هذه المدرسة، التي تعد المدرسة الوحيدة من نوعها في تاريخ الأندلس. كل هذه العوامل كان لها أثر بالغ في اختيار تميم البرغوثي هذا المكان تحديدا، إلى جانب ما كانت تكنه والدته من إعجاب وحب لهذه المدينة التي زارتها عدة مرات لتوثيق أحداث ثلاثيتها الشهيرة. وكان تميم دائما يسمع والدته تتحدث بانبهار وشغف عن غرناطة، بسحرها العمراني وجمال آثارها، وكذلك بما تحمله من حزن دفين بسبب المأساة التاريخية التي حلت بها، حيث طرد أولئك الذين صنعوا هذا الجمال، في ظلم تاريخي يشبه إلى حد كبير ظلم الاحتلال في فلسطين. مبادرة "جائزة رضوى عاشور للأدب العربي" تحتفي بالإبداع العربي في غرناطة، في صورة مشابهة لتجربة محمود درويش الذي استلهم من غرناطة رمزية الفقد والهوية في ديوانه "أحد عشر كوكباً على آخر المشهد الأندلسي".. حدثنا عن ذلك الرابط. يعد عام 1492 عاما رمزيا عالميا، إذ شهد سقوط غرناطة، معلنا بذلك نهاية الحكم الأندلسي وبدء الاستعمار الإسباني للأميركتين. وفي عام 1992، أحيت إسبانيا ذكرى هذا التاريخ الرمزي بالعديد من الفعاليات الكبرى، مثل أولمبياد برشلونة، والمعرض العالمي في إشبيلية، إلى جانب معارض للفن الإسلامي في قصر الحمراء بمدينة غرناطة. في تلك السنة، جاء الشاعر الفلسطيني محمود درويش، الذي كان يقيم حينها في باريس ، خصيصا إلى غرناطة للتأمل في هذا التاريخ المفصلي. ومن وحي هذه الزيارة، كتب ديوانه المعروف "أحد عشر كوكبا على آخر المشهد الأندلسي". وقد ربط درويش في هذا العمل بين عدة رموز تاريخية وثقافية؛ فمن جهة، قصر الحمراء، ومن جهة أخرى، الشاعر الإسباني غارثيا لوركا، الذي كان درويش شديد الإعجاب به، شأنه في ذلك شأن العديد من الأدباء العرب. ومن الجدير بالذكر أن درويش كان قد كتب سابقا قصيدة طويلة شهيرة بعنوان "خمسون عاما بدون لوركا" بمناسبة مئوية هذا الشاعر الكبير. وفي ديوانه "أحد عشر كوكبا على آخر المشهد الأندلسي"، أجرى درويش ربطا بين سقوط غرناطة واغتيال لوركا، وامتد هذا الربط ليشمل قضيته الفلسطينية. وفي القصيدة، أشار درويش إلى ما وصفه ب"الفردوسين"، في إشارة إلى فردوس الأندلس وفردوس فلسطين ، معبرا عن فقدانهما معا، بما يعكس إحساسا مزدوجا بالفقد: فقدان الإسلام الأوروبي الأندلسي من جهة، وتعرض فلسطين للاحتلال من جهة أخرى. وعن الاستعراب الإسباني، يجدر الذكر أن المفكر إدوارد سعيد نفسه أشار إلى هذا الموضوع عندما طلب منه الكاتب الإسباني الراحل المعروف "خوان غويتسولو" كتابة مقدمة للترجمة الإسبانية لكتابه الشهير "في الاستشراق الإسباني". وبعد مرور عشرين عاما على صدور الكتاب بالإنجليزية، نشرت ترجمته الإسبانية، وكتب سعيد في مقدمتها معترفا بأنه لم يكن مطلعا من قبل على حركة الاستعراب الإسباني، بل تعرف إليها لاحقا بفضل صديقه الذي أطلعه عليها ودفعه إلى دراستها قليلا. وأشار سعيد في المقدمة إلى أن إسبانيا تختلف عن بقية أوروبا كونها "مسكونة بالإسلام"، رغم ما مرت به من طرد ومحو ممنهج للماضي الإسلامي. وتعد هذه الإشارة ذات دلالة عميقة، إذ إن الاهتمام بالإسلام والتراث العربي في إسبانيا لا يقتصر على الأوساط الأكاديمية، بل يمتد إلى الحياة الشعبية اليومية. فعلى الرغم من أنه يمكن أن يكون بعضهم لم يدرس عن الإسلام أو عن اللغة العربية أو أي شيء من هذا القبيل، ولكن تنتشر على نحو واسع الفعاليات الثقافية والحفلات والمعارض المرتبطة بالأندلس، لأن الإسبان يرون فيها جزءا من هويتهم التاريخية. أما من الناحية الأكاديمية، فقد بدأ الاستعراب الإسباني رسميا تقريبا في منتصف القرن الثامن عشر، حين وصلت إلى مدريد مجموعة من اليسوعيين القادمين من لبنان للمساهمة في ترجمة النقوش والمخطوطات وتنظيم ترتيب المخطوطات العربية المحفوظة في إسبانيا، برعاية من العائلة الملكية الإسبانية. ومنذ ذلك الوقت، خصوصا بعد عام 2019، تطور في إسبانيا تيار استعرابي علمي مهم، وإن كان في بعض أوساطه يحمل رؤى استعمارية أو مجحفة تجاه الإسلام. إلا أنه مع مرور الزمن نشأ تيار استعرابي متنور، تدعمه معاهد وأقسام متخصصة في العديد من الجامعات الإسبانية، وقد تقدمت الأجيال الجديدة فيه تقدما ملحوظا. تجدر الإشارة إلى أن الموضوع الرئيسي للاستعراب الإسباني يظل مرتبطا بالأندلس، نظرا لأن آثارها ومخطوطاتها وإرثها المادي لا يزال حاضرا في كل زاوية تقريبا من المدن والقرى الإسبانية، من نقوش ونقود وتحف وغيرها. وهذا ما جعل التراث الأندلسي يندمج تلقائيا في الوعي الشعبي الإسباني، بحيث يتفاعل معه الناس بصورة طبيعية، ويرونه جزءا من هويتهم. أما على مستوى المستعربين الأكاديميين، فقد تأثروا بالتيارات العلمية والبحثية الأوروبية، ولدينا اليوم مجالات بحثية واسعة ومنشورات مهمة صدرت منها مئات الكتب باللغة الإسبانية. وأخيرا، نشهد تزايدا في الاهتمام بترجمة الأدب العربي الحديث والثقافة العربية المعاصرة، وليس فقط الدراسات الأندلسية، لأن كثيرا من الإسبان باتوا ينظرون إلى اللغة العربية كلغة مرتبطة أيضا بواقع الحياة والسياسة المعاصرة. ولهذا انتشرت الترجمة من الروايات والأعمال الأدبية العربية الحديثة، وكذلك الفعاليات المرتبطة بالفنون العربية الراهنة، بهدف تعزيز العلاقات الثقافية بين العرب والإسبان بوصفهم جزءا من الفضاء المتوسطي المشترك. وهنا تجدر الإشارة إلى ملاحظة مهمة، وهي أن أغلب الإنتاج الاستعرابي الإسباني مكتوب باللغة الإسبانية، ما يجعله شبه مجهول لدى جمهور القراء العرب، خصوصا في المشرق، وكذلك لدى التيارات الاستعرابية الأخرى كالأنجلوسكسونية والفرنسية وحتى الألمانية، إذ إن هذه الأوساط الأكاديمية قلما تطلع على منشورات الاستعراب الإسباني. وعندما أشارك في مؤتمرات وندوات مع متخصصين عرب أو إنجليز أو أميركيين، ألاحظ دائما أن كثيرا منهم غير مطلعين على الإنتاج الحيوي للاستعراب الإسباني، الذي يتمحور معظمه حول الأندلس، وإن كان قد بدأ أخيرا يتوسع ليشمل الثقافة والمجتمعات العربية الحديثة.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store