
هذا الانتقال الديمغرافي في تونس
مرّ على أوّل تعداد عامّ للسكّان عرفته تونس ما يزيد عن قرن. كان ذلك سنة 1921 تحت الاحتلال، حين عمدت السلطات الاستعمارية الفرنسية، في نطاق إحكام سيطرتها على المجتمع وضبط هياكله الاجتماعية، إلى إجراء هذا التعداد الأوّل من نوعه. وحين استقلّت البلاد عمدت مباشرة إلى إجراء أوّل إحصاء للسكّان سنة 1956، واستمرّت هذه العملية تقريباً وبشكل دوري. ففي كلّ عقد تجري هذه العملية بشكل يكاد يكون منتظماً. كان آخر إحصاء في 2014، أي بعد ثلاث سنوات تقريباً من الثورة، وها هي تونس تعود، بعد ما يناهز عقد، إلى تكرار أكبر عملية إحصائية دقيقة تسمّى رسمياً "التعداد العام للسكّان والسُكنى". انطلقت عملية التعداد هذه في إبريل/ نيسان 2024، ليتم بعد سنة تقريباً تقديم أبرز النتائج. اعتمد هذا التعداد لأوّل مرّة، وبشكل مكثّف، على تكنولوجيات رقمية متطوّرة، من شأنها أن تعزّز دقّة المعطيات في كامل مسارها، من الجمع إلى المعالجة، فضلاً عن التثبّت من صحّتها ومراقبتها في جلّ مراحلها. لم تقابل (كالعادة) النتائج بتشكيك رغم تحفّظات بعضهم على المؤسّسة الوطنية التي تشرف عليه بشكل مباشر، وهي المعهد الوطني للإحصاء، وقد خضع بشكل كبير إلى هيمنة السلطة التنفيذية، وحُدّ من استقلاليته، ويتجلّى ذلك من خلال التعيينات المتتالية لمديره العام على خلفية صدور أرقام بين حين وآخر لا ترضي السلطة السياسية، تعلّقت عموماً بنسب التضخّم والعجز التجاري... إلخ. ومع ذلك، حظيت نتائج التعداد بقبول واسع نتيجة عدّة اعتبارات، لعلّ أهمها ما رافق جلّ الخطوات من رقابة تقنية وعلمية أمّنها خبراء يشهد لهم بالخبرة والحياد.
تؤجل التونسيات الزواج لمتابعة مسارهن المهني أو التعليمي، ولديهن قناعات متزايدة بأن ذلك يحقّق لهن عماد استقلالهن واعتمادهن على الذات
كان عدد السكّان (بحسب هذا التعداد) يناهز 11 مليوناً و900 ساكن تقريباً، في حين كان سنة 2014 في حدود 11 مليونَ ساكنٍ، أي بمعدّل نموٍّ منخفضٍ كان في حدود 0.87 %. غير أن مؤشّرات عديدة (ونتائج أخرى) شكّلت مفاجأةً لفئات واسعة من الرأي العام، والحال أنها ظلّت متوقّعة لدى المختصّين والخبراء، سواء في الديمغرافيا أو الاقتصاد. وقد أمكن التنبّه لها من خلال إسقاطاتٍ عديدة كانت منذ أكثر من عقدَين تتوقّع حدوث مثل هذه السيناريوهات. لعلّ أولى تلك النتائج الهرم السكّاني الذي ضرب الهيكل العمري العامّ للتركيبة السكانية. لقد دخلت البلاد انتقالها الديمغرافي الحادّ، إذ تراجعت نسب الولادات وتوسّعت قاعدة كبار السنّ. وذلك ناجم من عدّة عوامل، لعلّ أهمها ارتفاع مأمول الحياة عند الولادة نتيجة الخدمات الصحّية، التي شملت هذه الفئات، فإذا كانت النسبة سنة 1966في حدود 5.6%، فإنها بلغت سنة 2014 ما يناهز 17%.
النتيجة الثانية، تراجع نسبة الخصوبة لدى النساء، إذ بلغت حدود 1.6%، وهي النسبة التي لا تسمح بتجدّد الأجيال وفق النسق الطبيعي، وهي نتيجة ناجمة من عدّة عوامل، لعلّ أهمها تأخّر سنّ الزواج لدى النساء (العزوبة) المرتبط مباشرة بمسألة الخصوبة لديهن، فالنساء في هذه الفترة الفضلى للإنجاب عادةً ما يكنَّ (منذ أكثر من عقدَين) بصدد بناء مسارهن الدراسي أو المهني، ممّا يدفعهن إلى تأجيل الزواج، خصوصاً وقد نمت لديهن قناعات متزايدة (وراسخة) أن ذلك المنهج يحقّق لهن عماد استقلالهن واعتمادهن على الذات.
النتيجة الثالثة، وظلّت محل استغراب الرأي العام، تقلّص حجم الأسرة والانتقال بلا مواربة إلى أسرة نووية متقلّصة الحجم، فقد بيّنت الأرقام أن حجم الأسرة الحالي في حدود 3.45، وهي أسرة قليلة العدد عادة، إمّا تكون زواجية تحتضن ابناً أو بنتاً أو أسرةً تتكوّن من عائل وحيد، قد يكون الأب أو الأم، مع ابنَين ضمن أشكال متعدّدة لم تكن مألوفةً سابقاً، وهو ما يفيد بأن المجتمع التونسي يغادر بشكل سافر العائلة الممتدّة، رغم تواصلها في مناطق داخلية، وإن كان بشكل متقلّص، وضمن تمثّلات وممارسات مختلفة عمّا عهدناه قديماً في هذا النوع من العائلة التقليدية.
وأخيراً، النتيجة التي ظلّت حاضرةً في أذهان الناس أن الهوّة العميقة ظلّت تحفر أكثر أخدوداً عميقاً بين السواحل والدواخل من حيث حجم السكّان، إذ كانت المدن الأكثر سكّاناً تونس وبن عروس ونابل وسوسة وصفاقس، وكلّها مدن ساحلية تتوزّع شريطاً يستأثر بجلّ الاستثمارات الاقتصادية، والمرافق الصحّية والاجتماعية، في حين تدفع مناطق الداخل سكّانها إلى الهجرة، طاردة لهم، بسبب الإقصاء والتهميش اللذين عانتهما (ولا تزل)، ولا تبدو في الأفق القريب أو المتوسّط لتفادي هذا الشرخ الاجتماعي الحادّ.
حظيت نتائج التعداد بقبول واسع نتيجة ما رافق جلّ الخطوات من رقابة تقنية وعلمية أمّنها خبراء يشهد لهم بالخبرة والحياد
تدخل تونس بحدّة انتقالها الديمغرافي، الذي عادة إمّا أن يكون مريحاً وإما عسيراً، بحسب ما تم التخطيط له، وتوفير ما يسنده من سياسات اقتصادية وتنموية واجتماعية دقيقة، ضمن ما يطلق عليه هندسات اجتماعية استباقية، ولكن لا يبدو أن البلاد بإمكانها إدارة هذا الانتقال بشكل يسير وسلس. فهذا الهرم السكّاني ستعانيه البلاد في ظلّ أعباء كبيرة تثقل كاهل صناديق الحماية الاجتماعية، ممّا يجعلها عرضةً لصعوبات جمّة تخصّ ميزانياتها، خصوصاً في ظلّ التفكّك الأسري المتواصل، الذي سيفاقمه تراجع حجم الأسر كما أشرنا سابقاً. كما أن تراجع الولادات بحدّة، رغم بعض مزاياه، سيفقد المجتمع قدرته على التجدّد، خاصّة قوّته العاملة والمنتجة، ممّا يجعل إمكانية الاستعانة قادماً بيد عاملة أجنبية أمراً وارداً، وهو سيناريو ستعارضه بشدّة إرادة سياسية شعبوية، ترى في ذلك مؤامرةً تستهدف تغيير هُويَّة البلاد.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


العربي الجديد
منذ 2 ساعات
- العربي الجديد
خسائر أردنية فادحة من الحرب الإسرائيلية الإيرانية.. تعرف عليها
آثار اقتصادية متعدّدة تنتظر الأردن ، وبعضها بدأت تظهر على أرض الواقع بسبب الضربات العسكرية المتبادلة بين الكيان الإسرائيلي و إيران منذ أيام؛ نظراً لموقعه المتوسّط في المنطقة، وارتباط تجارته الخارجية على وجه الخصوص بما يحدث من تداعيات في البحر الأحمر ومضيق باب المندب، وليس ببعيد الانعكاسات السلبية التي لحقت به نتيجة للعدوان على قطاع غزة. ويبدو ملف الطاقة الأكثر تأثر مباشرة بالحرب الدائرة بين إسرائيل وإيران، خاصةً بعد وقف ضخ الاحتلال للغاز لكل من مصر والأردن منذ يوم الجمعة الماضي، إذ يحصل الجانب الأردني على احتياجاته من الغاز الطبيعي من إسرائيل بموجب اتفاق وُقّع بينهما سابقاً وبدأ تطبيقه لمدة 15 عاماً. وقف إمدادات الغاز ويرى مختصون أن الاقتصاد الأردني يواجه تحديات جديدة خلال الفترة المقبلة في حال طال أمد وقف إمدادات الغاز، الذي يعتمد عليه لتوليد الكهرباء بكلف أقل من استخدام الوقود الثقيل، ما يؤدي إلى ارتفاع الكلف وتحميل شركة الكهرباء الوطنية المملوكة بالكامل للحكومة مزيداً من الخسائر، مع صعوبة خيارات رفع تعرفة الكهرباء حالياً أو في المنظور القريب. طاقة التحديثات الحية الأردن: مستويات الإشعاع البيئي مستقرة ضمن الحدود الطبيعية وفي جوانب أخرى، لن تكون قطاعات التجارة والسياحة والخدمات وغيرها في منأى عن التداعيات السلبية للحرب الدائرة بين الجانبَين، خاصّة مع توقع تطور الأوضاع خلال الأيام المقبلة، واحتمال عودة أجور الشحن البحري للارتفاع بنسبة كبيرة. وبدا التأثر واضحاً على الحياة العامة في الأردن منذ اليوم الأول لتبادل الهجمات مع توقف العديد من الأنشطة التجارية المحلية والسياحة الداخلية، وإلغاء إقامة مناسبات اجتماعية، خاصّة مع دعوة الحكومة المواطنين إلى عدم الخروج من المنازل والتجمهر في الأماكن العامة تفادياً لسقوط أي أجسام طائرة مثل الصواريخ والمُسيّرات ومقذوفات المضادات الأرضية. يقول عضو غرفة تجارة عمّان علاء ديرانية، لـ"العربي الجديد" إن الأردن من أكثر البلدان تأثراً بالحرب بين الكيان الإسرائيلي وإيران، إذ ستلحق آثار سلبية مباشرة بمختلف القطاعات الاقتصادية، ويضيف أن السياحة في مقدمة القطاعات المتأثرة، وهنا نتحدث عن تراجع السياحة الداخلية والخارجية وعزوف السياح عن زيارة الأردن لارتفاع عامل المخاطرة، وستلغي الأفواج رحلاتها إلى المنطقة عموماً، إذ يعتبر القطاع السياحي من أهم الروافد الاقتصادية للأردن، يتابع: "إذا استمرت الحرب سترتفع الأسعار، خاصّة بعد وقف إمدادات الغاز الإسرائيلي للأردن، كما سترتفع أسعار العملات والذهب، مشيراً إلى تراجع أداء العديد من القطاعات مثل السياحة والطيران، إذ أُغلقت الأجواء الأردنية كلياً منذ بدء الحرب إلى أن أعيد فتحها صباح السبت وربما يعاد إغلاقها مع تطورات الأوضاع". وارتفعت أسعار الذهب في السوق المحلية الأردنية السبت بمقدار 10 قروش للغرام، وفقاً للتسعيرة الصادرة عن النقابة العامة لأصحاب محالّ تجارة وصياغة الحلي والمجوهرات الأردنية، وبلغ سعر بيع غرام الذهب عيار 21 الأكثر رغبة من المواطنين 69.60 ديناراً لغايات البيع من محلات الصاغة مقابل 67.10 دينار للشراء (الدولار = نحو 1.4 دولار). إنتاج محلي ضعيف الخبير في قطاع النفط والطاقة هاشم عقل، يقول لـ"العربي الجديد" إنه بينما انشغلت عواصم العالم بتحليل تبعات العدوان الإسرائيلي على إيران على الجبهات السياسية والعسكرية، بدأت دول المنطقة، ومنها الأردن، بمراقبة تطور بالغ الخطورة. يفسر أنه في بلد يستورد أكثر من 90% من احتياجاته من الطاقة، ويعتمد على خطوط إمداد تمتد عبر نقاط شديدة التوتر الجيوسياسي، فإن أي زلزال في المنطقة، حتّى وإن كان بعيداً جغرافياً، يمكن أن يهزّ أساسات استقراره الاقتصادي. ويتابع عقل: "يحتل الأردن موقعاً جغرافياً حساساً، يتوسط الخليج الملتهب وسورية المضطربة، والعراق الهشّ، وإسرائيل الغارقة في صراعات أمنية. وكلّ هذه الأطراف اليوم قد تصبح فاعلة، أو ساحةً، في تطوّر الحرب الإسرائيلية - الإيرانية. يقول عقل إن الأردن يحصل على الغاز الطبيعي من إسرائيل عبر مصر، بموجب اتفاقية تمتدّ 15 عاماً، فضلاً عن الغاز المحلي من حقل ريشة الأردني، لكنّ إنتاجه لا يغطي أكثر من 5 - 7% من الاحتياج المحلي، ويضيف أنّه بعد ساعات قليلة من العدوان، قفزت أسعار النفط في الأسواق العالمية إلى مستويات لم تُسجَّل منذ سنوات، إذ بلغ سعر خام برنت أكثر من 78 دولاراً للبرميل، وسط مخاوف من تعطيل الملاحة في مضيق هرمز، الذي يمر عبره نحو 20% من تجارة النفط البحرية في العالم. أسواق التحديثات الحية سورية تنعش تجارة السيارات في الأردن ويضيف: "الأردن يعتمد على أسعار السوق العالمية في تسعير مشتقاته، وبالتالي فإن المواطنين قد يواجهون زيادات جديدة في أسعار المحروقات في حال استمرار التصعيد"، ويلفت إلى أنّ "ما يقلق صنّاع القرار الأردنيين أكثر من النفط هو الغاز الطبيعي، إذ إنّ الأردن يعتمد على الغاز الإسرائيلي المستخرج من حقلَي ليفياثان وتمار، والمُرسل إلى الجانب الأردني عبر مصر، وأي استهداف من إيران وحلفائها في سورية ولبنان لهذه المنشآت البحرية أو البرية، سيؤدي إلى تعطيل الإمداد، كما أن إسرائيل أوقفت التصدير إجراءً احترازياً أمنياً، وهو إجراء مؤقت لكن لا يُعرف إن كانت مدته ستطول". ويرى الخبير الأردني أنه في حال تعطلت إمدادات الغاز، فإنّ شركة الكهرباء الوطنية (حكومية) ستكون مجبرة على التحول إلى الوقود الثقيل أو الديزل، ما يرفع كلفة التوليد، ويهدّد بزيادة فواتير الكهرباء أو حتى انقطاعات في أوقات الذروة. غلاء فواتير الكهرباء والوقود يقول الخبير عقل إنّ التصعيد العسكري في الإقليم قد ينعكس على حياة الأردنيين من نواحٍ عدّة أهمها؛ زيادة شهرية على أسعار المشتقات النفطية، وأيضاً زيادة في تكلفة توليد الكهرباء، والتخوّف من التضخم وارتفاع أجور النقل والمواصلات. ويلفت إلى أنه رغم حساسية الوضع، فإن لدى الأردن بعض الأدوات لتقليل المخاطر، من بينها التنسيق مع مصر لتأمين استمرارية نقل الغاز عبر شبكة "غاز شرق المتوسط"، وتعزيز الاستفادة من حقل ريشة المحلي وإن على نحوٍ مؤقت، واللجوء إلى المخزون الاستراتيجي لتغطية النقص، والذي يكفي لمدة 60 يوماً، "لكنّ كل هذه الأدوات تظل حلولاً مؤقتة، لا تحل جوهر المشكلة وهو اعتماد الأردن على مصادر خارجية في بيئة إقليمية شديدة التقلّب". ويؤكد أنه "في ظل مشهد إقليمي ينزلق نحو مواجهة واسعة، يجد الأردن نفسه مجدّداً في قلب عاصفة لا دخل له بها، لكنّ رياحها قد تهب بقوة على جيبه واقتصاده، فالهجوم الإسرائيلي على إيران وتبادل الهجمات يفتح باباً على سيناريوهات متعدّدة، لا تتعلق بالصواريخ والطائرات فحسب، بل بواقع معيشي قد يزداد صعوبة، ما لم يجرِ احتواء الأزمة سريعاً، حسب المراقبين". وكانت الحكومة الأردنية اتخذت العديد من الإجراءات لمواجهة تداعيات العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، واضطرابات البحر الأحمر وباب المندب، وبعضها ما زال مطبّقاً حتى الآن، بهدف الحدّ من الانعكاسات الاقتصادية على السوق المحلية، واستيعاب ما يمكن من ارتدادات ارتفاع أجور الشحن البحري. ويعاني الأردن من ارتفاع عجز الموازنة العامة الذي يزيد عن 2.5 مليار دولار سنوياً، والمديونية التي تجاوزت 60 مليار دولار، فضلاً عن زيادة الفقر والبطالة. وفي سياق ارتدادات الحرب الاقتصادية، أعلنت هيئة الطيران المدني الأردنية عن إغلاق المجال الجوي أمام الطائرات الآتية والمغادرة لساعات منذ صباح اليوم الأول للحرب، في خطوة وصفت بأنها "احترازية". ورغم إعادة الفتح لاحقاً، فإنها تعكس حجم القلق من أن يمتدّ الصراع إلى أجواء المملكة، أو أن تصبح ممراً محتملاً لضربات أو ردود.


العربي الجديد
منذ 2 ساعات
- العربي الجديد
أسواق النفط أكثر عرضة للاشتعال وسط ضربات إسرائيل وإيران
خلال العامين الماضيين، ظل الشرق الأوسط بقعة توتر كبيرة، إذ شنت إسرائيل عدواناً وحشياً على قطاع غزة، وحرباً واسعة على حزب الله في لبنان، وتبادلت الضربات مع إيران، وشنّ الحوثيون في اليمن هجمات ضد سفن الاحتلال والدول الداعمة لها في البحر الأحمر، ومع ذلك، ظلت أسواق النفط هادئة، بعد تجنب أسوأ سيناريو، وهو حرب شاملة بين إسرائيل وإيران، لكن هذا السيناريو يبدو الآن وشيكاً بشكل مقلق. في ساعة متأخرة من مساء الخميس الماضي، شنّت إسرائيل عشرات الغارات الجوية على مواقع عسكرية ونووية إيرانية، ما دفع إيران للرد بقصف صاروخي تزايدت حدته وفعاليته بشكل جلي، مساء السبت. وطاولت الهجمات الإسرائيلية مصافي للنفط والغاز في إيران وامتد الرد الإيراني إلى أنابيب نفط في حيفا على الجانب الآخر. ويهدد التصعيد الحاصل بإشعال منطقة الخليج، التي تضخ ثلث نفط العالم، إذ ارتفع خام برنت، وهو المعيار العالمي، بنسبة 8%، يوم الجمعة الماضي، ليصل إلى 74 دولاراً للبرميل. حتى الآن، لم تُفقد أية إمدادات نفطية، لكن ارتفاع الأسعار يعكس احتمال حدوث اضطرابات في المستقبل. وفي أكتوبر/تشرين الأول الماضي، عندما اشتعلت التوترات آخر مرة بين إسرائيل وإيران، سمح رد فعل إيراني رمزي إلى حد كبير بخفض التصعيد. لكن لا يبدو أن هذه هي النتيجة الأكثر ترجيحاً حالياً. ويقول رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، إن الضربات على إيران ستستمر "مهما طال الزمن". كما حذر الرئيس الأميركي دونالد ترامب، من أن الخطوة التالية لإسرائيل قد تكون "أكثر وحشية". وبالتالي، قد تستمر دورة الضربات والانتقام لأسابيع. وفي حال توقف صادرات النفط الإيراني، سينخفض المعروض العالمي بمقدار 1.7 مليون برميل يومياً. ورغم أنه يمكن تعويض هذه الإمدادات بسهولة من جانب جيران إيران في الخليج، وهم جوهر منظمة الدول المصدرة للبترول (أوبك)، عبر العديد من الآبار الخاملة، حيث تمتلك المملكة العربية السعودية والإمارات وحدهما طاقة إنتاجية فائضة تتراوح بين ثلاثة وأربعة ملايين برميل يومياً، يمكنهما استخدامها في أوقات الأزمات، فإنه ليس من المسلّم أنهما ستفعلان ذلك، لأن إيران قد تعتبره تعاوناً مع إسرائيل، مما يستدعي رداً انتقامياً، وفق تقرير لمجلة إيكونوميست البريطانية. كما أن الرياض وأبوظبي لن تمانعا ارتفاع الأسعار، بعد أن حاولا (وفشلا) في رفعها خلال معظم العامين الماضيين. وفي مثل هذه الحالة، سترتفع الأسعار مع تراجع صادرات النفط الإيرانية. وقد تصل إلى ما يقرب من 90 دولاراً للبرميل. اقتصاد دولي التحديثات الحية إيران تهدّد بإغلاق مضيق هرمز الاستراتيجي.. ما التداعيات المحتملة؟ وكلما زادت إسرائيل عدوانية، زاد خطر لجوء إيران إلى إجراءات يائسة، بحسب التقرير. ومن أكثر الخيارات إلحاحاً محاولة إغلاق مضيق هرمز، الذي يمر عبره 30% من النفط الخام المنقول بحراً في العالم، و20% من الغاز الطبيعي المسال. حتى في "حرب الناقلات" في ثمانينيات القرن الماضي، عندما خاضت إيران والعراق حرباً، وتعرضت 239 ناقلة نفط للقصف، لم تتباطأ الشحنات، واستقرت الأسعار بعد ارتفاعها الأولي. لكن إيران هذه المرة قد تضطر إلى إغلاق المضيق بأكمله، وسيكون هذا قراراً متهوراً، وفق التقرير، لا سيما أن هذا الممر المائي الضيق، الذي يربط الخليج العربي بالمحيط الهندي، حيوي لإيران نفسها. علاوة على ذلك، من المرجح أن ترسل الولايات المتحدة التي يريد رئيسها إبقاء أسعار النفط منخفضة، والصين التي تعتمد على واردات النفط من الخليج، قواتهما البحرية لفتح المضيق. وعلى الرغم من تهديد إيران بمثل هذا الإجراء عدة مرات، لم تجرؤ حتى الآن على المخاطرة. وفي حال إغلاق المضيق يمكن للسعودية تحويل بعض الصادرات عبر خط أنابيبها "شرق ـ غرب"، الذي تبلغ طاقته خمسة ملايين برميل يومياً، أي ما يعادل حوالي نصف إنتاج المملكة. لكن 85% من صادرات العراق، وجميع صادرات الكويت وسلطنة عُمان وقطر، لا تجد طريقاً آخر للوصول إلى السوق، مما يعني أن سعر خام برنت قد يتجاوز 100 دولار للبرميل، وفقاً لمايكل هايغ من بنك سوسيتيه جنرال. وهناك سيناريو أسوأ من ذلك، فالعديد من أكبر مواقع إنتاج النفط في الخليج تقع في مرمى الصواريخ الإيرانية. وحمايتها شبه مستحيلة، نظراً لامتدادها على مسافات شاسعة. وإذا قصفتها إيران، فقد تتجاوز الأسعار 120 دولاراً للبرميل، وفقاً لبنك جيه بي مورغان الأميركي. وبينما تتزايد المخاطر في جميع أنحاء المنطقة بفعل توسيع الاحتلال الإسرائيلي رقعة عدوانه في المنطقة، فإن أسواق النفط العالمية تبدو أكثر عرضة للاشتعال.


العربي الجديد
منذ 2 ساعات
- العربي الجديد
ضرب إيران يزيد عوائد النفط الروسي
أنهت أسعار النفط العالمية، الأسبوع المنصرم، بارتفاع لافت على واقع شن إسرائيل ضربات مكثفة على المواقع النووية الإيرانية التي دفعت بأسعار نفط برنت للعقود الآجلة لأغسطس/آب المقبل، نحو الارتفاع بنسبة 13% إلى أكثر من 78 دولاراً للبرميل، فيما يعد أعلى مستوى لها منذ يناير/كانون الثاني الماضي. ورغم تباطؤ وتيرة الزيادة في تعاملات لاحقة، فإنها تستهل الأسبوع الجديد عند مستوى يفوق الـ70 دولاراً، مما يشكل عامل دعم لاقتصادات الدول المصدرة، وعلى رأسها روسيا التي تضطر لتقديم خصومات على نفطها "يورالز" المحظور في الاتحاد الأوروبي. وجنت أسهم شركات النفط الروسية هي الأخرى مكاسب بنسبة تصل إلى 5% في تعاملات بورصة موسكو في أعقاب الهجوم الإسرائيلي على إيران. ويوضح الخبير في المعهد المالي، التابع للحكومة الروسية، ستانيسلاف ميتراخوفيتش، أن الارتفاع الحالي لأسعار النفط لن يترجم بالضرورة إلى إطالة أمده في حال حدثت التهدئة بين إيران وإسرائيل، مقراً في الوقت نفسه بأن الوضع الراهن يصب في مصلحة الخزانة الروسية بصرف النظر عن التصريحات الروسية المنددة بالهجوم الإسرائيلي على إيران. ويقول ميتراخوفيتش لـ"العربي الجديد": "من وجهة نظر قطاع الطاقة، فإن الدور الحاسم سيكون لحدود هذا التصعيد. وفي حال شهدت الأيام، أو حتى الأسابيع المقبلة، حالة من التهدئة وتحولت المواجهة إلى (محاكاة الملاكمة)، ففي هذه الحالة قد تتراجع الأسعار إلى مستوى ما قبل التصعيد. لكن في حال شملت الضربات الجديدة استهداف المواقع النفطية الإيرانية، ففي هذه الحالة ستعاود أسعار النفط ارتفاعها وستعوض ما تكبدته من الخسائر جراء الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين في الأشهر الأخيرة". طاقة التحديثات الحية إسرائيل تعترف: تضرر خطوط أنابيب ونقل النفط في حيفا جراء قصف إيران ويجزم باستفادة روسيا من التصعيد الجاري سياسياً واقتصادياً، مضيفاً: "استمرار ارتفاع الأسعار سيصب، بالطبع، في مصلحة روسيا التي تعتمد على عوائد تصدير النفط حتى إذا كانت تندد على الصعيد الدبلوماسي بالضربات الإسرائيلية وستظل، بلا تقديم أي دعم عسكري يذكر لطهران، خاصة أن الدعم الإيراني لروسيا في نزاعها مع أوكرانيا كان محدوداً مقارنة مع الدعم الكوري الشمالي، ما يعني أن موسكو ستتعامل بالمثل". وكان الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ونظيره الإيراني، مسعود بزشكيان، قد وقعا أثناء زيارة الأخير إلى موسكو في منتصف يناير الماضي، على اتفاقية الشراكة الاستراتيجية التي ينص البند 3 من مادتها الثالثة على أنه في حال تعرض أي من طرفيها لعدوان، فعلى الطرف الثاني "ألا يقدم للمعتدي أي عون عسكري، أو غيره من العون، من شأنه الإسهام في مواصلة العدوان، بل يساهم في تسوية الخلافات الناشبة في إطار ميثاق الأمم المتحدة وغيره من أحكام القانون الدولي"، مما لا يضع على عاتق روسيا أي التزامات أمنية تجاه إيران، على عكس الاتفاقية المماثلة الموقعة مع كوريا الشمالية التي تقتضي دفاعاً مشتركاً. من جانب آخر، يقلل رئيس مركز دراسات الشرق الأوسط، الأستاذ الزائر في المدرسة العليا للاقتصاد في موسكو، مراد صادق زاده، من أهمية التأثير طويل الأجل للارتفاع الراهن لأسعار النفط على الاقتصاد الروسي، محذراً من أن إطالة أمد الأسعار المرتفعة قد يصيب الاقتصاد العالمي بالركود. ويقول صادق زاده لـ"العربي الجديد": "على المدى القصير، يؤثر صعود النفط إيجاباً على روسيا كونها واحدة من أكبر مصدري الهيدروكربونات على مستوى العالم. وفي الوقت نفسه إن قفزت أسعار النفط إلى ما بين 90 و100 دولار فأكثر للبرميل، فلن يحقق ذلك نفعاً بعيد المدى لأحد، لأن آلية أوبك+ هدفت في الأساس إلى تحقيق التوازن بالسوق ودعم تنمية الاقتصاد العالمي". ويحذر صادق زاده من مغبة الارتفاع الحاد لأسعار النفط، مضيفاً: "ستصيب إطالة أمد ارتفاع أسعار النفط الاقتصاد العالمي بالركود التضخمي بمختلف القطاعات. يمر الاقتصاد العالمي بمرحلة حرجة، في ظل اتباع الغرب سياسات فرض عقوبات أحادية الجانب، ولن يتحمل أسعار النفط فوق الـ90 دولاراً التي ستفجر حتماً أزمة مالية عالمية جديدة".