
"ملحمة المطاريد" رواية في 3 أجزاء تسرد وقائع 5 قرون مصرية
عندما ذهب نجيب محفوظ بروايته "بين القصرين"، التي تبلغ ألف صفحة إلى ناشره سعيد جودة السحار، عرض عليه الأخير تقسيمها إلى ثلاث روايات. أقول هذا لأن ما فعله عمار علي حسن في "ملحمة المطاريد" شبيه بذلك، فروايته تبلغ- تقريباً- ألف صفحة، لكنه قام بتقسيمها إلى ثلاثة أجزاء بالعنوان نفسه. وهو محق في ذلك؛ لأن الأجزاء الثلاثة تقوم على الاتصال من خلال تكرار بعض الشخصيات وتعاقبها، أما روايات نجيب محفوظ فتقوم على آليتي: الانفصال والاتصال معاً، ولهذا جاز أن تحمل عناوين مختلفة.
ويمكن القول- سواء بالنسبة لثلاثية محفوظ أو أجزاء رواية عمار- إن كل ذلك ينتمي إلى ما يسمى بالرواية "النهرية"، أو رواية "الأجيال"، حيث تتناول "ملحمة المطاريد" (الدار المصرية اللبنانية)- وهي ما تهمنا هنا- سيرة خمسة قرون، عبر ستة عشر جيلاً. وهي- في هذه الرحلة الزمنية الطويلة- "تتشرب روح مصر، تغرف من الواقع، وتنفخ فيه من الخيال، لتقدمه في لغة عذبة، تناسب ما يجب أن تتهيأ له الملاحم الأدبية".
يبدأ الجزء الأول بهذا الإهداء الدال: "إلى أهل قريتي (الوصيلة) التي أكلها النيل في فيضانه قبل قرن، فهرب أهلها بالحكايات. وحين غرسوها في صفحات الأيام، وصلت إلى مسامعنا نحن الأحفاد أسطورة كبرى". إن أقدم الصراعات التي شهدها الإنسان صراعه مع الطبيعة التي بدت متجبرة عليه وقاهرة له، وهو- من جانبه- يحاول مقاومتها والحد من رعونتها، وأقسى ما كان يصيب الإنسان هو ذلك الفيضان الذي يدمر البيوت ويهلك الزروع، وهي حادثة كثيرة التردد على مدار الرواية، حتى أصبحنا أمام ثنائية "الهدم والبناء" التي تحكم بنية السرد وتعد إحدى لوازمه المتواترة، ولا يقتصر الصراع على طرفي: الإنسان والطبيعة، بل يتطور ليكون بين الإنسان وغيره، أو- على وجه الدقة- بين قبيلتي: الصوابر والجوابر.
حفظ الذاكرة
"ملحمة المطاريد" بأجزائها الثلاثة (الدار المصرية اللبنانية)
وكان الحرص على حفظ الذاكرة أحد أهم الأسلحة التي وظفتها القبيلتان في مواجهة النسيان، يقول السارد الخارجي العليم: "نزع آل صابر حكايتهم من قبضة النسيان، أورثوها لأولادهم قبل المال، وضعوها في أرحام النساء قبل نطف البنين والبنات، أطلقوها في مجرى النهر فحملها الماء إلى الآذان والنفوس بعد أن غناها القوّالون على الرباب". وسوف نلاحظ أن هذه الحكايات أصبحت داخلة في تكوين الإنسان وتسري منه مسرى الدم في العروق، كما اختلطت مع الطبيعة وأصبحت على لسان القوَّالين الذين يتناقلونها من جيل إلى جيل. وصرع الصوابر والجوابر، هو- في حقيقته- صراع الخير والشر، فبعد الطوفان المدمر الذي جرف أمامه كل شيء، وأسقط جدران بيوت الطمي فوق رؤوس من لم يتمكنوا من الفرار، بدأ تكوين ما عرف بـ "نجع المجاذيب" وكان رضوان الصابر أول من سكنه مع أحد الدراويش فتكاثر عليهم المجاذيب؛ و"صار لكل مجذوب خُصه، يكدح في النهار بين الزروع، وفي الليل يصلي ويلهج لسانه بالتسابيح قبل أن ينام". لكن رضوان يقترح عليهم بناء بيوت بسيطة فيفعلون، وحين يرى "مفيدة" تروق له فيتزوجها، ويقلده المجاذيب، لنكون على بدايات جيل جديد حين كبر الصغار وتزوجوا. كل هذا كان يدور مع بدء هيمنة العثمانيين على مصر وتعاون المماليك معهم على إذلال الفلاحين ثم غزو الحملة الفرنسية لمصر. ولا تكتفي الطبيعة بطوفانها الذي يحدث كل عدة سنوات بل يفاجأ الناس بانتشار الطاعون في البلاد، وموت خلق كثير منهم. وكان هذا سبباً في شراء رضوان لأراضي من هلك من الفلاحين وإضافتها إلى أرض النجع. وحين فاض المال في جيبه فكر في أن يبني لنفسه سرايا وسط الزراعات.
توظيف الأساطير
لكن خيرات تلك الزراعات كانت تذهب إلى السلطان العثماني. وبسبب السيرة الطيبة لرضوان الصابر ومن بعده غنوم الصابر حملت القرية التي تم تخطيطها بعد الطوفان اسم "الصابرية"، حتى قال بعض الناس "اسم على مسمى، فلا نظن أن هناك من صبر على غدر الماء في القطر كله مثلما صبرنا". ومع ذلك يظل صراع الخير والشر، فهاهم الفلاحون يشكون لغنوم الصابر ظلم يونس الجابر الذي طردهم من الأرض على رغم أنهم لم يتأخروا في دفع الإيجار له، لكنه- أي يونس- يطمع في الأرض نفسها، وعندما يتصدى له غنوم يقوم بخطف ابنه سالم، هذا هذا الطفل الذي سيعيد سيرة أجداده، بعد أن يربيه رجل وامرأة وجداه بجوار خاطفه بعد وفاته.
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يوظف الكاتب ما ورد من تراث الكرامات المنسوبة إلى المتصوفين، ومن ذلك أن رضوان انتبه إلى أن "قُلة المجذوب لا ينقص ماؤها، وصرة الخبز كلما أكلا منها سوياً عادت ممتلئة". ويتوازى مع ذلك توظيف الأساطير التي تكبر مع تتابع الأجيال، كما يبدو في قول السارد: "كما تنمو الذرية تكبر الأساطير، لكنها لا تشيخ ولا تموت، كيف يموت من يسكن الحناجر المشبوبة بالأناشيد والغناء؟ كيف يتلاشى ما تردده الألسنة من جيل إلى جيل". ولكي يعبر الكاتب عن هذا الغناء المصاحب لرواية الأساطير قام بتأليف أبيات من فن "الواو" التي يختم بها كل فصل مكثفاً دلالاته: "الأرض وش مقسوم/ بين الغنم والديابة- والفتنة لما تقوم/ تكسر قلوب الغلابة".
غواية الوصف
ويعكس ذلك الاقتباس عالم الرواية التي كانت الأرض محور الصراع فيها بين الغنم- الفلاحين الأجراء- والديابة التي يمثلها السلكان والوالي العثماني والمماليك والملتزمون. وعندما تقوم فتنة لا يتضرر منها سوى هؤلاء الغلابة من الأجراء المعدمين. ولأننا أمام ثقافة بدائية فقد ساد الاعتقاد بمس الجن لتفسير كثير من الأمراض، في سياق هيمنة الرؤية الخرافية على أهل القرية. وفي موازاة التوظيف البراغماتي للدين، لا تعدم الرواية وجود شيوخ يدركون جوهر الدين مثل ناجي الذي كان يبحث بين ظلام الحكايات عن خيط النور.
ومن الظواهر اللافتة أن السارد يبدأ الفصول بما يشبه الحكمة، ومن ذلك قوله: "الأيام دوَّارة، على محيطها الواسع يكون الماضي البعيد جداً أقرب إلينا مما وقع بالأمس". وهكذا لا نجد فارقاً بين الماضي والحاضر وهذا يفسر تكرار بعض الأحداث في الرواية مثل الطوفان وصراعات الصوابر والجوابر من جيل لآخر، كما تحيلنا هذه الأبعاد الزمنية المشار إليها إلى ما يعرف بالزمن النفسي. وفي مقابل هذا نجد ما يمكن أن نسميه "غواية الوصف"؛ سواء كان هذا الوصف متجهاً إلى الأشخاص أو إلى الأماكن كما يبدو من وصف صاحب الحديقة و"بديعة" الخادمة التي تزوجها العمدة، إضافة إلى وصف الحديقة ذات الأسوار العالية والأشجار الكثيفة التي تتعانق تحت ستار الليل فتزيده سواداً. كذلك استخدامه لما يسمى بالثغرة الزمنية وهي حيلة سردية ضرورية بسبب المساحة الزمنية الممتدة إلى خمسة قرون.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الشرق الأوسط
منذ 7 أيام
- الشرق الأوسط
حبكة روائية سعودية تجمع «سيمون دي بوفوار» و«ديستويفسكي»، و«جورج أورويل» وغازي القصيبي
ماذا تفعل الكاتبة والمفكرة والناشطة السياسية الفرنسية، «سيمون دي بوفوار» في رواية «نمزكان» للسعودي ياسر الغسلان؟ وما الحفلة الباذخة داخل الرواية التي جمعت «فيودور ديستويفسكي»، و«ليو تولستوي»، و«أنطون تشيخوف»، و«مكسيم غوركي»؟ لا يقتصر الأمر على رموز الأدب الروسي في القرن التاسع عشر، ولا حتى الشخصيات الأدبية الأوروبية، أمثال: جورج أورويل، وروايته «1984»... وألبير كامو وروايته «الغريب»، وروايات أخرى من القرن التاسع عشر: «دم وخمر»، و«آنا كارنينا»، و«أقاصيص سيفاستوبول» و«القوازق»... يحضر كذلك الروائيون العرب يحملون أهمّ أعمالهم الروائية: نجيب محفوظ، والطيب الصالح، وحنا مينا، وجمال الغيطاني. من الوهلة الأولى تبدو رواية «نمزكان» للكاتب السعودي ياسر الغسلان، الصادرة عام 2025 عن دار مقام للنشر، وكأنها تُقدم تجربة سردية فريدة تمزج بين الخيال العلمي والفلسفة والأدب الكلاسيكي. تدور أحداث الرواية في عالم يتداخل فيه الواقع بالخيال، حيث يواجه البطل تحديات تتعلق بالهوية والوجود والمعرفة، ومن خلال سرد متعدد الطبقات، يستعرض المؤلف لقاءات البطل مع شخصيات أدبية وتاريخية، حيث ينتقل البطل إلى العالم الأدبي المنتعش في روسيا 1870 ورموز القرن التاسع عشر ليتعرف على ديستويفسكي ويجري معه محاورة تلقي بظلالها على مسار الرواية، كما تنتقل الرواية لتشرك شخصيات من الأدب العالمي من روسيا وأوروبا، مما يُثري النص بتأملات حول الأدب والفكر الإنساني. لا تقف الراوية عند هذا الحدّ، فهي تفتح نافذة تطلّ من خلالها على الشخصيات الأدبية السعودية، وإن كان حضورها جاء بشكل تقريري وأقل تفاعلاً من الشخصيات العالمية: نقرأ على سبيل المثال في (ص 48 - 49): «مرحباً بك سيدة عبير. إليك أسماء أهم الروائيين السعوديين الذين كان لهم أثر واضح على الساحة الأدبية من الناحية النقدية والجماهيرية، وتحديداً خلال العقود الماضية، سأبدأ أولاً بفهد العتيق. ومن بين أهم أعماله: رواية (كائن مؤجل)، و(مسافات للمطر الآتي)، ثانياً، لدينا بدرية البشر، التي من أبرز أعمالها رواية (غراميات شارع الأعشى)، و(تزوَّج سعودية)، و(هند والعسكر). أما ثالثاً فهو عبده خال الذي من أشهر روايته (ترمي بشرر)، و(مدن تأكل العشب)، ورواية (الطين)، كما يجب أن نذكر الروائي يوسف المحيميد الذي كتب روايَتي (لغط موتى)، و(القارورة)، وتُعدَّان من أهم أعماله، ولا يمكن الحديث عن الروائيين السعوديين دون أن نشير بإجلال للدكتور غازي عبد الرحمن القصيبي الروائي والشاعر والدبلوماسي والوزير الذي ألف العديد من الأعمال الناجحة. نذكر منها على سبيل الذكر لا الحصر رواية (شَقَّة الحرية)، ورواية (العصفورية). هل تودين أن أكمل سيدة عبير؟ سألت العجلة النابضة والملتهبة بألوانها المتراقصة. «نعم، أكمل يا (ناجي الوليد)»، «حسناً سيدتي، لدينا بالإضافة للأسماء التي ذُكِرت كلّ من عبد الحفيظ الشمري وروايته (فيضة الرعد)، ورواية (جرف الخفايا) ورواية (شام... يام)، بالإضافة إلى الروائية رجاء عالم مؤلفة رواية (ستر)، ورواية (خاتم)، ورواية (طوق الحمام)، وكما أنه من المعيب أن ننسى غازي القصيبي فمن العار ألا نذكر عبد الرحمن منيف رغم أن بعض العرب من العراق وسوريا يا سيدتي قد يقولون إنه ابن بلادهم. ولكن على أي حال فإن من أشهر أعمال المنيف خماسية (مدن الملح) ورواية (شرق المتوسط)، وأخيراً نذكر أميمة الخميس التي تمثل روايتي (الوارفة) و(زيارة سجى) أهم أعمالها الروائية، هل تودين أن أكمل وأذكر أسماء أخرى سيدة عبير؟!». سألت العجلة الملتهبة. «شكرًا لك يا (ناجي الوليد). يكفي هذا القدر». تبرز رواية «نمزكان» بوصفها عملاً أدبياً يجمع بين الإبداع والابتكار، تنقل القارئ في رحلة من واقع ملموس إلى عوالم تتجاوز حدود الزمن والمكان، تطرح أسئلة تغوص في بحر من الأفكار والتساؤلات عن الوجود والهوية، ويحاول الكاتب توظيف الأسماء الأدبية التي رسخت في التراث الأدبي الإنساني لكي يتحول الإبداع إلى لغة عالمية توحد بين الماضي والمستقبل، وتمنح القارئ تجربة فريدة تُثري الروح وتُلهم العقل لاستكشاف عوالم الرواية والأدب. ومع الحشد الهائل للشخصيات العالمية التي تطلّ في عوالم الرواية وأجوائها وتتقاطع مع الشخصيات الرئيسية في الرواية ليصنعوا جميعاً حدثاً مشتركاً وحواراً ممتداً من الماضي للحاضر، يتحول الزمان إلى مشهدٍ متقلبٍ تتداخل فيه الحقائق مع الأحلام، وتشكل لغة النص جسراً بين عصور مضت وأحلام لم تتوقف من تكرار ولادتها، مما يجعل كل قراءة رحلة اكتشاف جديدة. وعلى الرغم من أن الرواية تنتمي للواقعية، فإن فيها شيئاً من الخيال والمستقبلية، تأخذ القارئ من عالم إلى عالم آخر غير حسي وغير ملموس. سبق لياسر الغسلان أن أصدر روايتين، الأولى: «الأمارجي»، والثانية: «تزه شا»، كما أصدر عدداً من الكتب في مجال الإعلام. وبسؤالنا للكاتب ياسر الغسلان عن الهدف من إقحام كل هذه الأسماء الأدبية الحقيقية في الرواية؟ قال الروائي السعودي المقيم في الولايات المتحدة، لـ«الشرق الأوسط»: الرواية لم تُقحم هذه الشخصيات، بل استدعتها بوصفها جزءاً من آلية السرد ومختبر التجربة الذي يعيشه البطل. الأسماء الأدبية – من ديستويفسكي إلى أورويل – هي شخصيات حقيقية ولكنها ليست شخصيات واقعية ضمن حبكة واقعية، بل إسقاطات رمزية يُعيد من خلالها (آدم/ البطل الرئيسي) بناء أسئلته عن الأدب، الإبداع، المصير. لكن ما الهدف من كل هذا الحشد للأسماء؟ يقول: الهدف لم يكن استنساخها أو تمجيدها رغم أنها الأسماء التي نفهم من أحداث الرواية أنها تركت في (آدم) أثراً كبيراً بصفته كاتباً وإنساناً يحاول أن يلامس الحدود الخارجية للصندوق، بل كان الهدف هو استخدام تلك الشخصيات مرايا تعكس أفكاراً أكثر تعقيداً حول الرواية العظيمة، وحدود الكاتب، وزمن الكتابة. لكن، ألا يخشى المؤلف عندئذٍ أن تغوص روايته في الواقعية وتخسر الرمزية والخيال؟ يقول الغسلان: الخيال في «نمزكان» ليس خيالاً هارباً من الواقع، بل خيال يستحضر الرموز ليعيد تأمل الواقع عبرها. الروائي السعودي ياسر الغسلان وروايته «نمزكان» وسألنا المؤلف: ألا تخشى أن يتحول كل هذا السرد للأسماء والأحداث الحقيقية داخل الرواية إلى حالة تقريرية؟ ليجيب: لا أخفيك القول إن هذه النقطة تحديداً كانت من أبرز التحديات التي فكرت فيها خلال الكتابة. الرواية تقوم على أرضية «جلسات الذكاء الاصطناعي الأدبي»، وهي بطبيعتها تحفّز الأسلوب الحواري الجدلي، وقد يسهل الانزلاق نحو التقريرية، لكنني حاولت أن أوازن ذلك عبر تفعيل الدراما الداخلية للشخصيات وصراعات المصالح المتشابكة والمتضادة فيما بينها، خصوصاً (آدم) و(غالية) و(عبير) و(أبو خالد). ويضيف: «كل حوار أدبي في الرواية ليس مجرد عرض أفكار، بل صراع بين معتقدات وشكوك وأهداف، بين ما يُراد للكاتب أن يصدقه، وما يكتشفه بنفسه. السرد يتقدم بالمجابهة، لا بالشرح، وهذا ما أظنه قد أبعد الرواية إلى حد مقبول بالنسبة لي على أقل تقدير عن التقريرية السطحية». وحين تحضر شخصيات من الأدب العالمي في فضاء الرواية، فهي تحضر بالصورة والرمزية التي يرسمها المؤلف، وليس بالضرورة صورتها الواقعية، وهنا نسأل الكاتب عن هذه التجربة التي قد تجعل القارئ يشاهد شخصيتين لأديب واحد، شخصية يعرفها، وأخرى تخيّلها المؤلف، وجعلها تعبر عن نفسها بأسلوب جديد... فكان جوابه: نعم أتفق معك في ذلك، لكنني أحب أن أراها بعدّها مغامرة واعية فيها شيء من تحدي الذات وربما أيضاً تحدي القارئ وتحفيزه على التأمل والتفكير في أعمال تلك الأسماء العملاقة، أنا أقبل أن القارئ سيضع أمامه صورتين لأي من هؤلاء: الأديب الذي يعرفه من كُتبه، ونسخته التي تظهر في «نمزكان». ويضيف: لكن الرواية لم تدّع أنها تقدم النسخة «الحقيقية» لهؤلاء، بل تنسج تصوّراً احتمالياً نابعاً من خيال (آدم)، ومن سياق التجربة الذهنية التي يخوضها مع نظام (ناجي) الواعي. بمعنى آخر، الرواية لا تزيف الأديب، بل تُعيد تأمله عبر عيون كاتب مأزوم يبحث عن خلاص. لهذا قد يقول «ديستويفسكي» ما لم يقله، ولكن السؤال الأهم هو: ما كان من الممكن أن يقوله السيد ديستويفسكي لو جُرّ إلى مختبر الأدب المعاصر والذكاء الاصطناعي. هذه المفارقة هي لبّ الرواية. لكن، ما الهامش الذي تتحرك فيه الشخصيات الحقيقية للرواية في ظلّ وجود شخصيات كثيرة وذات حضور طاغٍ؛ ألا يساهم وجود هذه الشخصيات العالمية في تحجيم دور، أو (تقزيم) شخصيات الرواية؟ يقول الغسلان: بالعكس تماماً، هذه الشخصيات العالمية خُلقت لتُواجه شخصيات الرواية الأصلية، لا لتطغى عليها. (آدم) لا ينصهر فيها، بل يواجهها ويتعلم من تموجاتها. شخصية (غالية)، ابنته، تُقدّم بُعداً نقياً ومعاصراً في مقابل هذا الثقل التاريخي، وهي تمثل المستقبل الذي ربما لا يهمه ماضي الأدب بل يخلق مساحته الخاصة. (عبير) تمثل المألوف، الاجتماعي، الواقعي، الانتهازي. في حين أن (ناجي الباطن) يمثل اللاوعي الجمعي والتاريخي، أو فلنقل: الحُلم/ الكابوس الذي يتسلل من تحت جلد الرواية. يضيف: التفاعل بين هذه الشخصيات والأسماء الأدبية لم يُقزّم الأولى، بل كشف عن طبقات أعمق فيهم، وجعل القارئ ينظر إليها ليست بصفتها أدوات روائية بل كائنات تواجه أسئلة وجودية موازية لما واجهه الأدباء الكبار. ويقول الغسلان، في رواية «نمزكان»: «حاولت ألا أجعل الشخصيات مجرد كائنات واقعية تتحرك داخل النص، بل حاولت أن أخلقها لتكون أدوات لكسر الجدار بين الزمن والخيال، بين الواقع وما يجب أن يُقال. لم أسعَ إلى تقديم شخصيات (كاملة) أو نماذج جاهزة، بل شخصيات في حالة بحث، انكسار، طموح، غرور، حلم، انتهاز، مقاومة». ويضيف: «تحوّل كل شخصية من شخصيات الرواية سواء كانت من لحم الرواية أو من لحم الذاكرة الأدبية، هو في ذاته سؤال في هيئة إنسان. لهذا السبب أعتقد أن الرواية لا تُصنّف أو تقولب شخوصها، بل تضعهم في مرآة واحدة، ربما تُربك القارئ أحياناً، لكنها تمنحه في الوقت نفسه فرصة ليصغي إلى ما لم يُكتب بعد». «نمزكان» ليست عن الشخصيات، بل عما تكشفه الشخصيات حين تُجبر على أن تواجه ذاتها، لا كما هي، بل كما يمكن أن تكون.


الشرق الأوسط
١٣-٠٥-٢٠٢٥
- الشرق الأوسط
«الحب عربة مهترئة»... رواية تحاكم الماضي من منظور فلسفي
تتناول رواية «الحب عربة مهترئة»، الصادرة أخيراً عن دار «الشروق» بالقاهرة للكاتب الجزائري أحمد طيباوي، تجربة رجل استقر على سرير المرض في إحدى مصحات العلاج. ينطلق السرد من تلك المنطقة المفعمة بالهشاشة الإنسانية ليطرح تأملات إنسانية في الماضي والحاضر، المرض والصحة، الحياة والموت، من خلال قيام الراوي بما يمكن تسميته «كشف حسابه» للعديد من الجوانب التي لم ينتبه لها سابقاً في حياته، فضلاً عن الشخصيات التي عاش معها، في لحظة أقرب إلى جلسة محاكمة شاملة. عبر «لعبة التذكر» يستعيد الراوي علاقة شائكة مع الوالد ومع الزوجة التي هجرته، ويرسم تفاصيل علاقته بالفتاة الوحيدة التي أحبها أملاً في استردادها، كما يتأمل علاقته مع صديقه الوحيد. على هذه الخلفية، يرسم الراوي ثلاثة سيناريوهات متخيلاً الحياة بعد المرض حيث يتلاعب فيها بمصيره ومصير الشخصيات كافة تحت ضغط اللحظة الهشة التي يعيشها. «الحب عربة مهترئة» رواية عن جيل يسميه الكاتب «جيل الاختيارات المحدودة» الذي تسير حياته دائماً وفق الاختيار الوحيد المتاح وضمن «الحتمية» المفروضة عليه. يذكر أن أحمد طيباوي أكاديمي يحاضر في إدارة الأعمال، حصلت روايته «اختفاء السيد لا أحد» على جائزة «نجيب محفوظ» التي تقدمها الجامعة الأميركية، كما فازت روايته «موت ناعم» بجائزة «الطيب صالح» للإبداع الكتابي. ومن أجواء الرواية نقرأ: «كان مستواي لا بأس به في الرياضيات ولم أجد أي صعوبة في سبيل التخرج، رغم أنني أحببت الانتساب لكلية الآداب لولا حكمة الرجل الذي وُلدت ووجدته والدي، حكمة علوية لم أدركها أبداً. تخرجت وعملت أستاذاً في ثانوية بضاحية بائسة من ضواحي العاصمة، بيوت قصديرية وأطفال مشردون... يا له من مجد أراده لي! بدأت حياتي المهنية في حي ابن طلحة، الذي بالكاد تعافى أهله من ذكرى مجزرة فظيعة حدثت في التسعينات، وسمع بها العالم كله وكانت وقتها أقوى إثبات على أن الإنسان هو العدو الأكبر للإنسانية. في البداية حاولت أن أبقي على حماسي في التدريس، وحققت الرضا عن نفسي، وكان بعض تلاميذي نجباء وأسعدوني بنتائجهم ثم سنة بعد سنة انطفأ الحماس وأصابني فتور كبير. الروتين والتكرار واستغراق الأيام في عمل نسخ كربونية عن بعضها البعض، التلقين بدل الفهم وبناء العقول، الشهادة المضمونة للجميع بأوامر عليا والنجاح المزيف، الغش في الامتحانات وسلوك التلاميذ، زملائي الأساتذة وهم يتحدثون عن تأخر راتبهم الشهري، الناس في الشوارع والمقاهي، الحرارة والرطوبة، الذباب الذي يترك آثاره على الأشياء أو يحط على أنفي ليستريح، الاهتمام الغبي للجماهير بكرة القدم، كل شيء أصبح مصدر قلق ويصيبني بالضيق والكآبة. أنا من جيل الاختيارات المحدودة، بل إني حالة خاصة من بين أبناء ذلك الجيل حيث كانت حياتي تسير دائماً وفق الاختيار الوحيد المتاح وهو «الحتمية». لم يكن لتاريخي بدائل ضائعة. كل الآخرين الذين أعرفهم وحتى أولئك الذين لم ألتقِ بهم يوماً وحركوا حياتي من خلف الستار والمدعون أساتذتي وأصحابي، كلهم كانوا أنا، إلا أنا لم أكن نفسي يوماً. الآخرون هم جحيمنا الأبدي».


Independent عربية
٠٨-٠٥-٢٠٢٥
- Independent عربية
"ملحمة المطاريد" رواية في 3 أجزاء تسرد وقائع 5 قرون مصرية
عندما ذهب نجيب محفوظ بروايته "بين القصرين"، التي تبلغ ألف صفحة إلى ناشره سعيد جودة السحار، عرض عليه الأخير تقسيمها إلى ثلاث روايات. أقول هذا لأن ما فعله عمار علي حسن في "ملحمة المطاريد" شبيه بذلك، فروايته تبلغ- تقريباً- ألف صفحة، لكنه قام بتقسيمها إلى ثلاثة أجزاء بالعنوان نفسه. وهو محق في ذلك؛ لأن الأجزاء الثلاثة تقوم على الاتصال من خلال تكرار بعض الشخصيات وتعاقبها، أما روايات نجيب محفوظ فتقوم على آليتي: الانفصال والاتصال معاً، ولهذا جاز أن تحمل عناوين مختلفة. ويمكن القول- سواء بالنسبة لثلاثية محفوظ أو أجزاء رواية عمار- إن كل ذلك ينتمي إلى ما يسمى بالرواية "النهرية"، أو رواية "الأجيال"، حيث تتناول "ملحمة المطاريد" (الدار المصرية اللبنانية)- وهي ما تهمنا هنا- سيرة خمسة قرون، عبر ستة عشر جيلاً. وهي- في هذه الرحلة الزمنية الطويلة- "تتشرب روح مصر، تغرف من الواقع، وتنفخ فيه من الخيال، لتقدمه في لغة عذبة، تناسب ما يجب أن تتهيأ له الملاحم الأدبية". يبدأ الجزء الأول بهذا الإهداء الدال: "إلى أهل قريتي (الوصيلة) التي أكلها النيل في فيضانه قبل قرن، فهرب أهلها بالحكايات. وحين غرسوها في صفحات الأيام، وصلت إلى مسامعنا نحن الأحفاد أسطورة كبرى". إن أقدم الصراعات التي شهدها الإنسان صراعه مع الطبيعة التي بدت متجبرة عليه وقاهرة له، وهو- من جانبه- يحاول مقاومتها والحد من رعونتها، وأقسى ما كان يصيب الإنسان هو ذلك الفيضان الذي يدمر البيوت ويهلك الزروع، وهي حادثة كثيرة التردد على مدار الرواية، حتى أصبحنا أمام ثنائية "الهدم والبناء" التي تحكم بنية السرد وتعد إحدى لوازمه المتواترة، ولا يقتصر الصراع على طرفي: الإنسان والطبيعة، بل يتطور ليكون بين الإنسان وغيره، أو- على وجه الدقة- بين قبيلتي: الصوابر والجوابر. حفظ الذاكرة "ملحمة المطاريد" بأجزائها الثلاثة (الدار المصرية اللبنانية) وكان الحرص على حفظ الذاكرة أحد أهم الأسلحة التي وظفتها القبيلتان في مواجهة النسيان، يقول السارد الخارجي العليم: "نزع آل صابر حكايتهم من قبضة النسيان، أورثوها لأولادهم قبل المال، وضعوها في أرحام النساء قبل نطف البنين والبنات، أطلقوها في مجرى النهر فحملها الماء إلى الآذان والنفوس بعد أن غناها القوّالون على الرباب". وسوف نلاحظ أن هذه الحكايات أصبحت داخلة في تكوين الإنسان وتسري منه مسرى الدم في العروق، كما اختلطت مع الطبيعة وأصبحت على لسان القوَّالين الذين يتناقلونها من جيل إلى جيل. وصرع الصوابر والجوابر، هو- في حقيقته- صراع الخير والشر، فبعد الطوفان المدمر الذي جرف أمامه كل شيء، وأسقط جدران بيوت الطمي فوق رؤوس من لم يتمكنوا من الفرار، بدأ تكوين ما عرف بـ "نجع المجاذيب" وكان رضوان الصابر أول من سكنه مع أحد الدراويش فتكاثر عليهم المجاذيب؛ و"صار لكل مجذوب خُصه، يكدح في النهار بين الزروع، وفي الليل يصلي ويلهج لسانه بالتسابيح قبل أن ينام". لكن رضوان يقترح عليهم بناء بيوت بسيطة فيفعلون، وحين يرى "مفيدة" تروق له فيتزوجها، ويقلده المجاذيب، لنكون على بدايات جيل جديد حين كبر الصغار وتزوجوا. كل هذا كان يدور مع بدء هيمنة العثمانيين على مصر وتعاون المماليك معهم على إذلال الفلاحين ثم غزو الحملة الفرنسية لمصر. ولا تكتفي الطبيعة بطوفانها الذي يحدث كل عدة سنوات بل يفاجأ الناس بانتشار الطاعون في البلاد، وموت خلق كثير منهم. وكان هذا سبباً في شراء رضوان لأراضي من هلك من الفلاحين وإضافتها إلى أرض النجع. وحين فاض المال في جيبه فكر في أن يبني لنفسه سرايا وسط الزراعات. توظيف الأساطير لكن خيرات تلك الزراعات كانت تذهب إلى السلطان العثماني. وبسبب السيرة الطيبة لرضوان الصابر ومن بعده غنوم الصابر حملت القرية التي تم تخطيطها بعد الطوفان اسم "الصابرية"، حتى قال بعض الناس "اسم على مسمى، فلا نظن أن هناك من صبر على غدر الماء في القطر كله مثلما صبرنا". ومع ذلك يظل صراع الخير والشر، فهاهم الفلاحون يشكون لغنوم الصابر ظلم يونس الجابر الذي طردهم من الأرض على رغم أنهم لم يتأخروا في دفع الإيجار له، لكنه- أي يونس- يطمع في الأرض نفسها، وعندما يتصدى له غنوم يقوم بخطف ابنه سالم، هذا هذا الطفل الذي سيعيد سيرة أجداده، بعد أن يربيه رجل وامرأة وجداه بجوار خاطفه بعد وفاته. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) يوظف الكاتب ما ورد من تراث الكرامات المنسوبة إلى المتصوفين، ومن ذلك أن رضوان انتبه إلى أن "قُلة المجذوب لا ينقص ماؤها، وصرة الخبز كلما أكلا منها سوياً عادت ممتلئة". ويتوازى مع ذلك توظيف الأساطير التي تكبر مع تتابع الأجيال، كما يبدو في قول السارد: "كما تنمو الذرية تكبر الأساطير، لكنها لا تشيخ ولا تموت، كيف يموت من يسكن الحناجر المشبوبة بالأناشيد والغناء؟ كيف يتلاشى ما تردده الألسنة من جيل إلى جيل". ولكي يعبر الكاتب عن هذا الغناء المصاحب لرواية الأساطير قام بتأليف أبيات من فن "الواو" التي يختم بها كل فصل مكثفاً دلالاته: "الأرض وش مقسوم/ بين الغنم والديابة- والفتنة لما تقوم/ تكسر قلوب الغلابة". غواية الوصف ويعكس ذلك الاقتباس عالم الرواية التي كانت الأرض محور الصراع فيها بين الغنم- الفلاحين الأجراء- والديابة التي يمثلها السلكان والوالي العثماني والمماليك والملتزمون. وعندما تقوم فتنة لا يتضرر منها سوى هؤلاء الغلابة من الأجراء المعدمين. ولأننا أمام ثقافة بدائية فقد ساد الاعتقاد بمس الجن لتفسير كثير من الأمراض، في سياق هيمنة الرؤية الخرافية على أهل القرية. وفي موازاة التوظيف البراغماتي للدين، لا تعدم الرواية وجود شيوخ يدركون جوهر الدين مثل ناجي الذي كان يبحث بين ظلام الحكايات عن خيط النور. ومن الظواهر اللافتة أن السارد يبدأ الفصول بما يشبه الحكمة، ومن ذلك قوله: "الأيام دوَّارة، على محيطها الواسع يكون الماضي البعيد جداً أقرب إلينا مما وقع بالأمس". وهكذا لا نجد فارقاً بين الماضي والحاضر وهذا يفسر تكرار بعض الأحداث في الرواية مثل الطوفان وصراعات الصوابر والجوابر من جيل لآخر، كما تحيلنا هذه الأبعاد الزمنية المشار إليها إلى ما يعرف بالزمن النفسي. وفي مقابل هذا نجد ما يمكن أن نسميه "غواية الوصف"؛ سواء كان هذا الوصف متجهاً إلى الأشخاص أو إلى الأماكن كما يبدو من وصف صاحب الحديقة و"بديعة" الخادمة التي تزوجها العمدة، إضافة إلى وصف الحديقة ذات الأسوار العالية والأشجار الكثيفة التي تتعانق تحت ستار الليل فتزيده سواداً. كذلك استخدامه لما يسمى بالثغرة الزمنية وهي حيلة سردية ضرورية بسبب المساحة الزمنية الممتدة إلى خمسة قرون.