
التحلّل...
بعد هزيمة 1967 ظهر ميل قويّ، في الفكر السياسيّ العربيّ، إلى التحلّل والتعرّي من كلّ ما أنجبته الحداثة أو التنظيم الحديث للسياسة والاجتماع، واشتهاء العودة إلى ما قبلهما. فقد ذاع صيت النقد الإسلامويّ الذي تصدّرته معادلة شهيرة: «تخلّينا عن الله فتخلّى الله عنّا»، وكانت المعادلة هذه سيّدة التفاسير الإسلامويّة للنكسة. إلاّ أنّ نقد اليسار المتطرّف لم يكن أقلّ إصراراً على ذاك التحلّل، وإن من داخل منظومة وعي أخرى. فلكي نردّ على الهزيمة لا بدّ، وفق هذا النقد، من إحلال حرب العصابات محلّ الحرب الكلاسيكيّة، وتالياً محلّ الدول القائمة وسيادتها وأجهزتها وقياداتها الاجتماعيّة، وخصوصاً محلّ جيوشها التي لا تستحقّ إلاّ التسريح. وفي هذا السياق سُطّرت صفحات في مديح الطبيعة الأولى، غاباتٍ وهضاباً ومستنقعاتٍ، بوصفها الأمكنة المثلى لخوض «حروب الشعب طويلة الأمد».
واكتسب هذا الميل إلى التحلّل أرضاً جديدة مع صعود الممانعة والممانعين في الثمانينات. فهم نفّذوا فعليّاً إبدال الدول والجيوش بالميليشيات، وإحلالَ محور عابر للحدود الوطنيّة، تقبع زعامته في طهران، محلّ الأساسَ الوطنيّ للدول وللقضيّة الفلسطينيّة سواء بسواء. كما أنّهم رذلوا ما تبقّى من فكرة الوطنيّة ليمجّدوا صيغة أو أخرى من الإسلام السياسيّ، فيما أعادوا إلى الحياة أشكالاً في التبادل الاقتصاديّ نحّتها القوانين جانباً.
والحال أنّ الوجهة هذه تستفحل اليوم وتعاود ربط شطر عريض من فكرنا السياسيّ بالفكر الذي استمرّت سطوته ما بين أواخر عهد السلطنة العثمانيّة وقيام الدولة الحديثة. فمن جمال الدين الأفغاني ومحمّد عبده ورشيد رضا إلى «الإخوان المسلمين» وشكيب أرسلان...، قُدّمت «العودة» إلى ماضٍ ما بوصفها ندّ الانعتاق ومعانقة المستقبل. صحيح أنّ المذكورين أعلاه ليسوا قالباً واحداً عديم التفاوت، إذ أنّ بعضهم توهّم استلهام الإصلاح الدينيّ البروتستانتيّ في عودته إلى «الكتاب المقدّس». لكنّ الصحيح ايضاً أنّ الصراع مع الآخر، أي الغرب ثمّ إسرائيل، كان العنصر الحاسم في الصورة التي رسموها عن الذات والعالم، وعن الماضي والمستقبل.
على أنّ الذاكرة تعود بنا إلى حالات لم تكن الأمور فيها على هذا النحو من الإغلاق. فمثلاً بعد أشهر على نكبة 1948 وقيام إسرائيل، أصدر قسطنطين زريق كتابه «معنى النكبة» فأكّد، بين ما أكّده، على أهميّة اكتساب العرب المعارف العلميّة والتقنيّة. لا بل كاد زريق يقطع بأنّ النكبة كانت حتميّة تبعاً للعزوف عن اكتساب تلك المعارف. وإذ قرئ هذا الكتاب على نطاق واسع، وتأثّر به كثيرون، فبعد قرابة عشرين عاماً، ومع وقوع نكسة 1967، عاد المؤلّف نفسه إلى فكرته إيّاها في كتابه «معنى النكبة مجدّداً»، فأكّد عليها بقوّة أكبر. وقد يقال بحقّ إنّ قدراً معتبراً من التبسيط والسذاجة والتبشير حفّ بتلك الأطروحات، إلاّ أنّها، مع هذا، خالفت السائد في اعتبارها أنّ المطلوب هو أن نضيف شيئاً إلى ما نحن فيه، وليس أن نُنقص منه شيئاً. ذاك أنّ السير إلى أمامٍ (وقد درج مثقّفو ذاك الزمن على تسمية ذاك الأمام بـ»النهضة»)، إنّما يغلب العودة إلى ما قطَعَنا عنه الزمن الحديث.
بيد أنّ الحرب الأخيرة – الراهنة حسمت الأمور على نحو لم يعد يرقى إليه شكّ، فيما يصعب على مُعالج أن يعالجه. فعن «طوفان الأقصى» تفرّع، ولا يزال يتفرّع، طوفان من هجاء «الغرب» والحضارة والتقدّم بوصفها كلّها مجرّد خِدَع لإخضاعنا وإذلالنا. ومع ضربة «البايجرز» الإسرائيليّة في لبنان، ثمّ حرب إسرائيل على إيران، تعاظم الميل إلى التعرّي من العلم والتقنيّة بوصفهما لا أكثر من أدوات لقتلنا. هكذا راح تعبير «لقد كفرنا بـ» يجتاح النصّ السياسيّ العربيّ المصاب بالتأوّه والحسرات، ولم يتردّد مثقّفون ينسبون أنفسهم إلى هذه المدرسة الحداثيّة أو تلك في إعلان اعتدادهم بعصور الإمبراطوريّات القديمة التي أقامتها «حضاراتنا العظيمة» في فارس أو ما بين النهرين أو سواهما. فحيال تلك الحضارات تتضاءل وتبهُت سيطرة تقنيّة تمارسها أمم خانتها الأصالة والعراقة، إذ أنّ تلك الأمم «المعادية» لم تولد إلاّ قبل يومين أو ثلاثة في عمر التاريخ.
ولمّا مضى الموقف من العالم ينبثق من رحم الحرب والعصبيّة، غدا العلم والتقنيّة وكلّ ما تتفوّق فيه أميركا وإسرائيل أقرب إلى عشيرة مكروهة «نتغلّب» على واقعها الطاغي بأوهام الإمبراطوريّات سحيقة القِدم، أو بما نعلنه تحوّلاتٍ جبّارة تزوّدنا بها صورة أو عبارة أو احتجاج طلاّبيّ غاضب.
يزيد البؤس بؤساً أنّ التحلّل السياسيّ، في هذه الغضون، يضرب المشرق العربيّ على نحو مزلزل على شكل بلدان أضعف وأفقر تبحث كلّها عن إعادة إعمارها وعن وقف التصدّع المتعاظم الذي يضرب وحدة جماعاتها. وإذ يترافق صمت المَدافع مع بقاء المذبحة في غزّة موضوعاً «غامضاً»، وهي الأصل المفترض، يتّضح أنّ الهدف الذي بسببه «كفرنا بالعالم» يدور حول مصائر النظام الإيرانيّ. وهذا سبب وجيه لمواجهة الخديعة الفعليّة التي خُدعناها، علّنا إذا واجهناها باشرنا التصدّي لتحلّلنا المتمادي.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجريدة 24
منذ ساعة واحدة
- الجريدة 24
زيدان: أنبوب الغاز الأطلسي سيخدم 400 مليون إفريقي
أكد الوزير المنتدب المكلف بالاستثمار والتقائية وتقييم السياسات العمومية، كريم زيدان، اليوم الأربعاء بلواندا، أن المملكة المغربية على استعداد تام لتعزيز شراكة ثلاثية تجمع بين المغرب والولايات المتحدة وإفريقيا، تقوم على أزيد من 50 اتفاقية استثمار ثنائية، وعلى اتفاق التبادل الحر مع واشنطن، والموقع الجيو-استراتيجي للمغرب. وأوضح زيدان، خلال الجلسة الختامية للدورة الـ17 لقمة الأعمال الأمريكية-الإفريقية التي احتضنتها العاصمة الأنغولية، أن المغرب، الوفي لتوجهه الإفريقي وفقا للرؤية الملكية المتبصرة، يؤكد، مجددا، التزامه بمواكبة بروز شراكة إفريقية-أمريكية تستجيب لرهانات القرن الحادي والعشرين. وسجل أن المملكة، بفضل بنياتها التحتية المتطورة، وفي مقدمتها ميناء طنجة المتوسط، كأكبر ميناء في إفريقيا، وأول قطار فائق السرعة بالقارة، والميثاق الجديد للاستثمار، واستراتيجيتها المنفتحة على سلاسل القيمة الإقليمية والعالمية، ترسخ مكانتها كمنصة هيكلية لتحفيز هذه الشراكة. وأشار إلى أن المغرب، تحت القيادة الرشيدة لصاحب الجلالة الملك محمد السادس، نصره الله، يؤمن بإفريقيا قوية، تمتلك مصيرها، وقادرة على جعل التحديات محركات للاندماج والاستقرار والنمو المشترك. وأضاف أن هذه الرؤية الملكية المتبصرة، والمتسمة بالاتساق والاستمرارية، تتجسد من خلال مبادرات كبرى، لاسيما "مبادرة إفريقيا الأطلسية"، التي تهدف إلى تعزيز ولوج دول الساحل إلى المحيط، وجعل الواجهة الأطلسية للقارة فضاء استراتيجيا للازدهار الجماعي والتنمية المشتركة. كما أبرز زيدان أهمية مشروع أنبوب الغاز إفريقيا-الأطلسي، الذي يتجاوز طوله 5600 كيلومتر ويعبر 13 بلدا إفريقيا، والذي سيعود بالنفع على أكثر من 400 مليون نسمة، باعتباره بنية تحتية قارية تسهم في تعزيز السيادة الطاقية والربط الإقليمي. واعتبر قرار المملكة بإعفاء المنتجات القادمة من البلدان الإفريقية الأقل نموا من الرسوم الجمركية تجسيدا لالتزام تضامني ملموس لصالح التنمية المشتركة، إلى جانب الحضور المتنامي للمؤسسات المغربية، العمومية والخاصة، بأزيد من 40 بلدا إفريقيا، في قطاعات استراتيجية، من قبيل القطاع المالي، والاتصالات، والبنيات التحتية، والفلاحة، والطاقات المتجددة. ونوه زيدان، من جهة أخرى، بالالتزام المتواصل للولايات المتحدة الأمريكية من أجل ترسيخ حوار اقتصادي مهيكل مع القارة الإفريقية، مؤكدا على ضرورة بلورة ميثاق جديد للنمو بين الطرفين، في ظل التحولات التي يعرفها العالم، بما يستجيب لتطلعات الشعوب. وأوضح الوزير أن الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيات الحديثة يمثلان مجالات واعدة للتقاطع الاستراتيجي، مبرزا أن القارة الإفريقية، التي يشكل فيها الشباب دون الثلاثين عاما نسبة 70 بالمائة، وتحتضن أكثر من خمسة آلاف شركة ناشئة في المجال التكنولوجي، بإمكانها أن تصبح قوة عالمية في مجال الابتكار الشامل. وفي هذا الإطار، شدد على ضرورة توفر ثلاثة شروط أساسية لتحقيق هذا التحول، تتمثل في تكوين أزيد من 230 مليون شاب إفريقي في المهارات الرقمية في أفق 2030، وتقليص الفجوة الرقمية التي ما تزال تحرم حوالي 600 مليون إفريقي من الولوج إلى الإنترنت، وإرساء حكامة رقمية ذات سيادة، منسجمة مع خصوصيات القارة وقيمها. وأكد أن إفريقيا والولايات المتحدة مدعوتان إلى بناء تحالف للتحول، قائم على الثقة والاحترام المتبادل والطموح لمستقبل مشترك يصاغ بإرادة جماعية وغير مفروض، مضيفا أن المغرب، الوفي لتوجهه الإفريقي بقيادة صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله، يظل على استعداد تام، وعزم راسخ، وانخراط دائم لإنجاح هذه الدينامية.


يا بلادي
منذ 2 ساعات
- يا بلادي
ديجون تستضيف اللقاءات الإقليمية للإسلام في فرنسا
انعقدت النسخة الخامسة من الملتقيات الإقليمية للإسلام في فرنسا يوم الاثنين 23 يونيو 2025 في مقر محافظة كوت دور، بحضور ممثلين عن الديانة الإسلامية، ومسؤولين منتخبين، وأكاديميين، وممثلين عن منظمات المجتمع المدني، إلى جانب خدمات الدولة. ترأس اللقاء رئيس منطقة بورغوني-فرانش-كونتي ورئيس كوت دور، بول مورييه، حيث أُعتبرت هذه الفعالية خطوة هامة نحو تعزيز الحوار بين الدولة والفاعلين في الإسلام بفرنسا، وفقاً لما ذكرته الوسائل الإعلامية المحلية. يأتي هذا الحدث في إطار منتدى الإسلام في فرنسا. ووفقاً لنفس المصادر، تركزت هذه النسخة حول أربعة محاور رئيسية: "أمن دور العبادة ومكافحة الأعمال المعادية للمسلمين" في ظل تزايد أفعال الكراهية؛ "الإدارة القانونية والمالية للجمعيات الدينية المسلمة" لضمان الشفافية والامتثال لقانون 1905؛ "تنظيم الأمانات واحترافية الأئمة"، وهو تحدٍ أساسي لتوفير توجيه روحي يتناسب مع الاحتياجات؛ وأخيراً، "الهيكلة الإقليمية والتعاون بين الجمعيات" لتعزيز التنسيق المحلي بشكل أفضل. وقد وُصفت المناقشات بأنها غنية وبناءة. من المتوقع أن تسهم هذه التفاعلات في أعمال المجموعات الوطنية لمنتدى الإسلام في فرنسا، بهدف اقتراح "حلول مشتركة على المستوى الوطني".


الألباب
منذ 2 ساعات
- الألباب
الدورة ال17 لقمة الأعمال الأمريكية-الإفريقية.. زيدان يجري بلواندا سلسلة من اللقاءات الثنائية مع عدد من نظرائه
الألباب المغربية أجرى الوزير المنتدب لدى رئيس الحكومة، المكلف بالاستثمار والتقائية وتقييم السياسات العمومية، كريم زيدان، أمس الثلاثاء 24 يونيو الجاري بلواندا، سلسلة من اللقاءات الثنائية مع عدد من نظرائه، وذلك على هامش الدورة الـ17 لقمة الأعمال الأمريكية-الإفريقية. وأجرى زيدان، محادثات على الخصوص، مع خوسيه دي ليما ماسانو، وزير الدولة المكلف بالتنسيق الاقتصادي، وروي ميغوينس دي أوليفيرا، وزير الصناعة والتجارة، وإسحاق فرانسيسكو ماريا دوس أنخوس، وزير الفلاحة والغابات بجمهورية أنغولا. كما أجرى لقاء مع محمد شيمي، وزير قطاع الأعمال العام بجمهورية مصر العربية. وأكدت هذه اللقاءات على الإرادة المشتركة لتعزيز شراكات دينامية وهيكلية، لا سيما في القطاعات الاستراتيجية المتعلقة بالاستثمار والصناعة والفلاحة والتجارة. وبهذه المناسبة، جدد زيدان التأكيد على أن المغرب، وفقا للتوجيهات السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس، نصره الله، يعمل على ترسيخ تعاون جنوب-جنوب مستدام وشامل ومثمر للجميع، مرتكزا على تموقعه داخل سلاسل القيمة الإقليمية والعالمية، وعلى الإطار الجاذب الذي يوفره في مجال الاستثمار. وانطلقت أشغال القمة الـ17 للأعمال الأمريكية-الإفريقية رسميا، أول أمس الاثنين في العاصمة الأنغولية، تحت شعار 'مسارات الازدهار.. رؤية مشتركة للشراكة بين الولايات المتحدة وإفريقيا'، وذلك بحضور رؤساء دول ومسؤولين رفيعي المستوى ووفود من عدة بلدان، من بينها المغرب. وتشكل هذه القمة، المنظمة بحضور أزيد من 1500 مشارك، منصة أساسية للحوار الاقتصادي وبناء شراكات إستراتيجية مستدامة بين الولايات المتحدة والبلدان الإفريقية.