
الشارع اليمني مقابل الشارع العربي... قراءة النموذج السياسي والأخلاقي
التعبئة الجماهيرية طويلة الأمد عادةً ما تكون مشروطةً إمّا بموارد إعلامية وتنظيمية ضخمة، أو برافعة حزبية تمتلك السيطرة والقدرة على الحشد، أو بتحفيز مباشر مرتبط بالمكاسب السياسية أو الاقتصادية. أمّا في الحالة اليمنية، فالحشد يتم بلا موارد إعلامية كبرى، في ظلّ حصار خانق وانعدام الحوافز المادّية، بل وفي أحيان كثيرة، على حساب فرصٍ محتملةٍ لتخفيف المعاناة المحلّية (كما في لحظة اقتراب تسوية مع السعودية عشية "7 أكتوبر"). ولا يقتصر الالتزام اليمني على التظاهر والتعبير الرمزي، بل نحن أمام حالة من التداخل بين التفاعل الجماهيري والفعل العملياتي المقاوم، إذ تتكامل التظاهرات المليونية مع هجمات شبه يومية على سفن مرتبطة بالاحتلال الإسرائيلي في البحر الأحمر، بالإضافة إلى إطلاق صواريخ ومسيّرات على أهداف إسرائيلية في العمق.
رغم الطابع غير المسبوق للتجربة اليمنية في دعم فلسطين، من حيث الاستمرارية والزخم والكلفة السياسية والميدانية، إلا أن التغطية الإعلامية العربية والدولية تكاد تكون معدومةً أو منحازةً على نحو سافر. في عالم تُعتبَر فيه تظاهرة من عشرة آلاف شخص في عاصمة ما "حدثاً جللاً"، يستقطب الوكالات ويفتح نشرات الأخبار، يُتجاهَل خروج مئات الآلاف (بل الملايين) أسبوعياً في صنعاء وصعدة والحديدة وتعز وغيرها، على مدى عامَين، وكأنهم يتحرّكون في فراغ رمزي لا يستحقّ الاعتراف. ليس التعتيم صدفةً، بل سياسة مقصودة، والأمر لا يقتصر على إنكار الحدث ميدانياً، بل يُصدّر ضمن أطر سلبية، ويُقدَّم إمّا مزاودةً أيديولوجيةً أو حيلةً لتثبيت شرعية داخلية لحركة سياسية محلّية. لكن هذه التبريرات تنهار أمام منطق التضحيات، فمن يسعى إلى "شرعنة" سلطته، لا يغامر بمواجهة الولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل في آن، في جبهات بحرية وجوية تحت القصف اليومي، وفي ظلّ حصار اقتصادي خانق. فهل تحقيق "الشرعية الداخلية" يتطلّب تفجير ناقلات نفط وتعطيل خطوط شحن عالمية وقصف العمق الإسرائيلي بالصواريخ والمسيّرات واستدعاء ردّ عسكري من القوى الكُبرى؟... إن منطق المكاسب لا يكفي لتفسير هذا النوع من الالتزام؛ نحن أمام موقف يتجاوز المنطق النفعي، ويؤكّد أن ما يحرّك هذا الفعل ليس الرغبة في الاعتراف فقط، بل الإصرار على تثبيت معيارٍ سياسيٍّ وأخلاقيٍّ مستقلّ، ولو كلّف ذلك أثماناً باهظة.
ليس التعتيم صدفةً على تظاهرات اليمن الداعمة لغزّة ، بل سياسة مقصودة
صحيحٌ أن جزءاً من الإجابة يكمن في البنية العقائدية - الأيديولوجية لجماعة أنصار الله (الحوثيين)، لكنّها لا تفسّر كلّ شيء. الأكثر أهمية أن بنية المجتمع اليمني استطاعت أن تُنتج ما يشبه الإجماع الاجتماعي (أو على الأقلّ قابلية جماهيرية واسعة) على مركزية فلسطين قضيةً معياريةً، تتجاوز في سلّم الأولويات حتى القضايا الوطنية المباشرة. من المهم التنبيه إلى أن جزءاً كبيراً من اليمنيين الذين يشاركون في هذه التظاهرات ليسوا أعضاء أو أنصاراً مباشرين لـ"أنصار الله". بل في حالات عديدة، يشارك فيها أفراد أو جماعات لهم تحفّظات واضحة على سياسات الحركة في الشأن الداخلي، ومع ذلك ينخرطون في الفعل الجماهيري المُسانِد لفلسطين، ويعتبرون أن هذا الالتزام الجماعي يعكس إجماعاً وطنياً أوسع، يتجاوز الاستقطاب السياسي. هذا الالتفاف حول الخيار اليمني في مقاومة إسرائيل ليس إذعاناً لسلطة، بل ترجمة لوعي جمعي يعيد تعريف فكرة الإجماع الشعبي. بمعنى آخر، ما نشهده ليس "احتكاراً للحقيقة" من فاعل سياسي واحد، بل ظاهرة اجتماعية ممتدة، تعبّر عن نضج في وعي الجمهور، ووعي يُفرِّق بين الخلاف الداخلي والواجب القومي - الإسلامي، ويقدّم فلسطين أولويةً تتجاوز الحسابات الفئوية والقُطرية، وهو نهج مغاير لشعارات "الوطن أولاً" التي رُفعت للتنكّر للقضية الفلسطينية.
هذه الاستمرارية في الفعل (رغم الكلفة العالية) تُظهِر أن الشعب اليمني يدفع أثماناً حقيقية: شهداء، بنى تحتية مدمّرة، حملات جوية مزدوجة (أميركية وبريطانية في البداية، ثمّ أميركية إسرائيلية، ولاحقاً إسرائيلية)، وتلويح دائم بتوسيع المواجهة. ومع ذلك، لم نلحظ تراجعاً في الزخم الشعبي، ولا علامات تعب أو تذمّر مجتمعي، بل على العكس، تتوسّع المظاهرات أسبوعاً بعد آخر، وكأنّ الشعب اليمني يستثمر في هذه "المعركة المبدئية" بوصفها معركة وجود وهُويَّة وكرامة. وبالمقارنة مع التجربة العربية الأوسع، لطالما كانت فلسطين ورقة تُوظَّف في التنافس الداخلي أو في المزايدات الإقليمية. النظام الرسمي العربي تعامل مع "القضية" باعتبارها عبئاً حيناً، أو أداة ضغط حيناً آخر، ونادراً ما شكّلت التزاماً سيادياً مستقلّاً عن الحسابات الدولية.
لا يفسّر منطق المكاسب هذا النوع من التزام حركة أنصار الله بدعم فلسطين
في هذا السياق، يبرز اليمن (بعد سنوات الحرب) البلد الوحيد الذي أعاد تموضعه الإقليمي انطلاقاً من تبنٍّ علنيٍّ وواضحٍ لخيار المقاومة، ليس شعاراً، بل جزءاً من مشروعه السياسي. لم يُستخدم هذا التبنّي داخلياً فقط لإعادة تشكيل خطاب الشرعية، بل فُعِّل خارجياً عبر خطوات فعلية ميدانية مؤثّرة، وهو ما يجعل السؤال مشروعاً: هل نشهد في اليمن نموذجاً جديداً لـ"دولة الموقف"، رغم غياب الدولة بمعناها المؤسّسي التقليدي؟... من أبرز ما تكشفه التجربة اليمنية هو قابلية الشارع العربي، حين تُرفع عنه وصاية الإعلام والنظام الأمني) لأن يتحوّل فاعلاً تاريخياً حقيقياً. في معظم البلدان العربية جرى تفريغ الشارع من أيّ وظيفة سياسية خارج الاستهلاك، بفعل تفكيك الأحزاب السياسية والقمع الأمني أو تبنّي سياسات التجويف الثقافي وتزييف الوعي. اليمن، في المقابل، أظهر أن الشارع يمكنه أن ينتج موقفاً لا انعكاساً فقط لموقف السلطة، بل غالباً ما يكون ضاغطاً عليها في اتجاه أكثر راديكالية.
من هنا، تظهر مفارقة لافتة: اليمن "الضعيف" والممزّق، الذي بالكاد يتحصّل على مقدرات الدولة، يمتلك شارعاً ذا كثافة سياسية عالية، بينما الدول "المستقرّة" تمتلك مجتمعات مُستهلِكة وغير معنية بالتعبئة، إلا تحت عناوين مطلبية متّصلة بالضرورات المعيشية. هنا تبرز ضرورة المقارنة: هل في التاريخ الحديث حالة مشابهة لحشد أكثر من مليون متظاهر أسبوعياً على مدى مائة أسبوع من دون توقّف؟... حتى في الديمقراطيات الكبرى مثل الولايات المتحدة، لم يحدث أن استطاع رئيس أميركي (وهو يمتلك أقوى أدوات الدولة والإعلام) أن يحشد مظاهرةً مليونيةً أسبوعياً مدّة سنتَين. ما يحدث في اليمن ليس مجرّد ظاهرة اجتماعية، بل سلوك جماهيري جديد يتجاوز النموذج الديمقراطي الليبرالي في التعبير السياسي.
إذا كانت الديمقراطية الغربية تقيس الحضور السياسي عبر الصناديق والمؤسّسات، فاليمن (بمعزل عن تلك النماذج) يعيد تعريف الحضور الشعبي من بوابة الالتزام الأخلاقي والسياسي الجمعي. هل يمكن إذاً اعتبار ما يجري شكلاً بديلاً للممارسة السياسية الشعبية خارج الديمقراطية التمثيلية؟... تُعيد التجربة اليمنية طرح سؤال الأخلاق في العمل السياسي: هل يمكن أن تقوم دولة أو حركة سياسية باتخاذ مواقف عالية الكلفة، ومنخفضة العائد المباشر، فقط لأن ذلك ما تعتبره "صحيحاً" أو "أخلاقياً"؟ وما هي العلاقة الحقيقية بين الانتماء القطري الضيّق والانتماء العربي والإسلامي الأوسع؟ وهل تقدّم التجربة اليمنية نموذجاً مضادّاً لما تسعى بعض الأنظمة (وفي مقدّمتها أنظمة التطبيع) إلى تكريسه، ليس في السياسة الخارجية فحسب، بل في الثقافة الوطنية وعبر ضخّ إعلامي متواصل وبرامج دعائية ممجوجة؟
تكشف التجربة اليمنية قابلية الشارع العربي، حين تُرفع عنه وصاية النظام الأمني، لأن يتحوّل فاعلاً تاريخياً حقيقياً
في منطقة تُدار غالبية سياساتها بمنطق البراغماتية القصوى، يبدو أن موقف "أنصار الله" (اتفقتَ معه أو لا) يقدّم حالة مختلفة، إذ تُعلن مواقفها من دون غطاء دولي، ومن دون التكيّف مع توازنات القوى أو الحصول على مقابل سياسي واضح، بل وأحياناً على حساب المصالح الوطنية المباشرة. يعكس هذا الموقف نظاماً قيمياً خاصّاً، تتداخل فيه العقيدة مع الاستثمار في شرعية بديلة، في صيغة مركّبة يصعب فصل مكوناتها. تنطلق التجربة اليمنية من رؤية سياسية أوسع للصراع مع الكيان الصهيوني، باعتباره كياناً يهدّد الأمّة بأسرها، ولا يقتصر خطره على محيطه المباشر. ويأتي خيارها في أداء دور فاعل في مواجهة هذا الكيان منسجماً مع رؤية استراتيجية أشمل، ترى في المشروع الصهيوني رأس حربة للمشروع الغربي الذي يستهدف الجميع من دون استثناء.
ليس الغرض من هذه القراءة تمجيد الحالة اليمنية، ولا اختزالها في مثالية غير قابلة للتكرار، بل المقصود محاولة قراءة تجربة سياسية فريدة، بكلّ ما فيها من تعقيد، داخل مشهد عربي تتآكل فيه المعايير، وتُفرغ فيه القضايا من مضمونها. التجربة اليمنية تقول ببساطة إن الشارع العربي ليس ميتاً، وإن الالتزام السياسي لا يموت حين تُحاصر الشعوب، بل حين تُختطف إرادتها. وهو ما يفتح الباب أمام مساءلة النُّخب الفكرية والسياسية والأحزاب العربية ودورها في الاستفادة من هذا النموذج لإعادة استنهاض الشعوب العربية والإسلامية. فالتجربة تبرهن أن الشارع (إذا تحرّر من الوصاية الرسمية والإعلامية) قادر على المبادرة والضغط وصياغة المواقف التاريخية. وعلى النُّخب أن تتحرّر من منطق التبرير أو الصمت، وأن تبادر إلى كسر الحصار الإعلامي المفروض على الشارع اليمني، وتقديم تجربته مرجعاً في القدرة على الجمع بين الموقف السياسي الواعي والعمل الشعبي المنظّم. كما أن على الأحزاب العربية، على اختلاف توجّهاتها، أن تدرك أن فلسطين ليست ورقةً تكتيكيةً، بل معياراً جامعاً للشرعية الشعبية، وأن تبني برامجها وخطابها على أساس هذا الإدراك، بما يعيد الثقة بين الشارع والقوى السياسية، ويفتح أفقاً جديداً لمشروع عربي تحرّري متكامل.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة

عمون
منذ 9 دقائق
- عمون
محمد زيد عبدالله المطلق الحديدي .. زفاف مبارك
عمون - يتقدم السيد أبو عبدالكريم الحديدي، بأجمل التهاني والتبريكات لعشيرته الحديدي بحفل زواج الشاب المهذب ابن عمه العريس محمد زيد عبدالله المطلق الحديدي . متمنيأ له حياة سعيدة وأن يرزقكم الله الذرية الصالحة يارب العالمين ... اللهم آمين ... زواج مباركاً ميموناً .. بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما بالخير.


بوابة الأهرام
منذ 12 دقائق
- بوابة الأهرام
ترسيخ القيم في قلوب النشء بمسجد الشهداء بميت علي بمركز المنصورة
لقاء تربوي بعنوان ترسيخ مقام المراقبة لدى الطفل وأثره في الوقاية من الأخلاق السيئة الدقهلية - منى باشا استقبل مسجد الشهداء بميت علي التابعة لمركز المنصورة،في محافظة الدقهلية، اليوم الجمعة، حشدًا من الأطفال وأولياء أمورهم في لقاء تربوي بعنوان 'ترسيخ مقام المراقبة لدى الطفل وأثره في الوقاية من الأخلاق السيئة'، ضمن فعاليات مبادرة 'صحح مفاهيمك'، وسط أجواء إيمانية وتربوية عامرة بالبهجة والصفاء. موضوعات مقترحة محتوى اللقاء وأسلوب التناول بدأ اللقاء بآيات من الذكر الحكيم بصوت أحد النشء، ثم تناول المحاضر بأسلوب يناسب الصغار معنى مقام المراقبة، موضحًا أن استشعار مراقبة الله يجعل الطفل أكثر التزامًا بالصدق والأمانة وحسن الخلق، ويحميه من الكذب وإيذاء الآخرين. لقاء تربوي بعنوان ترسيخ مقام المراقبة لدى الطفل وأثره في الوقاية من الأخلاق السيئة مشاركة الأطفال وتفاعلهم تخلل اللقاء حوار تفاعلي، شارك فيه الأطفال بأمثلة من حياتهم اليومية عن مواقف شعروا فيها بمراقبة الله، مع استخدام قصص واقعية ورسوم توضيحية لإيصال المعنى بأسلوب شيق جذب انتباه الحاضرين. لقاء تربوي بعنوان ترسيخ مقام المراقبة لدى الطفل وأثره في الوقاية من الأخلاق السيئة رعاية وتنظيم الفعالية جاء النشاط برعاية الأستاذ الدكتور أسامة الأزهري وزير الأوقاف، وبإشراف فضيلة الشيخ خالد خضر رئيس القطاع الديني، وبمتابعة فضيلة الدكتور محمد عوض حسانين مدير مديرية أوقاف الدقهلية، ضمن استراتيجية الوزارة لنشر الفكر الوسطي وتعزيز القيم الأخلاقية بين النشء.


مصراوي
منذ 12 دقائق
- مصراوي
النيجيرية زلفى عبد العزيز لمصراوي: "أحلم بتمثيل المنتخب واللعب للأهلي"
كشفت النيجيرية زلفى عبد العزيز لاعبة فريق السيدات بنادي اتحاد بسيون، طموحها في كرة القدم خلال الفترة المقبلة. وقالت زلفى في تصريحات خاصة لمصراوي: "أنا بخير الآن في ناديي الحالي "اتحاد بسيون"، وأعمل على أن أكون مؤثرة بشكل كبير في النادي، كما أنني آمل أن ألعب في الأهلي يومًا ما إن شاء الله". واختتمت زلفى: "أحب أيضا نادي مسار، فهم يقدمون أداءً رائعًا في الدوري المصري، وأحب تحدي نفسي، وطموحي الأكبر هو تمثيل منتخب نيجيريا للسيدات يوما ما بإذن الله". ويمكن الإطلاع على القصة الكاملة للاعبة النيجيرية من هنا.