
"الشرع" يعود من بوابة السويداء
الخطاب يعكس قفزة مفاجئة من أمير حرب إلى رئيس جمهورية دون مراجعة وعدالة انتقالية أو مساءلة قانونية
«الجولانى» يُخفى خلفيته الجهادية ومسئوليته عن مآسٍ طالت آلاف المدنيين عبر تاريخه الدموى
الخطاب تجاهل أى وقائع مُحددة لما حصل فى السويداء ولا يُشير إلى فيديوهات تُظهر إذلال أسرى وضرب جنود ومسلحين من الطرفين
استثمار دماء السويداء لصناعة شرعية وتحول مُبهم فى خطاب الجولانى، حيث لا اعتذار، لا برنامج، لا عقد اجتماعى جديد
فى لحظة بالغة التعقيد، وبينما كانت محافظة السويداء تشتعل بصدامات مسلحة ذات طابع طائفى محلي، تتخللها عمليات قصف إسرائيلي، وتدخل عسكرى سورى معلن لأول مرة منذ سقوط نظام بشار الأسد، خرج الرئيس السورى الجديد أحمد الشرع، المعروف سابقًا بأبو محمد الجولاني، ليُلقى خطابًا طويلًا يُحاول فيه لعب دور رجل الدولة المُتعقل، والوطنى الجامع، والحامى للنسيج السوري.
لكن قراءة هذا الخطاب من منظور تحليل الخطاب السياسى واللسانى النقدى تكشف أن هذا ليس خطاب تهدئة، بل عملية خطابية لإعادة إنتاج الذات وتبييض الماضى الجهادي، بل وربما لتثبيت موقعه السياسى عبر تسويق أزمة السويداء كفرصة للشرعنة.
التحول الشكلاني
فى خطابه الأخير، يُقدّم أحمد الشرع نفسه بوصفه رئيسًا لكل السوريين، حاميًا لـ«النسيج الوطني»، وراعيًا لـ«الوحدة الداخلية»، مستخدمًا تعبيرات مثل: «الدروز جزء من نسيج الوطن، وحمايتهم أولوية، والدولة السورية هى دولة الجميع».
هذا التقديم يبدو وكأنه إعلان عن ولادة جديدة لرجل الدولة، لكنه يتجاهل أن هذا الرجل هو نفسه أبو محمد الجولاني، القائد السابق لتنظيم هيئة تحرير الشام، الذى خاض صراعات دامية، وارتكب فصيله انتهاكات واسعة فى كلٍ من سوريا والعراق، خاصة بحق الأقليات والمخالفين المذهبيين. الخطاب بذلك يُعيد إنتاج الذات بلغة مصقولة حديثًا دون تقديم مراجعة أو حتى إشارة إلى هذا التاريخ، فى ممارسة تُعرف فى تحليل الخطاب السياسى بـ«تبييض الذاكرة».
لا يظهر فى أى مقطع من الخطاب أى نوع من الاعتراف أو حتى التلميح إلى الخلفية الجهادية للشرع، وكأن من يتحدث لم يكن يومًا فى موقع مسئولية عن مآسٍ طالت آلاف المدنيين. يتحدث الرئيس الجديد عن كرامة السوريين ورفض الفوضى، ويتهم إسرائيل بمحاولة تمزيق وحدتنا، متناسيًا أن الفوضى التى يتحدث عنها قد كانت مشروعه السياسى ذات يوم.
هذا ما يصفه باحثو تحليل الخطاب باستراتيجية «القفز فوق الذاكرة (Memory Leap Strategy)»؛ أى محاولة خلق سردية جديدة قائمة على محو الماضى لا على مواجهته. والنتيجة: خطاب جديد على لسان فاعل قديم، دون أن يتغير جوهر البنية النفسية أو السياسية.
خطاب «الشرع» يعكس قفزة مفاجئة فى موقع المتكلم؛ من أمير حرب إلى رئيس جمهورية، دون المرور عبر آليات مراجعة، عدالة انتقالية، أو مساءلة قانونية. وبينما يستخدم خطابًا توحيديًا فى ظاهره، مثل قوله: «ما نحتاجه اليوم هو أن نكون جميعًا شركاء فى هذا البناء»، فإنه يتجاوز كليًا حقيقة أن شراكته مع السوريين لم تُبنى على الثقة بل على الدم، وأنه لا يمكن تأسيس دولة مدنية بلا إعادة الاعتبار للضحايا. القفز من موقع القائد الجهادى إلى موقع الأب الوطني، ليس فقط تسطيحًا سياسيًا، بل نوعًا من التلاعب بالذاكرة الجمعية، ويهدد بتكرار مأساة سوريا بلون جديد.
من الناحية اللغوية والسياسية، يبدو أن خطاب «الشرع» أُعدّ بعناية لتفادى أى إشارات إلى المسئولية الأخلاقية أو السياسية عن ماضيه الجهادي. لا وجود لكلمات مثل مراجعة، اعتذار، تجاوزات، أو حتى أخطاء فى خطابه، رغم أن هذه المفردات تُعد من لوازم أى خطاب زعامة جديد يسعى لبناء مصالحة وطنية. بل إنه يتحدث بثقة: «لسنا ممن يخشون الحرب»، فى استدعاء لذهنية المواجهة ذاتها التى شكّلت خلفيته، وكأن التحول الذى يزعمه هو تحول فى الشكل لا فى المضمون.
وفى هذا الصدد، فإن تجاهله للماضى لا يُنتج شرعية، بل يُنتج شكًا مشروعًا فى حقيقة هذا التحول، ومخاوف من أن "الدولة الجديدة" قد لا تكون إلا غلافًا شرعيًا لمشروع قديم بثياب رسمية.
صناعة شرعية
أتى خطاب أحمد الشرع فى لحظة مُشبعة بالتوتر والانقسام والخوف. فبعد سنوات من شبه استقلال فعلى لمحافظة السويداء عن سلطة دمشق، دخل الجيش السورى المدينة لأول مرة منذ عام ٢٠١١، وسط اشتباكات دامية بين فصائل درزية ومجموعات مسلحة من عشائر البدو، ترافقت مع تدخل إسرائيلى مباشر بحجة حماية الدروز.
فى هذا السياق، لم يكن خطاب الشرع مجرد محاولة للتهدئة، بل بدا كـفعل خطابوى محسوب الهدف منه تثبيت موقعه السياسى وإضفاء الشرعية على تدخله فى المحافظة، بل وعلى وجوده نفسه فى قمة السلطة. لذلك، لم تكن الأولوية فى خطابه هى محاسبة من أطلق النار أو من ارتكب الانتهاكات، بل ترتيب السردية بحيث يظهر كزعيم ضامن للاستقرار.
الخطاب تجاهل بشكل واضح ذكر أى وقائع محددة لما حصل فى السويداء. لم يُشر «الشرع» إلى الفيديوهات المتداولة التى تُظهر إذلال أسرى وضرب جنود ومسلحين من الطرفين، ولم يُقدّم موقفًا واضحًا من خطاب الكراهية الطائفى المتفجر على وسائل التواصل الاجتماعي. بل اكتفى بتصريح فضفاض حين قال: «كلّفنا الجهات الرقابية باتخاذ الإجراءات الفورية بحق كل من ارتكب أى تجاوز».
هذه اللغة المموّهة تعكس رغبة فى عدم تسمية الفاعلين، والابتعاد عن أى تحديد قد يورّطه سياسيًا مع أى طرف مسلح. هذا الغموض المتعمد هو فى ذاته ممارسة سلطوية لتجميل الوقائع وتفادى الإدانة، تمهيدًا لصناعة شرعية قائمة على الوحدة وليس على الحقيقة.
من أبرز ما ورد فى خطاب الشرع قوله: «سنواجه محاولات خلق الفوضى بالوحدة.. سوريا لن تكون مكانًا لخلق الفوضى، ولن نسمح بجر سوريا إلى حرب جديدة». هذه العبارات لا تخفى فقط المسئولية الحقيقية عن تفاقم العنف، بل تُحاول توظيف الأزمة كمبرر لـ«بسط سيطرة الدولة»، وكأن ما جرى لم يكن نتيجة تهميش طويل للمحافظة وغياب التنمية والتمثيل، بل مجرد اضطراب خارجي. بذلك، يُحوّل الخطاب الأزمة إلى ذريعة لإعادة تشكيل الخارطة الأمنية والسياسية فى الجنوب السوري، وإعادة دمج السويداء بالقوة تحت غطاء خطاب اللُحمة الوطنية.
رغم أنه يتحدث باسم الدولة السورية، إلا أن الخطاب فى جوهره لم يُقدّم سردية دولة، بل سردية «شرع». لقد صاغ الرواية بشكل يُظهره كقائد أنقذ البلاد من الانقسام، حيث قال: «نحن الذين قضينا أعمارنا فى مواجهة التحديات والدفاع عن شعبنا.. قدمنا مصلحة السوريين على الفوضى والدمار».
وفى هذا السياق، لا يبدو أن «الشرع» يهدف فقط إلى احتواء الأزمة، بل إلى ترسيخ نفسه كزعيم اضطرارى لا غنى عنه فى مواجهة الفوضى، تمامًا كما تفعل النظم السلطوية حين تصنع أزمتها لتبرر بقائها. خطاب «الشرع» هنا ليس استجابة لأحداث السويداء، بل توظيف لها لبناء سردية تُبرر سلطته وتعيد تقديمه كحاكم قادر على إنقاذ البلاد من تشرذم طالما شارك هو نفسه فى إنتاجه سابقًا.
النتيجة: فى تحليل الخطاب، لا يهم فقط ما يُقال، بل ما لا يُقال، وكيف يُقال، وفى أى توقيت. وخطاب «الشرع» – رغم ما فيه من مفردات الوحدة والتهدئة – لم يكن بريئًا من التوظيف السياسي، بل كان إعلانًا ضمنيًا بأن الفوضى باتت فرصة لإعادة إنتاج السلطة، وأن من كان فاعلًا فى الخراب، يُريد أن يكون مؤسس النظام الجديد دون اعتراف أو مراجعة.
تلبيس الدولة بجلد الفصائل
فى خطاب أحمد الشرع، برزت مفارقة لافتة بين التأكيد على بسط سيطرة الدولة السورية على محافظة السويداء، وبين الإعلان عن تكليف الفصائل المحلية وشيوخ العقل بحفظ الأمن والاستقرار. هذا الجمع بين مفردتى الدولة والفصائل لا يعكس فقط ارتباكًا مفاهيميًا، بل يكشف عن منطق سياسى ملتبس، يتعامل مع مفهوم الدولة بوصفه غطاءً مرنًا لتسويات ميدانية مع جماعات الأمر الواقع، لا ككيان سيادى ومؤسسى مستقل. فعوضًا عن إرساء سلطة مدنية محايدة، يُعاد إنتاج منطق التحاصص وتوزيع السيطرة، فى مشهد يُشبه إلى حد بعيد النموذج العراقى بعد ٢٠٠٣، حيث تحوّلت الدولة إلى مظلة تُدار عبر التوافقات المذهبية والميليشيوية.
تصريحات «الشرع»، ولا سيما تلك التى خاطب فيها الفصائل الشريفة وأهالى الجبل، لم تصدر عن موقع دستورى أو عقلية رجل دولة، بل عن شخصية تسعى لإدارة الفضاء المحلى بمنطق الزعامة، لا الحكم الرشيد. فهو لم يحدد آلية قانونية لتكليف الفصائل، ولا المرجعية التى تُخضعها للمساءلة، بل اكتفى بتوصيفها كقوة وطنية، دون تمييز واضح بينها وبين الجماعات المسلحة الأخرى. فى هذا السياق، يبدو الشرع وكأنه يرتدى عباءة أمير الجماعة الذى يعقد التحالفات مع جنوده وفق الولاءات لا وفق العقود الاجتماعية والمؤسساتية.
من خلال منح الفصائل المحلية شرعية الضبط الأمني، يسعى خطاب «الشرع» إلى دمجها ضمن بنية الدولة – ولكن كقوة موازية لا خاضعة. وبدل أن يُعاد بناء الأجهزة الأمنية على أسس مدنية وشفافة، يتم تعزيز منطق الميليشيا الشرعية، ما يُعيد إنتاج العنف كأداة للحكم. وهذا النهج لا يُعالج مسببات التوتر، بل يُعيد تأهيل أدواته القديمة بأسماء جديدة. إن حديث «الشرع» عن شرف الفصائل دون مساءلة عن ممارساتها خلال الاشتباكات، يُشير إلى سياسة غض الطرف، وشراء الولاءات، لا بناء الثقة بين الدولة والمجتمع.
من خلال هذا التلبيس بين الدولة والفصائل، تتحول الدولة السورية – كما تظهر فى خطاب «الشرع» – إلى مجرد جلد يُغلف به تحالف غير متجانس من الشيوخ والميليشيات والمصالح المحلية. «الشرع» لم يتحدث عن إعادة تفعيل القضاء، أو ضمان المحاكمات العادلة، أو حماية المدنيين، بل عن دور اجتماعى للفصائل وشيوخ العقل فى دعم الأمن. وهذا الدور لا يُرسّخ مؤسسات الدولة، بل يعمّق اعتمادها على قوى غير خاضعة لها، بما ينسف أى أفق لتحوّل فعلى نحو دولة مدنية ذات سيادة وشرعية قانونية.
شيطنة الآخر.. وتحييد الذات
فى خطابه، لجأ أحمد الشرع إلى أسلوب كلاسيكى فى الدعاية السياسية يتمثل فى شيطنة الآخر، إذ حمّل إسرائيل المسئولية الكاملة عن أحداث السويداء، مُعتبرًا أن ما جرى هو فتنة مفتعلة بأدوات داخلية تنفذ أجندة صهيونية. هذا الطرح، كما ورد فى بيانه بتاريخ ٨ يوليو ٢٠٢٤، لا يُقدّم تفسيرًا عقلانيًا للأزمة، بل يختزلها فى مؤامرة خارجية، مُتجاهلًا تمامًا الأسباب التراكمية التى دفعت الأهالى إلى الاحتجاج، وكأن أبناء المحافظة مجرّد أدوات بلا وعى ولا إرادة. هذا النمط من التفسير يُستخدم لتفريغ الفعل المحلى من مضمونه السياسى والاجتماعي، وتحويله إلى انعكاس لمخططات خارجية.
الخطير فى هذا المنهج أنه يعفى الدولة – أو الجهة الحاكمة فعليًا – من أى مسئولية عن الأحداث، ويُحيل كل أسباب الأزمة إلى العدو، فى استنساخ تقليدى لخطابات الأنظمة الشمولية التى تفسر كل اضطراب داخلى بأنه نتيجة تآمر خارجي. تجاهل «الشرع»، فى تصريحاته، الخلفيات المتفجرة للأزمة: غضب الأهالى من تحكم الأجهزة الأمنية وتغوّلها، التوترات القديمة مع البدو التى لم تُحل، ومشاهد الإذلال العلنى التى انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي، مثل حلق الشوارب على الحواجز. كل هذه الأسباب غابت لحساب خطاب يتحدث عن مخطط لضرب الوحدة الوطنية.
كذلك، كان لافتًا فى خطاب «الشرع» محاولته تقديم السلطة الحاكمة كـ«ضحية» تُدافع عن الوحدة الوطنية. ففى البيان ذاته، قال: «نحن نواجه مشروع تمزيق، ويجب أن نكون صفًا واحدًا خلف القيادة الشرعية»، دون أن يُحدّد طبيعة هذه القيادة أو موقعها المؤسسي. هذا التحول من مسئول إلى ضحية، ومن طرف فاعل إلى طرف مُستهدف، هو ما يُعرف فى تحليل الخطاب بـ«استراتيجية تبرئة الذات (Self-exoneration strategy)»، حيث يتم تحميل الآخر كامل المسئولية، مع إخفاء دور الذات فى خلق المقدمات التى أدت إلى الانفجار.
الأكثر دلالة أن «الشرع» لم يذكر – ولو مرة واحدة – موقف الشيخ حكمت الهجري، الرافض للتسويات المفروضة بالقوة، ولا إدانته لسلوك الأجهزة الأمنية، رغم أن هذه المواقف كانت مركزية فى إشعال فتيل الأزمة. هذا الصمت المقصود هو جزء من محاولة تحييد الذات عن مسار التصعيد، وخلق رواية أحادية تُجرد المجتمع من وعيه وتُحيله إلى كتلة مخترقة من الخارج، بينما تظل السلطة نقية تقاتل دفاعًا عن الوطن، لا عن بقائها.
الفوضى بوصفها فرصة لإعادة السيطرة
لم يكن خطاب أحمد الشرع مجرّد دعوة إلى التهدئة، بل كان يحمل فى طياته تحوّلًا استراتيجيًا فى علاقة الدولة مع محافظة السويداء. ففى الوقت الذى بدا فيه أنه يُعبّر عن حرص الدولة على الوحدة الوطنية، كانت ملامح استثمار الفوضى تظهر بوضوح فى عباراته. فقد قال «الشرع»: «الجيش العربى السورى لن يسمح بتمرير المشروع الصهيونى لتفتيت الوحدة الوطنية»، وهى عبارة تكشف أن الدولة لا تتعامل مع ما جرى كأزمة محلية، بل كتهديد وطنى يستدعى تدخلًا مركزيًا كاملًا، وهو ما يُشرعن الدخول العسكرى للجيش السورى بعد سنوات من الغياب الفعلى عن المشهد الأمنى فى السويداء.
فى هذا السياق، يُلاحظ أن «الشرع» لم يتحدث عن عودة الدولة بمفهومها المدنى أو المؤسساتي، بل عن استعادة السيطرة وفرض القانون، وهى تعبيرات تُشير إلى منطق أمنى صِرف، يستفيد من الفوضى لتبرير تحركاته. وهنا لا يمكن فصل هذا الخطاب عن ما يُعرف فى تحليل الخطاب بـ«إستراتيجية التوظيف الوظيفى للأزمة (Crisis Exploitation Strategy)»، أى توظيف الحدث كذريعة لاستعادة السيطرة وكسر أى توازن سابق، مثلما كانت عليه حالة الحكم الذاتى غير المُعلن الذى ساد فى السويداء منذ ٢٠١١.
«الشرع» لم يُخفِ هذه النية، بل أعلنها حين قال: «لن تبقى الدولة متفرجة على الفوضى، وسنقوم بجمع السلاح غير الشرعى وبسط سيادة القانون». هذا التصريح لا يعكس فقط نية استعادة السيطرة، بل يكشف أيضًا عن طيّ صفحة تفاهمات السنوات الماضية، والتى كانت تقضى بترك السويداء لحكمها الذاتى مقابل الولاء الرمزى للدولة. وهكذا، فإن ما يُقدم فى الخطاب كحل أمنى هو فى جوهره إعادة إنتاج الدولة الأمنية القديمة، لكن بثوب ملوّن بشعارات الوحدة الوطنية والتصدى للعدو.
ولعل أخطر ما فى هذا الخطاب هو أن الدولة لا تعود إلى السويداء بوصفها حامية للحقوق، بل كسلطة عقاب، مستفيدة من انقسام الفصائل وقلق المجتمع المحلي. وهكذا، تُحوَّل الفوضى إلى نافذة شرعية لفرض النفوذ الأمني، فى تكرار لنمط استخدمته الأنظمة السلطوية فى أكثر من بقعة: دع الأزمة تكبر.. ثم ادخل كمنقذ.
بلاغة العاطفة بدل بلاغة الحقيقة
فى خطابه، اختار أحمد الشرع أن يُراكم العبارات الانفعالية والتعبيرات العاطفية على حساب تناول الحقائق الجوهرية للأزمة. فقد قال مخاطبًا السوريين: «نحن أبناء هذه الأرض، والأقدر على تجاوز محاولات الكيان الإسرائيلى الرامية إلى تمزيقنا»، كما وصف سوريا بأنها حلم كل سورى يعيش فى أمن واستقرار. هذه العبارات ليست مجرد أسلوب تعبيري، بل تمثل استراتيجية بلاغية تهدف إلى تغليف الواقع المأزوم بلغة وجدانية تبث الحماسة والانتماء، لكنها تُخفى تحتها أسباب الغضب الحقيقي: كالتهميش السياسي، والانهيار الاقتصادي، والقطيعة الطويلة بين السويداء ومؤسسات الدولة.
هذا النوع من الخطاب يُعرف فى تحليل الخطاب السياسى بـ«بلاغة الاستدعاء العاطفى (Emotive Rhetoric)»، وهو شائع فى الأنظمة الشمولية، حيث تُستبدل سردية الأزمة الحقيقية – القائمة على الفشل والاحتقان المحلى – بسردية المؤامرة، فى محاولة لإعادة توحيد الجمهور خلف عدو خارجي. «الشرع» لم يتحدث عن شكاوى الدروز من تقاعس الدولة، ولا عن أحداث الإذلال أو التمييز، بل تحدث عن الكيان الصهيوني، وتفتيت الوطن، ومشروع لإغراقنا فى الفوضى. وهكذا، يُستعاد خطاب البعث القديم بعباراته الشعاراتية، لكن هذه المرة بنكهة قائد سابق لفصيل جهادى يُحاول تقديم نفسه كزعيم وطني، دون أن يملك أدوات الدولة ولا شفافيتها.
التحول المُبهم
فى خطابه، تجنب أحمد الشرع بمهارة تقديم أى شكل من أشكال الاعتذار أو المساءلة عن ماضيه الجهادي، بل بدا وكأنه يقفز فوق تاريخه الشخصى وتاريخ الفصيل الذى يمثل، ليقدّم نفسه كناطق باسم مرحلة جديدة دون تحديد معالمها. لم نسمع منه جملة واحدة تقطع بوضوح مع خطاب التمكين الذى غذّى العنف والانقسام، ولا أى تراجع صريح عن سياسات حمل السلاح خارج سلطة الدولة أو إدارة مناطق الحكم الذاتى بقوة الأمر الواقع. بدلًا من ذلك، انزلق خطابه إلى مفردات عامة فضفاضة، مثل الوحدة والحلم السوري، دون أن يوضح ما إن كانت هذه الوحدة تعنى العودة إلى سلطة الدولة المركزية كما هي، أم إلى صيغة جديدة تعترف بخصوصية السويداء.
وبغياب أى تصور واضح لمشروع الدولة الجديدة، بدا الخطاب أشبه ببيان رمزى يتحدث باسم السلم الأهلى دون أدوات حقيقية لتحقيقه. لم يتحدث الشرع عن طبيعة النظام المقبل: هل هو مدنى يضمن الحريات والحقوق؟ أم عسكرى يُعيد إنتاج آليات السيطرة القديمة؟ هل هو نظام يكرّس المركزية أم يعترف باللامركزية السياسية؟ كذلك، لم نجد فى كلماته أى إشارة إلى العدالة الانتقالية، أو إلى آليات واضحة للمحاسبة والمصالحة، ما يعنى أن ما يُقدَّم باسم الخروج من الفوضى هو مجرد إعادة ترميم للواجهة، دون مراجعة حقيقية أو ضمانات تحول دون عودة أسباب الانفجار من جديد.
خطاب بلا ذاكرة لا يصنع دولة
خطاب أحمد الشرع هو محاولة لإعادة إنتاج السلطة بلسان جديد لا بجوهر جديد. هو نصّ سياسى يحاول أن يتجاوز الدم والتاريخ والمحاسبة، ليبدأ من لحظة الوطنية كأن شيئًا لم يكن. لكنه، فى حقيقة الأمر، خطاب يعكس مأزقًا عميقًا: كيف تُبنى الدولة من رماد الجماعات الجهادية دون تفكيك البنية الأيديولوجية التى أنتجتها؟
إن التحول السياسى لا يُقاس بالكلمات بل بالأفعال، ولا يكفى أن يتحول «الجولاني» إلى «الشرع» ليُولد رئيسًا، بل يحتاج إلى مسار مصالحة، عدالة، ومحاسبة، وإلا فإن خطاب الوحدة اليوم قد يتحول غدًا إلى غطاء جديد للعنف نفسه، ولكن باسم الدولة لا باسم الجماعة.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الزمان
منذ 2 ساعات
- الزمان
إيران..التمسك نهائياً بتخصيب اليورانيوم
طهران- الزمان أعلن وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي الإثنين أنّ بلاده لن تتخلّى عن برنامجها النووي، لا سيما تخصيب اليورانيوم، رغم «الأضرار الجسيمة» التي ألحقها القصف الأميركي بمنشآتها النووية، وذلك قبل استئناف المحادثات مع القوى الأوروبية. ومن المقرر أن تلتقي إيران مع بريطانيا وفرنسا وألمانيا في إسطنبول الجمعة لإجراء مفاوضات بشأن برنامجها النووي فيما تتهم طهران القوى الأوروبية بعدم احترام الاتفاق النووي المبرم عام 2015. وسيكون هذا الاجتماع الأول منذ الحرب التي خاضتها إيران لمدة 12 يوما مع إسرائيل الشهر الماضي والتي نفذت خلالها الولايات المتحدة ضربات على منشآت نووية في إيران. وقال عراقجي للمذيع في شبكة «فوكس نيوز» الإخبارية الأميركية بريت باير إنّ «البرنامج متوقف الآن لأنّ الأضرار جسيمة وخطرة، لكن من الواضح أنّنا لا نستطيع التخلّي عن التخصيب، لأنّه إنجاز لعلمائنا، والآن، أكثر من ذلك، إنّه مسألة فخر وطني». وسارع الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى التعليق على ما قاله عراقجي لفوكس نيوز، مجددا وعيده لإيران وكتب على منصّته «تروث سوشال» أنّ «عباس عراقجي، في ما يتعلق بالمواقع النووية الإيرانية، قال إنّ +الأضرار جسيمة للغاية، لقد دُمِّرت+. بالطبع إنها كذلك، كما سبق أن قلت، وسنكرّر (القصف) إذا لزم الأمر!». وأبرمت إيران والقوى الكبرى اتفاقا نوويا عام 2015 أطلق عليه اسم «خطة العمل الشاملة المشتركة»، فرضت بموجبه قيودا على برنامج إيران النووي مقابل تخفيف العقوبات عليها. لكن مفاعيل الاتفاق باتت بحكم اللاغية اعتبارا من 2018 خلال ولاية ترامب الأولى، عندما انسحبت الولايات المتحدة منه وأعادت فرض عقوبات على إيران. وكانت باريس ولندن وبرلين أكدت التزامها تطبيق الاتفاق، مشيرة إلى رغبتها في مواصلة التبادلات التجارية مع إيران، في وقت لم يُعاد فرض عقوبات الأمم المتحدة والعقوبات الأوروبية على طهران. غير أنّ التدابير التي سعت الدول الأوروبية إلى اعتمادها للتخفيف من آثار العقوبات الأميركية، واجهت صعوبات لاسيما أنّ العديد من الشركات الغربية اضطرّت إلى مغادرة إيران التي تشهد معدّلات تضخّم مرتفعة وأزمة اقتصادية خانقة. وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية اسماعيل بقائي إنّ «الأطراف الأوروبية كانت مخطئة ومقصّرة في تنفيذ» الاتفاق النووي. وجاءت تصريحاته قبل لقاء يُعقد في اسطنبول الجمعة بين إيران وممثلين لفرنسا وبريطانيا وألمانيا للبحث في الملف النووي الإيراني. وتستضيف إيران أيضا اجتماعا ثلاثيا الثلاثاء مع ممثلين للصين وروسيا لمناقشة الملف النووي الإيراني والعقوبات المحتملة.


الزمان
منذ 2 ساعات
- الزمان
مديرة اليونسكو:كنّا مستعدين لقرار الانسحاب الأمريكي
واشنطن- باريس – الزمان أعلنت الولايات المتحدة الثلاثاء انسحابها من منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو)، متهمة إياها بالتحيّز ضد إسرائيل والترويج لقضايا «مثيرة للانقسام». فيما تعزز واشنطن انسحابها من دعم منظمات الأمم المتحدة تدريجيا. ورأت الناطقة باسم وزارة الخارجية الأميركية تامي بروس «إن الاستمرار في المشاركة في اليونسكو لا يصب في المصلحة الوطنية للولايات المتحدة». من جانبها، أعربت المديرة العامة للمنظمة الدولية أودري أزولاي عن أسفها للقرار الأميركي، مع تأكيدها بأنه كان «متوقعا». وقالت أزولاي «يؤسفني جدا قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب سحب الولايات المتحدة الأميركية من اليونسكو… ورغم أن الأمر مؤسف إلا أنه كان متوقعا واستعدت اليونسكو له». كان القرار متوقعا في عهد ترامب الذي سبق وأعلن انسحاب الولايات المتحدة من المنظمة خلال ولايته الأولى عام 2017، قبل أن تعود إليها واشنطن في عهد الرئيس جو بايدن. وقالت بروس إن اليونسكو تعمل على «الترويج لقضايا اجتماعية وثقافية مثيرة للانقسامات» وتركّز بشكل مبالغ فيه على أهداف الأمم المتحدة المتعلقة بالاستدامة في إطار ما اعتبرتها «أجندة فكرية قائمة على العولمة». كما لفتت إلى أن موقف المنظمة مناهض لإسرائيل عبر الاعتراف بدولة فلسطينية. وقالت إن «قرار اليونسكو الاعتراف 'بدولة فلسطين' كدولة عضو يمثّل مشكلة كبيرة ويعارض سياسة الولايات المتحدة وساهم في انتشار خطاب معاد لإسرائيل داخل المنظمة». ورحبت إسرائيل بالخطوة، إذ شكر وزير خارجيتها جدعون ساعر واشنطن على «دعمها الأخلاقي وقيادتها». وقال في منشور على منصة إكس «هذه خطوة ضرورية تهدف إلى تعزيز العدالة وحق إسرائيل في المعاملة العادلة داخل منظومة الأمم المتحدة، وهو حق كثيرا ما تم انتهاكه بسبب التسييس في هذا المجال». تفيد المنظمة الأممية بأن مهمتها تتمثل في دعم التعليم والتعاون العلمي والتفاهم الثقافي. وتشرف على قائمة من المواقع التراثية بهدف الحفاظ على المعالم البيئية والمعمارية الفريدة، انطلاقا من الحيّد المرجاني العظيم قبالة أستراليا مرورا بسرنكيتي في تنزانيا ووصولا إلى مبنى الأكروبوليس في أثينا والأهرامات في مصر. ولم يكن ترامب أول رئيس أميركي يعلن انسحاب الولايات المتحدة من اليونسكو، إذ قام الراحل رونالد ريغان بالخطوة في ثمانينات القرن الماضي، متهما المنظمة بأنها فاسدة ومؤيدة للاتحاد السوفياتي. وعادت الولايات المتحدة إليها في عهد جورج بوش الابن.


وكالة أنباء براثا
منذ 3 ساعات
- وكالة أنباء براثا
ترامب يعلن انسحاب الولايات المتحدة من "اليونسكو"
أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، انسحاب بلاده من عضوية منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو). وعزا ترامب قراره إلى ما وصفه بتوجهات المنظمة المعادية لأمريكا وإسرائيل، والترويج لما أسماه "الأجندة الصاخبة"، التي تضر بالمصالح الوطنية، وفقًا لما ذكرته القناة السابعة العبرية. وقالت القناة إن القرار الأمريكي جاء بعد مراجعة استمرت 90 يومًا أجرتها إدارة ترامب منذ فبراير/شباط الماضي، حيث تم خلالها فحص وجود "تعبيرات معادية للسامية" و"مواقف عدائية" تجاه إسرائيل من جانب المنظمة. وأعرب مسؤولون في إدارة ترامب عن معارضتهم لسياسة التنوع والمساواة والإدماج التي تروج لها منظمة اليونسكو. واعترضوا على المواقف المؤيدة للفلسطينيين والمشاركة الصينية المتزايدة في قيادة المنظمة. وقالت المتحدثة باسم البيت الأبيض آنا كيلي إن "الرئيس ترامب قرر الانسحاب من اليونسكو، التي تدعم القضايا الثقافية والاجتماعية التي تتعارض مع السياسات السليمة التي اختارها الأمريكيون في نوفمبر/ تشرين الثاني". وأضافت أن "الرئيس سيضع أمريكا دائمًا في المقام الأول، وسيعمل على ضمان أن تكون عضوية الولايات المتحدة في المنظمات الدولية متوافقة مع مصالحها الوطنية".