logo
نتنياهو لا يعبد إلا نتنياهو.. هكذا يقامر رئيس الوزراء بمستقبل الاحتلال

نتنياهو لا يعبد إلا نتنياهو.. هكذا يقامر رئيس الوزراء بمستقبل الاحتلال

الجزيرةمنذ 7 ساعات

في الفيلم الأميركي الشهير "ذيل الكلب" (Wag the Dog-1997) يتعاون خبير تعديل الحقائق السياسية كونراد بريان (يجسد دوره الممثل روبرت دي نيرو) مع المنتج الهوليودي ستانلي موتس (داستن هوفمان) لابتكار حرب وهمية في ألبانيا بهدف صرف انتباه الجمهور عن فضيحة أخلاقية تتعلق بالرئيس الأميركي قبل أيام قليلة من إجراء الانتخابات.
يمثّل الفيلم محاولة معدلة لتجسيد رواية الكاتب الأميركي لاري بينهارت بعنوان "البطل الأميركي" الصادرة عام 1993 التي افترضت أن عملية عاصفة الصحراء (التي دشنتها أميركا في أعقاب غزو صدام حسين للكويت) عام 1991 كانت مصممة في جوهرها لتأمين عملية إعادة انتخاب الرئيس الأميركي آنذاك جورج بوش الأب. ويجسد الفيلم والرواية معا مفهوما في العلوم السياسية يدعى "المقامرة من أجل البقاء" (Gambling for resurrection) الذي يصف لجوء القادة السياسيين إلى تصرفات "غير تقليدية" لضمان بقائهم في أوقات الأزمات، بما يشمل إشعال الحروب أو إطالة زمان بقائها.
تخيّل معنا مشهدا سياسيا مأزوما: قائد يتراجع حضوره الشعبي، تتوالى فضائحه، وتتراكم أزماته دون أفق واضح للحل، في حين يزداد الخناق السياسي عليه من خصومه الذين يستعدون لاقتناص الفرصة للإجهاز عليه.
تَعِدُ الأرقام والمؤشرات بنهاية وشيكة لحياته السياسية، وتبدو الأدوات السياسية التقليدية للتهدئة أو محاولاته لكسب الوقت غير مجدية. ساعتها، وحين يشعر القائد أن خسارته الشخصية مؤكدة في حال استمرت الأوضاع على ما هي عليه، فإنه يُغري نفسه بالذهاب نحو تصعيد غير محسوب، عبر فتح جبهة صراع جديدة أو توسيع نطاق صراع قائم بشكل يتجاوز المعقول سياسيا أو إستراتيجيا.
تظهر هذه السمات جلية في حالة بعينها على أرض الواقع حاليا، وهي قرار بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي بالاستمرار في حرب الإبادة ضد قطاع غزة لمدة ناهزت 20 شهرا. وبينما فشلت الحرب في تحقيق أهدافها السياسة باعتراف الإسرائيليين أنفسهم، يستمر نتنياهو في تغذية حلقة الدم لتفادي الخسارة الشخصية، ويقوم بتوسيع الصراع بصورة لا تتلاءم مع الأهداف العسكرية والإستراتيجية التي يمكن تحقيقها.
المقامرة من أجل البقاء
ظهر مصطلح "المقامرة من أجل البقاء"، أو "المقامرة من أجل البعث" كما تقول الترجمة الحرفية التي ترمز إلى عملية إحياء سياسي بعد الموت، رسميا لأول مرة في تسعينيات القرن الماضي على يد عالمي السياسة جورج دبليو داونز وديفيد م. روك، اللذين لاحظا كيف يسعى القادة الذين يواجهون خسارة وشيكة لمناصبهم إلى اتخاذ تدابير صادمة ويائسة على أمل تحقيق نجاح باهر ينقذ مسيرتهم المهنية، وقدما هذه الرؤية في كتابهما "النقص الأمثل؟.. عدم اليقين الداخلي والمؤسسات في العلاقات الدولية" (Optimal Imperfection? Domestic Uncertainty and Institutions in International Relations) الصادر عام 1995.
بحسب رؤية داونز وروك، يمكن لشن مغامرة عسكرية أن يحشد الناس عن طريق توحيدهم ضد عدو خارجي وتشتيت انتباههم عن إخفاقات القائد في الداخل. وفي حالة حرب قائمة بالفعل، قد يرفض القائد تقليل الخسائر أو صنع السلام لأن ذلك يعني سقوطه الشخصي، وبدلا من ذلك، يُواصل القتال بهدف حشد الناس حول قضية ما، آملا في تغير الموازين.
يدعى ذلك الاحتشاد الجماهيري بـ"تأثير الالتفاف حول الراية" (Rally 'round the flag)، وهو يعني زيادة (عادة ما تكون قصيرة الأمد) في الدعم الشعبي لقادة أو حكومة بلدٍ ما خلال أوقات الأزمات الوطنية أو الحروب، ويتجلى هذا التأثير بشكل خاص خلال التهديدات الخارجية، مثل الصراعات العسكرية، والهجمات الإرهابية والكوارث الطبيعية واسعة النطاق.
في أوقات الأزمات، يشعر المواطنون بشعورٍ أقوى بالهوية والوحدة، مما يؤدي -في الغالب- إلى دعم القيادة الحالية بغض النظر عن كفاءتها ونزاهتها. وفي هذا السياق، يُنظر إلى انتقاد القيادة في هذه الأوقات تحديدا على أنه عمل غير وطني، مما يعزز في المُحصلة من كتم الأصوات المناوئة والمعارضة. كما أن وسائل الإعلام تُكثر من التركيز على تصرفات الحكومة الإيجابية وبطولاتها، مما يمنح القادة إطارا جذابا يصرف الأنظار عن الإخفاقات والأزمات الداخلية.
واليوم يعد "تأثير الالتفاف حول الراية" من المسلمات في علم الاجتماع السياسي التي أثبتتها التجارب والاستطلاعات في بيئات ومجتمعات وسياقات مختلفة. فمثلا بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول، ارتفعت نسبة تأييد جورج بوش الابن من 51% إلى قرابة 90% خلال أيام فقط على الهجمات، وظلت تتأرجح فوق نسبة الـ80% خلال الأشهر التالية، وفقا لدراسة بعنوان "11 سبتمبر وتأثير الراية" صدرت عام 2002.
وقبل ذلك خلال أزمة الصواريخ الكوبية ، ارتفعت نسبة تأييد الرئيس جون كينيدي إلى 74%، وبلغت ذروتها في ديسمبر 1962 عند 76%، قبل أن تنخفض تدريجيا وصولا إلى مستوى ما قبل الأزمة وهو 61% في يونيو/ حزيران 1963. وبالمثل حقق الرئيس فرانكلين روزفلت زيادة قدرها 12 نقطة مئوية في نسبة التأييد من 72% إلى 84% بعد الهجوم على بيرل هاربر في ديسمبر/ كانون الأول عام 1941.
دعونا ننوّه هنا، أن كل ما سبق قد حصل مع قادة لم يواجهوا تحديات شخصية غير تقليدية لمستقبلهم السياسي، لكنهم استفادوا وفق ما استجد من أحداث من الأزمات لتعزيز حظوظهم، فكيف الحال بقائد يواجه أصلا مشكلات سياسية ليس أقلها الفساد وسهام المحاكمات مسلّطة عليه من كل جانب؟ هنا يصبح التصعيد أكثر جاذبية من السلام، ذلك أن القائد يتعاظم لديه الشعور بأنه ليس ثمّة ما يخسره، أما إذا انسحب الآن، فقد انتهى أمره بالضرورة، في حين إذا واصل مسيرته وانتصر بطريقة ما، فلربما ينجو سياسيا.
يشبه الأمر حال لاعب بوكر يُراهن بكل شيء بعد خسارته لجولات عدة، لأن الانسحاب يعني هزيمة مؤكدة. وبالمثل، وبمجرد أن يُدرك القائد أن رحيله أو عزله شبه مؤكد، لا يبقى هناك أي خطر شخصي في المقامرة على نصر أخير.
تصف ورقة بحثية بعنوان "صراعات الإلهاء: شيطنة الأعداء أم إظهار الكفاءة؟" نُشرت في مجلة "إدارة الصراعات وعلوم السلام" (Conflict Management and Peace Science) هذا الأمر بأنه اقتراح منخفض المخاطر وعالي المكافأة من وجهة نظر القائد، فعندما تكون على وشك فقدان السلطة على أي حال، فإن "الجانب السلبي" لمغامرة فاشلة يكون ضئيلا، لكن الجانب الإيجابي للنجاح قد يكون الاحتفاظ بالمنصب رغم كل الصعاب. باختصار، اليأس يُولّد الجرأة، وضعف موقف القائد نفسه يجعله أكثر استعدادا لتبني حلول متطرفة قد يتجنبها قائد واثق راسخ الحال.
علم نفس المخاطرة تحت الضغط
تؤكد الأبحاث النفسية أن البشر يتصرفون بشكل مختلف عندما تكون المخاطر عالية والنتائج المنتظرة تبدو قاتمة. والسبب في ذلك أن التوتر والأزمات يضعفان القدرة على الحكم السليم ويشجعان على خوض مخاطرة أكبر. بعبارة أخرى، عندما نشعر بالضيق أو التهديد، قد تميل أدمغتنا نحو اتخاذ إجراءات جريئة وغير محسوبة بدلا من التراجع الحذر. ولا شك أن القائد الذي يقف على حافة الفشل يتعرض لضغط شديد، مما يُضيّق تركيزه حول فكرة البقاء على الأمد القصير ويجعل خيار "النجاة الشخصية" يبدو جذابا فطريا.
تُساعد فكرة رئيسية من علم الاقتصاد السلوكي، تُعرف بـ" نظرية التوقعات" (Prospect theory)، على توضيح هذا الأمر، وتعد من أهم النظريات التي فسّرت الكيفية التي يتخذ الناس من خلالها قراراتهم في مواقف تتضمن المخاطرة أو عدم اليقين في حياتهم اليومية. وتتلخص الفكرة الأساسية للنظرية في أن الناس لا يتخذون قراراتهم بشكل منطقي تماما، بل يتأثرون بأشياء كثيرة منها مشاعر الخسارة والربح.
فمثلا، توضح النظرية أن الناس يكرهون الخسارة أكثر من حبهم للربح، بمعنى أن خسارة مبلغ معين من المال "توجع" أكثر بكثير (ربما 3 أضعاف) من فرحة ربح المبلغ نفسه، وهذا يسمى "النفور من الخسارة".
عندما يشعر الشخص أنه يخسر (أو خسر بالفعل شيئا مهما)، فإنه لا يتصرف بمنطق وعقلانية، بل يدخل فيما يُسمى "منطقة الخسارة" بحسب النظرية، حيث يصبح الخوف من الخسارة أكبر من الرغبة في المكسب، ومن ثم يكون مستعدا للمخاطرة أكثر بكثير من أي وقت مضى لتجنب الخسارة فقط، وذلك بغض النظر عن أي مكسب يمكن تحقيقه.
في الواقع، هذا التأثير واسع النطاق، ولا ينحصر في السياسة فقط، حيث إن فكرة "المقامرة من أجل البقاء" لا تقتصر على الحرب أو حتى السياسة، لكنها تجري على كل شيء. لأنها تقوم بالأساس على أمرين، الأول هو طبيعتنا النفسية والثاني هو نظرية الألعاب، التي يمكنها تفسير الكيفية التي ندير بها قرارات الربح والخسارة.
تخيل مثلا مدرب كرة قدم يعلم أنه سيُطرد إذا خسر الفريق المباراة التالية (احتمال خسارة 100%)، هنا ستجد أنه بدلا من اللعب بأمان، قد يلجأ إلى تكتيك مجنون، حتى لو كان من غير المرجح أن ينجح. مثلا، إن كانت فرص نجاح هذا التكتيك 0.001%، فإنها تظل أفضل من احتمالية خسارة موقعه بنسبة 100%
استخدم الاقتصاديون مفهوما مشابها لوصف سلوك الأفراد وحتى الكيانات خلال الأزمات المالية. على سبيل المثال، خلال حالات فشل البنوك أو شركات التأمين في الأزمات الاقتصادية الكبرى قد تُقدم البنوك أو الشركات المتعثرة على أخطار مالية متهورة أملا في تحسين أوضاعها.
خلال الأزمة المالية العالمية عام 2008 على سبيل المثال، لاحظ الباحثون أن بعض البنوك التي تواجه الانهيار تخلصت من شبكات الأمان (التحوطات) الخاصة بها لتعزيز أرباحها قصيرة الأجل، مُتحملة بذلك مخاطر أكبر. إذا نجحت هذه المقامرة، سيستفيد المساهمون، وإذا فشلت ستتحمل الحكومة أو الدائنون الخسائر، أما الانهيار فكان آتيا لا محالة في كل السيناريوهات.
لكن المشكلة الرئيسية في مبدأ "المقامرة من أجل البقاء" أنه كثيرا ما يأتي بنتائج مأساوية تتجاوز تأثيراتها القائد المأزوم نفسه. من الأمثلة الكلاسيكية التي يستشهد بها الباحثون على ذلك غزو الأرجنتين لجزر فوكلاند عام 1982. في ذلك الوقت، كان المجلس العسكري الأرجنتيني، بقيادة الجنرال ليوبولدو غاليتييري، يواجه استياء داخليا شديدا، إذ كان الاقتصاد في حالة يرثى لها، وشعبية النظام متدنية. وفي أبريل/ نيسان 1982، شن غاليتييري غزوا لجزر فوكلاند الخاضعة للسيطرة البريطانية، بزعم تأكيد مطالبة الأرجنتين الإقليمية القديمة بالجزر.
نجحت الخطة لفترة وجيزة، إذ احتشد الأرجنتينيون في البداية لدعم الحرب، إلا أن هذه المغامرة باءت بالفشل، إذ شنت رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر هجوما مضادا وانتصرت في الحرب، وهُزمت القوات الأرجنتينية، وأُزيح غاليتييري من السلطة على الفور. تُبيّن حرب فوكلاند كيف يُمكن للمقامرة من أجل البقاء أن تأتي بنتائج عكسية، مُسرّعة بذلك من تحقيق النتيجة التي كان يخشاها القائد (فقدان السلطة) ومُسببة تكاليف إضافية على طول الطريق.
وعلى غرار حرب فوكلاند، هناك العديد من الأمثلة التاريخية التي يصنفها الباحثون ضمن إطار "المقامرة من أجل البقاء"، واحد منها هو الضربات العسكرية الثلاثة التي وجهتها إدارة بيل كلينتون الأميركية ضد العراق (العملية ثعلب الصحراء في يناير/ كانون الثاني عام 1998) وضد أهداف في السودان وأفغانستان (العملية إنفينيت ريتش في أغسطس/ آب 1998) وأخيرا عملية بلغراد التي قادها الناتو ضد يوغوسلافيا عام 1999، والتي رآها معارضو كلينتون وخبراء مستقلون أنها محاولة للقفز إلى الأمام وتجاوز تداعيات الفضيحة الجنسية الشهيرة للرئيس الأميركي، والمعروفة إعلاميا باسم "مونيكا غيت".
مقامرة نتنياهو بحرب غزة 2023
لمعرفة كيف تتجلى المقامرة لأجل البقاء في السياسة المعاصرة، لننظر إلى حالة بنيامين نتنياهو خلال حرب غزة 2023، فقبل اندلاع الحرب، كان نتنياهو (أطول رؤساء الوزراء الإسرائيليين خدمة) يمر بأعمق أزمة في حياته السياسية، ففي عام 2023، تراجعت مكانته المحلية بشكل حاد إثر تورطه في عدد من قضايا الفساد المنظورة أمام المحاكم، في وقت أثارت فيه محاولة حكومته إضعاف القضاء احتجاجات جماهيرية غير مسبوقة، وأشارت استطلاعات الرأي إلى أن حزبه الحاكم، الليكود، يواجه مأزقا خطيرا.
بحلول أواخر صيف 2023، كان عشرات الآلاف من الإسرائيليين ينزلون إلى الشوارع بانتظام احتجاجا على قيادة نتنياهو؛ وبدت سلطته أكثر هشاشة مما كانت عليه منذ سنوات. ثم في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، شنت حماس هجوما مباغتا، مثل صدمة وفشلا أمنيا ألقى الكثيرون باللوم فيه على حكومة نتنياهو، ولكنه خلق أيضا لحظة احتشاد حول الرجل، تتناغم مع "تأثير الالتفاف حول الراية".
شكّل نتنياهو على الفور حكومة وحدة وطنية طارئة، وشرع في حرب ضد غزة، لفترة من الوقت، هدأت الانتقادات الموجهة إلى أخطاء الحكومة السابقة، حيث ركز الإسرائيليون على القتال القائم بالفعل. توقفت الاحتجاجات الضخمة المناهضة لنتنياهو؛ وانضم إليه قادة المعارضة في حكومة حرب. في البداية، حظي نتنياهو بتأييد شخصي، حيث توحد الإسرائيليون ضد عدو مشترك ولكن مع استمرار الحرب وتزايد الخسائر ازداد الرأي العام الإسرائيلي انقساما.
وبحلول عام 2024، عاد العديد من الإسرائيليين للاحتجاج، مطالبين هذه المرة بوقف إطلاق النار لإنقاذ الأرواح وإعادة الأسرى المحتجزين في غزة. عادت الضغوط المحلية على نتنياهو إلى الظهور: بحلول سبتمبر/أيلول 2024، اعتقد حوالي 70% من الإسرائيليين أن نتنياهو يجب أن يستقيل بسبب تعامله مع الحرب.
مع ذلك، رفض نتنياهو التفكير في التنحي أو حتى وقف القتال لفترة طويلة. بدلا من ذلك، صعّد مطالبه مُصرا، على سبيل المثال، على شروط لوقف إطلاق النار كان يعلم أن حماس سترفضها، مما أدى فعليا إلى إطالة أمد الحرب، جاء ذلك في سياق دعم أميركي كامل للعملية العسكرية على غزة.
ويجادل المحللون بأن تعنت نتنياهو خلال حرب غزة مثال ساطع على "مقامرة البقاء" من خلال رفع الرهانات. وفي مواجهة انتقادات داخلية شديدة واحتمال انتهاء مسيرته السياسية إذا ظهر ضعيفا أو إذا انتهت الحرب بشكل سيئ، استمر نتنياهو في رفع الرهانات. وفي هذا السياق كتب غوتام موكوندا ، وهو زميل باحث في مركز القيادة العامة بكلية كينيدي بجامعة هارفارد أن "السبب الوحيد لعدم وجود نتنياهو في السجن هو أنه رئيس وزراء حاليا والبلاد في حالة حرب"، مشيرا صراحة إلى أن الحرب أصبحت درعا لنتنياهو ضد المساءلة الشخصية.
في الواقع، طالما بقيت إسرائيل في حالة حرب، يمكن لنتنياهو أن يدعو إلى الوحدة الوطنية ويؤخر "يوم الحساب" حول إخفاقاته السابقة. بصفته رئيس وزراء إسرائيل الحالي، تمكن نتنياهو من تعطيل أو إبطاء الإجراءات القانونية المتعلقة بتهم الفساد الموجهة إليه. ولكن إذا ترك منصبه، فإن تلك المحاكمات (والإدانة المحتملة) ستلوح في الأفق. وبهذا المعنى، فإن البقاء في السلطة، كما وصفها موكوندا هو "أقرب ما يكون إلى بطاقة خروج من السجن" لنتنياهو.
طبيعة الحرب
يفسر قرار نتنياهو باستمرار الحرب أيضا من خلال كتاب "الحرب والعقاب: أسباب انتهاء الحروب والحرب العالمية الأولى" (War and Punishment: The Causes of War Termination and the First World War) وهو عمل أكاديمي من تأليف هاين غومانز، عالم السياسة المعروف بتطبيقه نظرية الألعاب على الصراعات الدولية.
يوضح الكاتب أن قرارات القادة بمواصلة الحروب أو إنهائها لا تتشكل بالنتائج العسكرية فحسب، بل بالعواقب السياسية للخسارة أيضا، وخاصة الخوف من مغادرة السلطة أو العقاب أو حتى القتل. بعبارة أخرى، لا تنتهي الحروب بالضرورة عند "خسارتها" عسكريا، بل تنتهي عندما يرى القادة نتائج سياسية مقبولة لأنفسهم، هذا يتحدى الافتراض العقلاني القائل إن الدول تتوقف عن القتال عندما تفوق تكاليف الحرب فوائدها.
تماشيا مع ذلك، وضع غومانز 3 شروط لإنهاء أي حرب، الأول هو تقارب التوقعات (يجب أن يتفق الطرفان على نتيجة استمرار القتال، إذا توقع كل طرف نتائج مختلفة، فسيواصلان القتال)، والثاني هو وجود شروط سلام مقبولة (يجب أن تكون هناك تسوية تفاوضية مُمكنة يُفضّلها الطرفان على استمرار الحرب)، والثالث هو استعداد القادة أنفسهم لقبول شروط السلام، بغض النظر عن أي أمر آخر، ويوضح جومانز أنه حتى في حال استيفاء الشرطين الأول والثاني، قد يرفض القادة السلام إذا خشوا العقاب المحلي بعد انتهاء الحرب.
طبق غومانز نظريته على ألمانيا خلال الحرب العالمية الأولى، التي واجهت معارضة داخلية وانهيارا اقتصاديا، وفي النهاية ثورة عارمة. خشيَت النخب الألمانية الانتفاضات الثورية وفقدان النظام الملكي أكثر من خوفها من الهزيمة نفسها، وأجّلت الاستسلام عام 1918 حتى عندما كان الوضع العسكري ميؤوسا منه، ومن ثم شكّل الخوف من العقاب السياسي بعد الحرب قرارات القادة الألمان.
وإلى جانب ذلك يشرح غومانز موقف الإمبراطورية النمساوية المجرية، وكانت إمبراطورية متعددة الأعراق تعاني أصلا من ضغوط، وبالتالي خشي القادة من أن يؤدي إنهاء الحرب مبكرا إلى تسريع الانهيار الداخلي والانتفاضات القومية، وبالتالي استمر القتال رغم الإرهاق العسكري. على الجانب الآخر فإن القيصر نيكولاس الثاني أجّل السلام حتى مع انهيار الجبهة الروسية، وأُطيح به في نهاية المطاف في ثورة فبراير/شباط 1917.
بيد أنه من المهم ملاحظة أنه ليس كل قائد محاصر سيبدأ حربا أو يُسبب أزمة، فالكثير من السياسيين يقبلون الهزيمة أو يجدون حلولا أخرى. تشير الدراسات إلى أن صراعات "الإلهاء" أو رهانات "البقاء" و"البعث" قليلة نسبيا، رغم حدوثها في ظروف محددة.
لكن ما هذه الظروف المحددة؟ لا توجد إجابة واضحة لهذا السؤال لكن يعتقد فريق من الباحثين أن الأمر لا يقف فقط عند حدود نظرية اللعبة ونسبة الاحتمالات، بل له جذور شخصية ونفسية بحتة، فالحاكم الذي يمتلك شعورا مبالغا فيه بأهمية الذات، وحاجة مستمرة للإعجاب، يرى الحرب فرصة لإظهار قوته وهيمنته، وإثبات أنه "القائد الذي لا يُقهر"، مما يعوض شعوره بالنقص أو الفشل الداخلي.
بعبارة أخرى، يركز الحاكم النرجسي على تحقيق "انتصارات" تخدم صورته الذاتية المنتفخة، حتى لو كانت هذه الانتصارات وهمية أو مكلفة جدا، خاصة أن القادة النرجسيين غالبا ما يكونون شديدو الدفاعية، وأي نقد قد يدفعهم إلى "المعركة" لإثبات تفوقهم وتفاهة منتقديهم.
من ناحية نفسية بحتة، تتفق هذه السمات مع بنيامين نتنياهو، حيث أفادت دراسة من جامعة تل أبيب بأنه يمتلك درجة مرتفعة من التمحور حول الذات، بل لا يتردد في استغلال الآخرين، بمن في ذلك زملاؤه، من أجل تحقيق النجاح الشخصي، ويرى رأيه فقط الصواب، ومن لا يتفقون معه جهلة بالعمليات التاريخية أو السياسية، كما أنه منكب على عالمه الخاص، ومن الصعب عليه التمييز بين الأبعاد الشخصية أو السياسية في حياته، وفق الدراسة.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

تسونامي دبلوماسي.. إسرائيل تواجه ضغوطا دولية متزايدة بسبب تجويع غزة
تسونامي دبلوماسي.. إسرائيل تواجه ضغوطا دولية متزايدة بسبب تجويع غزة

الجزيرة

timeمنذ 35 دقائق

  • الجزيرة

تسونامي دبلوماسي.. إسرائيل تواجه ضغوطا دولية متزايدة بسبب تجويع غزة

تصاعدت اليوم الأربعاء حدة التصريحات والمواقف الدبلوماسية المنددة بسياسة التجويع التي تتبعها إسرائيل في غزة ، والمطالبة بوقف الحرب وإدخال المساعدات الإنسانية إلى القطاع، الذي يتعرض لحصار مطبق منذ 2 مارس/آذار الماضي. وقالت هيئة البث الإسرائيلية إن ما تتعرض له إسرائيل "أزمة دبلوماسية غير مسبوقة" بسبب تصعيدها الحرب على غزة، واصفة ما يجري بأنه "تسونامي دبلوماسي". وأضافت أنه "في غضون أسابيع قليلة، انهار موقع إسرائيل الدبلوماسي عالميا على خلفية انتقادات متصاعدة لطريقة إدارتها للحرب في غزة، حتى من أقرب حلفائها التقليديين في أوروبا". بريطانيا فقد ذكرت صحيفة الغارديان أن لجنة الأعمال في البرلمان البريطاني استدعت 3 وزراء معنيين بصادرات الأسلحة إلى إسرائيل، وقامت باستجوابهم بشأن مخاوف من إرسال أسلحة لاستخدامها في غزة. وتعهدت بريطانيا بتقديم مساعدات جديدة لغزة بأكثر من 5 ملايين دولار. وكانت بريطانيا قد أعلنت، أمس الثلاثاء، عن إجراءات ضد إسرائيل، شملت عقوبات ضد مستوطنين، وتعليق بيع أسلحة ومفاوضات للتجارة الحرة، كما استدعت الخارجية البريطانية السفيرة الإسرائيلية تسيبي هوتوفيلي احتجاجا على توسيع العمليات العسكرية ومنع إدخال المساعدات إلى قطاع غزة. كما أعلن وزير الخارجية الأيرلندي مايكل مارتن أنه سيرفع مذكرة للحكومة لإقرار تشريع يحظر استيراد البضائع من الأراضي الفلسطينية المحتلة، مرحبا بقرار الاتحاد الأوروبي مراجعة اتفاق الشراكة مع إسرائيل للتحقق من التزامها بحقوق الإنسان. كما اعتبر أن عرقلة إسرائيل وصول المساعدات إلى قطاع غزة انتهاك فاضح للقانون الدولي، معتبرا أن ما سمحت تل أبيب بإدخاله لغزة من مساعدات غير كافٍ، وأن آلية التوزيع الجديدة غير مجدية. ووصف ما تقوم به إسرائيل في غزة بأنه "أمر بربري"، بوضع حد لتهجير الفلسطينيين من القطاع المحاصر. فرنسا كما أكد المتحدث باسم الخارجية الفرنسية -في لقاء مع الجزيرة- أن الرئيس إيمانويل ماكرون أوضح أن "كل الخيارات مطروحة" للضغط على إسرائيل من أجل وقف الحرب وإدخال المساعدات. وأضاف أن بلاده تراجع مجموعة من الخيارات ضد الحكومة الإسرائيلية بتنسيق أوروبي. كما ذكر أن باريس تفكّر في توسيع العقوبات على حكومة إسرائيل بسبب انتهاكاتها في غزة، واصفا توسيع العملية العسكرية الإسرائيلية في القطاع بأنه "أمر مروع وتصعيد مرفوض". وطالب المسؤول الفرنسي إسرائيل بإدخال المساعدات "فورا" ووقف العمليات العسكرية في غزة تماشيا مع مقتضيات القانون الدولي. بلجيكا قال وزير الخارجية نائب رئيس الوزراء البلجيكي -في لقاء مع الجزيرة- إن 17 دولة أوروبية درست عقوبات على إسرائيل، وإن أغلب تلك الدول تدعم هذا المسار. كما أكد على أن بلاده تنظر في طريقة لمد جسر جوي يتيح إيصال المساعدات لقطاع غزة. وأضاف "يجب التحرك بأي ثمن لرفع الحصار الذي تفرضه إسرائيل على غزة.. ليس مقبولا أن نرى مدنيين، نساء وأطفالا، بغزة يموتون من الجوع والعطش". النرويج دعا نائب وزير الخارجية النرويجي -في مقابلة مع الجزيرة- المجتمع الدولي للتحرك و"فرض عقوبات" على إسرائيل لتغيير سلوكها في غزة. وشدد على ضرورة ممارسة مزيد من الضغط على إسرائيل لإقناعها بالتفاوض لوقف إطلاق النار، مؤكدا أنه يتوجب على تل أبيب أن تواجه تبعات خرقها القانون الإنساني الدولي في غزة. إسبانيا طالبت نائبة رئيس الحكومة الإسبانية بتسريع قانون حظر بيع السلاح لإسرائيل بعد قبوله في البرلمان الإسباني أمس الثلاثاء. كما دعت إلى فرض عقوبات على إسرائيل التي وصفتها بـ"دولة إبادة ترتكب مجزرة في غزة على مرأى العالم". ألمانيا قال المتحدث باسم الحكومة الألمانية ستيفان كورنليوس، اليوم، إن المستشار الألماني فريدريش ميرتس يشعر بقلق بالغ تجاه الوضع الإنساني في قطاع غزة، مضيفا أنه على تواصل وثيق مع بقية الدول الأوروبية لنقل مخاوفه إلى الحكومة الإسرائيلية. وأضاف -خلال مؤتمر صحفي- "من المهم دائما للحكومة الألمانية أن تبقي خطوط الاتصال مفتوحة مع الحكومة الإسرائيلية، وأن تكون قادرة على طرح آرائها بشكل مباشر". البرتغال وصف رئيس الوزراء البرتغالي لويس مونتنغرو الوضع الإنساني في غزة بأنه "لا يُطاق"، مطالبا بالسماح بدخول المساعدات الإنسانية إلى القطاع بشكل فوري. بابا الفاتيكان ناشد بابا الفاتيكان ليو الرابع عشر إسرائيل السماح بدخول المساعدات الإنسانية إلى غزة ووصف الأوضاع في القطاع الفلسطيني بأنها "مثيرة للقلق وأليمة بشكل متزايد". وأضاف، في عظته الأسبوعية بساحة القديس بطرس، "أجدد ندائي.. السماح بدخول المساعدة الإنسانية العادلة للقطاع، وإنهاء العدائية التي يدفع ثمنها المؤلم الأطفال والمسنون والمرضى". مواقف أخرى أكد عضو البرلمان الأوروبي مارك بواتينغا ضرورة إلغاء الشراكة الأوروبية مع حكومة إسرائيل بالكامل على الفور، وفرض حظر سلاح عليها. ووصف النائب البلجيكي إعلان الاتحاد الأوروبي عن نيته مراجعة اتفاقية الشراكة مع إسرائيل بأنه قرار "منافق"، قائلا "أعتقد أن هذا القرار هو نتيجة لضغط كبير من الشعب. شاهدتم المظاهرات في بروكسل ولاهاي، ومن الواضح أن هذه الأمور لها تأثير على القادة الأوروبيين". وأكد أن القرار متأخر كثيرا، مضيفا "لو تم اتخاذه قبل 20 شهرا، لكانت إسرائيل تعرضت لضغوط حتى لا تفعل ما تفعله اليوم". كما اتهمت منظمة أطباء بلا حدود إسرائيل بأنها بدأت في السماح بإدخال مساعدات "غير كافية بشكل مثير للسخرية" إلى غزة، بهدف تجنب اتهامها "بتجويع الناس" في القطاع المحاصر. وقالت باسكال كواسار، منسقة الطوارئ بالمنظمة في خان يونس بغزة، في بيان، إن "قرار السلطات الإسرائيلية بالسماح بدخول كمية غير كافية من المساعدات إلى غزة بعد أشهر من الحصار المشدد يشير إلى نيتها تجنب اتهامها بتجويع الناس في غزة، بينما في الواقع هي تبقيهم بالكاد على قيد الحياة". يشار إلى أن إسرائيل تواصل منذ 2 مارس/آذار الماضي سياسة تجويع ممنهج لنحو 2.4 مليون فلسطيني في غزة، عبر إغلاق المعابر بوجه المساعدات المتكدسة على الحدود، مما أدخل القطاع بمرحلة المجاعة وأودى بحياة كثيرين. ووسّع الجيش الإسرائيلي خلال الأيام الماضية حرب الإبادة في قطاع غزة، معلنا "عملية برية في شمالي وجنوبي القطاع".

الجريمة التي لا تزال تُرتكب في سوريا
الجريمة التي لا تزال تُرتكب في سوريا

الجزيرة

timeمنذ 35 دقائق

  • الجزيرة

الجريمة التي لا تزال تُرتكب في سوريا

إنكار الجريمة: إعادة قتل الضحية لنتخيل معًا أمًّا قضت ثلاث عشرة سنة تنتظر خبرًا عن ابنها المختفي قسرًا، تعيش على أمل واهن بأن يكون على قيد الحياة، وحين تفتح المعتقلات بعد سقوط النظام ولا تجده تبحث عن رفاته في مقبرة جماعية اكتشفت قرب أحد السجون، وعندما تحاول استيعاب الصدمة، يظهر شخص ما على شاشة التلفاز ليقول لها إن هذه الجرائم لم تحدث، وإن النظام كان يحافظ على الاستقرار، وإن كل ما يُقال مجرد مبالغات سياسية. ما الذي ستشعر به هذه الأمّ؟ في تلك اللحظة، يُسحب منها آخر ما تبقى لها من حقوق، وهو اعتراف العالم بمظلمتها. وستشعر أن معاناتها محل تشكيك، وأن ما يُطلب منها هو أن تصمت لأنها مجرد جزء من رواية مبالغ فيها. هنا، يتحول الإنكار إلى امتداد للجريمة نفسها. فإذا كان النظام قد قتل ابنها وأخفاه، فإن المنكرين يقتلون ذكراه ويحاولون دفن الحقيقة معه. إنكار الجرائم جريمة في حد ذاته في كل ظهور إعلامي، تواصل بعض الشخصيات العامة أسلوبها المستفز، مستهترة بمشاعر الضحايا وأهاليهم. هؤلاء الأشخاص لا يترددون في إنكار الجرائم الموثقة، ولا يرون في صور التعذيب والتصفية في سجون النظام السابق سوى مبالغات، رغم أن العالم كله شاهدها. فكيف يمكن لمن يتجاهل الحقائق أن يكون شاهدًا على الحق؟ هذا الإنكار العلني ليس فقط طعنة في جراح الضحايا، بل هو محاولة لتحويل المجرم إلى ضحية، وإعادة إنتاج الدعاية التي لطالما استخدمها النظام. إن إنكار المجازر في صيدنايا، والتغطية على عمليات الاغتصاب في السجون، والتشكيك في وجود آلاف المعتقلين الذين لا تزال أمهاتهم يقفن أمام السجون بانتظار بصيص أمل، لا يمكن أن يكون مجرد وجهة نظر، بل هو امتداد للجريمة نفسها، وهو ما يستوجب إيقافها وإخضاعها للمحاسبة والمساءلة. الممثلة السورية سلاف فواخرجي، على سبيل المثال، التي تظهر في الإعلام وتدافع عن روايات النظام السابق، هي واحدة من الشخصيات التي تحاول تلميع صورة هذا النظام، رغم ما تحمله الحقائق من إثباتات دامغة على الجرائم المرتكبة. تظهر فواخرجي على شاشة التلفاز بملامحها المتناسقة وابتسامتها المصطنعة، ويراها البعض رمزًا للجمال والأناقة، لكن خلف هذا الوجه الذي يبدو وديعًا، تختبئ أيديولوجيا ملوثة تبرر واحدة من أبشع الجرائم التي عرفها العصر الحديث. هذا التناقض الصارخ بين شكلها الخارجي وبين خطابها المستفزّ ليس مجرد مفارقة شخصية، بل هو انعكاس لكيفية توظيف بعض الشخصيات العامة للإنكار والتضليل، وكأن الكاميرات والمكياج يمكن أن يحجبا حقيقة المجازر والمقابر الجماعية. وكم من شخصيات في التاريخ تمتعت بمظهر جذاب لكنها كانت تحمل في داخلها فكرًا دمويًا، تستخدم مظهرها لتضفي على خطابها طابعًا مقبولًا، لكن مهما كانت الملامح جذابة، فإنها لا تستطيع تغطية بشاعة الفكر الذي تدافع عنه. لم يكن الجمال يومًا معيارًا للأخلاق، ولم يكن الوجه الحسن حجة تبرر تبرئة نظام قتل مليون إنسان. فالحقيقة لا تتغير مهما حاول أصحاب المظاهر المصطنعة تجميلها بالكلمات المزيفة، ومهما استخدموا الكاميرات والشاشات لفرض واقع مشوه لا وجود له إلا في مخيلتهم. وقد تحاول شخصيات مثل سلاف فواخرجي أن تخدع بعض السطحيين بمظهرها، لكنها لن تخدع الأمهات اللواتي فقدن أبناءهن، ولن تخدع الناجين من سجون الموت، ولن تخدع كل من شاهد المقابر الجماعية تكتشف يومًا بعد يوم. فالتاريخ لا يرحم، والحقيقة لا تُطمس بمكياج الكاميرات، ولا بمقابلات الاستفزاز والإنكار. التواطؤ الإعلامي بقصد أو بغير قصد هذا الظهور الإعلامي لا يمكن أن يكون مجرد لقاء عابر مع ممثلة سورية، بل هو مشهد جديد في مسلسل طويل من تبرير الجرائم وإنكار الحقيقة. هي ليست وحدها في هذا الدور، فوسائل الإعلام التي تستضيف مثل هذه الشخصيات المنكرة لجراح السوريين وتمنحها مساحة للحديث عن مظلومية النظام السابق، بينما المقابر الجماعية لا تزال تُكتشف، تتحمل جزءًا كبيرًا من المسؤولية. إذ لا تكتفي هذه المنصات بإيذاء الضحايا نفسيًا، بل تساهم في تطبيع الإنكار، وكأن دماء الشهداء ليست إلا رواية قابلة للنقاش. من هنا فإن استضافة شخصيات تدافع عن الجريمة دون مساءلتها، هو شكل من أشكال التواطؤ. فالإعلام الذي يحترم الحقيقة لا يمكنه أن يسمح بتمرير الأكاذيب على أنها روايات متساوية مع الحقائق الموثقة. لذلك، لا بد من أن يتحمل الإعلام مسؤوليته في مواجهة الإنكار، لا في الترويج له. ولكن رغم الدور السلبي الذي تلعبه وسائل إعلامية في مثل هذه الحالات، فإن استخدام شخصيات عامة في لقاء متلفز للدفاع عن الجريمة وتبريرها، يكشف في كثير من الأحيان قبح تلك الشخصيات الداخلي للجمهور. فكلما تحدثت، زاد وضوح تناقضها بين المظهر المصطنع والكلمات المليئة بالكراهية والتبرير. وهذا النوع من الظهور الإعلامي، وإن كان مؤلمًا، يفضح هؤلاء أمام الرأي العام، ويجعلهم مجرد أدوات مكشوفة لخدمة الاستبداد. كيف يمكن إنكار ما هو موثّق؟! الجرائم التي ارتكبها النظام السابق لم تكن خيالات أو مجرد ادعاءات سياسية، بل وقائع مثبتة بشهادات الناجين، بالصور المسربة، وبالتقارير الحقوقية، وحتى بالوثائق التي كشفتها المؤسسات الدولية. آلة فرم المعتقلين في صيدنايا، والاغتصابات التي وُلد بسببها أطفال لا يعرفون آباءهم، فضلًا عن، الجثث المكدسة في المقابر الجماعية، كلها أدلة دامغة على أن هذا النظام لم يكن مجرد سلطة قمعيّة، بل كان ماكينة قتل جماعي، تعمل بلا رحمة وبلا محاسبة. كيف يمكن لإنسان يملك قلبًا وعقلًا أن يتجاهل كل هذه الأدلة القاطعة؟ كيف يُمكن لمن رأى جثثًا مكدّسة في مقابر جماعية أن يدّعي أن كل هذا لم يحدث؟ إنه عمى اختياري، بل ولاء متجذر للاستبداد يمنع صاحبه من رؤية الحقيقة، حتى بعد سقوط النظام. ومن هنا، نجد أن بعض الشخصيات المرتبطة بالنظام السابق تمثل جزءًا من شبكة واسعة ممن يدينون له بالولاء المطلق، ويسعون إلى التشكيك في المأساة السورية وتطبيع الإنكار. هؤلاء الأفراد يستخدمون وسائل الإعلام كمنصات لتبرير الجرائم أو التقليل من حجم المعاناة، وكأنهم يراهنون على أن التاريخ لن يحاسبهم. من هنا تأتي ضرورة محاسبة كل من يحاول تبرير الفظائع التي ارتكبها النظام باسم التعبير عن الرأي بحرية. لا سيما أن الإعلان الدستوري يضع حدًا لمثل هذه الممارسات ويجرم إنكار جرائم النظام، تمامًا كما هو الحال مع إنكار جرائم النازية أو المجازر الجماعية في العالم. وهذا التشريع ليس مجرد إجراء قانوني، بل هو اعتراف بأن إنكار الجرائم هو في حد ذاته جريمة جديدة، لأنه يعيد إنتاج الظلم ويهيئ الأرضية لعودة العنف تحت أي ذريعة مستقبلية. أخيرًا، لا بدّ من الإشارة إلى أن الضحايا لا يطلبون الشفقة، بل يطالبون بالحقيقة والعدالة. يريدون أن ترفع الأقنعة عن الوجوه الملوثة بالدماء. لن تكون العدالة أبدًا إلا عندما يُجبر الجميع على مواجهة حقيقة ما حدث، ولا مكان للإنكار في عالم يتطلع للعدالة. والعدالة لا تتحقق حين يسمح للمجرمين السابقين وأنصارهم بطمس ما حدث، بل تتحقق حين يجبر المجتمع على مواجهة ماضيه بشجاعة، دون مجاملات أو مواربة. من حق كل أمّ أن تعرف مصير ابنها، ومن حق كل ناجٍ من التعذيب أن يسمع صوته، ومن حق كل طفل وُلد في السجن بسبب اغتصاب والدته أن يعرف الحقيقة كاملة، لا أن يُقال له إن ما حدث لم يكن سوى حرب على الإرهاب.

المحكمة العليا الإسرائيلية: إقالة رئيس الشاباك غير قانونية
المحكمة العليا الإسرائيلية: إقالة رئيس الشاباك غير قانونية

الجزيرة

timeمنذ 35 دقائق

  • الجزيرة

المحكمة العليا الإسرائيلية: إقالة رئيس الشاباك غير قانونية

قضت المحكمة العليا في إسرائيل اليوم الأربعاء بعدم قانونية إقالة الحكومة لرئيس جهاز الأمن الداخلي (الشاباك) رونين بار. وفق تقارير نقلتها وسائل إعلام إسرائيلية، فإن المحكمة العليا "تقضي بأن قرار إقالة رئيس جهاز الأمن الداخلي كان "غير قانوني ومخالفا للقانون" ومن جانبه، قال وزير الأمن الإسرائيلي إيتمار بن غفير إن "المحكمة العليا داست السلطة القانونية الصريحة للحكومة، وقرارها بخصوص رئيس الشاباك سياسي وغير ديمقراطي". وكان رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو أقال رونين بار في 6 مارس/آذار الماضي، في خطوة اعتبرت غير قانونية. وقال بار في وقت سابق إن إصرار رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو على إقالته يعود لرفضه طلبا شخصيا له يتعلق بإدلائه بشهادته في قضايا فساد. وأثارت الإقالة جدلا سياسيا وقانونيا في إسرائيل. وتقدمت أحزاب معارضة بالتماسات إلى المحكمة العليا الإسرائيلية ضد القرار، مما دفع الأخيرة إلى تجميد الإقالة لحين النظر في الالتماسات. وتعمقت الازمة عندما أعلن نتنياهو تعيين قائد البحرية الأسبق إيلي شربيت رئيسا لجهاز "الشاباك"، قبل أن يتراجع تحت وطأة انتقادات داخل حكومته.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store