
من هي أليس فايدل اليمينية المثلية التي تسعى إلى حُكم ألمانيا؟
Join our Telegram
Reuters
ربما يشي العنوان لك بأن لا تكون أليس فايدل هي الشخصية المتوقعة للتربع على أرفع منصب سياسي في ألمانيا. وهذا الأمر الغريب بأنها يمينية مثلية، سيزداد غرابة كلما قرأت القصة ودخلت في تفاصيل شخصية فايدل، وأفكارها غير التقليدية.
تستعد ألمانيا لإجراء انتخابات فيدرالية مبكرة في 23 فبراير/شباط 2025، بعد انهيار الائتلاف الحاكم بقيادة المستشار أولاف شولتس، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2024. في هذا السياق، رشح حزب البديل من أجل ألمانيا (AfD) اليميني رئيسته المشاركة، أليس فايدل، كمرشحة لمنصب المستشارية، وهي المرة الأولى منذ تأسيس الحزب قبل 12 عاماً التي يقدم فيها مرشحاً لهذا المنصب.
تُعد أليس فايدل (Alice Weidel) واحدة من أبرز الشخصيات السياسية في ألمانيا اليوم، وتشغل منصب رئيسة مشاركة لحزب البديل من أجل ألمانيا، ورئيسة كتلة الحزب في البرلمان الألماني (البوندستاغ).
ولدت في 6 فبراير/كانون أول 1979 في غوتينغن، المدينة الجامعية الصغيرة في ولاية ساكسونيا السفلى. ونشأت في بيئة متواضعة، إذ كان والدها عامل بناء ووالدتها عاملة في مجال التمريض.
وبعد إنهاء دراستها الثانوية، التحقت فايدل بجامعة بايرويت، حيث درست الاقتصاد وحصلت لاحقاً على درجة الماجستير. ثم واصلت مسيرتها الأكاديمية بدراسة الدكتوراه في العلاقات الاقتصادية الدولية، مع تركيز خاص على العلاقات التجارية بين الصين والغرب. أطروحتها للدكتوراه تناولت موضوع 'التجارة الخارجية الصينية وتأثيرها على الاقتصاد العالمي'.
وعملت فايدل بعد حصولها على الدكتوراة، في عدة مؤسسات مالية مرموقة، بما في ذلك بنك 'غولدمان ساكس' في فرانكفورت، مما أكسبها خبرة واسعة في مجال التمويل والاستثمار. كما عملت لبعض الوقت في الولايات المتحدة وفي الصين، حيث أدارت صندوق استثمار خاص يركز على الأسواق الآسيوية.
يمكن الاستنتاج أن أليس التي تبلغ من العمر 46 عاماً، لم تعش في ألمانيا لفترات طويلة – باستثناء طفولتها وبواكير شبابها-وتقول وسائل إعلام ألمانية أنها تعيش بين ألمانيا وسويسرا، رغم أنها من قادة حزب يصف نفسه بأنه 'مهووس بحب ألمانيا'.
وعلى الرغم من نجاحها في القطاع الخاص، قررت فايدل دخول عالم السياسة في عام 2013، عندما انضمت إلى حزب البديل من أجل ألمانيا، الذي كان قد تأسس حديثاً في ذلك الوقت. وسرعان ما برزت كواحدة من وجوه الحزب، إذ لعبت دوراً محورياً في صياغة سياساته الاقتصادية والاجتماعية.
من هي قدوة أليس؟
انعكس انغماس أليس في الاقتصاد على شخصيتها، وعلى اختيارها للشخصية المُثلى لها، ولنفهم كيف تُفكر أليس علينا أن نعرف من هي قدوتها وما هي أفكارها؟
تتخذ أليس من مارغريت تاتشر ، رئيسة وزراء بريطانيا من عام 1979 إلى عام 1990، قدوة لها، إذ قالت في مقابلة مع صحيفة بيلد الألمانية: 'تعجبني سيرتها الذاتية، السباحة عكس التيار حتى عندما يصبح ذلك متعباً'.
اكتسبت تاتشر لقب 'المرأة الحديدية'، لأنَّها كانت تصر على تمسكها بمسارها الاقتصادي الليبرالي الراديكالي بالرغم من جميع الصعوبات. وعقيدتها هي: 'خفض الضرائب، وتقليل الإعانات الحكومية، والخصخصة'.
ويتوافق هذا الاتجاه مع أليس، التي تقول 'تاتشر تولت حكم بريطانيا عندما كان اقتصادها في الحضيض وتمكنت من إعادته إلى المسار الصحيح'.
من الجدير بالذكر أن تاتشر نجت من عملية اغتيال، وأعلنت الحرب على الأرجنتين ، وفي أيرلندا الشمالية، واجهت تاتشر المضربين عن الطعام من أفراد الجيش الجمهوري الأيرلندي بموقف حازم، أثار السخط عليها بسبب دوامة العنف التي عصفت في أيرلندا الشمالية، وكان مصيرها الاستقالة من حزب المحافظين البريطاني، وبالتالي من رئاسة الوزراء.
وكانت علاقة تاتشر بالرئيس الأمريكي، رونالد ريغان قوية جداً، حيث اشترك الاثنان معاً في تبني عدد من الرؤى الاقتصادية وتطبيقها.
ولم تُخفِ أليس مرشحة حزب البديل من أجل ألمانيا الموصوف بأنه حزب 'يميني مُتطرف'، إعجابها بشخصية دونالد ترامب وهي تعتبره نموذجاً يحتذى به لألمانيا.
وبسؤالها في إذاعة دويتشلاندفونك الألمانية، عمّا إذا كان ترامب وحركته 'اجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى'، مثالين لحزب البديل من أجل ألمانيا، قالت أليس 'اجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى- اجعل ألمانيا عظيمة- نعم بالتأكيد!'.
وبررت ذلك قائلة: 'إننا كحزب البديل من أجل ألمانيا، ندافع عن المصالح الوطنية والشعب في جمهورية ألمانيا الاتحادية. بالطبع، هو نموذج يحتذى به'.
أصدقاء داخل إدارة ترامب
بينما ترى الأحزاب الألمانية الأخرى أن حزب 'البديل من أجل ألمانيا'، يشكل تهديداً للديموقراطية، يحظى الحزب المناهض للهجرة بأصدقاء في الإدارة الأمريكية.
إذ جدد المليونير إيلون ماسك تأييده لحزب فايدل في بداية عام 2025، عندما تحدث مع أليس على الهواء مباشرة، عبر منصة إكس التي يملكها.
دارت المحادثة التي استمرت 74 دقيقة حول سياسة الطاقة، والبيروقراطية الألمانية، وأدولف هتلر، والمريخ ومعنى الحياة.
وحث أغنى رجل في العالم، الألمان بشكل لا لبس فيه على دعم حزب البديل من أجل ألمانيا (AfD) في الانتخابات المقبلة.
كان هناك لغط كبير حول الاستضافة، إذ واجه ماسك اتهامات بالتدخل في الانتخابات المبكرة في ألمانيا.
Reuters
المقابلة التي أجريت باللغة الإنجليزية، كانت بلا شك فرصة لحزب البديل من أجل ألمانيا للوصول إلى الجماهير الدولية عبر منصة إكس.
في المقابلة، أصرت أليس على أن حزبها 'محافظ' و'ليبرالي' لكن وسائل الإعلام السائدة 'صورته بشكل سلبي' على أنه متطرف، إذ تم تصنيف أقسام من حزب البديل لألمانيا رسمياً على أنها متطرفة يمينية من قبل السلطات الألمانية.
وفي أمور أخرى، تبادلت فايدل وماسك أطراف الحديث ــ وفي بعض الأحيان الضحك ــ بشأن البيروقراطية الألمانية سيئة السمعة، وتخليها 'المجنون' عن الطاقة النووية، والحاجة إلى خفض الضرائب، وحرية التعبير، و'اليقظة/الوعي' [المصطلح المتداول بين مؤيدي ترامب حول الوعي المتزايد بقضايا اجتماعية وسياسية مثل العنصرية، وحقوق الإنسان، وغيرها].
والتقت أليس بنائب الرئيس الأمريكي، جيه دي فانس ، على هامش مؤتمر ميونيخ للأمن. وفي وقت سابق، حثّ فانس الأحزاب السياسية الرئيسية في ألمانيا على التخلي عن رفضها التعاون مع اليمين المتطرف.
هؤلاء الذين ذكرنا علاقتهم بأليس التي تُعلن عن ميولها المثلية، ليسوا من محبي المثليين بل من المناهضين لمجتمع الميم، وسنتعرف على آرائهم حول هذه القضية خلال القصة.
أما فيما يتعلق بموضوع الهجرة واللاجئين، تُعرف أليس بخطاباتها الحادة والمثيرة للجدل. وقد وصفها بعض النقاد بأنها 'شعبوية' تستغل مخاوف الناس لتحقيق مكاسب سياسية. ومع ذلك، يرى أنصارها أنها تمثل صوتاً صادقاً للألمان الذين يشعرون بأنهم مهمشون في ظل السياسات الحالية.
وتعترف أليس بأنَّها تحب الاستفزاز. فقد وصفت في عام 2018 داخل البوندستاغ، اللاجئين وطالبي اللجوء بأنَّهم 'رجال يحملون سكاكين ويحصلون على دعم'، والأطفال المسلمين بأنَّهم 'بنات محجبات'. ولذلك قام رئيس البرلمان الاتحادي آنذاك، فولفغانغ شويبله، بتوبيخ أليس.
وقالت أليس آنذاك في مقابلة مع صحيفة نويه تسورشَر تسايتونغ، إنَّها أرادت بعبارة 'بنات محجبات' لفت الانتباه إلى أنَّ ألمانيا لديها مشكلة مع الإسلام المحافظ، الذي يتعارض من وجهة نظرها مع القانون الأساسي (الدستور الألماني).
مثلية رغم جنوحها إلى اليمين، كيف؟
تعيش أليس مع شريكتها المثلية سارة بوسارد، وهي من أصول سريلانكية، تعمل في مجال صناعة الأفلام، ولديهما طفلان متبنيان. تعيش العائلة في منزل بسيط في مدينة أوفنبورغ في ولاية بادن-فورتمبيرغ على الحدود مع سويسرا.
وهذا بعيد كل البعد عن الصورة المثالية التي يتبناها حزب البديل من أجل ألمانيا، إذ يلتزم الحزب في برنامجه بالأسرة التقليدية كمثل أعلى: 'في الأسرة يتحمل دائماً كل من الأب والأم مسؤولية مشتركة عن أطفالهما'.
وعلى الرغم من أن حزبها يتبنى مواقف محافظة تجاه قضايا المثلية الجنسية قد تكون غير معلنة وأقل دبلوماسية من تلك العلنية، إلا أن أليس تصر على فصل حياتها الشخصية عن عملها السياسي.
قالت أليس في مقابلة عام 2017: 'من الممكن أن يكون لدى البعض استياء، ولكن هذا موجود في أحزاب أخرى أيضاً'.
وقد يكون هذا الأمر هو أحد الدوافع وراء رفض أليس صفة 'يمين متطرف على حزبها'.
ما حظوظ أليس في الانتخابات؟
في استطلاعات الرأي الأخيرة، حصل حزب 'البديل من أجل ألمانيا' على نحو 20 في المئة من نوايا التصويت، مما يجعله ثاني أكثر الأحزاب شعبية بعد التكتل المحافظ (الاتحاد الديمقراطي المسيحي/الاتحاد الاجتماعي المسيحي) الذي يتصدر بنسبة 30 في المئة. ومع ذلك، يواجه الحزب صعوبة في تشكيل ائتلاف حكومي، نظراً لرفض الأحزاب الرئيسية الأخرى التعاون معه بسبب مواقفه التي يصفونها بـ 'المتطرفة'.
ويركز برنامج فايدل الانتخابي على قضايا مثل إغلاق الحدود أمام الهجرة غير الشرعية، وتنفيذ عمليات ترحيل واسعة لطالبي اللجوء، بالإضافة إلى إعادة تشغيل خط أنابيب الغاز 'نورد ستريم' الذي تعرض للتخريب في عام 2022. كما تعهدت بإزالة توربينات الرياح وإعادة تشغيل محطات الطاقة النووية، معارضةً سياسات الطاقة المتجددة الحالية.
وعلى الرغم من هذه المواقف، أظهرت استطلاعات الرأي أن غالبية الألمان يؤيدون بقاء بلادهم في الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو، حيث أعرب 65 في المئة من المشاركين عن دعمهم لذلك. هذا يتعارض مع بعض مواقف حزب البديل من أجل ألمانيا، الذي يدعو في برنامجه الانتخابي إلى الخروج من الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو.
بناءً على هذه المعطيات، ورغم التقدم الملحوظ في استطلاعات الرأي، تبقى فرص أليس فايدل في الوصول إلى منصب المستشارية محدودة، نظراً لعدم وجود شركاء محتملين لتشكيل ائتلاف حكومي، واستمرار العزلة السياسية التي يفرضها باقي الطيف السياسي الألماني على حزبها.
ما هي آراء 'القدوة والنموذج والاصدقاء بالمثلية'؟
لم تكن مواضيع المثلية ومجتمع الميم تُشكل أهمية لدى الحكومات الأوروبية، إبان عهد تاتشر، لذلك من الصعب معرفة موقفها من القضية اليوم.
إلا أن رئيس الوزراء البريطاني السابق -زعيم حزب المحافظين- ريشي سوناك، هاجم المثليين ومجتمع الميم-عين، وقال إن 'الرجل رجل، والمرأة مرأة، هذا ببساطة هو المنطق السليم'، وذلك في أكتوبر/ تشرين أول 2023.
أما موقف الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، فهو واضح، ولكن للتذكير فقد وقع الرئيس على أوامر تنفيذية تفرض حظراً على من وصفهم بـ 'المتحولين جنسياً' من الخدمة في الجيش وإلغاء سياسات 'التنوع والشمولية' التي أقرتها إدارة الرئيس السابق جو بايدن.
ووجه ترامب وزارة الدفاع لوضع سياسة جديدة بشأن أفراد الخدمة العابرين جنسياً خلال 30 يوماً، ترتكز على معايير 'الجاهزية العسكرية'.
ويتفق نائب ترامب جيه دي فانس، بشكل كبير مع الأيديولوجية السياسية للرئيس، ولديهما وجهات نظر متماثلة، ووصفت الصحف الأمريكية بأنه 'نسخة طبق الأصل من ترامب تجاه القضايا'.
وكان الملياردير إيلون ماسك قال في يوليو/ تموز 2024، إنه تعرض للخداع عندما طُلبت موافقته على السماح لابنه بأخذ 'مثبطات البلوغ' لتحويل جنسه من ذكر إلى أنثى.
أضاف مايك آنذاك 'خدعوني وقتلوه'، وشرح ماسك وجهة نظره بشأن ما حدث، قائلاً: 'تم خداعي [مما سماه] 'فيروس اليقظة العقلية' (Mindfulness virus) للسماح لابني بأن يصبح امرأة متحولة جنسياً'.
وبهذا لا يُعرف ماهية العلاقة بين أليس وبين هؤلاء الذين يشتهرون بمواقفهم المناهضة لمجتمع الميم-عين، ولكن السياسة تأتيك بكل جديد وغريب.
Powered by WPeMatico

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


سيدر نيوز
منذ 6 أيام
- سيدر نيوز
من تاتشر إلى أحمد الشرع: كيف يغيّر السياسيون صورتهم؟ ولماذا؟
وصف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب رئيس المرحلة الانتقالية في سوريا، أحمد الشرع، بأنه 'شاب جذّاب' و'رجل قوي' يتمتع بـ'ماضٍ قوي جداً'، وذلك عقب لقائهما في الرياض يوم أمس. وأثار التصريح جدلاً واسعاً على مواقع التواصل الاجتماعي وفي وسائل الإعلام، نظراً لأن الشرع كان يُعرف سابقاً باسم 'أبو محمد الجولاني'، زعيم 'هيئة تحرير الشام'، إحدى أقوى الجماعات الجهادية التي برزت خلال النزاع السوري، قبل أن ينهار حكم الرئيس بشار الأسد ويتولى الشرع السلطة أواخر عام 2024. وخلال الأشهر الماضية، تحوّل الشرع إلى وجه بارز للمرحلة الانتقالية في سوريا، بعد أن وضع خطابه الجهادي خلفه، وبدأ بالظهور بمظهر مدني. ومنذ الأيام الأولى لتولّيه المنصب، أجرى الشرع مقابلات مع وسائل إعلام دولية، واستقبل وفوداً رسمية في القصر الجمهوري بدمشق، كما ظهر في عدد من الأماكن العامة، وزار المسجد الأموي وسط تغطية إعلامية واسعة. في الواقع، لم يكن تحوُّل الجولاني من 'زعيم جهاديّ إلى سياسيّ معارض' أمراً حديثاً، 'بل تطوّر بعناية على مرّ السنين، وكان واضحاً لا في تصريحاته العامة ومقابلاته الدولية فحسب، بل أيضاً في مظهره المتغيّر'، تكتب زميلتنا المُختصّة بشؤون الجماعات الجهادية في 'وحدة المتابعة الإعلامية في بي بي سي' مينا اللامي، في مقال نشرته بي بي سي. قد تُشكّل التحوّلات التدريجية في صورة الجولاني، حالة نموذجيّة للدراسة من قبل المختصّين في التسويق السياسي، والباحثين في أسس صناعة الصورة العامة أو 'العلامة التجارية الفارقة' للسياسيين. على مواقع التواصل، يتسابق المعلّقون على قياس التغييرات في طول لحية الشرع وهندامه وطريقة كلامه؛ لكنّ هذا التحوّل ليس ظاهرة جديدة أو فريدة من نوعها، كما يخبرنا أستاذ التسويق في جامعة نوتنغهام كريستوفر بيش. يأخذُنا بيش إلى تجربة مماثلة خاضتها مارغريت تاتشر، رئيسة وزراء بريطانيا في الفترة بين 1979 و1990. 'ففي السبعينيات، مع بداية صعود تاتشر سُلّم القيادة في حزب المحافظين، كانت تحتاج إلى تغيير صورتها كي تبدو مقنعة كرأس للدولة، ورئيسة وزراء محتملة'، يقول. استعانت تاتشر حينها بخبراء في العلاقات العامة والتسويق، لحياكة صورة محبوكة بعناية، تُمثّلها كشخصية تُلبّي متطلّبات القيادة؛ توحي بالثقة، وبالقدرة على الإمساك بزمام الحكم. باتت تختار ملابس تشي بالصلابة والودّ في آن واحد، وعدّلت نبرة صوتها الرفيعة، لتصير هادئة وثابتة، حتى أنّها غيّرت تسريحة شعرها. وهكذا تشكّلت علامة 'المرأة الحديدية'، وباتت صاحبة التأثير الأعمق على الحكم والسياسة في بريطانيا، لنحو عقدين من الزمن. على مثال زيلينسكي AFP كي لا نعود بالزمن كثيراً إلى الوراء، يمكننا أن نجد مثالاً راهناً في التسويق السياسي، حقّق نجاحاً، في علامة الرئيس الأوكراني فلودومير زيلينسكي. عُرف زيلينسكي في البداية، ككاتب وممثّل كوميدي، وحظي بشهرة في مسلسل بعنوان 'خادم الشعب'، يحكي قصة مواطن عادي يصبح رئيساً. ومع صعود نجمه في عالم السياسة، استخدم زيلنسكي خلفيته تلك، لتقديم نفسه كنموذج مغاير عن النخب السياسية التقليدية في أوكرانيا. بعد الغزو الروسي لبلاده، وبفضل خطاباته، وقمصانه الزيتية الرياضيّة الصيفية والشتوية، أصبح رمزاً للصمود في وجه العدوان، ومُمثّلاً للروح المعنوية للشعب الأوكراني. يقول أستاذ التسويق في جامعة لسيسيتر البريطانية البروفيسور بول باينز إن معرفة زيلينسكي العميقة بوسائل الإعلام، وكيفية عملها، وعلاقاته القوية بأقطابها، نظراً لخلفيته كممثل وامتلاكه شركة إنتاج، كلها عوامل ساعدته في إضفاء مصداقية على صورته العامة، وجعلت منه علامة فارقة. يقول باينز: 'قد يبدو الأمر غريباً، أن نرى ممثّلاً يُجسّد دور رئيس في مسلسل تلفزيوني، يصبح رئيساً حقيقيّاً لبلاده، لكن هذا الأمر من سمات عصر ما بعد الحداثة. امتلك زيلينسكي القدرات المطلوبة، وأظهر صفات بطولية واضحة، وعمل بجدّ كبير لكسب تأييد الجماهير حول العالم، فتحدّث في برلمانات دول عدّة، خصوصاً تلك التي تُعَدّ من أكبر المانحين، مثل ألمانيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة. وعلى الصعيد الداخلي، اتخذ خطوات لتعزيز معنويات شعبه وتحفيزه على القتال والدفاع عن وطنه'. AFP ما هو علم التسويق السياسي؟ يختلف السياق التاريخي لصعود تاتشر عن السياق الأوكراني أو السوري، فلكلّ بلد سياقه السياسي وأزماته الخاصة… ولكنّ الترويج لشخصيات القادة علمٌ قائم بذاته، ويمكن أن يحدث فرقاً حقيقياً في صعود تلك الشخصيات أو أفولها، بحسب المختصّين. ببساطة، يستعير التسويق السياسي قواعد ومبادئ التسويق التجاري ذاتها، ويطبّقها في عالم السياسة، عوضاً عن تطبيقها على ترويج السلع، أو العلامات الفاخرة، أو الرحلات السياحية، أو المنتجات الرياضية. ويُعنى التسويق السياسي ببناء صورة عامّة أو 'علامة تجارية فارقة'، تصير أشبه ببصمة للأحزاب والشخصيات والحركات السياسية، ويلعب بالتالي دوراً في مدى شعبيتها، ونظرة الجماهير لها، وإرثها. يقول الأكاديمي كريستوفر بيش إن جذور الترويج السياسي، قديمة جداً، تعود بحسب تعبيره إلى 'اليونانيين القدماء الذين كانوا يسوّقون برامجهم وتعهداتهم السياسية على ألواح منحوتة، ويجولون فيها بين المدن والقرى'. على مرّ القرون، 'تطوّر التسويق السياسي، خصوصاً بوجود الإعلام الحديث، واستخدام الملصقات، والراديو، والتلفزيون، للتواصل مع الناخبين، وصولاً إلى الإعلام الرقمي الذي غيّر بالكامل طريقة تواصل السياسيين مع الجمهور'. ويتابع: 'التسويق السياسي اليوم صناعة بملايين الدولارات، يستهدف الجماهير بدقّة، وله تأثير واسع. صناعة صورة عامة أو علامة فارقة في عالم السياسية، تعني صقل سردية متماسكة، تعكس قيم الشخصية أو الحزب، وتقدر على خلق رابط عاطفي مع المناصرين'. ويرتبط نجاح خطط التسويق السياسي، بالعمل بناءً على دراسات واستطلاعات رأي دقيقة، لفهم مزاج الجمهور. ويشير بيش إلى مجموعة مبادئ أساسية يحرص المسوّقون السياسيون المحترفون على تطبيقها لجعل العلامة السياسية فعّالة وناجحة. يقول: 'من الركائز الأساسية: التميّز عن المنافسين، والقدرة على تقديم رؤية وقيم واضحة. هناك أيضاً الأصالة والثقة، وضرورة أن يكون الجمهور قادراً على التماهي مع القائد، وأن يكون الأخير متصلاً بهموم الناس'. بحسب الأستاذ بيش، فإن حملتي باراك أوباما لانتخابات الرئاسة الأمريكية عامي 2008 و2012 تُعدّان حالتين نموذجيتين في تطبيق تلك المبادئ التسويقية بنجاح. اعتمد أوباما إطلالات مختلفة – ربطة عنق وملابس رسمية أمام شرائح من الجمهور، وأكمام مرفوعة بدون ربطة عنق أمام شرائح أخرى – لإظهار مرونة أكبر. يقول بيش: 'أراد أوباما الظهور أحياناً بشكل رسمي كرجل دولة، وأحياناً أخرى ببساطة وودّية ليكون أكثر قرباً من الناخبين'. AFP كذلك يشير بيش إلى مثال دونالد ترامب 'الذي نجح خلال الانتخابات الأخيرة بتقديم نفسه على أنه المستضعف، رغم أنه شغل منصب الرئيس لأربع سنوات سابقاً. كان من اللافت كيف استمرّ بتصوير نفسه كمرشّح ضدّ المؤسسة الحاكمة، مستخدماً الدعاوى القضائية المرفوعة ضدّه، والجدل المحيط بحملته، كوسيلة لتعزيز صورته كشخصية تعارض وتناضل ضدّ المنظومة السياسية الأمريكية القائمة'. هناك أمثلة معاصرة مشابهة، مثل رئيسة الوزراء النيوزلندية السابقة جاسيندا أردرن التي عزّزت صورتها كقائدة متعاطفة ولطيفة وقريبة، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل التي لقبت بـ 'ماما ميركل' في إشارة إلى أنها توحي بالطمأنينة. هناك أيضاً رجب طيب أردوغان الذي يربط صورته العامة بعظمة التاريخ الإمبراطوري العثماني، مع مخاطبة الحسّ القومي التركي، والدفاع الدائم عن القيم التركية التقليدية. كما نجد شخصيات أخرى أثرت صورتها العامة بشكل سلبيّ على مكانتها السياسية، ومن بينها، كما يقول بيش، رئيس الوزراء البريطاني السابق ريشي سوناك الذي بدت صورته العامّة 'كشخصيّة بعيدة المنال، ونخبوية، ومنفصلة عن عامة الشعب'. هالة القائد 'الذي لا يقهر' في الانتخابات الديمقراطية، ترتبط صناعة التسويق السياسي وخلق علامة brand للقادة والزعماء، بأهمية جذب الناخبين، وتحقيق نتائج أفضل في استطلاعات الرأي، وزيادة الشعبية، للفوز بالأصوات. ولكن، حتى في السياقات الشمولية أو القائمة على شخصية قائد واحد، هناك أيضاً حاجة لتسويق صورة عامّة دقيقة، 'لخلق هالة حول شخصية مُسيطرة، لا تُقهر، وتحظى بالولاء'، بحب البروفيسور بول باينز. في هذا السياق، يتحدّث بيش عن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين: 'ظهوره بزيّ الجودو أو على صهوة حصان بلا قميص، يرسل رسالة قوة وصلابة. إنها صور مدروسة لتدعيم علامة القائد القوي، حتى وإن لم يكن الهدف إقناع الناخبين بقدر ما هو ترسيخ الهيمنة'. الأمر ذاته ينطبق على زعماء آخرين يركّزون على الرمزية والمشهدية، مثل العروض العسكرية والاحتفالات الضخمة، لتعزيز الهوية القومية وإشعار المواطنين بأن القائد قوي ولا يهزم. على هذا المنوال، يصدّر الإعلام الكوري الشمالي صورة كيم جونغ أون كـ 'منقذ الأمة وحاميها'. ويقول باينز إن كلا الزعيمين يستخدمان 'صوراً مختارة بعناية لتعزيز هيمنتهما وترسيخ ما يشبه الرابط الأبوي بينهما وبين الشعب'. ماذا عن الجماعات المتطرّفة؟ في الثمانينيات، غالباً ما صورت وسائل الإعلام والحكومات الغربية المجاهدين الأفغان — المقاتلين الإسلاميين ضد الغزو السوفيتي — على أنهم مناضلون من أجل الحرية. لكن هذا التصور تغيّر جذرياً منذ التسعينيات. يدرس البروفيسور بول باينز، 'تغيير العلامة التجارية' لدى جماعات مثل 'القاعدة'، وتنظيم 'الدولة الإسلامية'، و'الشباب'، و'بوكو حرام'، وغيرها من الجماعات التي تتبنّى أيديولوجيات متشدّدة. ويقول باينز لبي بي سي إن 'القاعدة كانت أول علامة تجارية brand إرهابية عالمية'، إذ تجاوزت نطاقها الإقليمي، وسعت لصنع هوية عابرة للحدود، وعلامة قائمة على العنف والترهيب، والعداء للغرب والولايات المتحدّة والحداثة، وقد أسهمت في جذب بعض العناصر، لكنها في المقابل أثارت نفور فئات واسعة'. ويلفت باينز إلى أن ذلك 'لا يقتصر على الجماعات الإسلامية المتشدّدة، فاستخدام التطرّف في الدعاية السياسية يجد مكانته في أوساط اليمين المتشدّد في أوروبا والولايات المتحدة'. يقول باينز إن قادة القاعدة بن لادن والظواهري غيّرا أسلوبهما من البدايات حين كانت الفيديوهات أقرب إلى الخُطب الوعظية. 'إذا نظرت إلى تسجيل فيديو للقاعدة من عام 1998، سترين أنه أشبه بخطبة. يقف بن لادن وكأنه شيخ أو إمام يخاطب تلاميذه. وهذا النهج تغيّر، فخلال 10 سنوات بدأت تسجيلات القاعدة تستخدم رسومات حاسوبية، وصارت أقل رداءة من حيث جودة الصورة، وتحسّنت قيمة الإنتاج كثيراً.' لاحقاً وبحلول عام 2012، اعتمد 'تنظيم الدولة' أو 'داعش' ما يسمّى 'إدارة التوحش' وهو مصطلح إلى بثّ الرعب بواسطة تسيجلات الإعدامات العلنية والحرق وقطع الرؤوس. يؤكد باينز أنّ الجماعات الإرهابية تواجه معضلة فريدة بين الدفع بأجنداتها من خلال العنف وبين الحفاظ على دعم شعبي ضروري لاستمرارها، وهو ما يدفع شخصيات مثل الجولاني إلى إعادة النظر في تلك الأساليب، وتشكيل صورة أكثر قابلية. يقول بيش: 'في بعض الحالات، يمكن توظيف مبادئ التسويق السياسي لإعادة صياغة الصورة، عبر الاعتراف بالأخطاء السابقة، ووضع رؤية جديدة للمستقبل، والعمل على كسب ثقة الداخل والخارج'. في التاريخ أمثلة عدّة، منها كيف أعاد نابليون بناء صورته بعد نفيه الأول وعودته إلى فرنسا واستعادته الحكم لفترة قصيرة عرفت 'بالمئة يوم'. وفي التاريخ الحديث، نجد كيف بيل كلينتون بتجاوز فضيحته مع مونيكا لوينسكي بالتركيز على إنجازاته الاقتصادية والاجتماعية. Reuters التغيير والأمل في الواقع، يمكن لكلمة 'تغيير' بحدّ ذاتها، أن تصبح علامة سياسية قوية، تجتذب الساعين إلى بديل. ويقول بيش: 'كان 'التغيير' الشعار الأساسي لكير ستارمر (زعيم حزب العمال ورئيس الوزراء) في الانتخابات البريطانية الأخيرة. لقد خاض حملته كلّها على فكرة التغيير… فبعد 13 أو 14 عاماً (من حكم المحافظين)، كان الناس حقّاً يتطلعون إلى تغيير ما.' من جانبه يوضح باينز أنّ التسويق السياسي يعتمد كثيراً على الرسائل العاطفية. يقول: 'غالباً ما نتناول في التسويق السياسي مفهوم 'الأمل' مقابل 'الخوف'. هناك الكثير من الحملات التي ترتكز على الخوف، وأخرى على الأمل. وفي نهاية المطاف، إذا كنت تسعى إلى قبول ثوري بقائد ما أو إلى تحوّل جذري، فالأمل هو الرسالة الأنجع. أما الأنظمة السلطوية فعادةً ما تلجأ إلى توظيف الخوف'. بهذا المعنى، يحاول أحمد الشرع أن يقطع مع ماضيه الإشكالي، والظهور بصورة 'قائد وطني متمرّد' يسعى لتحرير البلاد. ويعلّق باينز: 'إنه يقدّم نفسه الآن كما لو كان 'المخلّص'، ويحاول استبدال البذلة الجهادية بثوب القيادة الوطنية المقبولة دولياً'. من منظور التسويق السياسي، يرى باينز أن عملية إعادة التشكيل هذه ليست عشوائية، بل تستند إلى فهم ما يريده الجمهور. يقول: 'يلجأ السياسيون إلى استطلاعات الرأي ومجموعات التركيز لتحديد الرسائل الأكثر قبولاً لدى الناس، ثم يكرّرون تلك الرسائل على أمل أن تُصدّق.' غير أن باينز يشدّد على أن نجاح مثل هذه الاستراتيجيات يعتمد في النهاية على أفعال حقيقية. 'فالسوريون مرّوا بسنوات من الحرب، ومن الصعب خداعهم بتعديلات شكلية؛ إذا لم يقدّم الجولاني (الشرع) ما يثبت صدق تحوّلاته، فقد يخسر فرصة ترسيخ علامته الجديدة. الناس ليسوا أغبياء'. مسؤلية الخبر: إن موقع "سيدر نيوز" غير مسؤول عن هذا الخبر شكلاً او مضموناً، وهو يعبّر فقط عن وجهة نظر مصدره أو كاتبه.


الميادين
٠٧-٠٥-٢٠٢٥
- الميادين
ما أهداف احتكار السلاح وقرار الحرب والسلم؟ (1)
بينما تسارع دول "المنظومة الدولية" إلى تهديد وجود الكرة الأرضية، يرتكب الاستعمار الجديد جرائم الإبادة، ويسعى إلى نزع سلاح الردع من الجنوب العالمي، مستهدفاً في منطقتنا تسييد "اسرائيل الكبرى". التصويب الأميركي الدولي المحلّي على سلاح المقاومة لا يقتصر على نزع سلاح الحزب! لا صلة مباشرة بين مسألة احتكار الدولة للسلاح الشرعي وبين مسألة احتكار الدولة قرار الحرب والسلم. فهما مقولتان في حقلين مختلفين على وجهي نقيض: الأولى تعني الصراع الداخلي المسلّح بين قوى وشرائح المجتمع، والثانية تخصّ ثوابت الدول القويّة بالحرب لتوسّع النفوذ والمصالح، وثوابت الدول الضعيفة بالدفاع الوطني والردع بالسلاح للوصول إلى حماية السلم والمصالح الوطنية. إقتناص ماكس فيبر وتوماس هوبس بموازاة انهيار منظومة القطبين وحركات التحرّر في عالم الجنوب، بدأت منظومة ريغان ــ تاتشر (1980 ــ 1990) "الدولية" العمل على استثمار التحوّلات في النظام الدولي للسيطرة الجيوسياسية على شرقي القارة ووضع اليد على جنوبها. بهدف إخضاع الجنوب العالمي، اقتنص خبراء التلاعب بالعقول إثر الحرب الباردة، عالم الاجتماع ماكس فيبر (1864 ــ 1920) الذي انشغل بمسائل الحرب الأهلية في بريطانيا (حرب الممالك الثلاثة ــ 1640 و1670) وبالحروب الأهلية في فرنسا (ثورة 1790 والثورات المكمّلة 1830 و1848 وعامية باريس 1871) وخرج منها بقراءة سوسيولوجية لوقف ما رآه "العنف غير الشرعي" في الثورات الفرنسية على الرغم من تغييرها وجه التاريخ، وكذلك "عنف" ممالك ويلز وإيرلندا واسكتلندا ضد التاج البريطاني. اعتبر في رؤيته المعادية للثورات الاجتماعية التاريخية والمعادية للاصلاح السياسي، حق الحكومة الرسمية (الدولة) في النظام الاقطاعي القديم "احتكار العنف"، ومنعه عن ثوّار تغيير النظام وعن الديموقراطيين الرافضين لتسلّط الملَكية والاقطاع والكنيسة....، (محاضرتا ماكس فيبر في جامعة ميونيخ عامي 1917 و1919 نُشرتا في كتاب باللغة الفرنسية تحت عنوان "العالِم (الحكيم) والسياسي" عام 1959 مع نقديم ريمون آرون). قراءة سوسيولوجية منافية للتاريخ الاجتماعي والسياسي في تاريخ الصراع الاجتماعي والسياسي لم يكن الخلاف في داخل الدول الأوروبية طيلة القرنين السابع عشر والثامن عشر، على مبدأ احتكار الدولة سلاح العنف الشرعي. إنما كان الصراع على سلاح تغيير السلطة الملَكية ونظام الحكم الاقطاعي ــ الكنَسي القديم. وفي هذا الإطار رسّخ النشيد الوطني الفرنسي حتى اليوم شعار الثورة الفرنسية "إلى السلاح أيها المواطنون" من أجل تشييد الجمهورية وتغيير النظام الاقطاعي. وعلى عكس الولايات المتحدة، لم يهدف العنف السياسي والاجتماعي في أوروبا إلى "حق الشعب في اقتناء وحمل السلاح ضرورة لدولة حرّة" كما نصّ الدستور الاميركي عام 1791 وما زال معمولاً به حتى الساعة. لكن الدول الأوروبية (الدولة ــ الأمة) التي لجأت إلى الحرب فيما بينها، عمدت الى احتكار العنف والسلاح أثناء توسّعها فيما بينها وأثناء الغزو الاستعماري في الجنوب، ثم ضد تحرّر المستعمرات في أفريقيا وأميركا اللاتينية وإيرلندا والباسك وكاتالونيا وكاليدونيا... إلخ، واستخدمت في المستعمرات مقولة "احتكار الدولة العنف الشرعي ضد الارهاب والخارجين عن القانون". ولا يزال الأكثر فاشية وعنصرية يستخدمها اليوم لتبرير السلاح الحكومي في قمع الانتفاضات المطلبية واعتصامات الجامعات دعماً لغزة، وحتى المظاهرات الساخنة في البلدان الأوروبية، كما برّر إريك زمور وجماعة "الإحلال الكبير" عنف سلاح الشرطة ضد السترات الصفر، وضد قمع الفلاحين في سان سولين وضد انتفاضة الضواحي. في لبنان لا توجد مطالب بحمل السلاح بحسب الدستور الأميركي، ولا توجد مقاومة السلطة الشرعية بالسلاح منذ اتفاق الطائف. كما أن مقاومة حزب الله لم تمسّ شرعية السلطة من قريب أو بعيد ولا تقارب تغيير نظام الحكم بالسلاح أو حتى بالمعارضة السياسية. وبهذا المعنى يقرّ الحزب حق الدولة في "احتكار العنف الشرعي" الداخلي، وهذا ما يميّز حالة لبنان عن حالات سوريا واليمن وليبيا وتركيا والسودان والصومال وأفريقيا ...، حيث الصراع المسلّح هو على شرعية السلطة وعلى شرعية نظام الحكم. لكن الخلاف في لبنان هو على سلاح الدفاع الوطني بين الدول، وعلى سياسات الردع في بناء الدولة. فالتصويب الأميركي الدولي المحلّي على سلاح المقاومة لا يقتصر على نزع سلاح الحزب فحسب، بل يستهدف إزالة كل سلاح الدفاع اللبناني الحالي والممكن لاحقاً، وبناء "لا دولة" منزوعة من سلاح الدفاع والردع. الدفاع الحربي في عالم الجنوب لحماية السلم والمصالح الوطنية. برزت مسألة الحرب والسلم ملازمة لحروب مقاطعات "الامبراطورية الرومانية المقدّسة" وآل هابسبورغ في القرن السابع عشر، عندما غيّر "صلح وستفاليا" (1648 ــ 1657) كل الجغرافيا السياسية الأوروبية، وقلبَ الحروب الدينية (وهي بالحقيقة حروب الفلاحين والاقطاع والكنائس المختلفة) إلى حروب بين ممالك وإقطاعيي الدول الأوروبية، فاحتكرت كل مملكة سلاح الحرب بتعطيل سلاح مقاطعات الأمراطورية. يعود اليوم دعاة نزع سلاح الدفاع والردع من دول الجنوب إلى ذاك التاريخ في أوروبا، استناداً إلى الانتروبولوجي الانكليزي توماس هوبس (1588 ــ 1679) الذي كان مثل ماكس فيبر مشغولاً بالحرب الأهلية الانجليزية ومؤمناً بدولة الملَكية المطلقة. وقد يكون هوبس بين آوائل الذين فلسفوا مفهوم بناء الدولة الملكية ــ الاقطاعية في أوروبا من رحم الأمبراطورية الرومانية المقدّسة. واعتُبر مفهومه تأسيساً لولادة الدولة ــ الأمة قبل الثورة الصناعية والدولة القومية. لكنه رأى الحروب الأوروبية حينها نتيجة الطبيعة البشرية المجبولة على العنف بحيث يولد الانسان ذئباً للإنسان، وتؤدي طبيعته "إلى حرب الكل ضد الكل". ولتقريب تصوّره استعان بأسطورة الوحش البحري التوراتية "اللفيتان ــ سفر يونس"، في دعوته إلى منقذ "في داخل الحوت" يتجسّد بتصنيع حكومة (دولة) فوق الطبيعة البشرية، قائمة على الأخلاق المسيحية لكي تتكفّل بتهذيب الذئبية البشرية مقابل الطاعة العمياء لسيادة الحكومة ــ الدولة. عندها يتوقف بنظره العنف (الحرب) وتستقرّ ديمومة السلام بين العبد الطيّع وبين صاحب السيادة المطلقة مقابل قيام السيّد بواجباته الأخلاقية. انبعاث الهوبسية بحلّة عصرية العديد من فلاسفة وعلماء الاجتماع في أوروبا، تناولوا في عصر التنوير والعصر الحديث مسألة العنف والسلاح وعارضوا تصوّرات هوبس على وجه الخصوص، بالنظر إلى أن الحرب لا مفرّ منها بين الدول المبنيّة بطبيعة وجودها على توسّع النفوذ والمصالح، أوعلى منع التوسّع في الدفاع الوطني، وليس بسبب الطبيعة البشرية للشعوب. لكن الخلاصة التي وصل اليها هوبس مرتع خصب يقتنصه خبراء ومثقفو دعاة الاستعمار الجديد، لاستخراج إيديولوجية وبنية فوقية كاملة تتحكم بخضوع شعوب ودول الجنوب، لتسليم ثرواتها ومقدراتها إلى الأسياد الجدد كفعل حضاري عن طيب خاطر. ترتكز هذه الايديولوجية على ترويج ثقافة سياسية مفادها أن عالم الجنوب ليس شعوباً ومجتمعات عريقة الحضارة، بل جماعات عصبية ومكوّنات دينية وعرقية غريزية مجبولة بطبيعتها البشرية على العنف البربري. إقناع النُخب وناشطي الجنوب أن دولهم فاشلة أو مارقة بسبب طبيعة شعوبهم. لذا ينبغي تطبّعهم على فرض الرضوخ إلى أسياد "الشرعية الدولية"، مقابل تهذيب ذئبية طبيعتهم البشرية وتربيتهم على أخلاقيات "منظومة القيَم" الحضارية. وبين هذه القيَم ما يرُوج من تعابير ارتقاء الأفراد الأحرار إلى مصاف"المواطَنَة"، وإلى شروط صقل الطبيعة البرّية بأخلاقيات الرضوخ ونبذ العنف والكراهية والتسامح والحوكمة الرشيدة ... إلخ. فلسفة دحض الهوبسية قديماً وحديثاً إيمانويل كانط أحد فلاسفة التنوير المرموقين (1724 ــ 1804) دحَض مقولة هوبس بنقل الحرب والسلم من الماورائيات القائمة على النظر في الطبيعة البشرية وأخلاقيات العبد والسيّد، إلى تاريخ وأسباب طبائع الدول. فرأى الحرب علاقة صراع بين دولة مقابل دولة، متوافقاً مع باروخ سبينوزا (1632 ــ 1677) بأنه "لا يوجد أكبر من مأساة السلم تحت الخوف الذي يؤدي إلى العبودية". رأى احتكار الدولة قرار الحرب والسلم يعنى قرار حرب دائمة بين الدول، لا حلّ لها سوى إنشاء حكم عالمي يقوم على مبادىء الحق، ضمانة للسلم الدائم بين الدول. (مبادىء الحق والقانون، والسلام الدائم، 1795 ــ 1796). مونتسكيو وجان جاك روسو (1712 ــ 1778) تعمّقا أكثر من ذلك في أسباب الحرب بين الدول فيقول رسّو "إن الحرب ملازمة لوجود الدولة والمجتمع، ولا دولة ومجتمع من دون حرب". رأى أن حالة الحرب هي بالضرورة نتيجة وجود دولاً سيّدة وأخرى عبيدة ولا يمكن إنهاءها بسلام قانوني عالمي، بل "إن الحرب العادلة مبدئية وضرورة لسلام الدولة والمجتمع وضرورة لوجودهما".(رسّو، الحرب وحالة الحرب، الأعمال الكاملة، الجزء الثالث، غاليمار، 1964، ص 1899) واستمرّ الفلاسفة المعاصرون وعلماء الاجتماع بدحض المقولة الهوبسية كلٌ من زاوية رؤيته وفلسفته. لكنهم أجمعوا على أن الدول هي في حالة حرب دائمة، يحدّ من اندلاعها توازن الرعب والقدرة على الدفاع الوطني. ميشال فوكو( 1926 ــ 1948) يرى الحرب حقيقة تاريخية تفرض الدفاع عن المجتمع وحرية الأفراد (نشأة السيادة، محاضرة 4 شباط ـ فبراير، 1976). ريمون آرون الأكثر محافظَة بين الديموقراطيين (1905 ــ 1983) يرى أن الدولة ــ الأمة نشأت بالعنف المسلّح، فينبغي على كل إنسان حمايتها وأن يكون جندياً للدفاع عن حرّيته. "فالسلم بين الدول وهم والحرب من ثوابت التاريخ البشري، ولا مفرّ منها". (الحرب والسلم بين الأمم، كالمان ليفي، باريس، 1962). ولم يكن بين الفلاسفة وعلماء الاجتماع المرموقين، أو بين رجال الدولة الكبار، أيّ من دعاة حرب للحرب. لكن أغلبهم جدّ السعي لاستخلاص دروس وقائع التاريخ الأوروبي تحديداً. فسارعلى هدى حكمة الفيلسوف ورجل الدولة الروماني "جيل سيزار" الذي قال قبل الميلاد بمئة عام " من يسعى إلى السلم يحضّر الحرب".


النهار
٠٦-٠٥-٢٠٢٥
- النهار
"بوندستاج" ينتخب اليوم فريدريش ميرتس مستشاراً جديداً لألمانيا
"أغلبية مطلقة" ومن المقرر أن تتولى الحكومة الجديدة مهامها بعد ستة أشهر بالضبط من انهيار الائتلاف الثلاثي الذي قاده شولتس مع حزب الخضر والحزب الديمقراطي الحر، ما أدى إلى إجراء انتخابات مبكرة في فبراير/شباط الماضي. وفاز في الانتخابات العامة الأخيرة كتلة ميرتس المحافظة (التحالف المسيحي) - المكونة من حزبه والحزب المسيحي الاجتماعي البافاري. ومن المقرر أن يشكل التحالف حكومة ائتلافية مع الحزب الاشتراكي الديمقراطي، الذي حل في المركز الثالث في الانتخابات. ويشغل شركاء الائتلاف الحاكم 328 مقعدا من أصل 630 مقعدا في البوندستاج، ويحتاج ميرتس إلى أغلبية مطلقة لانتخابه مستشارا. ويعتبر فوز ميرتس في التصويت مؤكدا، لا سيما في ظل التهديد الذي يشكله حزب البديل من أجل ألمانيا (أقصى اليمين)، الذي احتل المركز الثاني في الانتخابات العامة التي جرت في فبراير (شباط) الماضي، وارتفعت شعبيته في استطلاعات الرأي الأخيرة. وتواجه الحكومة الألمانية المقبلة قائمة طويلة من التحديات العاجلة، بدءا من إنعاش اقتصاد يعاني من عامين متتاليين من الركود وصولا إلى التعامل مع موجات الصدمة الناجمة عن التحول الواضح في السياسة الخارجية الأمريكية في عهد الرئيس دونالد ترامب. على الصعيد المحلي، من المتوقع أن يفي الائتلاف الحاكم بوعده بالحد من الهجرة غير الشرعية وتقليص الإجراءات البيروقراطية، في حين قد يواجه دعوات لحظر حزب البديل من أجل ألمانيا بعد أن صنّفه جهاز الاستخبارات الداخلية الأسبوع الماضي على أنه حزب "يميني متطرف مؤكد".