
!وليد عبد الحيمستقبل الحركات الدينية بين الاتجاه الاعظم والاتجاه الفرعي- الحالة العربية !وليد عبد الحي
مستقبل الحركات الدينية بين الاتجاه الاعظم والاتجاه الفرعي- الحالة العربية!
وليد عبد الحي
يميل اغلب علماء الانثروبولوجيا الى اعتبار الظاهرة الدينية ملمحا ثقافيا رافق الانسان منذ نشوئه،سواء نظرت لهذا النشوء بمنظور ميتافيزيقي او بمنظور دارويني ،وتعددت الاديان وفسائلها المذهبية عبر التاريخ، ومع ان 12 من هذه الاديان يدين بها حاليا حوالي 75% من سكان المعمورة الا ان فسائلها المذهبية وتفرعات فسائلها الطائفية تصل الى حوالي 4200 فرعا، يقابلهم ما بين 15-17% من سكان العالم من اللاأدريين او الملحدين (Agnostics-gnostic). ذلك يعني انها ظاهرة انسانية تاريخية ،والعرب جزء من هذه الظاهرة.
وعند رصد مؤشرات حركية هذه الظاهرة التي تعود لاكثر من خمسة آلاف عام ، نجد انها عرفت صعودا في فترات معينة وهبوطا في فترات أخرى، لكن قياس مؤشرات التعبير عنها اجتماعيا وسياسيا وفكريا يشير الى ان مؤشرات التراجع كاتجاه اعظم تعلو مؤشرات التقدم كاتجاه فرعي ، واعتقد ان أحد اخطاء مراقبة هذه الظاهرة هو خطأ ' سجن اللحظة'، فمن الضروري لظاهرة بهذا التاريخ الطويل جدا ،ان لا يتم الحكم على الظاهرة استنادا للحظة القياس الآني (الاتجاه الفرعي-Sub-trend ) بل للاتجاه الاعظم((Mega-trend الذي يرصد حركية الظاهرة عبر مراحلها التاريخية ، ثم رسم المنحنى لكل فترة، ثم مراقبة ذروة(Peak) المنحنى في كل مرحلة ومقارنته بما قبله وما بعده من منحنيات.
ان مساحة تفسير الظواهر البشرية والكونية، وتحديد اسس مشروعية الحروب، ثم تحديد الهوية الدينية للدولة او النظام السياسي او الحاكم تشير الى تراجع واضح لغير صالح الظاهرة الدينية (كاتجاه اعظم)، وتشكل العولمة (بعيدا عن المنظور المعياري بخاصة اليساري لها) اكبر تحديات الظاهرة الدينية ، فالترابط الطوعي او القسري بين المجتمعات وبشكل متسارع جدا يقود –طبقا للمنظور الدوركهايمي- الى اتساع المصالح المشتركة وتشابك العلاقات مما يقود الى تهميش المصالح المتعارضة(من بينها الخلافات الدينية)، لكن ذلك سيفرز ردات فعل آنية كما يجري حاليا ، فقد تزايد المحافظون الجدد في امريكا ووتزايدت النزعة الارثذوكسية في روسيا وبعض اوروبا الشرقية وتنامى اليمين الاوروبي(العودة للاصول) وتنامت النزعة الكونفوشية في الصين ووصول الهندوسية للحكم في الهند وتزايد نسبة الانجليكان في امريكا اللاتينية وتزايد وزن المتدينين اليهود في السلطة والمجتمع الاسرائيلي وتنامى الاسلام السياسي..الخ. ولعل ذلك هو الذي جعل الاتجاه الفرعي لدى البعض يظنه اتجاها أعظم بفصل هذا المنحنى عن ذروة المنحنيات السابقة واللاحقة وعن السياق التاريخي فعجز عن تأسيس رؤية مستقبلية.
فإذا انتقلنا الى العالم العربي ضمن الاطار السابق ، نجد ضرورة التنبيه لما يلي:
1- لا يجوز النظر لتنامي الحركات الدينية العربية- السنية او الشيعية او السلفية او الصوفية- وكأنها مؤامرة خارجية، او انها بتحريض من هنا وهناك، فهو تنامي متناغم مع الظاهرة العالمية الحالية كما أشرنا، ولكن خطأ حركاتنا الدينية هي 'الوقوع في وهم الابدية' بالوهم بان نموهم ليس الا قانونا حديديا واطمأنوا لهذا الوهم ،لان الاتجاه الاعظم – الذي يشي بالتراجع – يطالهم كما يطال غيرهم في حركيته المتواصلة.
2- ان العداء المستحكم –بخاصة سياسيا- بين الانظمة العربية والحركات الدينية بخاصة الاخوان المسلمين وبعض الحركات الشيعية هو نتيجة لسياسات مرتبكة مارستها الانظمة السياسية العربية ، فالطالب في مدارسنا يتلقى حصة دراسية او اكثر يوميا عن الدين الاسلامي، وتنقل له الفضائيات الرسمية صلوات الجمعة والآذان والاناشيد والابتهالات، وقد سبق لي ان أخذت عينة من مناهج التعليم في 12 دولة عربية ، فتبين لي ان الطالب يتلقى في المدرسة(12 سنة دراسية) ما مجموعه ما بين 2600 الى 2800 ساعة تعليمية دينية خلال المرحلة المدرسية ، وتقدم هذه الساعات الدين للطالب بطريقة ايجابية جدا ،وبان هذا الدين هو من جعل للعرب مكانة في العالم، فإذا اقتنع الطالب في شبابه بما درسته مدرسته وطالب بانشاء حزب ديني سجنوه وقيل له' ممنوع انشاء الاحزاب على اسس دينية'، وإذا طالب بالغاء الدين من المدرسة قالت له الانظمة ' هذا ملحد يريد نشر الرذيلة وجرنا الى التبعية للغرب او الشرق'….فلا الانظمة شجاعة الى حد فصل الدين عن الدولة كما فعل الغرب ولا هي شجاعة لاقامة دولة دينية خوفا من أن تسحب القوى الدينية الكرسي من تحتها.
ان وجود حركات دينية سياسية او ثقافية في مجتمع عربي عرف اليهودية واالمسيحية والاسلام امر طبيعي ، وبعض الحكم العرب يتولى سلطته متكئا على ارث من هذه الثقافة، فهل يريد الحكام العرب الدين ام لا؟ هم يريدون توظيف ما يفرزه الدين من ترابط آلي للتأسيس لطاعة ولي الامر، لكنهم لا يريدونه حيث ينسج هذا الدين ترابطا عضويا حيث تقاسم المصالح وتشاركها ، وهذه هي مشكلتهم كما هي مشكلة الاخوان ايضا كما ساوضحه.
3- السلوك السياسي للحركات الدينية العربية: اعتقد ان المشكلة الكبرى في أدبيات الحركات الدينية العربية هي في تحديد اسس التحالف مع القوى الأخرى، فقد تحالفت حركة الاخوان المسلمين في ستينات القرن الماضي مع خصومها الحاليين( ضد عبد الناصر وتنامي التيار القومي واليساري العربي) لتصل الآن الى ان اشد المطاردين لها هم من كانوا حلفاءها سابقا، ولعل تغليب الترابط الآلي(الانتماء الديني وممارسة الطقوس) على الترابط العضوي مع الآخرين من القوى العربية والاجنبية شكل المفارقة التي لم تدركها الحركات الدينية، فكوزو اكوموتو(الياباني الذي جاء الى فلسطين عام 1972 وقتل العشرات من اليهود تضامنا عضويا مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين يختلف عن التضامن الآلي مع عائض القرني الذي اصبح رجل دين البلاط)، وحزب العدالة والتنمية ' الاخواني ' ترأس الوزارة المغربية من مارس 2017 الى اكتوبر 2021، وخلال سلطته جرى التوقيع على تطبيع العلاقة بين المغرب واسرائيل في ديسمبر 2020، بينما قطعت اربع دول كاثوليكية في امريكا اللاتينية علاقاتها مع اسرائيل تضامنا يتجاوز كل مفردات التضامن الآلي.
ان قصور الموازنة بين الترابط الآلي والترابط العضوي في منظور الاخوان المسلمين اوقعهم في ملابسات عديدة ، وهو ما يتضح حاليا في موقف قطاع عريض منهم من ايران ومحورها .
4- لم تميز حركة الاخوان بين 'استغلالهم ' وبين ' استقلالهم'، فقد توهم الاخوان ان المدد المالي من قطر ،والسماح لهم بفضائيات في تركيا هو من باب 'الاخوة الاسلامية'، بينما غضوا الطرف عن العلاقات العميقة بين هذه الدول وخصمهم التاريخي وهي اسرائيل والقوى الغربية ' الصليبية ' ، فقطر ركن من اركان دبلوماسية الإنابة(Proxy Diplomacy ) الامريكية ، وتركيا عضو في الحلف المسيحي(الناتو) ولها 12 اتفاقية امنية مع اسرائيل ،وكانت هي الشريك التجاري لاسرائيل حتى اول ايام طوفان الاقصى، ان جرعة البرامج الدينية في قناة الجزيرة لا تتسق ومكتب الموساد في الدوحة ، وحركة الاكراد في سوريا تقابل من الجانب التركي بكيفية مختلفة عن مقابلة التوغل الاسرائيلي الى حواف دمشق.
ان اعلاء مكانة ممارسة الطقوس واعتبارها مرشدا لترابط آلي يعمي النظر عن الترابط العضوي الذي يمكن ان يبني رؤية استراتيجية لا تقوم على المكايدة وممارسة الطقوس.
5- يبدو ان الحركات الدينية لم تتنبه لسياسة 'التغلغل الداخلي' فيها من قبل عسس السلطان ، فمثلما عمل تروتسكي على ما أصبح يعرف في الادبيات السياسية بسياسة التغلغل الداخلي (Entryism ) اخترقت الاجهزة الامنية العربية التنظيمات الدينية ، واصبحت قادرة على جرها نحو سياسات المهادنة( طبقا لمخطط مؤسسة راند الامريكية) او تفجيرها بصراعات داخلية، او بتشويه وخنق الجناح الثوري في الحركات الدينية( على غرار ما يوصي الرئيس السيسي في اطروحة تخرجه من الكلية الحربيةالامريكية-Democray in the M.E- الصفحة عشرة. ولعل هذا التغلغل من عسس السلطان في جسد الحركات الدينية له دوره في جرها الى تغليب الترابط الآلي على الترابط العضوي.
6- بالمقابل، فمن حق الاخوان المسلمين ان يحكموا حيث يفوزون بنزاهة، ومن الجريمة سياسيا حرمانهم من حقهم هذا لان ذلك يبقي دوامة العنف الداخلي للابد ، لأن منعهم من تولي السلطة في انتخابات نزيهة كما جرى في مصر وقبلها الجزائر يشكل تغولا واستبدادا يجب فهم دلالاته ، ولكن بالمقابل يجب ان يدرك الاخوان الفرق بين اللعبة لمرة واحدة وبين قبول قواعد اللعبة للابد، فقد لا تجري الرياح بما تشتهي سفنهم ، فان قبلوأ فانهم يساهمون في تاسيس هام لتداول السلطة.وان لم يقبلوا فسيجعلون وتيرة الاتجاه الاعظم تتسارع اكثر ضدهم.
وبالمقابل ترتبط قواعد اللعبة المحلية بقواعد اللعبة الدولية ، فعلى سبيل المثال نجد أن دولة كالامارات العربية تتناقض وبحدة في علاقاتها مع قطر حول العلاقة مع الاخوان المسلمين ،لكن الدولتين اجتمعتا(الامارات وقطر) في تدريبات الطيران الاخيرة مع اسرائيل ، فكيف سترى حركة الاخوان المسلمين المشهد هنا؟ هل تناقض الدولتين مع بعضهما بخصوص العلاقة مع الاخوان هو الاولى، ام الاولوية من منظور الاخوان المسلمين لتجانس موقف الدولتين في العلاقة مع اسرائيل؟
اخيرا..
في عام 2005 ،اكملت دراسة تم نشرها في مركز دراسات الوحدة العربية –بيروت، عن مستقبل الظاهرة الدينية،، وتوصلت في تلك الدراسة الى ان العالم الاسلامي سيعرف حتى عام 2020 تناميا في الحركة الدينية لكن هذه الحركة ستبدأ في الانكفاء مع عام 2020 تحت ضغوط دولية متحالفة ضدها، وستندمج الدول الاسلامية في روابط وتكتلات غير اسلامية ستعزز روابطها العضوية على حساب روابطها الآلية، وهو ما سيؤثر على الحركات الدينية اضافة للمتغيرات التي اشرت لها في بداية هذا المقال.
وفي عام 2010، نشرت مع جامعة القدس المفتوحة في فلسطين المحتلة دراسة حول مستقبل الاسلام السياسي في المنطقة العربية ، وتوصلت باستخدام منهجية 'مصفوفة التأثير المتبادل ' ومنهجية ' التدرج السببي' الى ان الحركة الاسلامية ستواجه ضغوطا هائلة مع عام 2022…وسيكون مجموع النقاط لصالحها هو 26 نقطة مقابل 126 نقطة لغير صالحها، وهكذا سيكون المنحنى الحالي لغير صالحها، دون ان يعني ذلك انها لن تشهد دورة جديدة لكنها ستكون بسقف ادنى بفعل قانون الاتجاه الاعظم ..ربما.
2025-04-07

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


موقع كتابات
منذ 18 ساعات
- موقع كتابات
دعوا البخاري والكافي ..التفتوا للوحوش
هنالك حزورة كما يقال باللهجة العامية العراقية وهي لو كان على الشجرة عشرة عصافير صاد الصياد عصفور ببندقيته كم عصفور يبقى على الشجرة ؟ فالمادي سيقول يبقى تسعة عصافير بدليل 10-1= 9 ، والانسان العاقل سيقول لا يبقى ولا عصفور لان صوت البندقية سيجعلها تهرب ، وهنالك اجابة ثالثة للمتفلسفين وخصوصا ممن يدعي التنوير من ملة الاسلام سيقول لو ان الصياد استخدم بندقية كاتم للصوت فانه سيبقى تسعة عصافير على الشجرة وان استخدم بندقية نوع كسرية فطلقتها عبارة عن مجموعة من كرات حديدية صغيرة نسميها ( صجم ) فانه سيصطاد اكثر من عصفور . هنا عندما يبدا المادي بالجدل فانه سيستشهد براي المسلم المتنور الذي يقول يبقى تسعة عصافير ، لربما هنالك من قد يتهمني باني اتجنى على الماديين او بالاحرى العلمانيين ، وحقيقة ان التفكير المادي لهم يرفض اي ظاهرة لا يعرفون اسبابها المادية . يقول الدكتور باسل الطائي انه كان في مؤتمر او جلسة علمية حضرها مئات من علماء الفيزياء والفلك يقول سالت العالم ستيفن هوكينغ : هل صادفك ظاهرة فلكية لم تتوصل الى اسبابها ؟ يقول فادار بجسده وراسه نحوي وقال نعم ، قلت له فماذا تفسر ذلك ؟ قال سنجد له تفسير في المستقبل ، فقالت المذيعة للدكتور الطائي وانت ماذا تقول ؟ اجاب : انها عظمة الله عز وجل في صناعة هذا الكون . وانا طالب في اعدادية الكاظمية قبل خمسين سنة كان مدرسنا استاذ شفيق في مادة الفيزياء يؤمن بالفكر الشيوعي لكنه حسب ما نقل لنا انه يتوقف امام ظواهر الهية لا يعلم كيف ينكر الحزب الشيوعي وجود والله . هذه الفلسفات والتفرعات والمصطلحات المستحدثة من قبل العلمانيين ماهي الا تشتيت العقول وابعادها عن الاهم والمهم ، وهاهي الدول الاستكبارية التي تطبل للعلمانية تعمل على تنمية اقتصادها والتها العسكرية وعيونها التجسسية بينما واقع الدول الاسلامية عامة والعربية خصوصا تراهم منشغلين بما حدث من وقائع تاريخية وروايات حديثية ، ولا ننكر انها بحاجة لدراسة لكنها ليست هي الاهم لانها اليوم اصبحت مصدر تشتت ، اقول لكل مسلم مهما كان مذهبه الستم على اتفاق بان هنالك قوى واجندة تعمل على هدم الاسلام ؟ الا توجد ثقافات ادت ولا زالت تؤدي الى الانحراف بحق شبابنا من خمر ومخدرات وخلاعة وتبرج وما الى ذلك ؟ كل هذا نتيجته اليوم هو الموقف العربي والاسلامي مما يجري في غزة ، هذا الموقف الذي سيكتب عنه التاريخ بالم ، هذا الموقف الذي سيكون له صفحات يتداولها شباب المستقبل ويكون هنالك من يتسلل الى احداثها ليشوه الحقيقة حتى يحتدم النقاش بين الشباب كما هو اليوم بين الاديان والمذاهب . دائما فكرْ، من المستفيد وما هي الخطوة الثانية ؟ ومن هذا المنطلق ستعلم اين هو الحق عندما تفكر بحق ، يتداول الاعلام الامريكي والصهيوني حادثة مقتل شاب وشابة من الديانة اليهودية في متحف يهودي في امريكا ويحاولون اثارة مشاعر الناس بان هذين القتيلين كانا على وشك اعلان زواجهما وهاهو مصيرها انتهى بالقتل كم هي ماساة هذه الجريمة ، حقا انها ماساة ولكن الم يوجه احد لهم السؤال كم شاب وشابة قتلتهم قذائف امريكية بايد صهيونية بل بعضهم يوم زفافهم هذا ناهيكم عن الاطفال والنساء ، بل الاكثر ماساة عندما تشاهد اطفال مبتوري الاطراف كيف سيعشون ؟ احتفظوا بكتب التاريخ وما فيها ان صح وان دس ولا تجعلوها مادة الثقافة اليوم فالانسانية جمعاء تواجه قيادات وحشية تتمثل بالادارة الامريكية والحكومة الصهيونية والتي لا يمكن لاحد ان يستوعب جرائمهم بحق البشرية ، فالمسؤولية على كل شباب العالم الاحرار ان يكون لهم صوت واحد ضد جرائم الابادة .


الزمان
٢١-٠٤-٢٠٢٥
- الزمان
الإمام علي عليه السلام رائد المنهج التجريبي
ما من باحث الا ويحتاج الى منهجٍ يسير وفقه للوصول الى نتائج بحثه، وافضل منهج يحقق للباحث ما يصبو اليه هو المنهج التجريبي الذي يبدا بطرح سؤال حول المشكلة المطروحة ثم طرح الافتراض الاولي و بعده اجراء التجربة ومن ثم الاستنتاج. وتاتي اهمية هذا المنهج بانه يتعامل مع الواقع بصورة مباشرة وانه قابل للتعدد بتكرار التجربة ليصل الباحث الى النتائج نفسها، ويمكن من خلال هذا المنهج السيطرة على العوامل المؤثرة سواء كانت افكار مسبقة او ظروف محيطة بالتجربة لتاتي النتائج بصورة واقعية دون تاثير العوامل الخارجية، وما من انسان الا واستفاد من هذا المنهج في حياته وهو منهج قديم قدم الانسان على الارض وبمرور الزمن حدث تحوّل في هذا المنهج واصبح طريقا الى المعرفة في العهد الاسلامي الذي تنور بالقران الكريم و الذي وضع اسس هذا المنهج في العشرات من الآيات الكريمة والتي تبدا بالسؤال (افلا…؟؟؟) ولما كان الاسلام رسالة عالمية لسعادة الانسان ونظم حياة المجتمعات فقد قام على مزج العقل بالروح فاصبح طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة واصبحت عمارة الارض جزءا من مسؤولية الدولة الاسلامية و قامت الحضارة الاسلامية على الحرية الفكرية والسعي لاكتشاف الحلول لمشاكل البشرية بخلاف الحضارات اليونانية والرومانية التي اكتفت بالترف الفكري ولم تنزل الى الواقع العملي. وقد برز في هذا المجال الامام علي عليه السلام على راس من اخذ بالمنهج التجريبي من خلال الفكر والممارسة ففي الجانب الفكري هو صاحب المقولة المشهورة: في التجارب علم مستانف الذي وظفته الجامعة في اسبوعها الثقافي ايضا كمعيار علمي، وقال ايضا الامور بالتجربة والاعمال بالخبرة وعنه عليه السلام: كل نجدة يحتاج الى العقل وكل معونة تحتاج الى التجارب ويقول ايضا: لا تقدمن على امرٍ حتى تُخبره ، وايضا ثمرة التجربة حسن الاختيار، وايضا كفى بالتجارب مؤدبا ، وايضا راي الرجل على قدر تجربته، وايضا العقل غريزة تزيد بالعلم والتجارب ، وايضا العقل حفظ التجارب ، وايضا التجارب لا تنقضي والعاقل منها في زيادة، وايضا في كل تجربة موعظة ( ) وهناك العشرات من اقوال امير المؤمنين في التجربة نكتفي بما تقدم ذكره. اما في الجانب العملي فكان الامام رائدا في المنهج التجريبي ايضا فقد اتخذ من التجربة وسيلة في اثبات الدليل في القضاء نذكر منها: 1- ادعت امرأة ان زوجها عنّين فقال امير المؤمنين عليه السلام: يا قنبر خذ بيده فاذهب به الى نهر وقدّر احليله فان كان على مقداره الاول قبل ان يقع في الماء فهو عنّين وان كان قد نقص وتقلّص عن مقداره الاول قبل ان يقع في الماء فقد كذبت وليس بعنّين ( ) 2- عن الصادق عليه السلام في رجل ضرب رجلا على أذنه بعظم فأدعى انه لا يسمع ، قال: قال امير المؤمنين عليه السلام: (يترصد ويُستغفل ويُنتظر به سنة فان سمع او شهد عليه رجلان انه يسمع٫ والا حلّفه واعطاه الدية ..قيل يا امير المؤمنين فان عُثر عليه بعد ذلك انه يسمع، قال:ان كان الله عز وجل رد عليه سمعه لم ار عليه شيئا) ( ). دم اسود 3- سُئل امير المؤمنين عن رجلٍ ضرب رجلا على هامته فادّعى المضروب انه لا يبصر شيئا ولا يشم الرائحة وانه قد ذهب لسانه فقال عليه السلام: (ان صدق فله ثلاث ديات فقيل: يا امير المؤمنين، وكيف يُعلم انه صادق، فقال: اما ما ادعاه انه لا يشتم الرائحة فانه يُدنى منه الحرّاق فان كان كما يقول والا نحّي راسه ودمعت عيناه، واما ما ادعاه في عينيه فانه يُقابل بعينيه الشمس فان كان كاذبا لم يتمالك حتى يغمض عينيه، وان كان صادقا بقيتا مفتوحتين واما ما ادعاه في لسانه فانه يُضرب على لسانه بابرة فان خرج الدم احمر فقد كذب وان خرج الدم اسود فقد صدق) ( ) 4- وقضى امير المؤمنين عليه السلام في رجلٍ ضُرب على راسه فادّعى ان بصره قد ضَعُف فاقعده ثم عرض عليه بيضة فقال له اتبصرها قال: نعم فلم يزل ينحّيها عنه حتى قال: لا ابصرها ثم حوّل الرجل عن يمينه وعرض عليه البيضة- الى ان قال- ثم قاس الاربعة الجوانب التي انتهى اليها بصره، فاستوت ولم يزد ولم ينقص، فقال له صدقت في دعواك ثم دعا رجلا في سنهِ واقعده بجنبه ثم عرض عليه البيضة ثم نحّاها عنه حتى قال لا ابصرها حتى فعل به ذلك في الجوانب الاربعة كما فعل بالاوّل ثم قاس بين منتهى بصر المُصاب وبصر الصحيح واعطى المصاب الدية على قدر ما نقص من بصره الربع او الثلث او النصف ( ). 5- أُتى عمر برجلٍ قد ضربه آخر بشيء فقطع من لسانه قطعة افسدت بعض كلامه، ولم يدر عمر ما فيه ،فحكم علي عليه السلام: ان ينظر ما افسد من الحروف (الف -باء-تاء) وهي ثمانية وعشرون حرفا فيُؤخذ من الدية بقدرها( ) 6-كان الهيثم في جيش ٍفلما رجع، جاءته امراته بعد قدومه بستة اشهر بولدٍ فانكر ذلك منها ،وجاء به عمر وقصّ عليه فامر برجمها، فادركها علي عليه السلام من قبل ان تُرجم ثم قال لعمر: اربع على نفسك انها صدقت ان الله تعالى يقول (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) وقال (والوالدات يرضعن اولادهن حولين كاملين) فالحمل والرضاع ثلاثون شهرا، فقال عمر لولا علي لهلك عمر وخلى سبيلها وألحق الولد بالرجُل ( ). 7- روي ان تسعة اخوة او عشرة في حي من احياء العرب كانت لهم اخت واحدة فقالوا لها كل ما يرزقنا الله نطرحه بين يديك فلا ترغبي في التزويج، فحميتُنا لا تحمل ذلك فوافقتهم في ذلك ورضيت به وقعدت في خدمتهم وهم يكرمونها فحاضت يوما فلما طهرت ارادت الاغتسال وخرجت الى عين ماء كان بقرب حيِّهم فخرجت من الماء علقة فدخلت في جوفها وجلست في الماء فمضت عليها الايام والعلقة تكبر حتى علت بطنها وظن الاخوة انها حبلى وقد خانت فارادوا قتلها فقال بعضهم نرفع امرها الى امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام فانه يتولى ذلك فاخرجوها الى حضرته وقالوا له ما ظنوا بها فاستحضر عليه السلام طشتا مملوءا بالحماة (عضلة الساق) وامرها ان تقعد عليه، فلما احست العلقة برائحة الحماة نزلت من جوفها. ويبدو ان العلقة هي نوع من انواع الديدان التي تعيش في المياه الملوثة والتي انتقلت الى المرأة عبر الاستحمام فدخلت في احشائها و تحولت الى اكياس مائية فظهرت وكأنها حامل ( ). 8- امرأة نكحها شيخ كبير السن فحملت فزعم الشيخ انه لم يصل اليها وانكر حملها فالتبس الامر على عثمان فسأل المرأة هل افتضّك الشيخ وكانت بكرا قالت: لا فقال عثمان اقيموا الحد عليها فقال له: امير المؤمنين عليه السلام: (أن للمرأة سَمين سمّ للمحيض وسمّ للبول فلعل الشيخ كان ينال منها فسال ماؤه في سمّ المحيض فحملت منه فاسالوا الرجل عن ذلك، فسُئل فقال قد كنت اُنزل الماء في قُبلِها من غير وصول اليها بالافتضاض فقال امير المؤمنين عليه السلام: الحمل له والولد ولده وارى عقوبته في الانكار) ( ). انسان واحد 9- امرأة ولدت على فراش زوجها ولدا له بدنان وراسان على حقوٍ واحد فالتبس الامر على اهله أهو واحد او اثنان؟ فصاروا الى امير المؤمنين عليه السلام يسالونه عن ذلك ليعرفوا الحكم فيه فقال امير المؤمنين عليه السلام اعتبروه اذا نام ثم أنبهوا احد البدنين والرأسين فان انتبها جميعا معا في حالة واحدة فهما انسان واحد وان استيقظ احدها والاخر نائم فهما اثنان وحقهما في الميراث حق اثنين.( ) 10 -جاء رجل الى شريح وقال له: ان لي ما للرجال وما للنساء فما الحكم ارجل انا ام امرأة فسأل شريح عن البول من اي الفرجين يخرج قال الشخص سأورد عليك من امري ما هو اعجب قال شريح: وما ذلك قال: زوجني ابي على انني امرأة فحملت من الزوج وابتعت جارية تخدمني فافضيت اليها فحملت مني فضرب شريح احدى يديه على الاخرى متعجبا وقال هذا امر لابد من انهائه الى امير المؤمنين عليه السلام وبعد ان عرض نفسه على الامام وصدقّه من حديث زوجه (على انه امرأة) اُدخل هذا المشتبه فيه بيتا ومعه اربع نسوة من العدول وامرهن بتجريده وعدّ اضلاعه بعد الاستيثاق من ستر فرجه فقال له الرجل:يا امير المؤمنين ما آمن على هذا الشخص الرجال والنساء فامر ان يشد عليه تبّان واخلاه في بيت ثم ولجه وعد اضلاعه وكانت من الجانب الايسر سبعة ومن الجانب الايمن ثمانية فقال هذا رجل وامر بطمّ شعره والبسه القلنسوة والنعلين والرداء وفرَّق بينه وبين الزوج.( ) 11- عن جابر الجعفي عن تميم ابن خرام الاسدي انه ُرُفع الى عمر منازعة جاريتين تنازعتها في ابن وبنت فقال اين ابو الحسن مفّرج الكرب فدُعي له به فقص عليه القصة فدعا بقارورتين فوزناهما ثم امر كل واحدة فحلبت في قارورة ووزن القارورتين فرجحت احداهما على الاخرى فقال: الابن للتي لبنها ارجح والبنت:للتي لبنها اخف فقال عمر من اين قلت ذلك يا ابا الحسن ؟ فقال لان الله جعل للذكر مثل حظ الانثيين ثم تقول الرواية وقد جَعلت الاطباء ذلك اساسا في الاستدلال على الذكر والانثى ( ). 12 -روي ان امراة هوت غلاما فدعته الى نفسها فامتنع الغلام فمضت واخذت بيضة والقت بياضها على ثوبها ثم علقت بالغلام ورفعته الى امير المؤمنين وقالت ان هذا الغلام كابرني على نفسي وقد فضحني ثم اخذت ثيابها فأرت بياض البيض وقالت ماؤه على ثوبي فجعل الغلام يبكي ويتبرأ مما ادعّته ويحلف ،فقال امير المؤمنين عليه السلام لقنبر مر من يغلي ماءً حتى يشتد حرارته ثم لتاتيني به على حاله فجيء بالماء فقال: أَلقوه على ثوب المرأة فالقوه عليه فاجتمع بياض البيض والتأم فامر باخذه ودفعه الى رجلين من اصحابه فقال:(تطعماه والفظاه) فطعماه فوجداه بيضا فامر بتخلية الغلام وجلد المرأة عقوبة على ادعائها الباطل.( ) 13 – وقضى عليه السلام في رجل ادّعى انه لا يقدر ان يفتض امراته فقال له بُل على الارض ثم قال: انظر يا قنبر فان ثَقَبَ بوله الارض فهو يقدر على الافتضاض وان لم يثقب بوله الارض فهو كما يزعم.( ) 14- قضى امير المؤمنين في رجل ادّعت امراته انه عنّين فانكر الزوج ذلك فامر النساء ان يحشون فرج المرأة بالخَلوق ولم تُعلِم زوجها بذلك ثم قال: (فان تلطّخ الذكر بالخلوق فليس بعنين.( ) والخلوق مادة من الطيب لها لون الزعفران ورائحته. وهناك المزيد من الوقائع التي استخدم فيها امير المؤمنين اسلوب التجربة لكننا نكتفي بهذا القدر للاستدلال على منهجه التجريبي وهو لا يتنافى مع القائلين بان رائد المنهج التجريبي هوالحسن بن الهيثم و نسال اليس ابن الهيثم هو احد تلاميذ مدرسة اهل البيت:؟ حيث ولد في البصرة وترعرع بها ثم انتقل الى مصر وعاش في كنف الدولة الفاطمية ووضع جميع تجاربه وعلومه في خدمة هذه الدولة. الحسن بن الهيثم احتفلت منظمة اليونسكو سنة 2015 بذكرى الحسن بن الهيثم و جعلته رائدا للمنهج العلمي التجريبي ومؤسسا لعلم البصريات الحديثة لانجازاته الكبيرة في مجال البصريات والرياضيات وعلم الفلك وقيامه بوضع مناهج تجريبية تعليمية ما زالت قائمة حتى اليوم، ولد الحسن بن الهيثم في البصرة سنه 915 وتوفي في القاهرة سنه1004 واهم كتبه كتاب المناظر الذي يعد اهم كتاب في البصريات، وفيه اثبت ان الضوء ياتي من الاجسام الى العين وليس العكس كما قال افلاطون وفي المؤتمر المذكور تحدث الباحثون عن الحسن بن الهيثم وعدوه رائدا للمنهج التجريبي الذي قام بتجارب في مجال البصر والعين ذكرها في مؤلفاته التي بلغت 92 مؤلفا وصلنا منها 55 مؤلفا فقط اشتملت على علوم الرياضيات والفيزياء والميتافيزيقا. وممن تاثر بهذا المنهج المفكر الاوروبي فرنسيس بيكون. ولد فرنسيس بيكون في عائلة استقراطية في لندن سنة 1561 وتوفي في سنة 1629 خارج لندن ، عاصر اثنين من كبار العلماء ممن اعتمد التجربة في ابحاثه هما غاليلو ونيوتن. رفض فرنسيس بيكون ان ياخذ بالمسلمات بدون القيام بالتجربة قائلا: ان الشك هو الذي يوصلنا الى المسلمات وذلك من خلال التجربة وبذلك اعلن تمرده على افكار ارسطو وافلاطون اللذين اعتمدا على المنهج النظري. يرى بيكون ان النظرية العلمية يمكن التوصل اليها من خلال الملاحظة والتجربة وبهذا الراي فتح المجال امام نهضة علمية انطلقت في كافة ارجاء اوروبا لا زالت تعطي ثمارها حتى يومنا هذا ،وكل الشواهد تدل على وجود علاقة بين العلماء المسلمين وبيكون، وقد حاول الدكتور سيف النصر ان يوجد هذا الترابط بين بيكون والحسن بن الهيثم في البحث الذي نشره في مجلة الدراسات الاسلامية في جامعة اسوان تحت عنوان (دراسة حول المنهج التجريبي عند الحسن بن الهيثم واثره على فلاسفة اوربا في العصر الحديث فرنسيس بيكون نموذجا) وقد اكد في دراسته اثر الحسن بن الهيثم على افكار بيكون ( )


ساحة التحرير
٠٧-٠٤-٢٠٢٥
- ساحة التحرير
!وليد عبد الحيمستقبل الحركات الدينية بين الاتجاه الاعظم والاتجاه الفرعي- الحالة العربية !وليد عبد الحي
مستقبل الحركات الدينية بين الاتجاه الاعظم والاتجاه الفرعي- الحالة العربية! وليد عبد الحي يميل اغلب علماء الانثروبولوجيا الى اعتبار الظاهرة الدينية ملمحا ثقافيا رافق الانسان منذ نشوئه،سواء نظرت لهذا النشوء بمنظور ميتافيزيقي او بمنظور دارويني ،وتعددت الاديان وفسائلها المذهبية عبر التاريخ، ومع ان 12 من هذه الاديان يدين بها حاليا حوالي 75% من سكان المعمورة الا ان فسائلها المذهبية وتفرعات فسائلها الطائفية تصل الى حوالي 4200 فرعا، يقابلهم ما بين 15-17% من سكان العالم من اللاأدريين او الملحدين (Agnostics-gnostic). ذلك يعني انها ظاهرة انسانية تاريخية ،والعرب جزء من هذه الظاهرة. وعند رصد مؤشرات حركية هذه الظاهرة التي تعود لاكثر من خمسة آلاف عام ، نجد انها عرفت صعودا في فترات معينة وهبوطا في فترات أخرى، لكن قياس مؤشرات التعبير عنها اجتماعيا وسياسيا وفكريا يشير الى ان مؤشرات التراجع كاتجاه اعظم تعلو مؤشرات التقدم كاتجاه فرعي ، واعتقد ان أحد اخطاء مراقبة هذه الظاهرة هو خطأ ' سجن اللحظة'، فمن الضروري لظاهرة بهذا التاريخ الطويل جدا ،ان لا يتم الحكم على الظاهرة استنادا للحظة القياس الآني (الاتجاه الفرعي-Sub-trend ) بل للاتجاه الاعظم((Mega-trend الذي يرصد حركية الظاهرة عبر مراحلها التاريخية ، ثم رسم المنحنى لكل فترة، ثم مراقبة ذروة(Peak) المنحنى في كل مرحلة ومقارنته بما قبله وما بعده من منحنيات. ان مساحة تفسير الظواهر البشرية والكونية، وتحديد اسس مشروعية الحروب، ثم تحديد الهوية الدينية للدولة او النظام السياسي او الحاكم تشير الى تراجع واضح لغير صالح الظاهرة الدينية (كاتجاه اعظم)، وتشكل العولمة (بعيدا عن المنظور المعياري بخاصة اليساري لها) اكبر تحديات الظاهرة الدينية ، فالترابط الطوعي او القسري بين المجتمعات وبشكل متسارع جدا يقود –طبقا للمنظور الدوركهايمي- الى اتساع المصالح المشتركة وتشابك العلاقات مما يقود الى تهميش المصالح المتعارضة(من بينها الخلافات الدينية)، لكن ذلك سيفرز ردات فعل آنية كما يجري حاليا ، فقد تزايد المحافظون الجدد في امريكا ووتزايدت النزعة الارثذوكسية في روسيا وبعض اوروبا الشرقية وتنامى اليمين الاوروبي(العودة للاصول) وتنامت النزعة الكونفوشية في الصين ووصول الهندوسية للحكم في الهند وتزايد نسبة الانجليكان في امريكا اللاتينية وتزايد وزن المتدينين اليهود في السلطة والمجتمع الاسرائيلي وتنامى الاسلام السياسي..الخ. ولعل ذلك هو الذي جعل الاتجاه الفرعي لدى البعض يظنه اتجاها أعظم بفصل هذا المنحنى عن ذروة المنحنيات السابقة واللاحقة وعن السياق التاريخي فعجز عن تأسيس رؤية مستقبلية. فإذا انتقلنا الى العالم العربي ضمن الاطار السابق ، نجد ضرورة التنبيه لما يلي: 1- لا يجوز النظر لتنامي الحركات الدينية العربية- السنية او الشيعية او السلفية او الصوفية- وكأنها مؤامرة خارجية، او انها بتحريض من هنا وهناك، فهو تنامي متناغم مع الظاهرة العالمية الحالية كما أشرنا، ولكن خطأ حركاتنا الدينية هي 'الوقوع في وهم الابدية' بالوهم بان نموهم ليس الا قانونا حديديا واطمأنوا لهذا الوهم ،لان الاتجاه الاعظم – الذي يشي بالتراجع – يطالهم كما يطال غيرهم في حركيته المتواصلة. 2- ان العداء المستحكم –بخاصة سياسيا- بين الانظمة العربية والحركات الدينية بخاصة الاخوان المسلمين وبعض الحركات الشيعية هو نتيجة لسياسات مرتبكة مارستها الانظمة السياسية العربية ، فالطالب في مدارسنا يتلقى حصة دراسية او اكثر يوميا عن الدين الاسلامي، وتنقل له الفضائيات الرسمية صلوات الجمعة والآذان والاناشيد والابتهالات، وقد سبق لي ان أخذت عينة من مناهج التعليم في 12 دولة عربية ، فتبين لي ان الطالب يتلقى في المدرسة(12 سنة دراسية) ما مجموعه ما بين 2600 الى 2800 ساعة تعليمية دينية خلال المرحلة المدرسية ، وتقدم هذه الساعات الدين للطالب بطريقة ايجابية جدا ،وبان هذا الدين هو من جعل للعرب مكانة في العالم، فإذا اقتنع الطالب في شبابه بما درسته مدرسته وطالب بانشاء حزب ديني سجنوه وقيل له' ممنوع انشاء الاحزاب على اسس دينية'، وإذا طالب بالغاء الدين من المدرسة قالت له الانظمة ' هذا ملحد يريد نشر الرذيلة وجرنا الى التبعية للغرب او الشرق'….فلا الانظمة شجاعة الى حد فصل الدين عن الدولة كما فعل الغرب ولا هي شجاعة لاقامة دولة دينية خوفا من أن تسحب القوى الدينية الكرسي من تحتها. ان وجود حركات دينية سياسية او ثقافية في مجتمع عربي عرف اليهودية واالمسيحية والاسلام امر طبيعي ، وبعض الحكم العرب يتولى سلطته متكئا على ارث من هذه الثقافة، فهل يريد الحكام العرب الدين ام لا؟ هم يريدون توظيف ما يفرزه الدين من ترابط آلي للتأسيس لطاعة ولي الامر، لكنهم لا يريدونه حيث ينسج هذا الدين ترابطا عضويا حيث تقاسم المصالح وتشاركها ، وهذه هي مشكلتهم كما هي مشكلة الاخوان ايضا كما ساوضحه. 3- السلوك السياسي للحركات الدينية العربية: اعتقد ان المشكلة الكبرى في أدبيات الحركات الدينية العربية هي في تحديد اسس التحالف مع القوى الأخرى، فقد تحالفت حركة الاخوان المسلمين في ستينات القرن الماضي مع خصومها الحاليين( ضد عبد الناصر وتنامي التيار القومي واليساري العربي) لتصل الآن الى ان اشد المطاردين لها هم من كانوا حلفاءها سابقا، ولعل تغليب الترابط الآلي(الانتماء الديني وممارسة الطقوس) على الترابط العضوي مع الآخرين من القوى العربية والاجنبية شكل المفارقة التي لم تدركها الحركات الدينية، فكوزو اكوموتو(الياباني الذي جاء الى فلسطين عام 1972 وقتل العشرات من اليهود تضامنا عضويا مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين يختلف عن التضامن الآلي مع عائض القرني الذي اصبح رجل دين البلاط)، وحزب العدالة والتنمية ' الاخواني ' ترأس الوزارة المغربية من مارس 2017 الى اكتوبر 2021، وخلال سلطته جرى التوقيع على تطبيع العلاقة بين المغرب واسرائيل في ديسمبر 2020، بينما قطعت اربع دول كاثوليكية في امريكا اللاتينية علاقاتها مع اسرائيل تضامنا يتجاوز كل مفردات التضامن الآلي. ان قصور الموازنة بين الترابط الآلي والترابط العضوي في منظور الاخوان المسلمين اوقعهم في ملابسات عديدة ، وهو ما يتضح حاليا في موقف قطاع عريض منهم من ايران ومحورها . 4- لم تميز حركة الاخوان بين 'استغلالهم ' وبين ' استقلالهم'، فقد توهم الاخوان ان المدد المالي من قطر ،والسماح لهم بفضائيات في تركيا هو من باب 'الاخوة الاسلامية'، بينما غضوا الطرف عن العلاقات العميقة بين هذه الدول وخصمهم التاريخي وهي اسرائيل والقوى الغربية ' الصليبية ' ، فقطر ركن من اركان دبلوماسية الإنابة(Proxy Diplomacy ) الامريكية ، وتركيا عضو في الحلف المسيحي(الناتو) ولها 12 اتفاقية امنية مع اسرائيل ،وكانت هي الشريك التجاري لاسرائيل حتى اول ايام طوفان الاقصى، ان جرعة البرامج الدينية في قناة الجزيرة لا تتسق ومكتب الموساد في الدوحة ، وحركة الاكراد في سوريا تقابل من الجانب التركي بكيفية مختلفة عن مقابلة التوغل الاسرائيلي الى حواف دمشق. ان اعلاء مكانة ممارسة الطقوس واعتبارها مرشدا لترابط آلي يعمي النظر عن الترابط العضوي الذي يمكن ان يبني رؤية استراتيجية لا تقوم على المكايدة وممارسة الطقوس. 5- يبدو ان الحركات الدينية لم تتنبه لسياسة 'التغلغل الداخلي' فيها من قبل عسس السلطان ، فمثلما عمل تروتسكي على ما أصبح يعرف في الادبيات السياسية بسياسة التغلغل الداخلي (Entryism ) اخترقت الاجهزة الامنية العربية التنظيمات الدينية ، واصبحت قادرة على جرها نحو سياسات المهادنة( طبقا لمخطط مؤسسة راند الامريكية) او تفجيرها بصراعات داخلية، او بتشويه وخنق الجناح الثوري في الحركات الدينية( على غرار ما يوصي الرئيس السيسي في اطروحة تخرجه من الكلية الحربيةالامريكية-Democray in the M.E- الصفحة عشرة. ولعل هذا التغلغل من عسس السلطان في جسد الحركات الدينية له دوره في جرها الى تغليب الترابط الآلي على الترابط العضوي. 6- بالمقابل، فمن حق الاخوان المسلمين ان يحكموا حيث يفوزون بنزاهة، ومن الجريمة سياسيا حرمانهم من حقهم هذا لان ذلك يبقي دوامة العنف الداخلي للابد ، لأن منعهم من تولي السلطة في انتخابات نزيهة كما جرى في مصر وقبلها الجزائر يشكل تغولا واستبدادا يجب فهم دلالاته ، ولكن بالمقابل يجب ان يدرك الاخوان الفرق بين اللعبة لمرة واحدة وبين قبول قواعد اللعبة للابد، فقد لا تجري الرياح بما تشتهي سفنهم ، فان قبلوأ فانهم يساهمون في تاسيس هام لتداول السلطة.وان لم يقبلوا فسيجعلون وتيرة الاتجاه الاعظم تتسارع اكثر ضدهم. وبالمقابل ترتبط قواعد اللعبة المحلية بقواعد اللعبة الدولية ، فعلى سبيل المثال نجد أن دولة كالامارات العربية تتناقض وبحدة في علاقاتها مع قطر حول العلاقة مع الاخوان المسلمين ،لكن الدولتين اجتمعتا(الامارات وقطر) في تدريبات الطيران الاخيرة مع اسرائيل ، فكيف سترى حركة الاخوان المسلمين المشهد هنا؟ هل تناقض الدولتين مع بعضهما بخصوص العلاقة مع الاخوان هو الاولى، ام الاولوية من منظور الاخوان المسلمين لتجانس موقف الدولتين في العلاقة مع اسرائيل؟ اخيرا.. في عام 2005 ،اكملت دراسة تم نشرها في مركز دراسات الوحدة العربية –بيروت، عن مستقبل الظاهرة الدينية،، وتوصلت في تلك الدراسة الى ان العالم الاسلامي سيعرف حتى عام 2020 تناميا في الحركة الدينية لكن هذه الحركة ستبدأ في الانكفاء مع عام 2020 تحت ضغوط دولية متحالفة ضدها، وستندمج الدول الاسلامية في روابط وتكتلات غير اسلامية ستعزز روابطها العضوية على حساب روابطها الآلية، وهو ما سيؤثر على الحركات الدينية اضافة للمتغيرات التي اشرت لها في بداية هذا المقال. وفي عام 2010، نشرت مع جامعة القدس المفتوحة في فلسطين المحتلة دراسة حول مستقبل الاسلام السياسي في المنطقة العربية ، وتوصلت باستخدام منهجية 'مصفوفة التأثير المتبادل ' ومنهجية ' التدرج السببي' الى ان الحركة الاسلامية ستواجه ضغوطا هائلة مع عام 2022…وسيكون مجموع النقاط لصالحها هو 26 نقطة مقابل 126 نقطة لغير صالحها، وهكذا سيكون المنحنى الحالي لغير صالحها، دون ان يعني ذلك انها لن تشهد دورة جديدة لكنها ستكون بسقف ادنى بفعل قانون الاتجاه الاعظم ..ربما. 2025-04-07