logo
عبدالحليم حافظ أيقونة الأغنية الوطنية

عبدالحليم حافظ أيقونة الأغنية الوطنية

بوابة الأهراممنذ يوم واحد
فارس هذا المقال هو عبدالحليم على إسماعيل شبانة، ابن قرية الحلوات بمحافظة الشرقية، الذى وُلِد لأسرة بسيطة الإمكانيات عام 1929، وفقد والديه فى العام الأول من مولده، وأصابه داء البلهارسيا الذى أنهك صحته طوال حياته. تعلَّم قواعد اللغة وتلاوة القرآن الكريم فى كُتّاب القرية، وغنّى فى صباه الأناشيد الدينية، ثم قَدِم إلى القاهرة والتحق بمعهد الموسيقى العربية. وغنّى لأول مرة فى حفل بثّته الإذاعة المصرية عام 1953، وهو فى الرابعة والعشرين من عمره.
من كان يصدق وقتذاك أن هذا الشاب سوف يُحدِث ثورة فى عالم الغناء العربي، فقد اتسم بأداء انسيابى دون تكلف أو مبالغة، وبصوت عذب، وبتعبير مباشر عن الأفكار والعواطف، وبقدرته على التفاعل مع جمهوره فى الحفلات العامة بالقاهرة ومختلف العواصم العربية، وكذلك تفاعله مع قضايا مصر والوطن العربي.
غيَّر اسمه إلى عبد الحليم حافظ تيمنًا بالإذاعى المرموق حافظ عبدالوهاب الذى تعهده بالرعاية. وارتبطت أجيال من الشباب والشابات بأغنياته، وهو المعنى الذى جسّدته باقتدار الفنانة ميرفت أمين أمام العملاق أحمد زكى فى فيلم زوجة رجل مهم الذى عُرض عام 1988. وبلغ الأمر أنه عند وفاته عام 1977 أقدمت بعض الفتيات على الانتحار عند سماع الخبر، وشهدت القاهرة واحدة من أضخم الجنازات فى تاريخها المعاصر وفاءً وتكريمًا له.
ارتبطت أغانيه بكل فئات الشعب، فغنّى للفلاحين فى حقولهم، والعمال فى مصانعهم، والجنود المرابطين على خط النار، وللشباب أمل الغد. وتجاوب بصوته مع القضايا الوطنية والقومية، فغنّى لفلسطين «فدائي»، وللجزائر «قضبان حديد اتكسرت»، وللأحداث الكبرى كبناء السد العالى «قلنا هنبنى وآدى إحنا بنينا السد العالي»، ولوحدة الشعب «حكاية شعب»، و»صورة صورة»، و»بالأحضان يا بلادنا بالأحضان».
وأنشد أيضًا أغانى الحزن والصمود بعد 1967 مثل «عدّى النهار»، و«ابنك يقولك يا بطل»، و»أحلف بسماها وترابها». وأغانى البهجة والفرحة بعد 1973 مثل «عاش اللى قال للرجال عدوا القنال»، و«لفى البلاد يا صبية»، و«صباح الخير يا سينا». فى كل أغانيه، عبّر عن الطموح الوطنى والتفاؤل والأمل فى مستقبل أفضل لبلاده.
ومن بين أغانيه، أتوقف أمام أغنية «أحلف بسماها وترابها» التى غناها بعد 1967، وهى من كلمات عبدالرحمن الأبنودى وألحان كمال الطويل. ففى الظروف الصعبة التى عاشتها مصر وقتذاك، مثّلت هذه الأغنية نموذجًا مثاليًا لكيف تتحول الأغنية إلى خطاب سياسى وطني، مشحون بالرمز والعاطفة والرسالة.
فجاءت هذه الأغنية التى مجدت الوطن والأرض والشعب، فبدأت بالقسم «أحلف بسماها وترابها»، فكانت بمثابة يمين سياسى جماعى بسماء مصر وترابها، وهى أقدس ما يمكن استدعاؤه من قيم الانتماء وحب الوطن؛ فسماء الوطن وترابه رمزان يتجاوزان السياسة إلى ما هو أعمق فى الوجدان والروح.
ثم يضيف على الفور «أحلف بدروبها وأبوابها... أحلف بالقمح وبالمصنع... أحلف بالمدنة وبالمدفع». وهكذا، تستحضر كل مكونات البناء الوطني، من طرق وزراعة وصناعة ودين وجيش. ويستكمل القسم بكلمات «بأولادى بأيامى الجاية... ما تغيب الشمس العربية طول ما أنا عايش فوق الدنيا»، التى تؤكد الإصرار والتصميم من ناحية، وربط مستقبل مصر بالشعوب العربية من ناحية أخرى.
تفاعل المصريون بحماس منقطع النظير مع أداء عبدالحليم للأغنية، وكلماتها العامية البسيطة، ومضمونها المقاوم. فلم تكن مجرد أغنية وطنية، وإنما عنوان للرفض الشعبى للهزيمة، والمقاومة الوجدانية ضد الاحتلال، والإصرار على الصمود والعمل حتى تبقى الشمس العربية ساطعة ومشرقة. فكانت من أكثر الأغانى التى أعادت اللحمة النفسية بين عبدالحليم وجمهوره، الذى كان ينتظر رد فعله بعد أن غنّى سنوات لانتصارات الثورة وإنجازاتها، فوجدوا أن مطربهم المفضل لم يُكابر، فعبر عن الحزن فى عدّى النهار وعن حب الوطن والإرادة فى أحلف بسماها.
أتوقف أيضًا أمام أغنية «لفى البلاد يا صبية» التى غناها بعد 1973 احتفالًا بالنصر، وهى من كلمات محسن الخياط وألحان محمد الموجي. الأغنية ذات طابع وطنى شعبي، تتسم كلماتها بالبساطة واستخدام العامية، ولحنها بالإيقاع الشعبى السريع. وهى ذات طابع رمزي، يختلط فيها المظهر الرومانسى بالعمق الوطني. يقول مطلع الأغنية «لفى البلاد يا صبية... لفى البلاد بلد بلد»، فالصبية هى رمز لمصر التى تجوب البلاد «بلد بلد» لكى تهنئ أبناءها بالنصر «باركى الولاد يا صبية... باركى الولاد... ولد ولد». وهى تباركهم لأنهم قد آتوا بمهرها الغالى «دا المهر غالي... وأهوم جابوه... لو نجم عالى فى السما راح يقصدوه... يا فرحتك ساعة ما ييجوا يقدموه». والمهر هنا هو رمز الانتصار، فيقول «ويغنوا للفجر اللى فى عنيكى اتولد... دا النصر مهرك... النصر مهرك والعريس ابن البلد.» تجمع هذه الكلمات فى مزيج خلاّق بين العاطفية والوطنية، وكأن مصر الصبية أصابها الحزن والألم مما حدث فى 1967، فأتى نصر 1973 بمثابة المهر الذى يعيد العروة الوثقى بين «الصبية وابن البلد»، أى بين الوطن والشعب. وتشير الأغنية إلى الشعب فى تمامه واكتماله، بكل طبقاته وفئاته، ويظهر هذا جليًّا فى تعبيرى «بلد بلد» و»ولد ولد».
عبّرت هذه الكلمات عن الحالة النفسية والوجدانية للمصريين، الذين اعتصرهم الحزن والألم بعد 1967، وشاركوا فى الإعداد للمعركة، وتحملوا مشاقها، وابتهجوا بنصرها. وعبر كبار مبدعيها عن هذه الحالة، فوصف توفيق الحكيم النصر بأنه «عودة الروح»، ونجيب محفوظ بأنه «وثبة روحية تمتد فى المكان والزمان حتى تحقق الحضارة».
وكما غنّى عبدالحليم حافظ للوطن وانتصر لقضاياه، غنّى للحب والشباب وتجدد الحياة، وعبّر عن نبض الإنسان العربى فى مرحلة حاسمة من تطوره، ولمست أغنياته شغاف قلبه ومختلف جوانب حياته. لذلك، يبقى فى وجدان الناس وجزءا من تاريخهم.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

عمرو سليم يبهر جمهور القلعة بمقطوعات موسيقية لنجوم الزمن الجميل
عمرو سليم يبهر جمهور القلعة بمقطوعات موسيقية لنجوم الزمن الجميل

مصرس

timeمنذ 9 ساعات

  • مصرس

عمرو سليم يبهر جمهور القلعة بمقطوعات موسيقية لنجوم الزمن الجميل

قدّم الموسيقار عمرو سليم، حفلاً موسيقيًا ضمن فعاليات مهرجان القلعة في دورته ال33، تضمن أشهر الأغاني والمقطوعات الموسيقية، منها "أغنية دوارين في الشوارع لنجاة، وأغنية ألو ألو لشادية وفاتن حمامة، وأغنية لولا الملامة غناء وردة، وأغنية كل ما أقول التوبة للعندليب عبد الحليم حافظ، وأغنية ولا يا ولا لعبد الغني السيد، وأغنية ما بيسألش عليا أبدًا لعبد المطلب"، كما قدّم أغنية زي المليونيرات لمدحت صالح. واختتم عمرو سليم، حفله بمقطوعة أغنية احلف بسماها وبترابها للعندليب عبد الحليم حافظ، وسط تفاعل كبير من الجمهور.وينتظر الجمهور، حاليًا حفل شيخ المنشدين ياسين التهامي للصعود على مسرح المحكي، وسط حضور جماهيري كبير.

عبدالحليم حافظ أيقونة الأغنية الوطنية
عبدالحليم حافظ أيقونة الأغنية الوطنية

بوابة الأهرام

timeمنذ يوم واحد

  • بوابة الأهرام

عبدالحليم حافظ أيقونة الأغنية الوطنية

فارس هذا المقال هو عبدالحليم على إسماعيل شبانة، ابن قرية الحلوات بمحافظة الشرقية، الذى وُلِد لأسرة بسيطة الإمكانيات عام 1929، وفقد والديه فى العام الأول من مولده، وأصابه داء البلهارسيا الذى أنهك صحته طوال حياته. تعلَّم قواعد اللغة وتلاوة القرآن الكريم فى كُتّاب القرية، وغنّى فى صباه الأناشيد الدينية، ثم قَدِم إلى القاهرة والتحق بمعهد الموسيقى العربية. وغنّى لأول مرة فى حفل بثّته الإذاعة المصرية عام 1953، وهو فى الرابعة والعشرين من عمره. من كان يصدق وقتذاك أن هذا الشاب سوف يُحدِث ثورة فى عالم الغناء العربي، فقد اتسم بأداء انسيابى دون تكلف أو مبالغة، وبصوت عذب، وبتعبير مباشر عن الأفكار والعواطف، وبقدرته على التفاعل مع جمهوره فى الحفلات العامة بالقاهرة ومختلف العواصم العربية، وكذلك تفاعله مع قضايا مصر والوطن العربي. غيَّر اسمه إلى عبد الحليم حافظ تيمنًا بالإذاعى المرموق حافظ عبدالوهاب الذى تعهده بالرعاية. وارتبطت أجيال من الشباب والشابات بأغنياته، وهو المعنى الذى جسّدته باقتدار الفنانة ميرفت أمين أمام العملاق أحمد زكى فى فيلم زوجة رجل مهم الذى عُرض عام 1988. وبلغ الأمر أنه عند وفاته عام 1977 أقدمت بعض الفتيات على الانتحار عند سماع الخبر، وشهدت القاهرة واحدة من أضخم الجنازات فى تاريخها المعاصر وفاءً وتكريمًا له. ارتبطت أغانيه بكل فئات الشعب، فغنّى للفلاحين فى حقولهم، والعمال فى مصانعهم، والجنود المرابطين على خط النار، وللشباب أمل الغد. وتجاوب بصوته مع القضايا الوطنية والقومية، فغنّى لفلسطين «فدائي»، وللجزائر «قضبان حديد اتكسرت»، وللأحداث الكبرى كبناء السد العالى «قلنا هنبنى وآدى إحنا بنينا السد العالي»، ولوحدة الشعب «حكاية شعب»، و»صورة صورة»، و»بالأحضان يا بلادنا بالأحضان». وأنشد أيضًا أغانى الحزن والصمود بعد 1967 مثل «عدّى النهار»، و«ابنك يقولك يا بطل»، و»أحلف بسماها وترابها». وأغانى البهجة والفرحة بعد 1973 مثل «عاش اللى قال للرجال عدوا القنال»، و«لفى البلاد يا صبية»، و«صباح الخير يا سينا». فى كل أغانيه، عبّر عن الطموح الوطنى والتفاؤل والأمل فى مستقبل أفضل لبلاده. ومن بين أغانيه، أتوقف أمام أغنية «أحلف بسماها وترابها» التى غناها بعد 1967، وهى من كلمات عبدالرحمن الأبنودى وألحان كمال الطويل. ففى الظروف الصعبة التى عاشتها مصر وقتذاك، مثّلت هذه الأغنية نموذجًا مثاليًا لكيف تتحول الأغنية إلى خطاب سياسى وطني، مشحون بالرمز والعاطفة والرسالة. فجاءت هذه الأغنية التى مجدت الوطن والأرض والشعب، فبدأت بالقسم «أحلف بسماها وترابها»، فكانت بمثابة يمين سياسى جماعى بسماء مصر وترابها، وهى أقدس ما يمكن استدعاؤه من قيم الانتماء وحب الوطن؛ فسماء الوطن وترابه رمزان يتجاوزان السياسة إلى ما هو أعمق فى الوجدان والروح. ثم يضيف على الفور «أحلف بدروبها وأبوابها... أحلف بالقمح وبالمصنع... أحلف بالمدنة وبالمدفع». وهكذا، تستحضر كل مكونات البناء الوطني، من طرق وزراعة وصناعة ودين وجيش. ويستكمل القسم بكلمات «بأولادى بأيامى الجاية... ما تغيب الشمس العربية طول ما أنا عايش فوق الدنيا»، التى تؤكد الإصرار والتصميم من ناحية، وربط مستقبل مصر بالشعوب العربية من ناحية أخرى. تفاعل المصريون بحماس منقطع النظير مع أداء عبدالحليم للأغنية، وكلماتها العامية البسيطة، ومضمونها المقاوم. فلم تكن مجرد أغنية وطنية، وإنما عنوان للرفض الشعبى للهزيمة، والمقاومة الوجدانية ضد الاحتلال، والإصرار على الصمود والعمل حتى تبقى الشمس العربية ساطعة ومشرقة. فكانت من أكثر الأغانى التى أعادت اللحمة النفسية بين عبدالحليم وجمهوره، الذى كان ينتظر رد فعله بعد أن غنّى سنوات لانتصارات الثورة وإنجازاتها، فوجدوا أن مطربهم المفضل لم يُكابر، فعبر عن الحزن فى عدّى النهار وعن حب الوطن والإرادة فى أحلف بسماها. أتوقف أيضًا أمام أغنية «لفى البلاد يا صبية» التى غناها بعد 1973 احتفالًا بالنصر، وهى من كلمات محسن الخياط وألحان محمد الموجي. الأغنية ذات طابع وطنى شعبي، تتسم كلماتها بالبساطة واستخدام العامية، ولحنها بالإيقاع الشعبى السريع. وهى ذات طابع رمزي، يختلط فيها المظهر الرومانسى بالعمق الوطني. يقول مطلع الأغنية «لفى البلاد يا صبية... لفى البلاد بلد بلد»، فالصبية هى رمز لمصر التى تجوب البلاد «بلد بلد» لكى تهنئ أبناءها بالنصر «باركى الولاد يا صبية... باركى الولاد... ولد ولد». وهى تباركهم لأنهم قد آتوا بمهرها الغالى «دا المهر غالي... وأهوم جابوه... لو نجم عالى فى السما راح يقصدوه... يا فرحتك ساعة ما ييجوا يقدموه». والمهر هنا هو رمز الانتصار، فيقول «ويغنوا للفجر اللى فى عنيكى اتولد... دا النصر مهرك... النصر مهرك والعريس ابن البلد.» تجمع هذه الكلمات فى مزيج خلاّق بين العاطفية والوطنية، وكأن مصر الصبية أصابها الحزن والألم مما حدث فى 1967، فأتى نصر 1973 بمثابة المهر الذى يعيد العروة الوثقى بين «الصبية وابن البلد»، أى بين الوطن والشعب. وتشير الأغنية إلى الشعب فى تمامه واكتماله، بكل طبقاته وفئاته، ويظهر هذا جليًّا فى تعبيرى «بلد بلد» و»ولد ولد». عبّرت هذه الكلمات عن الحالة النفسية والوجدانية للمصريين، الذين اعتصرهم الحزن والألم بعد 1967، وشاركوا فى الإعداد للمعركة، وتحملوا مشاقها، وابتهجوا بنصرها. وعبر كبار مبدعيها عن هذه الحالة، فوصف توفيق الحكيم النصر بأنه «عودة الروح»، ونجيب محفوظ بأنه «وثبة روحية تمتد فى المكان والزمان حتى تحقق الحضارة». وكما غنّى عبدالحليم حافظ للوطن وانتصر لقضاياه، غنّى للحب والشباب وتجدد الحياة، وعبّر عن نبض الإنسان العربى فى مرحلة حاسمة من تطوره، ولمست أغنياته شغاف قلبه ومختلف جوانب حياته. لذلك، يبقى فى وجدان الناس وجزءا من تاريخهم.

عبدالحليم حافظ أيقونة الأغنية الوطنية
عبدالحليم حافظ أيقونة الأغنية الوطنية

بوابة الأهرام

timeمنذ يوم واحد

  • بوابة الأهرام

عبدالحليم حافظ أيقونة الأغنية الوطنية

فارس هذا المقال هو عبدالحليم على إسماعيل شبانة، ابن قرية الحلوات بمحافظة الشرقية، الذى وُلِد لأسرة بسيطة الإمكانيات عام 1929، وفقد والديه فى العام الأول من مولده، وأصابه داء البلهارسيا الذى أنهك صحته طوال حياته. تعلَّم قواعد اللغة وتلاوة القرآن الكريم فى كُتّاب القرية، وغنّى فى صباه الأناشيد الدينية، ثم قَدِم إلى القاهرة والتحق بمعهد الموسيقى العربية. وغنّى لأول مرة فى حفل بثّته الإذاعة المصرية عام 1953، وهو فى الرابعة والعشرين من عمره. من كان يصدق وقتذاك أن هذا الشاب سوف يُحدِث ثورة فى عالم الغناء العربي، فقد اتسم بأداء انسيابى دون تكلف أو مبالغة، وبصوت عذب، وبتعبير مباشر عن الأفكار والعواطف، وبقدرته على التفاعل مع جمهوره فى الحفلات العامة بالقاهرة ومختلف العواصم العربية، وكذلك تفاعله مع قضايا مصر والوطن العربي. غيَّر اسمه إلى عبد الحليم حافظ تيمنًا بالإذاعى المرموق حافظ عبدالوهاب الذى تعهده بالرعاية. وارتبطت أجيال من الشباب والشابات بأغنياته، وهو المعنى الذى جسّدته باقتدار الفنانة ميرفت أمين أمام العملاق أحمد زكى فى فيلم زوجة رجل مهم الذى عُرض عام 1988. وبلغ الأمر أنه عند وفاته عام 1977 أقدمت بعض الفتيات على الانتحار عند سماع الخبر، وشهدت القاهرة واحدة من أضخم الجنازات فى تاريخها المعاصر وفاءً وتكريمًا له. ارتبطت أغانيه بكل فئات الشعب، فغنّى للفلاحين فى حقولهم، والعمال فى مصانعهم، والجنود المرابطين على خط النار، وللشباب أمل الغد. وتجاوب بصوته مع القضايا الوطنية والقومية، فغنّى لفلسطين «فدائي»، وللجزائر «قضبان حديد اتكسرت»، وللأحداث الكبرى كبناء السد العالى «قلنا هنبنى وآدى إحنا بنينا السد العالي»، ولوحدة الشعب «حكاية شعب»، و»صورة صورة»، و»بالأحضان يا بلادنا بالأحضان». وأنشد أيضًا أغانى الحزن والصمود بعد 1967 مثل «عدّى النهار»، و«ابنك يقولك يا بطل»، و»أحلف بسماها وترابها». وأغانى البهجة والفرحة بعد 1973 مثل «عاش اللى قال للرجال عدوا القنال»، و«لفى البلاد يا صبية»، و«صباح الخير يا سينا». فى كل أغانيه، عبّر عن الطموح الوطنى والتفاؤل والأمل فى مستقبل أفضل لبلاده. ومن بين أغانيه، أتوقف أمام أغنية «أحلف بسماها وترابها» التى غناها بعد 1967، وهى من كلمات عبدالرحمن الأبنودى وألحان كمال الطويل. ففى الظروف الصعبة التى عاشتها مصر وقتذاك، مثّلت هذه الأغنية نموذجًا مثاليًا لكيف تتحول الأغنية إلى خطاب سياسى وطني، مشحون بالرمز والعاطفة والرسالة. فجاءت هذه الأغنية التى مجدت الوطن والأرض والشعب، فبدأت بالقسم «أحلف بسماها وترابها»، فكانت بمثابة يمين سياسى جماعى بسماء مصر وترابها، وهى أقدس ما يمكن استدعاؤه من قيم الانتماء وحب الوطن؛ فسماء الوطن وترابه رمزان يتجاوزان السياسة إلى ما هو أعمق فى الوجدان والروح. ثم يضيف على الفور «أحلف بدروبها وأبوابها... أحلف بالقمح وبالمصنع... أحلف بالمدنة وبالمدفع». وهكذا، تستحضر كل مكونات البناء الوطني، من طرق وزراعة وصناعة ودين وجيش. ويستكمل القسم بكلمات «بأولادى بأيامى الجاية... ما تغيب الشمس العربية طول ما أنا عايش فوق الدنيا»، التى تؤكد الإصرار والتصميم من ناحية، وربط مستقبل مصر بالشعوب العربية من ناحية أخرى. تفاعل المصريون بحماس منقطع النظير مع أداء عبدالحليم للأغنية، وكلماتها العامية البسيطة، ومضمونها المقاوم. فلم تكن مجرد أغنية وطنية، وإنما عنوان للرفض الشعبى للهزيمة، والمقاومة الوجدانية ضد الاحتلال، والإصرار على الصمود والعمل حتى تبقى الشمس العربية ساطعة ومشرقة. فكانت من أكثر الأغانى التى أعادت اللحمة النفسية بين عبدالحليم وجمهوره، الذى كان ينتظر رد فعله بعد أن غنّى سنوات لانتصارات الثورة وإنجازاتها، فوجدوا أن مطربهم المفضل لم يُكابر، فعبر عن الحزن فى عدّى النهار وعن حب الوطن والإرادة فى أحلف بسماها. أتوقف أيضًا أمام أغنية «لفى البلاد يا صبية» التى غناها بعد 1973 احتفالًا بالنصر، وهى من كلمات محسن الخياط وألحان محمد الموجي. الأغنية ذات طابع وطنى شعبي، تتسم كلماتها بالبساطة واستخدام العامية، ولحنها بالإيقاع الشعبى السريع. وهى ذات طابع رمزي، يختلط فيها المظهر الرومانسى بالعمق الوطني. يقول مطلع الأغنية «لفى البلاد يا صبية... لفى البلاد بلد بلد»، فالصبية هى رمز لمصر التى تجوب البلاد «بلد بلد» لكى تهنئ أبناءها بالنصر «باركى الولاد يا صبية... باركى الولاد... ولد ولد». وهى تباركهم لأنهم قد آتوا بمهرها الغالى «دا المهر غالي... وأهوم جابوه... لو نجم عالى فى السما راح يقصدوه... يا فرحتك ساعة ما ييجوا يقدموه». والمهر هنا هو رمز الانتصار، فيقول «ويغنوا للفجر اللى فى عنيكى اتولد... دا النصر مهرك... النصر مهرك والعريس ابن البلد.» تجمع هذه الكلمات فى مزيج خلاّق بين العاطفية والوطنية، وكأن مصر الصبية أصابها الحزن والألم مما حدث فى 1967، فأتى نصر 1973 بمثابة المهر الذى يعيد العروة الوثقى بين «الصبية وابن البلد»، أى بين الوطن والشعب. وتشير الأغنية إلى الشعب فى تمامه واكتماله، بكل طبقاته وفئاته، ويظهر هذا جليًّا فى تعبيرى «بلد بلد» و»ولد ولد». عبّرت هذه الكلمات عن الحالة النفسية والوجدانية للمصريين، الذين اعتصرهم الحزن والألم بعد 1967، وشاركوا فى الإعداد للمعركة، وتحملوا مشاقها، وابتهجوا بنصرها. وعبر كبار مبدعيها عن هذه الحالة، فوصف توفيق الحكيم النصر بأنه «عودة الروح»، ونجيب محفوظ بأنه «وثبة روحية تمتد فى المكان والزمان حتى تحقق الحضارة». وكما غنّى عبدالحليم حافظ للوطن وانتصر لقضاياه، غنّى للحب والشباب وتجدد الحياة، وعبّر عن نبض الإنسان العربى فى مرحلة حاسمة من تطوره، ولمست أغنياته شغاف قلبه ومختلف جوانب حياته. لذلك، يبقى فى وجدان الناس وجزءا من تاريخهم.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store