
موريتانيا: النمو المتسارع أم الانتحار المتسارع..!
تصاعد نزيف واردات موريتانيا من المواد الغذائية حتى تجاوز بكثير مداخيل الخزينة العامة من جميع ثروات البلاد بمختلف أنواعها...!
فما الذي أوصل قطاعنا الزراعي إلى هذا المستوى الكارثي من الفشل في تلبية احتياجاتنا الغذائية حتى إنه لا يلبي منها إلا نحو 30% حسب ما ورد في تقرير لصندوق الأمم المتحدة للتنمية الزراعية صدر سنة 2021؟ ولماذا تحولت موريتانيا من أول دولة عرفت الزراعة في إفريقيا، أو على الأقل في غرب إفريقيا، قبل نحو 5000 سنة، كما يقول علماء الحفريات، من خلال منطقة تيشيت، إلى تذيل دول غرب إفريقيا في هذا المجال؟ وهل إلى حل من سبيل؟
تقول الأرقام الرسمية لمكتب الإحصاء الحكومي إن مداخيل الخزينة العامة لسنة 2023، من جميع ثروات البلاد، من سمك وذهب وحديد ونحاس ونفط، ومن أصول الدولة كالبنك المركزي ومطاري انواكشوط وانواذيبوا، بلغت 292,23 مليار أوقية قديمة مثلت نحو 34% من المداخيل العامة، بينما مثلت العائدات من الضرائب 60,4% والباقي هبات.
هذا في حين بلغت فاتورة الواردات الغذائية في السنة ذاتها 379 مليار أوقية قديمة حسب أرقام المكتب الحكومي نفسه.
وهذا ما يعني أن مداخيل البلاد من جميع ثرواتها وأصولها لا تغطي إلا نحو 77% من فاتورة وارداتها الغذائية السنوية، وأن علينا استكمال نحو ربع الفاتورة بالقروض الخارجية...!
فهل هذا وضع رشيد لدولة فقيرة تزداد معاناتها من عبء مديونيتها المتصاعدة وتعاني من حين لآخر من أزمة في تأمين العملة الصعبة لوارداتها الخارجية؟
إن تحليل أرقام الميزانية الوطنية يشي بغياب الإدارة السياسية الجادة لوضع حد لهذا الخلل التنموي الخطير، برغم الأحاديث الرسمية عن أولوية قطاع الزراعة والحرص على تأمين السيادة الغذائية.
فالزراعة ظلت دائما القطاع الفقير الذي لا يصرف له إلا زكاة الميزانية كما هو الحال في الميزانية الماضية المعدلة لسنة 2024، التي لا يتجاوز نصيبه فيها 2,5% مقابل أكثر من 10% للجيش.
وهذا عكس التزامات موريتانيا في إحدى القمم الإفريقية سنة 2010 وهي التزامات قضت بتخصيص الدول الإفريقية 10% على الأقل من ميزانياتها للزراعة.
وهذا الشح في التمويل الزراعي رمى بالبلاد في ذيل دول المنطقة حيث لا يتجاوز إنتاج موريتانيا من الحبوب في الموسم الزراعي الأخير 5،6% من إنتاج مالي و13% من إنتاج السنغال و 0،7% من مجموع إنتاج غرب إفريقيا كما يبين الجدول التالي:
إنتاج موريتانيا ومالي والسنغال ومجموع دول غرب إفريقيا من الحبوبي في الموسم الزراعي 2023-2024
(الوحدة الحسابية مليون طن)
الدولة
الإنتاج السنوي
نسبة إنتاج موريتانيا إلى كل طرف
موريتانيا
0،56
مالي
9،9
5،6%
السنغال
4،25
13%
غرب إفريقيا
76،5
0،7%
أما جارتانا الشماليتان فقفزتهما الزراعية أكبر، وأكثر تنوعا من أن تقاس بإنتاج الحبوب وحدها.
فقد بلغت قيمة الإنتاج الزراعي الجزائري 2022 نحو 35 مليار دولار، بينما ينفذ المغرب حاليا خطة للوصول بقيمة إنتاجه الزراعي إلى نحو 26،5 مليار دولار قبل حلول 2030.
وهذا التأخر الفادح في الإنتاج الزراعي عن ركب جيراننا، الأغنياء منهم والفقراء على حد سواء، مرده إلى تأخرنا الفادح عنهم في الصرف على القطاع الزراعي حيث لا تتجاوز ميزانية موريتانيا للزراعة للعام الماضي (2024) نسبة 18،7% من ميزانية ا لزراعة في مالي، و 33،4 من ميزانية الزراعة في السنغال و 3،7 و 1.3% من ميزانيتي الزراعة، على التوالي في المغرب والجزائر كما هو واضح من الجدول التالي:
ميزانيات الزراعة في موريتانيا ودول الجوار لسنة 2023
(الوحدة الحسابية مليار أوقية قديمة)
الدولة
ميزانية الزراعة 2023
نسبة ميزانية الزراعة في موريتانيا إلى ميزانية الزراعة في كل دولة
موريتانيا
27،4 مليار أوقية قديمة
النسغال
146 مليار أوقية قديمة
(219،4 مليار افرنك غرب إفريقي)
18،7%
مالي
82 مليار أوقية قديمة
(123،5 مليار سيفا)
33،4%
المغرب
734،4 مليار أوقية قديمة
(18 مليار درهم مغربي)
3،7%
الجزائر
2007 مليار أوقية قديمة (661 مليار دينار جزائري)
1،3%
وشح حكومات موريتانيا في تعاملها مع الزراعة لا يتجلى فقط في الميزانيات الهزيلة لوزارة الزراعة، وإنما يظهر بصفة أكبر في الانعدام شبه الكامل للقروض الزراعية كما يبين الجدول التالي:
القروض الزراعية في موريتانيا ودول الجوار
(الوحدة الحسابية مليار أوقية قديمة)
الدولة
حجم القروض الفلاحية السنوية
الفائدة السنوية
المدى الزمني
نسبة القروض الزراعية الموريتانية إلى القروض الزراعية لكل دولة
القرض الزراعي الموريتاني
0،74
(2017)
12%
القصير فقط
البنك الزراعي السنغالي
187،29
(288،14 مليار سيفا)
موسم22-2023
7%
القصير والمتوسط والطويل
0،39%
البنك الوطني للتنمية الزراعية في مالي
156(240 مليار سيفا) سنويا
الفائدة من 8 إلى10%
القصير والمتوسط والطويل
0،47%
البنك الجزائري للفلاحة والتنمية الريفية
1801
(586،4 مليار دينار جزائري)
سنة 2023
من سنة إلى 5 سنوات 0%
القصير والمتوسط والطويل
0،04%
القرض الفلاحي للمغرب
4633
(113 مليار درهم مغربي)2023
5%
القصير والمتوسط والطويل
0،01%
ويعني غياب القروض المتوسطة والطويلة المدى في موريتانيا عدم تمكن المزارعين من اقتناء المعدات الزراعية وأنظمة الري الحديثة. وعدم تمكنهم من إجراء الاستصلاحات المناسبة مما يحد من الإنتاجية.
هذا مع ملاحظة أنني لم أعثر في الانترنت على أية بيانات عن حجم القروض التي قدمها القرض الزراعي الموريتاني للمزارعين خلال السنوات السبع الأخيرة.
وقد طلبت من عدة زملاء التواصل مع موظفي القرض للحصول على البيانات المحدثة، لكن جميع الموظفين الذين تواصل معهم هؤلاء الزملاء اعتذروا "لأن البيانات لا يسمح بالكشف عنها إلا بإذن خاص من المدير".
والسبب في تحول القرض الزراعي في سريته إلى ما يشبه مقر الكاجيبى هو أن مبالغ القروض الزراعية تدهورت بشكل حاد، حتى صار الناس يتندرون بأن عدد موظفي القرض - على قلتهم – يفوقون عدد مراجعيه. وهذا وضع محرج للقرض وللحكومة التي تدعي إعطاء الأولوية للزراعة.
هذا بينما يقول مدير عمليات البنك الدولي في مالي، إن ثلثي التمويل في القطاع الزراعي بمالي مصدره الدولة.
ولايقل حرج موقف موريتانيا، عند مقارنتها بجاراتها من حيث إنتاج الحبوب وميزانيات الزراعة، وحجم القروض الزراعية، عن حرج موقفها عند المقارنة مع جاراتها من حيث مستوى الدعم المقدم للزراعة. والمقصود بالدعم المبالغ التي تدفعها الحكومات من تكلفة الزراعة حتى تصبح عملية الإنتاج الزراعي مشجعة، أو على الأقل مجدية اقتصاديا للمزارعين.
وإذا كانت حكومة السنغال سلمت لمزارعيها، فقط في عهد ماكي صال 2700 جرار مدعوم لا يدفع من ثمنها المزارع إلا نحو 3.000.000 أوقية قديمة، فإن ببكر كيتا سلم لمزارعي مالي، في عام واحد، 1000 جرار مدعوم دفعت الدولة نصف ثمنها عن المزارعين، معلنا أن ذهب مالي الذي تعول عليه هو الذهب الأخضر، أي الزراعة، وليس الذهب الأصفر الذي تحتل المكانة الرابعة في إنتاجه على مستوى إفريقيا.
والغريب أن الحكومة الموريتانية ظلت تفرض رسوما جمركية تصل إلى 26% على الأسمدة الزراعية، ولم تخففها إلا في العام الماضي حيث أنزلتها إلى 3%.
وما زال المزارعون يدفعون ضرائب عالية على المحروقات ومع ذلك تقول الحكومة أنها تدعم الأسمدة الزراعية بما يتراوح بين 37 و50% ، لكن الفساد الذي يصاحب الصفقات العمومية في بلادنا يرفع التكلفة ويمتص الدعم الحكومي كله، أو جله على الأقل .
ومع عدم توفر بيانات على الانترنت عن مبالغ الدعم الحكومي على الأسمدة، سنعتمد تصريحا لوزير الزراعة يقول إن هذا الدعم بلغ خلال الحملة الأولى من موسم 2021-2022 4،74 مليار أوقية، وهو ما يعني 9،48 مليار سنويا إذا ما وضعنا في الاعتبار الدعم في الحملة الثانية. هذا بينما بلغ الدعم الحكومي السنغالي على المدخلات الزراعية وحدها 120 مليار افرنك سيفا (78 مليار أوقية قديمة) وذلك في الموسم الماضي 2023-2024.
أما مالي فبلغ الدعم على المدخلات فيها 43 مليار افرنك سيفا ( نحو 28 مليار أوقية قدمية) وذلك في ميزانية 2020.
وفي ميزانية الجزائر الماضية (2024) تم رصد 172 مليار دينار جزائري(514 مليار أوقية قديمة) لدعم الشعب الزراعية ذات الأهمية الاستراتيجية ، بينما رصد المغرب 4 مليارات درهم (164 مليار أوقية قديمة) لدعم سلاسل الإنتاج.
هذا عن الدعم الزراعي، أما عن التأمين الزراعي فإن موريتانيا هي الدولة الوحيدة من بين جميع جيرانها التي لا يتوفر فيها أي تأمين زراعي يحمي المزارع من الكوارث.
ولنكتف، إيثارا للإيجاز، بمثال السنغال حيث تتولى (CNAAS) وهي شركة بين القطاعين العام والخاص التأمين الزراعي ضد الجفاف والحرائق وموجات الحر والفيضانات والامطار الغزيرة وغزو الجراد وحتى نفوق الحيوانات.
وتتولى الدولة نصف الرسوم المطلوب دفعها من قبل المزارعين.
وقد دفعت هذه المؤسسة سنة2022 1،5 مليار سيفا تعويضا عن الاضرار التي لحقت بالمزارعين في تلك السنة.
ويبلغ عدد المؤمنين في الشركة 612529 شخصا.
وخلاصة القول أن زراعتنا إلى المقارنة مع زراعة الهنود الحمر في حضارة المايا قبل أكثر من 2000 سنة، اقرب منها إلى المقارنة بالزراعة في دول الجوار. وأننا نهدم دولتنا بأيدينا وأيدي الموردين، لأننا نقوم بالزراعة خارج التاريخ.
(للمقارنة بين زراعتنا وزراعة الهنود الحمر يمكن أن تراجع على كوكل مقالنا: موريتانيا الزراعة على طريقة الهنود الحمر).

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الصحراء
منذ 13 ساعات
- الصحراء
مصرف ليبيا المركزي يستأنف بيع الدولار للشركات والأفراد
أعلن مصرف ليبيا المركزي استئناف بيع النقد الأجنبي عبر منصة حجز العملة للأفراد اعتبارًا من يوم الأحد المقبل 25 مايو 2025. كما أعلن المصرف المركزي عن إعادة قبول طلبات فتح الاعتمادات المستندية ابتداءً من الأحد المقبل أيضًا. وقال مصرف ليبيا المركزي، إنه سيعقد غدًا اجتماعًا مع المصارف التجارية لإعداد خطة توزيع السيولة النقدية وتعزيز خدمات الدفع الإلكتروني، وفق وكالة الأنباء الليبية. وخلال شهر أبريل الماضي، أعلن مصرف ليبيا المركزي تخفيض سعر صرف الدينار الليبي مقابل العملات الأجنبية بنسبة 13.3%. وجرى بموجب هذا الإعلان تعديل قيمة الدينار الليبي من 0.1555 وحدة سحب خاصة لكل دينار ليبي إلى 0.1349 وحدة سحب خاصة، لتصبح قيمة الدينار 5.5677 لكل دولار أميركي. وكان محافظ مصرف ليبيا المركزي، ناجي عيسى، قد قال إن المصرف سيضطر لاتخاذ إجراءات حازمة من بينها إعادة النظر في سعر صرف الدينار الليبي بما يكفل خلق توازنات اقتصادية. نقلا عن العربية نت


الصحراء
منذ 13 ساعات
- الصحراء
زيارة ترمب بداية عهد جديد بين السعودية وأميركا
شكّلت زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب للمملكة العربية السعودية الأسبوع الماضي، تحولاً حاسماً واستراتيجياً للعلاقات السعودية - الأميركية، إذ أثمرت نتائج فاقت التوقعات. فخلال الزيارة وُقّعت مجموعة من الاتفاقيات الكبرى عكست توافقاً استثنائياً لمصالح البلدين، وأكّدت مكانة المملكة الرفيعة في القيادة الإقليمية. وكانت لإشادة ترمب اللافتة بولي العهد محمد بن سلمان وثنائه على برنامج الإصلاحات في المملكة، وتأييده غير المشروط لسياسة المملكة تجاه القضايا الإقليمية مثل العراق وسوريا، وكذلك قضية التعاون الأمني دلالة على تحول واضح في الحسابات الاستراتيجية الأميركية. وليست نتائج الزيارة في صالح أولويات المملكة فحسب، بل تجاوزتها، مما يمهد لعهد سعودي جديد من النفوذ والاستثمار والتواصل الدبلوماسي. كما أعرب ترمب عن دعمه المطلق لولي العهد، وأثنى على قيادة المملكة الإقليمية، وأكّد توافق المواقف الأميركية مع المملكة تجاه القضايا المتعلقة بالدفاع والاستثمار وقضية إيران وسوريا وأمن الخليج. وأثمرت الزيارة توقيع استثمارات سعودية بقيمة 600 مليار دولار في مختلف القطاعات الأميركية، مثل الطاقة والمعادن الحيوية والبنية التحتية والتقنية المتقدمة. وأصبحت هذه الاستثمارات - التي سبق الاتفاق المبدئي عليها - قيد التنفيذ، مما يعزز الترابط الاقتصادي، وفي الوقت نفسه يخدم ذلك أهداف التنويع الاقتصادي في إطار «رؤية المملكة 2030». وستستفيد الشركات الأميركية من تدفق رأس المال، ومن الشراكات الصناعية ومشاريع الابتكار المشتركة. كما أكّد حضور عدد من الرؤساء التنفيذيين الأميركيين، مثل إيلون ماسك وجين - سون هوانغ، ولاري فينك، في «المنتدى السعودي - الأميركي للاستثمار» الذي عُقد خلال زيارة ترمب، تنامي ثقة القطاع الخاص الأميركي في مسار المملكة الاقتصادي. ووُقّعت أيضاً اتفاقيات في قطاعات، مثل الطاقة النظيفة والذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية والخدمات اللوجيستية والتصنيع المستدام، مما يعزّز الدور القيادي الأميركي بمجال التقنية في خطط المملكة التنموية. وفي مجال الدفاع، وُقّع اتفاق تسليح بقيمة 142 مليار دولار، وهو حجر أساس لأجندة استراتيجية جديدة، إذ يمنح المملكة قدرات متقدمة في الدفاع الجوي والصاروخي، ومنظومة المسيّرات والأمن السيبراني والتصنيع المحلي للأسلحة. وكل ذلك يصب في تعزيز قدرات الردع والجاهزية العملياتية للمملكة، وهي حاجة مُلحّة في ظل تصاعد التهديدات الإقليمية، واستمرار النزاعات في المنطقة. ويُمثّل هذا الاتفاق من دون شك تجديداً للثقة الأميركية في مكانة المملكة بصفتها ركيزة لأمن الخليج، وبالمثل فإن تأكيدات ترمب حول التعاون العسكري الأميركي، وتبادل المعلومات الاستخباراتية، واستعداد واشنطن لحماية حلفائها في الخليج، تعيد الثقة التي اهتزت خلال فترات الإدارات الأميركية السابقة. كما أكّدت الزيارة توافق وجهات النظر الأميركية - السعودية بشأن إيران، إذ تحدث ترمب عن المخاوف السعودية، وأوضح أن أمام طهران مسارين: إعادة الاندماج في المنطقة من خلال تغيير سلوكها، أو استمرار سياستها وعزلتها الدولية. وأكد ترمب في خطابه خلال القمة الخليجية - الأميركية على التباين بين سياسة الإصلاح التي تتبناها وتقودها المملكة وبين سياسات إيران في المنطقة، مما أعطى دلالة واضحة على التقارب الاستراتيجي. وتواصل الولايات المتحدة فرض الضغوط على برنامجي إيران النووي والصاروخي، وعلى وكلائها الإقليميين، أما المملكة فقد تبنت سياسة متوازنة تجمع بين القنوات الدبلوماسية التي فتحها الاتفاق مع إيران بوساطة صينية، وبين خط ردع متين يستند إلى علاقاتها الدفاعية مع الولايات المتحدة. وترسل القمة الأخيرة رسالة مفادها أنّ إطاراً أمنياً خليجياً جديداً قيد التشكل، يقوم على عزم الإرادة السعودية، وتجدد الدعم الأميركي. وكان أبرز ثمار الزيارة هو تحول الموقف الأميركي تجاه سوريا، إذ جمع ولي العهد ترمب بالرئيس السوري الجديد أحمد الشرع في جلسة غير رسمية، وشكّل ذلك تأييداً فعلياً لجهود التطبيع مع سوريا التي تقودها الدول العربية. وأسفر الاجتماع عن رفع العقوبات الاقتصادية عن سوريا، وإفساح المجال للدول الإقليمية للمساعدة في مسألة الانتقال السياسي السوري، بما يعني إقراراً ضمنياً من واشنطن بدور الرياض المحوري في دبلوماسية الأزمات. ولهذا الدور القيادي ما يبرره، إذ شكّلت الرياض الإجماع على دعم سوريا في الجامعة العربية، وأعطت الأولوية لإعادة الإعمار، والاستقرار والاندماج التدريجي في المؤسسات الإقليمية. ويؤكد ذلك على الدور السعودي المتنامي في قضايا الوساطة الدبلوماسية، والقدرة على الموازنة بين التوافق العربي والتوجهات الدولية. وفيما يخص القضية الفلسطينية، فقد أيّد ترمب جهود السلام، ولم يربط إقامة دولة فلسطينية أو العلاقات الاستراتيجية مع دول الخليج بالتطبيع مع إسرائيل، وقال إن التطبيع مسألة تقررها دول المنطقة بنفسها، سواء المملكة العربية السعودية أو سوريا، في التوقيت المناسب لها. كما أكد قادة دول الخليج، خلال القمة الخليجية - الأميركية، وولي العهد على الخصوص، على مركزية حل الدولتين في الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني، على أساس حدود 1967، وهو ما تنص عليه مبادرة السلام العربية التي قدمتها المملكة عام 2002. وأيضاً، فإن غموض سياسة ترمب تجاه تسوية السلام في الشرق الأوسط يمنح المملكة هامشاً استراتيجياً، ويتيح لها فرصة إعادة التأكيد على موقفها الثابت تجاه حقوق الفلسطينيين؛ وفقاً لمبادرة السلام العربية، وفرصة النظر في التطبيع وفق وتيرة تحددها هي، بعيداً عن أي تدخل خارجي، أو ربط ذلك بمفاوضات السلام النهائية. وهذا النهج يعزز المرونة الدبلوماسية السعودية، ويرسخ مكانة المملكة بصفتها قوة قيادية مستقلة وموثوقة في جهود السلام الإقليمية. وإذا ما نظرنا إلى ثمار الزيارة بشمولية، فإنها تشير إلى توافق عام في السياسات الأميركية - السعودية، وابتعاد العلاقة بين البلدين من الارتكاز على روابط الطاقة والدفاع التقليدية إلى شراكة استراتيجية شاملة تشمل الاستثمار والدبلوماسية الإقليمية والتنسيق الأمني؛ إذ تتولى الرياض القيادة في كثير من المبادرات الإقليمية، فيما تُعيد الولايات المتحدة تشكيل صورتها ودورها بوصفها شريكاً داعماً وموثوقاً. ويتضح هذا التحول في التصريحات الثنائية، وكذلك في خطاب ترمب ورمزية زيارته، سواء في تصريحاته في «منتدى الاستثمار»، أو في التنسيق المدروس للقمة. وكذلك يتضح التحول في تأكيد ترمب تضامن الولايات المتحدة مع دول الخليج العربي خلال زيارته للدوحة وأبوظبي بعد الرياض، وفي الاتفاقيات التي وقّعها هناك. وعلى مر العقود صمدت الشراكة السعودية - الأميركية أمام تحديات كثيرة، بدءاً من الحرب الباردة، وأزمات النفط والإرهاب، وصولاً إلى التوترات الدبلوماسية. وفي مشهد يكرر ولايته الأولى، فإن زيارة ترمب الأخيرة للرياض تعكس متانة هذا التحالف، وتمثل تصحيحاً لسياسة الانسحاب الأميركية السابقة من الشرق الأوسط. ولا يشير دعم ترمب الواضح لـ«رؤية المملكة 2030»، وسياساتها المتعلقة بالإصلاح الاجتماعي، وكذلك سياساتها الإقليمية، سوى إلى التحول الكبير في المملكة من السياسة المحافظة القائمة على النفط إلى كونها لاعباً ديناميكياً متعدد العلاقات الدولية. ويرسل تأكيد البيت الأبيض على الدور القيادي للمملكة رسالة عامة مفادها أنه لا غنى عن المملكة بسياستها الإصلاحية والموثوقة في تحقيق الاستقرار الإقليمي والدولي. فلطالما أكدت السياسة الخارجية السعودية على التوازن والتنويع، إذ عززت المملكة علاقاتها بالصين، وعمّقت علاقاتها النفطية والاستثمارية مع الهند، وعملت مع روسيا في مسألة تنسيق سياسات «أوبك بلس»، وكل ذلك مع محافظتها على شراكتها الأساسية مع واشنطن. وليس هذا التعدد الاستراتيجي في العلاقات رفضاً سعودياً للقيادة الأميركية، بل هو انعكاس للاستقلالية المتنامية للمملكة. وتشجيع ترمب لهذا النهج المرن، بدلاً من النظر إليه كأنه تهديد، هو تأكيد براغماتي على ضرورة إدارة التحالفات في عالم متعدد الأقطاب. ورغم استمرار بعض الخلافات، خصوصاً بشأن أسعار النفط وتدفق العملات والتوجهات الدولية، فإنها تظل قابلة للإدارة ضمن إطار التعاون الجديد، إذ تربط البلدين الآن مصالح جوهرية أكثر من أي وقت، تتمثل في قيادة مشتركة لضمان الاستقرار الإقليمي، ومكافحة الإرهاب، والتعاون السيبراني، والتوافق الاقتصادي بعيد الأمد. كما أن الاستثمار السعودي في قطاعي البنية التحتية والتقنية الأميركيين يقدم عوائد ملموسة للعمال والشركات هناك، بينما تسهم الخبرات الأميركية في تسريع تجاوز المملكة للاقتصاد النفطي. وفي الفترة المقبلة، تتطلع الرياض إلى اتساق استراتيجي واستمرارية مؤسسية من واشنطن، وفي المقابل فإنها تقدم رأس المال والقيادة الإقليمية، والتزاماً مشتركاً بالأمن والابتكار. وفي حال استمرار الطرفين على هذا المسار، فإن زيارة ترمب ستُخلد ذكرى دخول العلاقات السعودية - الأميركية عهداً جديداً، بعيداً عن التبعية أو الاعتمادية، يقوم على الاحترام المتبادل، والرؤى المشتركة، والمسؤولية المشتركة حول مستقبل الشرق الأوسط وما بعده. نقلا عن الشرق الأوسط


جوهرة FM
منذ 14 ساعات
- جوهرة FM
الدوحة تُهدي ترامب طائرة فخمة: رئيس الوزراء القطري يُعلق
أثار خبر الهدية التي قدّمتها قطر للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والمتمثلة في طائرة بوينغ 747-8 تبلغ قيمتها 400 مليون دولار، جدلا كبيرا. وصرّحت كارولين ليفيت، المتحدثة باسم البيت الأبيض، أمس الاثنين، أن الطائرة القطرية الفاخرة المثيرة للجدل التي أعلن الرئيس دونالد ترامب اعتزامه قبولها هي "مشروع القوات الجوية" وأن ترامب "لا علاقة له بها". وقالت ليفيت: "لنكن واضحين تمامًا، حكومة قطر، والعائلة القطرية، عرضت التبرع بهذه الطائرة للقوات الجوية الأمريكية، وسيتم قبول هذا التبرع وفقًا لجميع الالتزامات القانونية والأخلاقية.. سيتم تحديثها وفقًا لأعلى المعايير من قِبل وزارة الدفاع والقوات الجوية الأمريكية - هذه الطائرة ليست تبرعًا شخصيًا أو هدية لرئيس الولايات المتحدة، وعلى كل من كتب ذلك الأسبوع الماضي تصحيح أخباره، لأن هذا تبرع لبلدنا وللقوات الجوية الأمريكية". من جهته، اعتبر رئيس وزراء قطر الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني أن تقديم الدوحة طائرة "بوينغ 747-8" هدية للرئيس الأمريكي دونالد ترامب "أمر طبيعي يحدث بين الحلفاء". وأضاف خلال منتدى اقتصادي عقد في الدوحة، الثلاثاء: "عندما يتعلق الأمر باتهامات سابقة بالرشوة فإنه لا يوجد دليل على ارتكاب قطر أي خطأ". وتابع الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني: "آمل أن تنظر الولايات المتحدة إلى قطر باعتبارها شريكا موثوقا في الدبلوماسية لا يحاول شراء النفوذ".