
مراسل الجزيرة نت: في غزة نجونا من القصف فهل ننجو من الجوع؟
يجتمع على الآباء خوفا الحرب والجوع، ففي كل يوم يعتقدون فيه أنهم نجوا من الموت بالصواريخ والقذائف يزداد قلقهم من الموت جوعا، بعدما قرر الاحتلال الإبقاء على أمعاء الصغار والكبار والمرضى خاوية دون أن يسد رمقهم.
في غزة لا أحد بعيد عن مضاعفات التجويع القاتل، ففي حين انتزع سوء التغذية حياة 620 فلسطينيا من بينهم 69 طفلا، يخشى الجميع أن يكونوا الرقم القادم في سجل الموت جوعا المفتوح على مصراعيه في مستشفيات القطاع.
في دوامة من الحيرة اليومية، يقضي كاتب هذه السطور مراسل الجزيرة نت -كغيره- ساعات طويلة متنقلا بين الأسواق عله يظفر بالقليل من الطعام رغم أسعاره التي لا تجد مكانا لها في مصطلحات قاموس الغلاء الفاحش التي يتداولها الاقتصاديون، لكنها أصبحت واقعا يكوي أكثر من مليوني فلسطيني، دفعتهم الحرب جميعا إلى العيش تحت خط الفقر.
ومنذ أن أغلقت إسرائيل معابر غزة بإحكام منذ مطلع مارس/آذار الماضي، تحوّلت رحلة البحث عن الطعام إلى معركة خاسرة مع الأسواق الفارغة التي تخلو من الدقيق والخضار والفواكه والحليب واللحوم والدواجن، حتى أصبح العثور على البقوليات والطعام المعلّب مهمة تستنزف الوقت والجهد، وتستدعي تنقل الجسد الهزيل من سوق لآخر علّي أعود بما أحمله لأطفالي الذين ينتظرون العودة بشيء يسد الرمق.
لم يعد أحد يستغرب من مشاهد الإغماء المفاجئ المتكررة للمارة في الأسواق والشوارع، حيث يعلم الجميع السبب، إنهم قضوا أياما دون طعام، ومع ذلك يهرعون للمساعدة بحثا عن ملعقة سكر واحدة كي يستفيقوا، وفي معظم الأحيان تفشل مهمتهم في توفير هذه المادة المفقودة.
كانت الساعة الثانية فجرا عندما طرق أحد الجيران باب بيتي، يتحدث بصوت ملهوف: أحتاج ملعقة سكر واحدة فقط، احترق السكر لدى والدتي المريضة، ستموت إذا لم تحصل عليه.
فشلت محاولات الرجل توفير ملعقة واحدة رغم أنه دار ليلا على أكثر من منزل، لأنه لم يعد متوفرا في غزة، ووصل سعر الكيلو الواحد منه إلى 100 دولار، ولحسن الحظ وجدتُ القليل من العسل الذي كنت أحتفظ به لأوقات طارئة، وكانت كفيلة بإنقاذ حياة المسنة.
إرهاق جماعي
يرهق نقص الغذاء أجساد الجميع الذين فقدوا أوزانهم بشكل ملحوظ، وتوقف نمو الأطفال الذين يقضون أيامهم بلا حليب ولا بيض ولا لحوم، وانهارت مناعة كبار السن الذين ازدادت أمراضهم.
كأب لـ4 أطفال، آخرهم توأمان في سن الثالثة، قضيا أكثر من نصف عمرهما في حرب لا تنتهي، ولا يعرفان طعم الفواكه ولا أسماءها، ولم يحظيا منذ نحو عامين بوجبة ساخنة متكاملة، ويعذبهما الاحتلال في جريمة تجويع لا ترحم أحدا.
في أحد الأيام بعد التجويع الأول في شمال غزة، حصلنا على موزة واحدة بعد أشهر من الانقطاع، حينها أصابت الدهشة طفلتي سارة التي لا تعرف أنها تؤكل، ولكن ما أن تذوقتها حتى التهمتها بقشورها، طالبة المزيد وهو ما لم يكن متاحا.
"بابا بدي جاجة"، يردد توأمها عمرو الذي يتذكر مذاق الدجاج منذ التهدئة التي انعقدت في يناير/كانون الثاني الماضي، لكن تفشل مهمتي في توفيرها أو إقناعه بأسباب ذلك، حيث يرافقني بجولة يومية على الدراجة الهوائية في الأسواق، مع قائمة من متطلباته، التي غالبا ما نعود دون تلبيتها.
لا تتمكن جميع الأسر في غزة من تأمين أكثر من وجبتين بسيطتين تقنن فيهما الخبز -إن وُجد- وتقتسم المتاح منه على عدد أفرادها، وفي معظم الأحيان يغلب النعاس الصغار دون طعام. ورغم أن سكان شمال القطاع لجؤوا عندما اشتد عليهم التجويع في أوقات سابقة من الحرب إلى طحن أعلاف الحيوانات كبديل عن الدقيق، لكنها غابت هي أيضا هذه المرة.
وأفرز التجويع مشاهد مؤلمة جديدة لم تكن مألوفة في غزة، حيث دفعت الحاجة عددا من الأطفال المجوّعين لأن يدوروا على المنازل طلبا لقطعة من الخبز أو ما توفر من طعام لدى العائلات، وبعد عدة محاولات يعودون خالي الوفاض، لأن بيوت القطاع جميعها باتت جائعة.
سخرية وألم
تمتزج السخرية من الواقع بالألم عندما يقارن الغزيون أوزانهم بين ما كانت عليه قبل الحرب، وما وصلت إليه مع اشتداد التجويع، الجميع فقد ما لا يقل عن 10 كيلوغرامات من أوزانهم، وبعضهم فاق 30 كيلوغراما، وآخرون فقدوا نصف أوزانهم، فتغيرت أشكالهم وبدت ملابسهم الواسعة مخصصة لاثنين منهم.
في غزة ضاقت الحياة بالسكان الذين اضطر معظمهم للذهاب إلى مصايد الموت التي خصصها جيش الاحتلال، حيث تستمع هناك إلى حكايا كأنها منسوجة من وحي الخيال، يلخصها اضطرار مدرس لغة عربية تجاوز الـ50 من عمره الذهاب إلى شمال غرب مدينة غزة حيث يتوقع أن تدخل المساعدات من مستوطنة " زيكيم"، وهو يتمنى أن يحصل على شوال من الدقيق.
لم تسعفه حالته الصحية أن يركض سريعا بين الزحام أو الصعود على الشاحنات التي وصلت مسرعة، وغلبته الدموع وهو يتمنى أن يعود لأبنائه بالدقيق الذي لم يتذوقوه منذ أيام.
فجأة سمع صوتا يعتلي الشاحنة ينادي "يا أستاذ، يا أستاذ، خذ هي كيس"، حينها انهمرت المزيد من الدموع على وجه المدرس المجوع الذي وجد أحد طلابه المجوعين، يعرّض حياته للموت لأجل لقمة العيش بعدما كان يفترض بهم جميعا أن يكونوا داخل أسوار المدرسة.
هنا في غزة، يعيش الفلسطينيون التجويع بكل تفاصيله، يعدون الأيام، لا على أمل انتهاء الحرب، بل على أمل أن نبقى أحياء حتى ذلك الوقت. هل سننجو؟ لا أحد يملك الإجابة، لكن ما يعرفونه يقينا أنهم لا يملكون خيارا سوى الصمود.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الراية
منذ 2 أيام
- الراية
دراسة: التلوث البلاستيكي يكلف العالم 1.5 تريليون دولار سنويا
دراسة: التلوث البلاستيكي يكلف العالم 1.5 تريليون دولار سنويا لندن - قنا : حذرت دراسة حديثة من أن التلوث البلاستيكي بات يشكل تهديدا متزايد على الصحة، مشيرة إلى أنه يكلف العالم ما لا يقل عن 1.5 تريليون دولار سنويا. وأوضحت الدراسة، التي نشرتها مجلة "ذي لانسيت" الطبية، أن البلاستيك يتسبب في أمراض ووفيات على مدى حياة الإنسان من الطفولة حتى الشيخوخة، ويتسبب في خسائر اقتصادية مرتبطة بالصحة تفوق 1.5 تريليون دولار سنويا، مشيرة إلى أن الأشخاص الأكثر ضعفا، وبشكل خاص الأطفال، هم الأكثر تضررا من التلوث البلاستيكي. ودعا الباحثون ومعدو الدراسة إلى اتباع سياسات للتخفيف من تأثير هذا التلوث، معتبرين أن الأزمة العالمية المتعلقة بالبلاستيك مرتبطة بأزمة المناخ، كون البلاستيك يصنع من الوقود الأحفوري، كما حذروا من جزيئات البلاستيك الدقيقة جدا المعروفة بالميكروبلاستيك، والتي تنتشر في كل مكان في الطبيعة وحتى داخل أجسام البشر. ولفتت الدراسة إلى أن كمية البلاستيك المنتجة عالميا ارتفعت من مليوني طن في العام 1950 إلى 475 مليونا في العام 2022، متوقعة تضاعف استهلاك البلاستيك عالميا ثلاث مرات بحلول العام 2060 إذا لم يتم اتخاذ إجراءات عاجلة.


الجزيرة
٣٠-٠٧-٢٠٢٥
- الجزيرة
إدارة ترامب تمهد لنسف الأساس القانوني لمكافحة تغير المناخ
قالت إدارة ترامب إنها ستلغي النتيجة التي كانت قائمة منذ فترة طويلة، وهي أن انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري تشكل خطرا على صحة الإنسان، وهو ما قد يلغي كل القيود وينسف الأساس القانوني لجميع اللوائح الأميركية الخاصة بانبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري. وأعلن مدير وكالة حماية البيئة لي زيلدين -الثلاثاء- خطة الوكالة لإلغاء "التصنيف الخطير"، في مناسبة أقيمت في وكالة لبيع السيارات بولاية إنديانا، إلى جانب وزير الطاقة كريس رايت، ووصف هذه الخطة بأنها أكبر إجراء إلغاء للقيود التنظيمية في تاريخ الولايات المتحدة. وإذا أُقرت نهائيا، فإن إلغاء القانون من شأنه أن ينهي الحدود الحالية المفروضة على تلوث الغازات المسببة للاحتباس الحراري من عوادم السيارات ومحطات الطاقة والمداخن وغيرها من المصادر، كما أنه يعوق الجهود الأميركية المستقبلية لمكافحة ظاهرة الاحتباس الحراري العالمي. وقال زيلدين إن الاقتراح، الذي يحتاج إلى الخضوع لفترة التعليق العام، من شأنه أن يخفض 54 مليار دولار من التكاليف سنويا عن طريق إلغاء جميع معايير الغازات المسببة للاحتباس الحراري، بما في ذلك معيار عوادم السيارات. وأكد زيلدين أن قرار المحكمة العليا لعام 2024 الذي قلص سلطة الوكالات الفدرالية في تفسير القوانين التي تديرها، والمعروف باسم "احترام شيفرون"، يعني أن وكالة حماية البيئة ليست لديها القدرة على تنظيم الغازات المسببة للانحباس الحراري العالمي. وأضاف أنه إذا قرر الكونغرس تعديل قانون الهواء النظيف الفدرالي لينص صراحة على أن الولايات المتحدة يجب أن تنظم ثاني أكسيد الكربون والميثان والغازات الأخرى المسببة للاحتباس الحراري، فإن وكالة حماية البيئة سوف تحذو حذوه. وانتقدت جماعات حماية البيئة هذه الخطوة، مشيرة إلى أنها تعني نهاية الطريق للعمل الأميركي لمكافحة تغير المناخ، حتى مع تزايد آثار الاحتباس الحراري العالمي. ومن المتوقع أن تؤدي هذه الخطوة إلى إثارة تحديات قانونية، وفقا لعديد من الجماعات البيئية والولايات والمحامين. وقالت أبيغيل ديلين، رئيسة منظمة "إيرث جستس" (العدالة للأرض) "إنه بإعلان اليوم، تخبرنا الوكالة، وبكل وضوح، أن جهود الولايات المتحدة لمعالجة تغير المناخ قد انتهت، وبالنسبة إلى الصناعات الأكثر مساهمة في تغير المناخ، فالرسالة هي: استمروا في التلويث، أما بالنسبة لكل من يعاني من كوارث المناخ، فالرسالة هي: أنتم وحدكم". وتلغي الخطوة الجديدة -التي تقترحها وكالة حماية البيئة- إعلانا أو تقييما أصدرته الوكالة عام 2009 في عهد الرئيس الديمقراطي الأسبق باراك أوباما مفاده أن الانبعاثات من المركبات الآلية الجديدة تسهم في التلوث وتعرض الصحة العامة والرفاهة للخطر. وجاء هذا التقييم عقب قرار أصدرته المحكمة العليا الأميركية عام 2007 في قضيتها ضد وكالة حماية البيئة، الذي أكد أن وكالة حماية البيئة لديها السلطة -بموجب قانون الهواء النظيف- لتنظيم انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري، وألزمها بإجراء دراسة علمية عما إذا كانت هذه الانبعاثات تشكل خطرا على الصحة العامة. وقد تم تأييد نتيجة التقييم (الإعلان) في عديد من التحديات القانونية ودعمت اللوائح اللاحقة الخاصة بالغازات المسببة للاحتباس الحراري، التي تتراوح من معايير عوادم السيارات، ومعايير ثاني أكسيد الكربون للطائرات، ومعايير الميثان لعمليات النفط والغاز. وبهذه الخطوة الجديدة، يتحدى كل من زيلدين ورايت الإجماع العلمي العالمي بشأن تغير المناخ على أن ظاهرة الاحتباس الحراري وآثارها بدأت تتكشف منذ ذلك الحين بشكل أسرع من المتوقع، وأن صناع السياسات بحاجة إلى تكثيف العمل للحد من انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري على مستوى العالم. كما أنها تتناقض مع الرأي الاستشاري الذي أصدرته محكمة العدل الدولية الأسبوع الماضي، والذي قال إن فشل الحكومات في خفض الانبعاثات قد يشكل عملا غير مشروع دوليا، ووجد أن المعاهدات مثل اتفاقية باريس لعام 2015 بشأن تغير المناخ يجب اعتبارها ملزمة قانونا. وقامت الوكالة، في وقت سابق من العام الجاري، بطرد جميع مؤلفي التقييم الوطني للمناخ في الولايات المتحدة، الذي أوضح بالتفصيل تأثيرات تغير المناخ في جميع أنحاء البلاد. وكانت إدارة الرئيس ترامب قد اتخذت إجراءات متعددة وصفت بكونها مناهضة للسياسات المناخية، أبرزها الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ، كما لم تحضر الولايات المتحدة المؤتمرات والاجتماعات الدولية المتعلقة بالبيئة والمناخ.


الجزيرة
٢٩-٠٧-٢٠٢٥
- الجزيرة
وائل أبو عرفة.. طبيب مقدسي قلبه معلق بغزة
زار الطبيب المقدسي وائل أبو عرفة قطاع غزة 9 مرات لإجراء عمليات جراحية معقدة ولمتابعة حالة المرضى هناك، وزار القطاع خلال طفولته عشرات المرات برفقة والده تاجر الخضروات الذي كان يشتري بضاعته من مدينة غزة بالتحديد، لكنه يشعر بالحزن لعدم تمكنه من تسخير إمكانياته لخدمة فلسطينيي القطاع خلال حرب الإبادة. وشكلت هذه الزيارات جزءا من ذاكرة أبو عرفة القريبة والبعيدة، وفي حوار خاص أجرته معه الجزيرة نت عن تجربته المهنية في غزة قال إن الكادر الطبي هناك لا مثيل له في أي بقعة أخرى لتفانيه في خدمة المرضى، وقدراته العلمية والمهنية العالية، مضيفا أنه يشعر نفسه مكبلا بسبب عجزه عن الدخول إلى القطاع لمساعدة المرضى والجرحى هناك جراء الحرب المستمرة. أنا ابن القدس وابن فلسطين ، ولدت في البلدة القديمة يوم 8 سبتمبر/أيلول 1958، وترعرعت في حي القِرمي داخل البلدة. أنهيت المرحلة الثانوية من مدرسة المعهد العربي في بلدة أبو ديس شرقي القدس عام 1977، ثم درست تخصص الطب العام في رومانيا وحصلت على درجة البكالوريوس عام 1984، ولاحقا تخصصت في الجراحة العامة، ثم في جراحة الكلى والمسالك البولية للأطفال والبالغين وجراحة الأورام، وأنهيت هذه التخصصات في كل من القدس ومدينتي لندن البريطانية و نيويورك الأميركية. ومنذ عام 2000 وحتى اليوم أخدم في مستشفيي مار يوسف (الفرنسي) في القدس ونابلس التخصصي. لماذا اخترت تخصص جراحة المسالك البولية؟ كان هناك نقص كبير في هذا التخصص، وكان هدفي العمل مع مجموعة من الزملاء الأفاضل لترسيخ جراحة المسالك البولية في كل فلسطين. إعلان يوجد عدد كاف من المختصين الآن، والإمكانيات في بعض الأماكن جيدة وفي أخرى متواضعة. تُجرى عمليات كبيرة في كل من القدس و الضفة الغربية وغزة، وفي المستشفى الفرنسي نقوم بإجراء العمليات الجراحية التي تُجرى في أكبر مستشفيات العالم للبالغين والأطفال، ونستقبل في هذه المستشفى حالات تحتاج إلى جراحات معقدة لا تتوفر الإمكانيات لإجرائها في المحافظات الفلسطينية الأخرى، لحاجتها إلى خبرة طويلة وإمكانيات معينة. %60 من مرضى المستشفى هم من الضفة الغربية وقطاع غزة الذي انقطع وصول مرضاه منذ اندلاع الحرب الأخيرة، ونُجري للغزيين جراحات مختلفة، إما بسبب أورام الكلى والمسالك البولية أو التشوهات الخلقية أو العمليات اللازمة بعد الإصابات النارية والحروق الناجمة عن الحروب. ونُجري عمليات جراحية في أقسام أخرى كالصدر والعنق والجراحات العامة، لكن 80% من المرضى المحولين من غزة يصلون إلى قسم جراحة الكلى والمسالك البولية. كنا نستقبل بين 100 إلى 150 مريضا من غزة سنويا، ونُجري لمعظمهم عمليات جراحية تتعلق بالأورام والتشوهات الخلقية للأطفال. هناك الكثير من التشوهات الموجودة في كل العالم، لكن التشوهات الموجودة في غزة تعود إما لزواج الأقارب أو للحروب المتتالية، ونتيجة للأسلحة التي تستخدم ضد الناس أصبحنا نستقبل عددا هائلا من مرضى السرطان، خاصة الأطفال. لم نكن نستقبل قبل الحروب أطفالا تتراوح أعمارهم بين 10 و12 عاما يعانون من سرطان الكلى أو المسالك البولية، لكننا الآن نستقبل هذه الحالات بسبب استخدام الفسفور الأبيض واليورانيوم المنضب. كم مرة زرت غزة؟ وفي أي إطار؟ زرتها كثيرا كمواطن عادي وكطبيب، وبدأت مهماتي الطبية هناك عام 2011، وأول زيارتين كانتا من خلال جمعية "مساعدة أطفال فلسطين"، ثم من خلال منظمتي "أطباء من أجل حقوق الإنسان" و" أطباء بلا حدود". كانت آخر زيارة لي إلى القطاع قبل اندلاع الحرب الحالية بشهرين، وكان من المفترض أن أعود إليه في مهمة طبية في ديسمبر/كانون الأول 2023، أي بعد اندلاع الحرب بشهرين، لكن الزيارة ألغيت بطبيعة الحال. المرضى في غزة بحاجة إلى عمليات جراحية كثيرة، إما بسبب مضاعفات يعانون منها بعد عمليات جراحية أجريت لهم سابقا، أو نتيجة إصاباتهم خلال الحروب والاعتداءات، والأورام السرطانية التي نشخصها في كافة أنحاء المسالك البولية، وتضاف إليها عمليات نجريها بسبب تشوهات خلقية يولد بها الأطفال. كنت أمكث بين 3 إلى 7 أيام في كل زيارة، وأجري في اليوم الواحد بين 15 إلى 20 عملية جراحية برفقة الطواقم هناك. قبل أن نتحدث عن المجال الطبي والعمليات التي أجريتها هناك، كيف وجدت غزة بصفتك مقدسيا؟ أعرف غزة منذ زمن بعيد، وبالتحديد في مرحلة الطفولة كنت أذهب مع والدي تاجر الخضروات لجلب بضائع من هناك، واحتلت هذه البقعة الجغرافية موقعا خاصا في قلبي. ولطالما شكلت غزة سلة الغذاء لفلسطين بأكملها، ولطالما جادت أراضيها بأجود الخضروات والفواكه، لكن كثرة القصف في الحروب قضت على الأراضي الزراعية هناك وأصبحت غير صالحة للزراعة. أذكر أننا كنا نصل إليها في تمام الثامنة صباحا، ونعود إلى القدس في تمام الواحدة ظهرا، غزة قبل الحروب وخلالها هي قلب فلسطين، وناسها قمة في الوطنية والاحترام والكرم ويستحقون كل خير. ماذا يميز الغزي؟ هل لمست في الغزيين شيئا ما مختلفا عن الفلسطينيين في المحافظات الأخرى؟ يختلف الغزيون كثيرا عن الفلسطينيين في المحافظات الأخرى، من ناحية حبهم للعمل وللحياة والتكافل الاجتماعي والروابط الأسرية، وأكثر ما لفتني كرمهم، ففي غزة يشعر الإنسان أنه في منزله وأكثر، فكل من تصادفه في الطريق وتلقي عليه التحية يدعوك إلى تناول وجبة الغداء في منزله مباشرة، ولا يجاملون في ذلك وإن كانت منازلهم تخلو من الطعام لأطفالهم. وبالتالي، تؤلمني المجاعة الحالية هناك، لأنني رأيت كرما لا مثيل له، ونشأت بيني وبين الأطباء والكادر الصحي وعامة الناس علاقات طيبة، وكثير من المرضى ما زالوا يتواصلون معي حتى الآن ويستشيرون ويستفسرون، لكنني بصفتي طبيبا عاجز ولا يمكنني تقديم العلاج والمساعدة للمرضى المحاصرين عبر الهاتف. ومن خلال احتكاكي بالأطباء لمست قدرات مهنية وعلمية عالية رغم قلة الإمكانيات، ولاحظت عطاء لا متناهيا، فمعظمهم يعملون في المناوبة بين 24 إلى 48 ساعة دون توقف أو تذمر، ولا يأبهون إذا كانت رواتبهم متاحة في نهاية الشهر أم لا. لدى الكوادر الطبية هناك انتماء غريب لوظيفتهم، وحب لمساعدة المرضى، وجَلَد وقدرة على الصمود والتحدي بلا حدود. بالفعل، يعود ذلك إلى الحصار وعدم قدرة الكثير من الأطباء على الخروج من القطاع أو العودة إليه بعد إنهاء تعليمهم وتخصصاتهم وخبراتهم. عدم قدرة الأطباء على إجراء بعض العمليات بسبب قلة الإمكانيات وصعوبة إدخال المواد والأجهزة الطبية سبب إضافي يدفعنا للتوجه إلى القطاع، وحين نذهب نجلب معنا كل ما يلزم لإجراء الجراحات المختلفة، ويضاف إلى ذلك عدد المرضى الكبير ممن يحتاجون للمساعدة والعلاج. عملت في معظم المستشفيات، وأبرزها مجمع الشفاء الطبي والأوروبي وشهداء الأقصى. معظم مستشفيات غزة خرجت من الخدمة، بصفتك طبيبا كيف تنظر إلى ذلك في ظل تفشي الأوبئة والأمراض السارية؟ (مُقاطعا) بل جميعها خرجت من الخدمة، وأشعر إزاء ذلك وكأنني فقدت شيئا من أملاكي، والخسائر في المجال الطبي كبيرة، فهناك الكثير ممن عملت معهم من الأطباء من استشهد أو أصيب أو فقد عائلته أو غادر غزة في بداية الحرب. عملت مع عدد كبير من الأطباء، وعلاقتي بهم جيدة، ورحبوا بنا كثيرا خلال زياراتنا المتكررة، ومنهم مدير مستشفى الإندونيسي مروان السلطان الذي استشهد وعائلته، والطبيب المعتقل منذ أشهر حسام أبو صفية، وعدنان البرش الذي استشهد في السجن، بالإضافة إلى مدير مجمع الشفاء الطبي محمد أبو سلمية. كل طبيب استشهد أو اعتقل أو غادر قطاع غزة هو خسارة كبيرة للمجتمع الغزي والطبي والأهلي الفلسطيني. ماذا يعني ألا يتوفر محلول من أجل الجفاف للأطفال الآن ولا في أي مؤسسة طبية؟ وماذا يعني إخراج العيادات الطبية وسيارات الإسعاف وكل ما يتعلق بالمجال الإغاثي من الخدمة إلى جانب المستشفيات؟ أليس هذا حكم بالإعدام وحرب إبادة؟ عدم تلقي العلاج اللازم في الوقت المناسب هو حكم بالإعدام على هؤلاء المرضى، ويؤسفني أنهم باتوا يبحثون الآن عن الخبز والماء لا عن العلاج. تذبذب غسيل الكلى لمرضى الفشل الكلوي وتوقفه أحيانا خلال الحرب، ما خطورة ذلك من ناحية طبية؟ ماكينات غسيل الكلى متوقفة منذ بداية الحرب تقريبا، وما تبقى منها في مركز طبي أو اثنين يحتاج إلى مواد وإمكانيات من أجل تشغيلها، وتوقف هذا العلاج شبه اليومي يعني صدور حكم بالإعدام على مريض الفشل الكلوي. ومع توقف غسيل الكلى يتسمم كامل الجسم بسبب السوائل والسموم التي لا تُصرّف خارجه، ويرتفع البوتاسيوم أحيانا مما يؤدي إلى اضطراب نبضات القلب، وبالتالي توقف عضلة القلب، والكثيرون ماتوا بسبب عدم توفر هذا العلاج المنقذ للحياة. في حال توقفت الحرب ولو لفترة وجيزة هل ترغب في العودة إلى القطاع، أم أن ذلك سيكون مستحيلا في ظل انعدام الإمكانيات؟ إذا توقفت الحرب اليوم فسأعود إلى غزة غدا، حاولت خلال الحرب الدخول إلى هناك لكن ذلك كان مستحيلا. دخل العديد من أصدقائي من الأطباء الكويتيين والفلسطينيين المقيمين في أوروبا خلال الحرب، وأنا على تواصل دائم معهم. ما أكثر ما اشتقت له في غزة؟ اشتقت لغزة وناسها، ومَن التقيت منهم خلال زياراتي المتكررة لها، واشتقت لفندق المتحف الذي كنت أقيم به خلال زياراتي، وبجواره كان يقع فندق المشتل وتضرر كلاهما، ويقع مقابل الفندقين مسجد الخالدي الذي قصف ودمّر، وجميع هذه المباني تقع على شاطئ البحر وبالقرب من مخيم الشاطئ. أن تنتهي هذه الحرب، وأن أعود إلى غزة بأسرع وقت، لست وحدي من أريد العودة للخدمة هناك، بل الكثير من الأطباء يريدون ذلك.