
ما بعد القصّة.. ما بعد فيصل علوي
غرب العاطفة، شرق العاصفة، أنزوي في غرفتي لا أشتهي سوى 'إشتقتلك، وبعتّلك مكتوب' بعود وحنجرة فيصل علوي، تخفّف عنّي، وعن كتفيّ أطنان المسافات.
أشتاق إليكِ، تحاصرني أطيافكِ آناء المكان، تأرجحني في مدارات الحيرة والخوف. أحتاجكِ ليمضي يومي هادئًا خفيفًا، أحتاجكِ كي لا أصاب غدًا بالفزع، عندما أستيقظ وأجدني لا أزال حيًّا.
الشوق، هو الحاجة الملحة للاستماع إلى القصص، واختراعها.
اختراع القصص، في أحد أوجهه العميقة، هو اختراع الزمن. ليس الزمن الفيزيائي، بل زمن الحكاية والعواطف والأحلام والتّيه والأبطال. ليس أبطال الواقع المرتبط عضويًّا بعقارب الفيزياء، من يطهّرون قبحه وبشاعاته بميثانول الدم الثوري والمغامرات المجنونة، بل أبطال الانسحاق المثير للفضول والشفقة والإعجاب، ومن ثمّ الرغبة بضرورة التقمّص.
لقد سرقوا منّا الزمن والأبطال والحكايات، وأصبح زمننا مستهلكًا، فيزيائيًّا، ومبثوثًا ومختلطًا بروث الواقع بشكل لا توجد معه إمكانية لاختراع زمن موازٍ على مستوى الغيم، وأصبح الجميع أبطالًا مكسورين في كلّ مرّة، حيث لا داعي لاختراع القصص، وبالتالي لإشباع حاجتنا للاستماع لها. أصبحت الحياة قصص زمن وأبطال كاملة الدسم، إلّا أنّها لا تثير فينا ما تثيره القصص المتخيّلة، ولا تثير فينا الفضول والرغبة لمعرفتها.
لا يمكن للزمن الواقعي وأبطاله أن يتحوّلا إلى قصص. وسهل جدًا على زمن القصص وأبطالها التحوّل إلى واقع.
لكن، بشكل غريب ممنهج، فقدنا الواقع والفن.
بين جدران أحشرني لائذًّا بنفسي من الآخرين الذين لم أعد أجد قصصًا أسردها لهم، أو أسمعها منهم، ومن أخبار العالَم المؤسفة والحروب واللصوص، ومن شبكة الواي فاي أيضًا.
نوافذ أغلقها بإحكام، أسدّ ثقوبها الفضولية بأحذيتي وثيابي وبعض الذكريات والأعضاء، ونوافذ أتركها مفتوحة لضجري منّي ولنوارس بعيدة تحنّ لها أشجار السدر الضامئة تحت بخل الطبيعة، وربما قد أكتب قصيدة الماء، وتنبثق الينابيع من قلبي وتنتشر في الأرض.
أتكئ، أتمدد، أو أنبطح، لا فرق. معي كميّات لا بأس بها من القات، بأنواع وجودات مختلفة. لا أملك سجائر، ولّاعتي عاطلة عن العمل منذ أيام، وجيبي لم يدخله شيء حتى الفراغ. لليوم الثالث سأدخّن طفري، وسأحقد على رئتيّ المستلقيتين في صدري كسائحتين عاريتين هانئتين تتشمّسان على سواحل سُقطرى. عندما أجد مالًا، سأنتقم منهما بخسّة.
أفتح مشغّل موسيقى الهاتف على أغنية علوي المُشتهاة، أفتح قلبي لفيصل لا ليفصل بيني وبينه، بل ليزيد التوتر المتوازن مع أشياء العالم. الفن العظيم، ليس فقط الذي يفعل فينا شيئًا ما، بل يجعلنا أيضًا نشعر أنّ أشياء كثيرة لم تحدث لنا، جيدة أو سيئة، ويجب أن تحدث، يجعلنا ننتبه للغياب المستعصي عنّا، وعلينا، في أقل التقديرات، أن نتقمّصه. الفن قصّة، وإن بدا غير ذلك، وكلنا، بشكل وآخر، مغرمون به لأنّه كذلك.
'وشرحتلك، عن حالي المتعوب… اشتقتلك'
أخطّ لكِ مكاتيب، أدسّها في حمَام شبحي أنقّعه في ماء عناوينكِ وطرقكِ، وأطلقه في الفضاء الرمادي، حيث الرصاصات والطائرات الحربية والدُرون.
تطحلب فمّي، سافر القات في دمي رويدًا رويدًا، يثيرني أن أستقلّ قطارات هائجة مجنونة، في رحلة أشد جنونًا. أحتفظ بنفسي عند المكان والزمن الفيصل علوي، وقد تاه صوته في هاتفي، وتهت معه ولم تبقَ إلّا حوافر الحنجرة اللحجيّة تحفر كهروعصبيتي، والدم على قصعات الذاكرة.
'يا فاتن جمالك
من مثلك جميل
يعجبني دلالك
لمّا ما تميل.'
يتعالى عود فيصل ويعلّيني معه، يقشّر عن طريقي بعض التيه، يرقّصني ويبعث فيّ الأمل.
فيصل قادر على جعلكِ فرحانة في أيّة لحظة، يفكّ عقدة وجهكِ، يدهنه بزخات من الفرح، يحرّركِ تمامًا.
لماذا فيصل بالذات؟ ولماذا علويّة؟
ليست بالأسئلة التي لها إجابات. أسئلة الفنّ، وألغازه وإشكاليات علاقته الخاصة مع الإنسان الفرد، حيث شهوات اللعب والمعايير هلامية وحرباوية، تبقى معلّقة دائمًا.
أسئلة كهذه تتوالد وتتضاعف كطفرة انشطارية لها قرابة مع اليورانيوم غير المقيّد.
وجنتاي منفوختان، أعبّئهما قاتًا بشراهة وربشة تزيدني قلقًا ولهيبًا.
أموسق أصبعيّ الإبهام والوسطى، والغرفة لا توسع رقصتي، بل العالم كلّه لا يتسع لها.
'يا ويلك يا ظالم'، يمضي فيصل علوي في شطحاته الليليّة معي، يلكز حبالي الصوتيّة لتصرخ معه في وجه الظالمين. علوي ابن زمن يقدر فيه المرء، بأقلّ قدر من الوعي، أن يفرّق بين أعدائه وأصدقائه، أو بين الأخيار والأشرار، بعد تنقية هذه الثنائية من سياقاتها وشحناتها الدينيّة. لذلك لا يلاحظ وجعي حين أصرخ معه ضد مجهولين، أنا ابن زمن بلغ فيه التعارض الثنائي بين الأصدقاء والأعداء، الأخيار والأشرار، حدَّ الالتحام، أنا ابن زمن: للعملة وجه واحد فقط.
على العالم، أو على أغلبه بأقل التقديرات، يسيطر لون واحد، قطب واحد، جيش واحد، والحرب هي حرب أضداد كارتونية هوليوودية انتهازية داخل هذا الواحد العدو على هيئة صديق. والنصر، كاملًا أو جزيئًا، نصر له بمجمله، وكذلك الهزيمة. لا نصر لنا، نحن الفقراء، والجنوبيون، أطفال العالم الثالث، إلّا بخسارة مجملة لذلك القطب. ونحن لا مواقع لنا في هذه الحروب، ولا ثكنات.
والفنّ، اختراع القصص، شُلّتْ قدراته على التغيير. نادرًا، لمن أراد أن يحافظ على بقائه على قيد الحياة. فاحلم به، فيصل، واحسب إمكانيات النصر والهزيمة، ديالكتيكيًّا، أو بأسلوب (العم سام) ودعْني الآن، ألجم فم مشغل الصوت، لأخرسك. أصابني بعض الاكتئاب، أو عاودني، أو في الحقيقة، وهذا سرّ، أنا الاكتئاب ذاته والخوف والحزن، والآن، ينتابني قول (رجاء علّيش) كثيرًا:
كلّهم أعدائي.
حتى أنت يا فيصل، مع الكثير من الاعتذار.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


اليمن الآن
منذ 5 دقائق
- اليمن الآن
حين يجتمع اليمنيون في المهجر… الفرح يوحّد القلوب
حين يجتمع اليمنيون في المهجر… الفرح يوحّد القلوب قبل 4 دقيقة عقب زيارة أكاديمية إلى أوروبا وتحديدا إلى الدنمارك والسويد وألمانيا أنا والعديد من الزملاء، ممثلين عن جامعة صنعاء بنهاية العام 2019، كتبت مقالة من جزأين (رابطها بأول تعليق) كانت فكرتها الرئيسية أن أجمل ما في أوروبا هم أبناء الجالية اليمنية في تلك الدول الذين لمسنا أنهم يمثلون اليمن خير تمثيل بتآخيهم ونسيانهم لخلافاتهم الحزبية والقبلية والطائفية. اليوم وخلال شهر ونصف من البقاء في القاهرة للعلاج ومرافقة أخي حفظه الله وعافاه، عشت أفضل ليالي صيف القاهرة مع أعراس اليمنيين، خصوصا أولئك القادمين من أمريكا وكذلك بعض المقيمين هنا والدارسين والعاملين... هذه الأعراس شكلت فسيفساء جميلة من اليمنيين الذين أيضا تناسوا حزبياتهم ومناطقهم والذين عادة ما يرسلون دعوات الأفراح عبر مجموعات الواتساب و الفيسبوك للكبير والصغير وبأسلوب 'جر منه ناوله'، فيحضر الكل، تجمعهم طاسة برع السياغي وفرقته، وتنعشهم الزفة اليمنية بمختلف ألوانها الصنعاني واللحجي والحضرمي والعدني بقيادة حسين محب أو البدجي او غيرهما من الفنانين الشباب. يا له من شعور جميل حين تفتتح معظم تلك الأعراس بالنشيد الوطني اليمني الجامع، متبوعا بالمصري الأمر الذي يمثل حب الشعبين لبعضهما البعض، وترى الكثير من اختلاط الفنون المصرية مع اليمنية بمزيج جميل لا يمكن نسيانه.. لذلك أقول أيضا نعم، أجمل ما بالقاهرة هو الوحدة الفكرية، والهوية اليمنية الجامعة التي تراها في تلك الأعراس الطيبة،،، ولأن أحياني الله إلى الصيف القادم وسنحت لي الفرصة لأقضين العطلة الصيفية مجددا هنا، ولكن قبل بدأ الفصل الدراسي الأول للعام الجامعي القادم. تحية لكل أبناء اليمن بالمهجر، وتحية لكل من يساعد على لم شملهم وتوحيد كلمتهم،،، وعلى ذلك الإخاء فليتنافس المتنافسون.


اليمن الآن
منذ 9 ساعات
- اليمن الآن
تركي آل الشيخ يثير ضجة واسعة في موسم الرياض
وكالات أثار رئيس هيئة الترفيه السعودية، تركي آل الشيخ، ضجة واسعة عندما كشف عن مشاركة فنانين اثنين (سعودي) و(سوري) في فعاليات موسم الرياض القادم، تزامنا مع حملة انتقادات طالت سياسة الهيئة الأسبوع الماضي. وجاء الإعلان بعد أيام فقط من تصريح آل الشيخ المثير للجدل، في منشور وتغريدة على "فيسبوك" و"إكس" قائلا: "في موسم الرياض القادم، اعتماد كامل تقريبا على العازفين والموسيقيين السعوديين والخليجيين في الحفلات الغنائية". وأضاف أن موسم الرياض سيشهد اعتمادا "شبه كامل" على المسرحيات السعودية والخليجية، مشيرا إلى الاستعانة أو "التطعيم بمسرحيات سورية وعالمية". والصيغة التي كتب بها آل الشيخ منشوره على مواقع التواصل أعطت انطباعا باستبعاد المصريين من الموسم، لا سيما بعد أن نص على الاستعانة بالمسرح السوري. وواجه رئيس الهيئة انتقادات من نشطاء مصريين، بينما دافع عنه آخرون مؤكدين على "أولوية الدعم المحلي". وأمس السبت، نشر آل الشيخ تغريدة كتب فيها: "النجم السوري الكبير أيمن زيدان في مسرحيه سوريه بإذن الله قريبا على مسارح موسم الرياض". وعلق حساب على التغريدة قائلا: "الفن السوري ثروة تورّث .. ف براڤو عليك". وقال آخر: "بارك الله فيك يا ابو ناصر. جميل أن نرى الممثل السوري في المملكة بجانب الممثل السعودي". وكتب ناشط: "رجعة المسرح السوري لموسم الرياض لحالها فرحة كبيرة، فكيف إذا النجم أيمن زيدان هو اللي يطل علينا الفن السوري له سحر خاص وله مكانة كبيرة في قلوبنا موسم الرياض القادم تاريخي بمعنى الكلمة". وفي تغريدة لاحقة، نشر رئيس هيئة الترفيه السعودية، تغريدة قال فيها "مسرحيه مهمه قريبا في موسم الرياض مع النجم الكبير ناصر القصبي. وعلق ناشط مثنيا على اختيار آل الشيخ فنان سعودي: "السعوده للسعوديين شكرا ياأبا ناصر". في حين انتقد آخر قرار آل الشيخ قائلا: "بدون الفن المصري ونجومه لن ولم تنجح، مصر تصدر الفن ولا تستورده". وكتب حساب: "بص يا عم تركى بما ان مصر ام الدنيا بفنها المتكامل على مر العصور ولكن خطوه جريئه". وقال ناشط مشيدا بالفن المصري على طريقته: "بالتوفيق ولكن - مستحيل الكبسه مثل الطعمية عموما فى جميع الأحوال سنستمتع".


يمنات الأخباري
منذ 11 ساعات
- يمنات الأخباري
وداعا كريم..
كان الخبر كالصاعقة. أستاذ علوان، كيف حال الأستاذ كريم الحنكي؟ هاتفتُ علوان لأطمئن، وفجأةً ردَّ عليَّ بصوتٍ مرتجف: مات. أغلقتُ المكالمة وارتميتُ بجوار أحد المحلات. كانت ساقاي ترتجفان ولا تقويان على حمل جسدي. كريم الحنكي مات.. رحل فجأة. كيف خطفه الموت من بيننا بهذه السرعة؟ كان شخصاً مختلفاً. شاعراً يحلِّق بكلماته في سماء اللغة، وأديباً ينقِّب في أعماق الأدب ليخرج لنا كنوزاً نادرة. أما كإنسان، فكان متواضعاً هادئ الطبع، موجزاً في كلامه، ودائماً ما كانت الابتسامة على شفتيه. إذا ناقشته، أجابك بهدوءٍ عميقٍ دون تعصب. قبل أسبوعين، كنا في منتدى الأستاذ فيصل سعيد فارع نحتفي بإصدار صديقنا مصطفى راجح لكتابه 'دليل السراة'. كان كريم أول المتحدثين، وعرض محتوى الكتاب بذكاءٍ وبصورةٍ بلاغيةٍ أخّاذة. في احتفالية ديوان 'آدم الثاني' للأستاذ علوان الجيلاني قبل أسبوع، وصل كريم متأخراً مع الشاعر جلال حنداد بسبب المطر. بدا عليه التعب، فاتكأ في الجهة المقابلة لي. كان مبتسماً كعادته، وقدّم مداخلته شفوياً بشكل مختصر وبتركيزٍ لافت. عند خروجنا من منتدى فيصل، وقفنا عند بوابة الحوش. قال لنا وهو يلمس صدره: 'أشعر بكتمةٍ وضيق .' قلتُ له: 'شفاك الله، لعلها من تأثير المطر'، وطبطبتُ على ظهره وودعته. في صباح الجمعة الماضية، وأنا أتصفح الفيسبوك، لمحت منشوراً للأستاذ علوان الجيلاني يُنبئ بمرض كريم، ووصفه بأزمة صحية خطيرة. دعوتُ له بالشفاء. وبعد صلاة الجمعة، اتصلتُ بعلوان ليفاجئني بالخبر المزلزل. لم أنم تلك الليلة. ظلت نظراته الأخيرة تلاحقني، ومرت ذكرياتنا معاً كشريطٍ لا يتوقف. حاولتُ الكتابة لكن تبلد عقلي وتشتت. والآن، وأنا مستلقٍ على الفراش متعباً، تعرضتُ لوعة صحية خفيفه منذ البارحة. حاولت أخيراً أكتب هذا المنشور المختصر عن هذا الصديق والإنسان الاستثنائي. رحمك الله يا كريم، وداعاً صديقي.. إلى جنة الخلد بإذن الله.