
قانا 1996… كيف حمت الأمم المتحدة لبنان؟
'كي لا ننسى' ليس مجرد شعار يُرفع في الذكرى، بل هو جرس ذاكرة لا يكفّ عن القرع في ضمير الزمن. يومها، لم تكن قانا مجرّد بلدة جنوبية، بل كانت محرابًا احتمى فيه الأبرياء بظلّ علم الأمم المتحدة الأزرق، فإذا به يتحوّل إلى كفنٍ جماعي، حين قتل جيش الاحتلال الإسرائيلي نحو 106 لبنانيين، لجأوا إلى مقر قوات 'اليونيفيل' علّهم يجدون فيه ملاذًا من نيران العدوان، في نيسان 1996، ضمن عملية سماها الاحتلال 'عناقيد الغضب'.
كان العدو الإسرائيلي في ذلك الحين، ينفث سمومه جوًا وبرًا على جنوب لبنان بين 11 و27 نيسان، سعيًا إلى اقتلاع جذوة المقاومة الصاعدة، وإخماد نارها التي أقلقته، وتأمين حدوده الزائفة مع فلسطين المحتلة، عبر إبعاد شبح المقاومة عن شريطه المحتلّ آنذاك.
لكن تفاصيل المجزرة التي هزّت الضمير الإنساني، تروي مشهدًا أشبه بفصل من فصول الجحيم. صواريخ بعيدة المدى، أكثر من 15 قذيفة فوسفورية، قصف عشوائي، وجدران كنيسة تحولت إلى محرقة. أجساد تفحّمت، وصرخات أطفال تساقطت تحت أقدام المجتمع الدولي، وتحت ظلال العلم الأزرق، الذي كان يفترض أن يكون خيمة أمان لا شبحًا من دخان ودمار.
برّر الاحتلال جريمته بادّعاء الجهل بوجود المدنيين، لكن موشيه يعالون، رئيس الاستخبارات العسكرية (أمان) حينها، أقرّ بأن الضباط كانوا على علم بوجودهم. فهل كانت الأجساد المشتعلة مجرد 'خطأ' في الحسابات؟ أم أن 'الخطأ' صار سياسة متعمّدة حين يتعلق الأمر بدم شعوب المنطقة؟
وكأنّ المشهد لا يكتمل إلا بخذلانٍ دوليّ مألوف. مجلس الأمن، بأسنانه الأميركية، عضّ الحقيقة ومنع صدور إدانة للجريمة. فتكرّس مجددًا مشهد العدالة العوراء، حيث المجازر موثّقة، والقاتل معروف، لكن الفيتو الأميركي يدفن الحقيقة في أدراج المصالح السياسية.
رغم صدور تحقيق أممي رسمي أكد علم الاحتلال بوجود المدنيين، ورغم تقارير دولية عديدة وصلت إلى النتيجة ذاتها، بقي المجرم حرًّا طليقًا، وبقيت الضحية تروي مأساتها للعالم الصامت.
⭕️ مجزرة 1996 لم تكن الأخيرة..
🔴 مجزرة قانا الثانية… حرب تموز 2006
🔹في 30 يوليو (تموز) 2006، استهدفت طائرات الاحتلال الإسرائيلية عند الواحدة بعد منتصف الليل مبنى من ثلاث طوابق في حي الخريبة في بلدة قانا كان يحتمي في ملجئه مدنيون نزحوا من قراهم.
🔹ما أسفر عن استشهاد نحو 55… pic.twitter.com/CvfvTa51mW
— عربي بوست (@arabic_post) April 18, 2025
إنها مقدمة لا بد منها لفهم ما جرى في تلك المجزرة التي نعيش اليوم ذكراها الـ29 (18 نيسان 1996). تلك المجزرة لم تكن مجرد حدث، بل كانت صرخة من لحم ودم، تقول إن الأمم المتحدة أخفقت في حماية المدنيين، ثم في إدانة القاتل، ثم في منع تكرار المجازر. ثلاثية خذلان تُحفر في ذاكرة الشعوب، وتفضح خضوع المؤسسة الدولية لمنطق السطوة الغربية والهيمنة الأميركية، التي جعلت من الكيان الإسرائيلي كائنًا فوق القانون وفوق العقاب.
حين تأسست 'اليونيفيل' بموجب القرار 425 في آذار 1978، رُسمت لها ثلاث مهمات: تأكيد الانسحاب الإسرائيلي، إعادة السلم والأمن، ومساعدة الدولة اللبنانية. لكنها لم تُفلح في صدّ اعتداء واحد. فبعد ثلاث سنوات فقط، اجتاح الاحتلال بيروت، واحتل ثاني عاصمة عربية بعد القدس، بينما كانت الأمم المتحدة تكتفي بالمراقبة عن بعد.
طوال السنوات الممتدة من 1978 وحتى 2025، أخفقت الأمم المتحدة في منع الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان. فمن حمى لبنان؟ ومن حقق له الاستقرار والهدوء؟
ومع اندلاع المقاومة، بكل أطيافها ومكوناتها، بدأ فعل الردّ، فعل الرفض، فعل التحرير. وكانت ثمرة ذلك الاندحار الإسرائيلي في 25 أيار 2000، بلا منّة من قانون دولي ولا من قرار أممي، بل من عرق المقاومين ودمهم، ومن شجاعة من اختاروا طريق الكرامة.
وما بين عامي 2000 و2006، عرف لبنان هدوءًا نسبيًا، حتى جاء عدوان تموز ليُعيد المشهد: صمت دولي، تقاعس أممي، وعدوان إسرائيلي ممنهج. مجددًا، فشلت الأمم المتحدة في أن تكون درعًا للشعوب، أو حتى شاهدًا نزيهًا على الجريمة.
بالفيديو | أولة مشاهد مجزرة قانا ١٩٩٦ التي اشعلت الرأي العام العالمي
ومن رحم 'نيسان 2006' و'تموز 2006″، وُلدت معادلة 'الكاتيوشا'، وتبلورت نواة 'الجيش – الشعب – المقاومة'، تلك الثلاثية التي لم تكن نظريّة في كتب السياسة، بل معادلة حيّة نبضت في وجه الغطرسة، وأرست حق المقاومة المشروع في رد العدوان، حقًا يكفله العقل والمنطق، كما تكفله المواثيق والأعراف الدولية.
ثم جاءت حرب غزة عام 2023، فبان القناع تمامًا. العدو نفسه، العقلية نفسها، المجازر نفسها، والصمت نفسه. لكن المقاومة، بدورها، لم تتبدّل. أدركت قيادة حزب الله باكرًا نوايا العدو التوسعية، فدخلت معركة 'طوفان الأقصى' لا كخيار طارئ، بل كواجب استراتيجي في الدفاع عن لبنان، وعن جوهر القضية. بين أن الكيان بدأ فعليًا تنفيذ مشروعه للسيطرة على قطاع غزة أولًا، وعلى الضفة الغربية ثانيًا، وعلى جنوب لبنان ثالثًا، فضلًا عن مساعيه للتدخل الأمني والعسكري والسياسي في الشأن اللبناني الداخلي. فكان قرار التصدي للعدو، والدخول في معركة 'طوفان الأقصى'، باعتبارها معركة الأمة في الوقت الراهن، ومعركة حماية لبنان أيضًا.
لبنان لم يكن يومًا جزيرة منفصلة عن الإقليم، بل كان قلب الصراع، ونبض الممانعة. والتاريخ، بكل فصوله، يشهد أن هذا البلد الصغير، بأهله ومقاومته، كان وما زال شوكة في خاصرة المشروع الصهيوني. وإن حاول البعض التعمية على هذه الحقيقة الجغرافية والتاريخية، التي لا تتبدل بتصريحات هنا أو هناك. فلبنان كان وما زال وسيبقى في قلب الصراع العربي – الإسرائيلي. هذا الصراع الذي افتعله الغرب بتأسيسه الكيان الإسرائيلي، وتسليحه ليكون قاعدة عسكرية متقدمة له.
بالفيديو | شاهد على مجزرة قانا 1996.. شهيد على طريق القدس 2024
أما الغرب، فلا يزال يمسك بزمام المؤسسات الدولية، يستخدمها حين يشاء، ويعطّلها متى شاء. فأين المحكمة التي حاكمت بوش وبلير على مأساة العراق، رغم إقرار الأخير بأنها قامت على كذبة 'أسلحة الدمار الشامل'؟ وأين العدالة التي نادت بإنصاف ضحايا قانا وعلى رأسهم شمعون بيريز الذي كان رئيسًا للحكومة التي اقترفت مجزرة قانا 1996؟؟ وأين العقاب لمن أمر بإحراق غزة وأطفالها وما زال؟
إن الأمم المتحدة اليوم، كما كانت بالأمس، تترنّح بين التسييس والتقاعس، بين العجز والتواطؤ. ولم تعد دعوات الإصلاح ترفًا، بل صرخة أخيرة لإنقاذ ما تبقى من هيبة القانون الدولي. حيث تعاني منظمة الأمم المتحدة والمؤسسات المرتبطة بها من ترهلات قانونية وسياسية تتطلب إصلاحات عاجلة، وهذا ما أكّد عليه العديد من الباحثين والمسؤولين في هذه المنظمة، وعلى رأسهم الأمينان العامّان السابقان بطرس غالي (1991 – 1996)، وكوفي عنان (1997 – 2007).
أما من يطالب اليوم بالاحتماء بتلك المؤسسات لحماية لبنان، فليلتفت قليلًا إلى السماء، حيث طائرات الاحتلال تنتهك يومياً السيادة والقرار الدولي رقم 1701، وتقصف مناطق مدنية، وليسأل نفسه: من الذي يحمي الشعوب حقًا؟ وهل أن الأمم المتحدة تحميها وتصون كرامتها؟ وهل فعلتها يومًا في السابق؟

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


IM Lebanon
منذ 17 دقائق
- IM Lebanon
الأمم المتحدة: 14 ألف رضيع مهددون بالموت بغزة
أعلن مسؤول كبير في الأمم المتحدة إن نحو 14 ألف رضيع في قطاع غزة قد يموتون خلال 48 ساعة، إذا لم تصلهم المساعدات في الوقت المناسب. وصرح توم فليتشر وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية لبرنامج 'توداي' على إذاعة 'بي بي سي 4': 'هناك 14 ألف رضيع سيموتون خلال 48 ساعة إذا لم نتمكن من الوصول إليهم. أريد إنقاذ أكبر عدد ممكن من هؤلاء الـ14 ألف رضيع خلال 48 ساعة'. وأكد المسؤول الأممي على 'ضرورة إغراق قطاع غزة بالمساعدات الإنسانية'. وبشأن كيفية توصيل الأمم المتحدة المساعدات لهذا العدد، قال فليتشر: 'لدينا فرق قوية على الأرض، وبالطبع قُتل العديد منهم'.


ليبانون ديبايت
منذ ساعة واحدة
- ليبانون ديبايت
"ترامب يضغط على نتنياهو لإنهاء الحرب في غزة"
أكد مسؤولان في البيت الأبيض لموقع "أكسيوس" أن الرئيس دونالد ترامب يشعر بالإحباط من الحرب الدائرة في غزة، وقد عبّر عن انزعاجه من صور معاناة الأطفال الفلسطينيين، وطلب من مساعديه إبلاغ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو برغبته في إنهاء الحرب. ونقل الموقع عن مصدر مسؤول قوله: "الرئيس (ترامب) محبط مما يحدث في غزة. يريد إنهاء الحرب، ويريد عودة الرهائن إلى ديارهم، ويريد دخول المساعدات، ويريد البدء في إعادة إعمار غزة". من جهة أخرى، صرّح مسؤول إسرائيلي للموقع أن نتنياهو لا يشعر حاليًا بضغط كبير من الرئيس ترامب. وقال: "إذا أراد الرئيس اتفاقًا لإطلاق سراح الرهائن ووقف إطلاق النار في غزة، فعليه ممارسة ضغط أكبر بكثير على الجانبين". وفي موازاة ذلك، أصدر قادة المملكة المتحدة وفرنسا وكندا بيانًا يوم الإثنين هددوا فيه باتخاذ خطوات ضد إسرائيل على خلفية استمرار الحرب. وقال البيان: "لن نقف مكتوفي الأيدي بينما تواصل حكومة نتنياهو هذه الأعمال الفظيعة. إذا لم توقف إسرائيل هجومها العسكري المتجدد وترفع قيودها على المساعدات الإنسانية، فسنتخذ المزيد من الإجراءات الملموسة ردًا على ذلك". وردّ نتنياهو على البيان الأوروبي متهمًا القادة في لندن وأوتاوا وباريس بـ"تقديم جائزة ضخمة للهجوم الإبادي على إسرائيل في 7 تشرين الأول، بينما يدعون إلى المزيد من هذه الفظائع". وفي تطور لافت، أعلنت الحكومة البريطانية يوم الثلاثاء تعليق مفاوضات اتفاقية التجارة الحرة مع إسرائيل، وفرضت عقوبات جديدة على مستوطنين متورطين في هجمات على الفلسطينيين في الضفة الغربية، كما استدعت السفيرة الإسرائيلية في لندن. وردّت وزارة الخارجية الإسرائيلية ببيان هجومي على القرار البريطاني، معتبرة أن الحكومة البريطانية "مهووسة بمعاداة إسرائيل". وأضاف البيان: "حتى قبل إعلان اليوم (الثلاثاء)، لم تُحرز مفاوضات اتفاقية التجارة الحرة أي تقدم من قبل الحكومة البريطانية الحالية. وأكثر من ذلك، فإن الاتفاقية كانت ستخدم المصلحة المتبادلة بين البلدين". وتابع: "إذا كانت الحكومة البريطانية، بسبب هوسها المعادي لإسرائيل واعتبارات سياسية داخلية، مستعدة لإلحاق الضرر بالاقتصاد البريطاني، فذلك قرار يخصها وحدها". يُذكر أن أحد المجالات التي ضغط فيها ترامب على نتنياهو خلال الأسبوعين الماضيين، هو تجميد إسرائيل لإيصال المساعدات الإنسانية إلى غزة. ويوم الأحد، وافق مجلس الوزراء الإسرائيلي على استئناف إدخال المساعدات، ودخلت القطاع يوم الإثنين 12 شاحنة محمّلة بأغذية أطفال وإمدادات أخرى، في وقت شدد فيه مسؤول في البيت الأبيض على "ضرورة بذل المزيد من الجهود". وحذّرت الأمم المتحدة من أن آلاف الأطفال معرضون لخطر المجاعة إذا لم تزدَد المساعدات بشكل كبير.


ليبانون 24
منذ ساعة واحدة
- ليبانون 24
سلام خلال مؤتمر "ايام بيروت للتحكيم": نعمل لاستراتيجية وطنية موحدة لتعزيز التحكيم الدولي في لبنان
انطلقت النسخة الاولى من مؤتمر "ايام بيروت للتحكيم"، في "بيت المحامي"، بدعوة من مركز التحكيم اللبناني والدولي في نقابة المحامين في بيروت liac - bba ، وبالتعاون مع وزارة العدل، ويستمر يومي 21و22 أيار، بحضور رئيس مجلس الوزراء الدكتور نواف سلام، الرئيس ميشال سليمان، ممثل الرئيس أمين الجميل جوزف نهرا، وزيري العدل المحامي عادل نصار والاعلام المحامي بول مرقص، النواب: ملحم خلف، جورج عقيص، نديم الجميل، جورج اسطفان، رئيس المجلس الدستوري القاضي طنوس مشلب، نقيبي المحامين في بيروت فادي مصري وفي طرابلس سامي الحسن، شخصيات ديبلوماسية وقضائية ومحامين ومحكمين ومراكز تحكيم من الأردن وتركيا ومصر والإمارات والسعودية وقطر والكويت. ألقى رئيس الحكومة الكلمة الرئيسية في المؤتمر باللغة الإنكليزية، وقال: "يسرني أن أخاطبكم اليوم في النسخة الافتتاحية من "أيام التحكيم في بيروت"، التي تستضيفها نقابة المحامين في بيروت. إن هذا المؤتمر الدولي يُعد دليلا إضافيا على نهوض بيروت من جديد، وتجدد لبنان كمركز حيوي تلتقي فيه أصوات متنوعة، وتتبلور فيه الأفكار، وتولد فيه الفرص. تأسست نقابة المحامين في بيروت عام 1919 – أي قبل عام من إعلان دولة لبنان الكبير – لتنظيم مهنة المحاماة، وصون أخلاقياتها في دولة ناشئة. وعلى مدى قرن من الزمن، صمدت النقابة في وجه الحروب والاضطرابات السياسية، محافظة على التزامها الثابت بالمبادئ الديمقراطية وسيادة القانون. وأفخر بأن مسيرتي المهنية بدأت هنا، منذ عدة عقود". اضاف: "لكنني اليوم أعود إلى هذا المجتمع القانوني، لا لأتحدث عن الماضي، بل لأعرض رؤية للمستقبل: خارطة طريق لتحويل بيروت إلى مركز للتحكيم الدولي – الوسيلة الأبرز عالميا لحل النزاعات التجارية والاستثمارية العابرة للحدود". وتابع: "كما تعلمون جميعا، يشكل التحكيم ركيزة أساسية في التجارة الدولية والاستثمار الأجنبي، إذ يوفر آلية محايدة وفعّالة وقابلة للتنفيذ لحل النزاعات الناشئة عن الأنشطة التجارية العابرة للحدود. وبالتالي، فإن تحويل بيروت إلى مقر موثوق للتحكيم، من شأنه أن يدمج لبنان بشكل أعمق في الأطر القانونية وشبكات تسوية النزاعات التي تدعم الاقتصاد العالمي. وبتحويل بيروت إلى مركز تحكيم دولي، سنحفّز أيضا الاقتصاد اللبناني. فمركز التحكيم ليس فقط موقعا لعقد الجلسات والمرافعات، بل هو أيضا وجهة. وجهة يقصدها المهنيون، تُعقد فيها المؤتمرات، ويكتشف فيها الزوّار – عن غير قصد ربما، ولكن ليس بلا أهمية – الثقافة النابضة للبنان وشعبه". وقال: "في الواقع، تتجاوز هذه الرؤية مجرد التنمية الاقتصادية والازدهار. في جوهرها، تتعلق بإعادة تعريف صورة لبنان ودوره – من بلد تنشأ فيه النزاعات، إلى بلد تُحل فيه النزاعات بطرق سلمية. خلال فترة عملي في الأمم المتحدة ، سعيت إلى سياسة "النأي بالنفس" عن الصراعات العربية – العربية، حفاظًا على أمن لبنان واستقراره. واليوم، أعتقد أننا قادرون على البناء على هذا النهج، بل والطموح إلى ما هو أكثر: يمكننا أن نسعى إلى جعل لبنان بلدا يسهل ويُسهم في حل النزاعات، ليس فقط في المسائل التجارية، بل مع الوقت، ضمن الإطار الأشمل لبناء السلام، والدبلوماسية، وحوار الثقافات والشعوب". أضاف: "كما أن ترسيخ بيروت كمركز للتحكيم الدولي، من شأنه أن يعيد تأكيد هويتها كمدينة للقانون، وهو إرث يعود إلى العصور الرومانية. لقد أثبت القانونيون اللبنانيون حضورهم في أهم مراكز التحكيم العالمية، وساهموا في تطوير قواعد وممارسات التحكيم. ولأذكر مثالا واحدا: القرار التاريخي في قضية Salini v. Morocco، الذي عرّف مفهوم "الاستثمار" في التحكيم بين المستثمرين والدول، يحمل توقيع الفقيه القانوني اللبناني الراحل، الأستاذ إبراهيم فضل الله". وتابع: "نستطيع اليوم أن نمضي أبعد، وأن نتخيل بيروت كمختبر للفكر القانوني من خلال التحكيم: مكان تُصاغ فيه المعايير القانونية العالمية، وتُختبر وتُجدد، من قبل هيئات تحكيمية تتخذ من بيروت مقرا لها. بيروت بالفعل في موقع فريد لتكون مركزا للتحكيم الدولي. معظم المحامين اللبنانيين يتقنون العربية والفرنسية والإنكليزية، ما يمكّنهم من التعامل مع قضايا التحكيم بهذه اللغات القانونية الثلاث الأساسية. كما أن العديد من القانونيين اللبنانيين تلقوا تدريبهم في مؤسسات عالمية، وعادوا بخبرات دولية غنية". وقال: "من الناحية الجغرافية، نحن على بُعد ساعات قليلة جوا من مراكز أوروبا والخليج وأفريقيا. ومن الناحية الثقافية، يحمل مجتمعنا إرثا غنيا من التفاوض والوساطة والحوار. والأهم، أن لبنان انضم إلى اتفاقية نيويورك عام 1998، ما يضمن الاعتراف بأحكام التحكيم اللبنانية وتنفيذها في حوالي 170 دولة". ضاف: "كل هذه عوامل قوية، لكنها تحتاج إلى مؤسسات قوية وبنية تحتية حديثة حتى نحقق إمكانياتها الكاملة. وفي هذا الإطار، أقول بفخر إن الحكومة تتحرك بسرعة لتنفيذ رؤيتنا للبنان الجديد – لبنان نُنعش فيه الاقتصاد، ونُعيد فيه الثقة بين المواطنين والدولة، ونُعزز فيه الخدمات العامة، وندعم فيه سيادة القانون. وهذه هي الأسس الضرورية لتتحول بيروت إلى مركز تحكيم دولي. وتشمل هذه الأسس: ضمان استقلالية القضاء. رغم أن التحكيم عملية خاصة تقودها الأطراف، إلا أنه يعتمد على النظام القضائي الذي ينتمي إليه. فالمحاكم في مقر التحكيم لها دور إشرافي، خاصةً في دعاوى الإبطال، وأيضًا في التدابير المؤقتة أو الطعن في المحكّمين. السبب الرئيسي لاختيار التحكيم هو وعده بالعدالة والحياد والاستقلالية. وينطبق هذا الطموح على اختيار مقر التحكيم. ولهذا السبب، فإن مشروع قانون استقلال القضاء – الذي أقرّه مجلس الوزراء وهو اليوم أمام مجلس النواب – يُعد خطوة بالغة الأهمية. إنه لا يحمي فقط الحقوق والحريات، ويعزز ثقة المستثمرين، بل يضع الأساس لبيروت كمقر موثوق وجدير بالثقة في مجال التحكيم. 2. تحديث الحوكمة من خلال التحول الرقمي. من التوقيعات والدفع الإلكتروني إلى المنصات القضائية الرقمية ورقمنة السجلات العامة، تلتزم حكومتنا بجعل التفاعل مع الدولة أكثر كفاءة وشفافية. وهذا يشمل تحسين الوصول إلى القوانين والأحكام القضائية، مما يضفي الشفافية والوضوح أمام الأطراف التي تنظر إلى بيروت كمقر محتمل لتحكيمها. كما سيستفيد أطراف النزاعات بعد صدور الأحكام من تحسين الوصول إلى المحاكم والاطلاع على الإجراءات الجارية. 3. إعادة بناء الثقة في النظام المصرفي والمالي. من خلال إقرار قانون رفع السرية المصرفية، وإقرار مشروع قانون حلّ المصارف في مجلس الوزراء، والسعي نحو قانون عادل لتوزيع الخسائر المالية (قانون "الفجوة") – نحن نحرز تقدما حقيقيا في حل الأزمة المصرفية، وتحقيق العدالة للمودعين، وتعزيز اندماج لبنان في النظام المالي العالمي. وجود نظام مصرفي آمن وموثوق أمر أساسي لأي مركز تحكيم. بدونه، لن يثق الأطراف بقدرة مؤسسات التحكيم على تنفيذ المهام المالية الضرورية مثل تحصيل الرسوم، ودفع مستحقات الخدمات، وإدارة حسابات الضمان. 4.إعادة إحياء القطاعات الاقتصادية الأساسية وتحسين الخدمات العامة. لقد وضعنا إجراءات شفافة ومعايير تعتمد على الكفاءة في التعيينات العامة، كما أنشأنا هيئات تنظيمية مستقلة لتنشيط القطاعات الحيوية، كالكهرباء والاتصالات. توفر الكهرباء الموثوقة والبنية التحتية القوية للاتصالات أمر لا غنى عنه في التحكيم، خاصة في العصر الرقمي حيث أصبحت الجلسات الافتراضية جزءا من الممارسات العادية. 5. تحديث مطار بيروت الدولي وطريق المطار ، إضافة إلى إطلاق مطار دولي ثانٍ في القليعات خلال عام. تحسين سهولة الوصول إلى لبنان أمر ضروري لجذب المسافرين من رجال الأعمال، وطبعا ممارسي التحكيم ليسوا استثناء. 6. وأخيرا وليس آخرا، استعادة سيادة لبنان وضمان الأمن والاستقرار في جميع أراضيه. البيان الوزاري للحكومة واضح: يجب أن تحتكر الدولة وحدها امتلاك واستخدام السلاح في لبنان. لقد اتخذنا – وسنواصل اتخاذ – خطوات ملموسة لضمان أن تكون الأسلحة بيد الدولة فقط. وفي الوقت نفسه، نبقى ملتزمين بجهودنا لإنهاء الاحتلال والاعتداءات الإسرائيلية المستمرة على لبنان، في انتهاك للقانون الدولي. إن لبنان المستقر والآمن والسيد، يمنح الثقة للأطراف في التحكيم وممارسة الأعمال هنا". وتابع: "أود أن أؤكد أننا مصممون على تنفيذ المزيد من الإصلاحات البنيوية لإنعاش الاقتصاد واستعادة الثقة بالدولة. وإلى جانب هذه الجهود العامة، فإن مبادرات إصلاحية محددة في مجال التحكيم الدولي ضرورية لترسيخ بيروت كوجهة رائدة. وتشمل هذه: تحديث القوانين المتعلقة بالتحكيم لتتماشى مع أفضل الممارسات الدولية، بما في ذلك قانون الأونسيترال النموذجي، تعزيز استقلالية الأطراف والحد من التدخل القضائي غير الضروري، تقوية مراكز التحكيم لدينا، أو حتى العمل على افتتاح مكتب إقليمي لمحكمة التحكيم الدائمة (PCA) في بيروت، وتوفير تدريب متخصص للقضاة حول مبادئ تسوية النزاعات الدولية". وختم: "ترحب حكومتي بملاحظاتكم ومساهماتكم – خلال هذا المؤتمر وما بعده – بينما نعمل معا لوضع استراتيجية وطنية موحدة لتعزيز التحكيم الدولي في لبنان. أدعوكم للانضمام إلينا – ليس فقط في تطوير التحكيم في لبنان، بل في المساهمة في تجديد بيروت وبلدنا ككل. معا، يمكننا بناء مستقبل يرتكز إلى العدالة، والشراكة، والفرص". (الوكالة الوطنية)