logo
4 أسئلة لفهم حظر مكالمات واتساب في السودان

4 أسئلة لفهم حظر مكالمات واتساب في السودان

الجزيرةمنذ 2 أيام
الخرطوم- دخل الحظر الذي فرضته السلطات السودانية على خدمة الاتصال الصوتي والمرئي عبر تطبيق التواصل " واتساب" حيز التنفيذ، أمس الجمعة، بعد أن أعلنت في وقت سابق أنه "إجراء احترازي لمواجهة المهددات الأمنية، حفاظا على الأمن القومي والمصالح العليا للبلاد".
وأعلنت شركة "زين" للاتصالات في السودان حظرا شاملا للمكالمات الصوتية والمرئية عبر تطبيق "واتساب"، ابتداء من الجمعة. وقالت في إيجاز مقتضب إن الخدمة ستتوقف تماما عن جميع المشتركين في شبكتها دون استثناء، وذلك التزاما بالتعليمات الصادرة من جهاز تنظيم الاتصالات والبريد في السودان.
وفي حين لم يستبعد خبراء ومختصون تحدثوا للجزيرة نت أن يكون الحظر لأسباب اقتصادية تهدف لرفع أرباح شركات الاتصالات، التي تأثرت بمجانية الاتصال عبر "واتساب"، اعتذر جهاز تنظيم الاتصالات والبريد -في بيان- عن "أي ضيق قد يسبّبه هذا التقييد للمشتركين".
بينما ظل المشتركون في السودان يتساءلون عن أسباب وحيثيات القرار المفاجئ بحظر التواصل الصوتي والمرئي.
ما أسباب حظر مكالمات واتساب في السودان؟
يقول الخبير الدولي في الأمن السيبراني وحماية الشبكات المهندس إسماعيل بابكر إن الحظر يعكس توجسّا أمنيا وسياسيا أكثر من كونه خطوة فعّالة لحماية الأمن القومي، لأن المستخدمين سيجدون بدائل، كما حدث في دول عديدة سبقت السودان في اتخاذ هذه الخطوة.
وأوضح الخبير بابكر للجزيرة نت أن قرار حظر خدمة التراسل الصوتي والمرئي غالبا ما يكون مدفوعا بعدة أسباب محتملة، ومنها:
أسباب أمنية:
صعوبة المراقبة، حيث الاتصالات عبر واتساب مشفّرة، مما يصعّب على السلطات تعقّب المحتوى.
توجس من تنظيمات معارضة، حيث يُعتقد أن بعض الجماعات أو النشطاء يستخدمون هذه الوسائل للتنسيق بعيدا عن أعين الدولة، خصوصا في أوقات الاضطراب السياسي أو الأمني.
أسباب سياسية:
التحكم في تدفّق المعلومات في فترات التوتر، حيث تلجأ الحكومات إلى تقييد وسائل التواصل لمنع انتشار الأخبار التي تُعد مهددة للاستقرار.
مواجهة الحملات الإعلامية، وهناك مخاوف من استخدام مكالمات "واتساب" لتوجيه الرأي العام داخليا وخارجيا.
أسباب اقتصادية:
وهي عبارة عن خسائر شركات الاتصالات، بسبب اعتماد الناس على المكالمات المجانية عبر الإنترنت بدلا من الاتصال التقليدي.
من المتضررون من هذا الحظر؟
يقول مؤسس ومدير موقع "سوداني نت" الإخباري علاء الدين يوسف إنه سيتضرر من حظر خدمة الاتصال الصوتي والمرئي عبر تطبيق "واتساب"، نظرا لأن بعض شركات الاتصالات في تركيا، حيث يقيم، لا تتيح ميزة الاتصال الدولي المباشر إلى السودان.
ومع ذلك، فإنه يشجّع هذه الخطوة "لما قد يكون لها من أثر إيجابي في الحدّ من بعض المهدّدات الأمنية". ولم يستبعد، في حديث للجزيرة نت، أن يكون الهدف من تقييد خدمة الاتصال الصوتي والمرئي عبر "واتساب" هو "الحد من نقل الأحداث من الميدان، بعد أن عجزت التعليمات العسكرية السابقة عن منعه".
وأشار إلى أنه ليست هناك مخاوف من الاستخدامات العادية للتطبيق من قبل المواطنين، بل إن المخاوف تنبع من الاستخدامات التي تُعتبر "ضارة بالأمن"، بحسب رؤية الجهات الحكومية المختصة.
ولفت علاء الدين، وهو صانع محتوى رقمي وخبير في أمن المعلومات، إلى أن خيارات الاتصال الصوتي والمرئي كثيرة ومتوفرة في العديد من التطبيقات، ويصعب حجبها جميعا. وقال "حتى بعض الدول الخليجية، رغم إمكانياتها الكبيرة، لم تتمكن من إغلاق كل التطبيقات، مما دفع الناس إلى استخدام تطبيقات أخرى أكثر جودة في الاتصال".
وأشار إلى أن السيطرة على المنصات الإلكترونية تُعد صعبة للغاية بسبب وجود أطراف ثالثة تطوّر تقنيات للالتفاف والتجاوز، وهو ما وصفه بـ"تجارة كبيرة ورائجة".
كيف يهدد حظر مكالمات واتساب الأمن القومي؟
يقول الخبير بابكر إن الاتصال الصوتي والمرئي عبر واتساب يمكن أن يُشكّل تهديدا للأمن القومي من الناحية الفنية، لأنه يصعّب مراقبة أو اعتراض المكالمات بسبب التشفير القوي الذي يستخدمه التطبيق، مما يجعله بيئة مفضلة لنقل معلومات قد تكون حساسة.
وأضاف أن التهديد من الناحية الواقعية يعتمد على السياق، ففي حالة وجود جماعات مسلحة أو تنظيمات معارضة أو تنسيق احتجاجات، يمكن أن تُستخدم هذه الوسائل بفعالية.
لكن بالمقابل، فإن الغالبية العظمى من المستخدمين يستعملون واتساب لأغراض عائلية وتجارية عادية، وبالتالي، فإن التهديد قد يكون "محدودا" إذا نظرنا إليه بشكل مجتمعي واسع.
وأكد الخبير إسماعيل أن الالتزام الكامل بالحظر غير مرجح لعدة أسباب، منها: سهولة كسر الحظر، حيث يستخدم كثير من الناس في السودان تطبيقات تجاوز الحظر (VPN). كما أن هناك تطبيقات بديلة مثل إيمو "IMO"، و"تليغرام"، "ماسنجر"، وغيرها التي توفر خدمات الاتصال نفسها.
وقال إن ما قد يحدث بعد قرار الحظر هو فرض حظر شكلي وتقييد جزئي، يلجأ معه المستخدمون العاديون إلى حلول بديلة بسرعة. وقد يُرفع لاحقا إذا تبيّن عدم جدواه أو تغيّرت الظروف السياسية. داعيا إلى التفكير في تنظيم الاستخدام بدلا من منعه، وتحسين الوعي الرقمي، والتعاون مع شركات التكنولوجيا لتطوير حلول تلبي احتياجات الأمن دون خنق الحريات.
ما أبرز ردود الفعل على إعلان الحظر؟
أثار الإعلان عن حظر الاتصال الصوتي والمرئي عبر "واتساب" ردود فعل متباينة في الشارع السوداني، الذي يفضّل التواصل عبر هذا التطبيق داخل وخارج السودان، نظرا لسهولة استخدامه وانخفاض تكلفة الاتصالات عبره، مما جعله الخيار الأكثر استخداما بين السودانيين.
وقالت أسماء عبد المنعم، وهي محامية سودانية لجأت إلى مصر بعد الحرب وتقيم في منطقة بالجيزة، إنها مستاءة من تقييد حرية تواصلها عبر "واتساب" مع أهلها في السودان.
وأوضحت للجزيرة نت أن التطبيق ظل الخيار الأكثر شهرة والمفضّل لها ولأغلبية السودانيين، نظرا لسهولة استخدامه من قبل الجميع، خاصة في الرسائل النصية والصوتية والفيديوهات.
وتوقعت أن يكون السبب اقتصاديا وليس أمنيا، لتعويض خسائر شركات الاتصالات وزيادة أرباحها، بعد أن تعرضت لتدمير كبير في بنيتها التحتية عقب الحرب، لأن حظر "واتساب" يعيد البعض مرة أخرى للاعتماد على الاتصالات العادية المكلفة أو اللجوء إلى استخدام برامج كسر الحظر التي تستنزف الكثير من الإنترنت وبالتالي المزيد من المال، في وقت يعاني فيه أغلب السودانيين من ظروف اقتصادية قاسية.
في المقابل، بدا البعض غير مهتم بخطوة تقييد الاتصال الصوتي والمرئي عبر "واتساب"، ربما لمعرفتهم بالبدائل المتوفرة، حيث أصبح الحظر بالنسبة لهم مادة للمزاح وتبادل النكات، مثل قولهم إن "تطبيقات الماسنجر والإيمو تعلن جاهزيتها لاستقبال نازحي الواتساب اعتبارا من الجمعة".
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

غوتيريش يرفض استخدام الجوع سلاحا في الحرب
غوتيريش يرفض استخدام الجوع سلاحا في الحرب

الجزيرة

timeمنذ 4 ساعات

  • الجزيرة

غوتيريش يرفض استخدام الجوع سلاحا في الحرب

أكد الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش أنه ينبغي عدم استخدام الجوع "سلاح حرب"، مشيرا في هذا الصدد إلى الأوضاع في كل من قطاع غزة والسودان بصفة خاصة. وقال غوتيريش في مداخلة عبر الفيديو اليوم الاثنين خلال مؤتمر الأمم المتحدة المعني بالنظم الغذائية في إثيوبيا إن "النزاعات تستمر في نشر الجوع بغزة والسودان وغيرهما، والجوع يغذي انعدام الاستقرار ويقوض السلام، ينبغي ألا نقبل بتاتا استخدام الجوع سلاح حرب". وقال غوتيريش في كلمته "يعطل تغير المناخ المحاصيل وسلاسل التوريد والمساعدات الإنسانية، ويواصل الصراع نشر الجوع من غزة إلى السودان وما وراءهما". يذكر أن وكالات الأمم المتحدة حذرت من جوع يهدد الحياة في قطاع غزة مع نفاد إمدادات الإغاثة، وتزايد الضغط الدولي لوقف إطلاق النار للسماح بعملية إغاثة ضخمة بعد تفاقم الكارثة بسبب الحصار الإسرائيلي الشامل للمساعدات من مارس/آذار إلى مايو/أيار. ورغم التحذيرات الدولية والأممية والفلسطينية من تداعيات المجاعة في غزة فإن إسرائيل تواصل إغلاق معابر القطاع بشكل كامل أمام المساعدات الإنسانية والإغاثية والطبية منذ الثاني من مارس/آذار الماضي، في تصعيد لسياسة التجويع التي ترتكبها منذ بدء الحرب. من جهته، صرّح عثمان بلبيسي المدير الإقليمي للمنظمة الدولية للهجرة التابعة للأمم المتحدة الأسبوع الماضي بأن السودان "أكبر كارثة إنسانية تواجه عالمنا، والأقل تذكرا". ويشهد السودان منذ أبريل/نيسان 2023 قتالا بين الجيش و قوات الدعم السريع أسفر عن مقتل عشرات الآلاف ونزوح أكثر من7 ملايين شخص.

مدينة النهود.. بوابة الزراعة والتجارة في غرب السودان
مدينة النهود.. بوابة الزراعة والتجارة في غرب السودان

الجزيرة

timeمنذ 5 ساعات

  • الجزيرة

مدينة النهود.. بوابة الزراعة والتجارة في غرب السودان

مدينة تقع في ولاية غرب كردفان جنوب غربي السودان، وهي من المدن المحورية في الإقليم لما تتمتع به من موقع إستراتيجي عند تقاطع طرق رئيسية تربط كردفان ودارفور. وتشتهر المدينة بتنوعها الثقافي، وأهميتها الاقتصادية، وتاريخها العريق الذي تأثر بمحطات نضالية ونزاعات متعاقبة. وتأثرت النهود بشكل كبير بالحرب التي اندلعت بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في 15 أبريل/نيسان 2023. الموقع الجغرافي تقع مدينة النهود في ولاية غرب كردفان جنوب غرب السودان، عند تقاطع طرق حيوية تربط بين إقليمي كردفان ودارفور، وهو ما يجعلها نقطة إستراتيجية مهمة في حركة التجارة والنقل. وتتموضع المدينة عند دائرة عرض 12.7 شمالا وخط طول 28.43 شرقا. وتتميز بمناخ صحراوي جاف وحار، إذ تتراوح درجات الحرارة فيها بين 20 و45 درجة مئوية مع تساقط الأمطار في فصل الصيف. السكان يُقدر عدد سكان مدينة النهود بنحو 108 آلاف نسمة، مما يجعلها واحدة من المدن المكتظة في غرب كردفان. ويتحدث سكانها اللغة العربية ويمتازون بتنوع ثقافي ملحوظ، وهي موطن قبيلة "الحَمَر" ذات التاريخ العريق في المنطقة. التاريخ تأسست مدينة النهود في القرن الـ19 تحت اسم "أبو بردي"، نسبة إلى شخص حفر بئرا في المنطقة جذبت السكان للاستقرار حولها. وفي عام 1924، شهدت المدينة نشاطا ثوريا ضد الاستعمار البريطاني للسودان، الذي قادها في إقليم كردفان علي عبد اللطيف، وهو أحد أبرز الشخصيات البارزة في الحركة الوطنية السودانية. وفي العقود التالية، تأثرت النهود بشكل كبير بالحروب والنزاعات التي شهدها السودان، إذ كانت مسرحا لصراعات محلية عدة، لا سيما إبان الحرب الأهلية الثانية (1983-2005) كما أدت الصراعات بين الحكومة السودانية ومجموعات المعارضة المسلحة إلى تدهور كبير في أوضاع السكان، وانعكست سلبا على البنية التحتية والاقتصاد في المنطقة. ما بعد حرب 2023 مثلها مثل عدد من المدن السودانية، تأثرت مدينة النهود بشكل كبير بالحرب التي اندلعت بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في 15 أبريل/نيسان 2023. وفي يوليو/تموز 2024، تحولت المدينة إلى عاصمة إدارية مؤقتة لولاية غرب كردفان بعد سقوط عاصمتها الأصلية الفولة في قبضة الدعم السريع. وشكلت النهود نقطة عبور إستراتيجية استخدمها الجيش السوداني لإرسال قواته إلى إقليم دارفور غرب السودان. وبعد معارك عنيفة أودت بحياة ما لا يقل عن 300 شخص، أعلنت قوات الدعم السريع في مايو/أيار 2025 سيطرتها على المدينة، بما في ذلك مقر قيادة اللواء الـ18 مشاة التابع للجيش، وذلك عقب عدة محاولات سابقة لإحكام قبضتها عليها. وبحسب تقارير إعلامية، تدهورت الأوضاع الإنسانية في المدينة بعد ذلك، إذ عانت من نقص حاد في الغذاء والرعاية الصحية، كما واجهت المنظمات الإنسانية صعوبات كبيرة في إيصال المساعدات، وتعرضت العديد من المحال التجارية والمنازل لأضرار جسيمة. الاقتصاد تعتبر مدينة النهود مركزا اقتصاديا بارزا في ولاية غرب كردفان، ويعتمد اقتصادها بشكل رئيسي على الزراعة وتربية الماشية، وتشتهر بخصوبة أراضيها مما يتيح لزراعة محاصيل رئيسية من بينها الذرة الرفيعة والسمسم والفول السوداني والدُّخُن، وهو ما جعلها نموذجا إنتاجيا وزراعيا مميزا في البلاد. وتمثل الأسواق التقليدية -وفي مقدمتها "السوق الكبير"- أحد أبرز معالم المدينة، وتُعرض فيها سلع متنوعة تشمل التوابل والملابس والصناعات اليدوية، وهو ما يعكس ثراء ثقافة المنطقة وتنوعها. وإضافة إلى الزراعة، تساهم تربية الماشية في دعم الاقتصاد المحلي، إذ إن عددا من السكان يعتمدون على الأغنام والأبقار والماعز ويعتبرونها مصدر دخل وغذاء رئيسي. وبفضل موقعها الجغرافي الإستراتيجي، أصبحت النهود مركزا تجاريا نشطا، إذ تربط بين مناطق دارفور ودولة تشاد عبر شبكة طرق حيوية كبرى. كما تزخر المدينة ببنية تحتية جيدة تشمل مدارس ومؤسسات تعليمية عدة، إلى جانب المراكز الصحية والمستشفيات. وتنشط فيها أيضا مشاريع البناء وتجارة التجزئة بشكل متزايد، الأمر الذي عكس النمو السكاني المستمر فيها.

ماذا فعلت إسرائيل في السودان؟
ماذا فعلت إسرائيل في السودان؟

الجزيرة

timeمنذ 8 ساعات

  • الجزيرة

ماذا فعلت إسرائيل في السودان؟

(في كمبالا سلّمت السفارة الإسرائيلية رسالة إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي ليفي أشكول، هنأته فيها وحكومته وشعب الله المختار وأطفال إسرائيل على الانتصار على العرب في حرب 1967)، من مذكرات الفريق جوزيف لاقو أحد مؤسسي حركة التمرد في جنوب السودان. في السياسة، يحتاج قادة الدول إلى امتلاك فكر إستراتيجي يحيط بطبيعة التحديات التي يواجهونها، ومعرفة البيئة الدولية والداخلية التي تُبنى على أساسها الخطط. وبهذا المعنى، ينطبق عليها تعريف الفيلسوف الألماني أرنست هيجل بأن "السياسة هي علم الأحياء التطبيقي". ولأن علم الأحياء يساعد على فهم البيئة ودورها في نمو الكائنات الحية، فإن فهم البيئة السياسية بصورة واقعية يساعد على إنتاج الأفكار التي تمكّن القادة من التعامل مع الظواهر السياسية بواقعية وعقلانية. ومن الظواهر التي غشيت العقل العربي وسيطرت عليه لعقود طويلة، نظرية المؤامرة التي تفترض وجود جهة ما تكيد للدول العربية بانتظام. وخطورة سيطرة ذلك النوع من التفكير أنه أفضى إلى إعفاء الذات من تحمّل نتائج التقصير والفشل من ناحية، كما أفقد العقل العربي ميزة التفكير الموضوعي لمعالجة الظواهر السياسية بعقلانية دون "تهويل أو تهوين"، كما يقول الدكتور محمد المختار الشنقيطي. وفي هذا المقال، الذي نعالج فيه أسباب استمرار الحروب في السودان بصورة حيّرت المراقبين، سنحاول تلمّس الأسباب الجوهرية لهذه الظاهرة، مع التركيز على أصابع خفية ظلّت تحتفظ بدور بارز وكبير في تحريك الأحداث. وإذ نفعل ذلك، سنحاول تجنّب التفسيرات الباطنية التي تُعظّم نظرية المؤامرة وتستسهل من خلالها الوصول إلى النتائج. ما نعنيه بالأصابع الخفية في حروب السودان، التي امتدت منذ العام 1955 قبل سنة من إعلان استقلال السودان وإلى الآن، هي التدخلات الخارجية التي يُمثّل فيها الكيان الإسرائيلي رأس الرمح والماكينة التي تُحرّك الأحداث من وراء المشهد، وذلك دون إغفال الأخطاء الكبيرة التي ارتكبتها النخبة السودانية بجميع توجهاتها الفكرية وانحيازاتها السياسية. واحدة من هذه الأخطاء هي عدم الإدراك الصحيح للدور الإسرائيلي في حروب السودان، وعدم إيجاد المقاربات الناجعة للتعامل معه. فقد حرصت إسرائيل باكرًا على فهم السودان وتعقيداته، وبلورت إستراتيجية للتعامل معه، مدفوعة بمخاوف أمنية وتفسيرات أسطورية قديمة، تعتقد أن تابوت نبي الله موسى، عليه السلام، دُفن في كنيسة أكسوم الحبشية، وأن الملوك الإثيوبيين الذين حكموا السودان في زمان غابر تجري فيهم دماء يهودية من نسل نبي الله سليمان، عليه السلام، وأن هناك سبطًا من بني إسرائيل ضاع في منطقة البحيرات وجنوب السودان ولا بد من العثور عليه. أما النص الحاكم للسياسة الإسرائيلية تجاه السودان، فيتلخص في التصريح الشهير لديفيد بن غوريون الذي يقول فيه: "نحن شعب صغير وإمكاناتنا محدودة، ولا بد من اختزال هذه المحدودية في مواجهة أعدائنا من الدول العربية من خلال تشخيص ومعرفة نقاط الضعف لديها، وخاصة العلاقات القائمة بين الجماعات والأقليات الإثنية والطائفية، حتى نضخّم هذه النقاط إلى درجة التحول إلى معضلة يصعب حلها أو احتواؤها". يؤسس هذا "النص الحاكم" للنهج الإسرائيلي في التعامل مع الدول العربية، حيث صاغت من خلاله الدولة العبرية نظرية "شد الأطراف" للدول العربية أو "بترها" إذا لزم الأمر، كما حدث في جنوب السودان. وتقوم تلك النظرية على إحداث القلاقل في أطراف البلدان العربية، إما استثمارًا للخلافات العرقية، أو تحريكًا للنزاعات الحدودية، وهو ما يحقق الهدف المركزي بإشغال هذه الدول بأنفسها حتى لا تكون جيوشها عامل دعم لدول المقاومة التي تقاتل إسرائيل. وللتأكيد على قِدم المخطط الإسرائيلي، نستعين بمحاضرة رئيس الموساد مائير عاميت عام 1959 والتي قدمها بمناسبة تخريج دفعة جديدة، حيث يقول: "لِمحاصرة التهديد الذي جسدته حركة المد القومي، كان لا بد أن ننجح في إثارة النوازع النفسية لدى الجماعات غير العربية داخل الدول العربية، وخاصة في العراق، وسوريا، ولبنان، والسودان". ولتتبّع حجم الخراب الذي قامت به "الأصابع الخفية" في السودان، نحتاج إلى دراسة عدد من الوثائق على النحو التالي: وثيقة "كيفونيم" التي قدّمها آرييل شارون 1983 لاجتماع وزراء حلف الناتو، والتي لخّصت إستراتيجيات إسرائيل في التعامل مع دول العالم العربي والإسلامي. وفيما يتعلق بالسودان، ورد ما يلي: "السودان أكثر دول العالم العربي والإسلامي تفككًا، فإنه يتكوّن من أربع مجموعات سكانية كلٌّ منها غريبة عن الأخرى، فمن أقلية عربية مسلمة سُنيّة تسيطر على أغلبية غير عربية، إلى وثنيين، إلى مسيحيين." وتقرّر تلك الوثيقة في خاتمتها مؤكدة: "إن دولًا مثل ليبيا والسودان لن يكون لها حضور بصورتها الحالية". في العام 2008، ألقى آفي ديختر، وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي، محاضرة لكبار القادة الأمنيين، وورد فيها ما يلي: "السودان شكّل عمقًا إستراتيجيًا لمصر في حربها حيث تحوّل إلى قواعد تدريب وإيواء لسلاح الجو المصري وللقوات البرية، وأرسل قواته لمنطقة القناة أثناء حرب الاستنزاف. لذلك، كان لا بد أن نعمل على إضعافه وانتزاع المبادرة منه، ومنعه من بناء دولة قوية موحدة، فهذا ضروري لدعم وتقوية الأمن القومي الإسرائيلي". في كتابي (مهمة الموساد في جنوب السودان) لعميل الموساد ديفيد بن عوزيل، والمعروف باسمه الحركي "الجنرال جون"، وكتاب (إسرائيل وحركة تحرير جنوب السودان) للكاتب الإسرائيلي والعميد المتقاعد من جهاز الموساد موشيه فرجي، ترد تفاصيل مخيفة عن حجم الدعم العسكري والسياسي والاقتصادي الذي قدّمته إسرائيل لحركة التمرد في جنوب السودان، حيث شمل إرسال شحنات السلاح، وإرسال الخبراء، وتدريب عشرات الآلاف من الجنود، والمساهمة في تفجير الكباري واحتلال بعض المدن، وتعطيل مشاريع التنمية. يقول موشيه فرجي في كتابه إن التحرك الإسرائيلي نجح في جنوب السودان لعدة عوامل، أبرزها: إحباط الدعم العربي للحكومة السودانية. توقيف العمل في قناة جونقلي التي كان من المؤمل أن توفر 5 مليارات متر مكعب من المياه تتقاسمها مصر والسودان، حيث حذّرت إسرائيل الجنوبيين من أن ذلك المشروع سيكون وبالًا عليهم. كما أن إسرائيل نجحت في تنمية المشاعر القومية لدى الجنوبيين، مما ساعدهم على حسم خيار الانفصال عن الشمال. نستخلص من هذه الوثائق أن إسرائيل صنّفت السودان منذ البداية باعتباره عدوًا إستراتيجيًا، ولذلك تعاملت معه على هذا الأساس في مخططاتها التي هدفت إلى إشغاله طوال الوقت بالنزاعات الداخلية. يقول وزير الأمن الإسرائيلي السابق، آفي ديختر: "أقدمنا على إنتاج وتصعيد بؤرة دارفور لمنع السودان من إيجاد الوقت لتعظيم قدراته. إستراتيجيتنا، التي تُرجمت على أرض الجنوب سابقًا وفي غربه حاليًا، نجحت في تغيير مجرى الأوضاع في السودان نحو التأزّم والانقسام. الصراعات الحالية في السودان ستنتهي عاجلًا أو آجلًا بتقسيمه إلى عدة دول أو كيانات". ونستطيع تلخيص الرؤية الإسرائيلية تجاه السودان في النقاط التالية: استهداف مصر عبر جارها الجنوبي، والعمل الجاد على تعطيل استفادتها من جهود هذا الجار. إشغال السودان بإشعال النزاعات فيه، وتأجيج روح الخلاف بين المكونات المختلفة. السعي لعدم استفادة السودان من موارده الهائلة حتى لا يتحول إلى دولة مركزية. إضعاف السودان عبر سياسة شد الأطراف أو بترها، وهو ما يؤكده آفي ديختر: "سودان هش ومجزأ خير من سودان قوي وفاعل". ولم يقتصر الاستهداف الإسرائيلي للسودان على إشعال النزاعات وإشغاله بالحروب فقط، بل تواصلت المساعي الإسرائيلية في المجالات الدبلوماسية والمنظمات الدولية لخنق السودان وتشديد الحصار عليه. ففي أوج أزمة دارفور، أنشأت المنظمات اليهودية تحالفًا ضم أكثر من 180 منظمة حول العالم للترويج لفكرة الإبادة الجماعية في دارفور، وانطلقت أنشطة تلك المنظمات من متحف الهولوكوست بواشنطن تحت رعاية منظمة "أنقذوا دارفور" والوكالة اليهودية للخدمة الدولية، وتوجت تلك الجهود بإحالة ملف السودان إلى المحكمة الجنائية الدولية. في الحرب الحالية التي اندلعت بعدما شنّت مليشيا الدعم السريع هجومًا مباغتًا على القوات المسلحة، قبل أن توسّع تكتيكاتها الحربية إلى استهداف البنية التحتية وتدمير المؤسسات العامة والخاصة بغرض إعادة السودان قرونًا إلى الوراء، كانت إسرائيل الحاضر الخفي الأبرز في المشهد. فقد اندلعت الحرب بعد نشاط إسرائيلي محموم في البلاد بعيد تطبيع العلاقات مع السودان وتوقيع حكومة الفترة الانتقالية برئاسة حمدوك على "الاتفاقيات الأبراهامية"، حيث انخرطت إسرائيل في نشاط دبلوماسي مكثف تجاه الخرطوم، ركّز على الانشغالات الإسرائيلية الخاصة بجمع معلومات حول منظومة الصناعات الدفاعية السودانية و"تجنيب السودان مخاطر الخلايا الإيرانية"، كما صرّح مسؤول إسرائيلي بعد زيارة للعاصمة الخرطوم 2020. ولإخفاء نواياها الحقيقية بإطالة أمد الحرب، عرضت إسرائيل وساطة بين الجيش والدعم السريع. وفقًا لبيان أصدره وزير الخارجية وقتها إيلي كوهين، الذي أكّد أن إسرائيل تعمل عبر عدة قنوات من أجل التوصّل إلى وقف إطلاق النار، لكن لم يرد أيّ ذكر لتلك الوساطة مرة أخرى، مما يشير إلى أن الدولة العبرية تساهم في إطالة أمد الحرب لإضعاف الطرفين، تنفيذًا لنظرية الأكاديمي الصهيوني إدوارد لوتواك "امنحوا الحرب فرصة". كما أن المعلومات بدأت تتكشّف عن حجم العلاقات الكبيرة بين إسرائيل وحميدتي، الذي حرص على فتح قنوات تواصل مستقلة عن الجيش والدولة منذ فترة مبكرة. ففي تقرير نشره موقع "واللا" الإخباري، قيل إن طائرة رئيس الموساد حطّت في الخرطوم في يونيو/ حزيران 2021، وكان على متنها قيادات من الموساد التقت بحميدتي وقادة من الدعم السريع. بعد نشوب الحرب، نشر موقع "ميدل إيست آي" مقالًا بعنوان "كيف ستكسب إسرائيل الحرب في السودان؟"، أكّد فيه أن إسرائيل حريصة على كسب الدعم السريع للحرب، بالنظر إلى الخدمات التي قدّمها حميدتي في ليبيا بمحاربة الإسلاميين هناك، وتعهّده بـ"تفكيك الإسلاميين داخل الجيش السوداني". وفي الفترة الأخيرة، وبعد أن مالت كفة الانتصار لصالح الجيش، وبدا أن الجيش قادر على حسم المعركة، تعالت أصوات إسرائيلية تتهم السودان بالتعاون مع إيران، وتنادي بالتدخل الإسرائيلي المباشر، لأن الجيش السوداني أصبح "حماس أفريقيا" حسب تلك المزاعم. تحتاج القيادة السودانية إلى إعادة تكييف علاقاتها الخارجية بما يضمن محاصرة المخططات الآثمة ووأدها قبل أن تواصل تدمير المقدرات السودانية. وفي هذا الخصوص، فإن السودان بحاجة إلى جهود أصدقائه للمساهمة في دعم الشرعية التي يمثلها الجيش السوداني والحكومة المدنية برئاسة الدكتور كامل إدريس، كما أن القيادة السودانية بحاجة إلى مجهودات تعزز تماسك الجبهة الداخلية وتُفوّت على المتربصين مخططاتهم الآثمة.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store