
صبابة القولفِي المَنَاهِجِ النَّقدِيَّةِ.. المَنهَجُ السِّيميَائِيُّ
تعود أصول هذا المنهج النقدي إلى كلمة (سيمياء) المشتقة من الجذر اللغوي (وسم)، وقد وردت هذه الكلمة في بعض آيات من القرآن الكريم بمعنى (العلامة)، قال تعالى: "تَعْرِفُهُم بِسِيماهُمْ"، وقال تعالى: "وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ"، وقال تعالى: "وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ"، وقوله تعالى: "وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ"، وقوله تعالى: "سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ"، وقال تعالى: "يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ"، ويكاد أن يتفق المفسرون على أن معاني (السيما): العلامة على الشيء.
كما جاء هذا المعنى (العلاماتي) في الحديث النبوي الشريف، ففي صحيح البخاري، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: "يَخْرُجُ ناسٌ مِن قِبَلِ المَشْرِقِ، ويَقْرَؤُونَ القُرْآنَ لا يُجاوِزُ تَراقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كما يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، ثُمَّ لا يَعُودُونَ فيه حتَّى يَعُودَ السَّهْمُ إلى فُوقِهِ، قيلَ ما سِيماهُمْ؟ قالَ: سِيماهُمُ التَّحْلِيقُ - أوْ قالَ: التَّسْبِيدُ"، وجاء في شرح الحديث: سيماهم: أي علامتهم، وأوصافهم.
وفي كتاب (الكامل في اللغة والأدب) للمبرد (285هـ)، وهو أحد أركان الأدب وأعمدته، نجد هذا النص: "ومعنى قوله: سيما الخسف، تأويله علامة، وقال أبو عبيدة في قوله عز وجل: "مسومين"، قال: معلمين، واشتقاقه من السيما التي ذكرنا، ويقال في هذا المعنى: سيمياء، ممدود، قال الشاعر: غلام رماه الله بالحسن يافعاً / له سيمياء لا تشق على البصر".
ويشتق من المنهج النقدي السيميائي مصطلحات: (السيمياء - السيميولوجيا - السيميوطيقا)، وكلها تعني: علم العلامات المرتبط بالمعنى، وقد أصبح هذا العلم اتجاهاً نقديًّا، ومنهجاً علمياً في كثير من الأبحاث والدراسات عند أهل اللغة، والأدب، والنقد، وغيرهم، وقد عُرفت ملامح هذا المنهج قديماً، غير أن أول من فكّر فيه منهجياً الغربيون، كــ: (فرديناند دي سوسير، وشارل ساندرز پيرس، وفلاديمير پروپ، ولويس خورخي پرييتو، وأمبيرتو إيكو، وألخيرداس جوليان غريماس، وتشارلز موريس، ورولان بارت، وتوماس سيبوك)، ثم تأثر العرب المعاصرون فيما بعد بجهود هؤلاء، فأفادوا في دراساتهم منها، وذلك عن طريق ترجمات بعض النقاد المغاربة ودراساتهم، إذ كان لهم فضل في جر تلك الجهود إلى الحقل العربي، كما عند: محمد مفتاح، وسعيد بنكراد، ومبارك حنون، وغيرهم.
من هنا اتفق أكثر النقاد السيميائيين على أن السيميائية دراسة العلامات، أو الإشارات التي تقود إلى فهم المعنى، وهي عند العالم اللغوي السويسري (فرديناند دي سوسير 1913م): "علم يدرس دور الإشارات بوصفه جزءاً من الحياة الاجتماعية" وهو ما يمكن أن نصفه بالممارسة اللغوية الاجتماعية، أو الممارسة اللغوية للحياة بشكل عام، أو كما قال العالم اللغوي، والناقد الأدبي الروسي (رومان ياكبسون 1982م) بأن السيميائية: "علم الإشارات العام"، وهو تعريف موجز وجامع؛ لأنه يدخل في إطاره كل ما تؤديه الإشارة.
وقد يكون الناقد الإيطالي (إمبرتو إيكو 2016م) أكثر توسّعاً في تعريفه الموجز للسيميائية عندما عرّفها بأنها: "كل ما يمكن اعتباره إشارة"؛ لذلك فالسيميائية ليست محصورة في الإشارات، والعلامات، والرموز في حد ذاتها، بل إنها تتسع لتشمل كل ما ينوب عن العلامات أيضاً؛ ولهذا يقول (دانيال تشاندلر) في كتابه (أسس السيميائية): "من منظور سيميائي، تأخذ الإشارات شكل كلمات، وصور، وأصوات، وإيماءات، وأشياء"، ونحوها من الوسائل التي توصل إلى كيفية صناعة المعنى؛ لذلك هي عند الفيلسوف الأمريكي (تشارلز بيرس 1914م) : "دستور شكلاني للإشارات".
د. فهد إبراهيم البكر

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


صحيفة سبق
منذ 4 ساعات
- صحيفة سبق
آل الشيخ في خطبة الجمعة: تعاقب الأعوام موعظة للمؤمن.. والسعيد من تزوّد قبل فوات الأوان
أوصى فضيلة إمام وخطيب المسجد النبوي الشيخ الدكتور حسين آل الشيخ، المسلمين بتقوى الله جل وعلا، فتقواه سبب الفوز بكل مرغوب، والنجاة من كل مرهوب، مستشهدًا بقوله تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). وأوضح فضيلته، أن من صفات أهل الإيمان تفكرهم الدائم في تعاقب الأيام وتواليها، واستشعارهم لما تحمله من عبر وعظات، مما يقودهم لعبادة ربهم، والتقرب إليه بمختلف الطاعات، والابتعاد عن المعاصي والسيئات، مستشهدًا بقوله تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ). وقال: "حق علينا الاعتبار بتوالي السنين وسرعة مرورها، وأن نحاسب الأنفس محاسبة جادة صادقة تكون منها التوبة النصوح، والإنابة الجادة لما يحقق العبودية الكاملة لله جل وعلا، ففي اختلاف الليل والنهار، ومرور الأيام والشهور، أعظم واعظ لمن تذكر وتدبر، واعتبر تدبرًا يؤول به لتعظيم الخالق، وتحقيق العبودية له جل وعلا". وأشار الدكتور آل الشيخ، إلى أن الواجب على العبد المسلم في هذه الحياة، المسارعة إلى مرضاة ربه عز وجل، والبعد التام عن الآثام والسيئات، فشأن المسلم أن يزداد بمرور الأوقات تقربًا لربه، محذرًا من الانشغال في الدنيا الفانية عن الآخرة الباقية، مستشهدًا بقوله تعالى: (يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ). وتابع فضيلته مبينًا أن المسلم هو من يجعل مرور الأعوام فرصة للتزود من الخيرات ومضاعفة الصالحات، مستدلًا بقول النبي ﷺ: "خيركم من طال عمره وحسن عمله"، مشيرًا إلى أن الميزان في الربح والخسران، والفوز والحرمان، إنما هو بكمال الإيمان، وطاعة الرحمن، ومتابعة سيد ولد عدنان عليه أفضل الصلاة والسلام. وذكر فضيلته أن من علامات الشقاء، أن تمر الأعوام والإنسان غافل عن محاسبة نفسه ومراجعة حاله، فالتسويف في التوبة قسوة عظمى وبلية كبرى، مبينًا أن الواجب على المسلم أن يلين قلبه لآيات ربه الكونية والشرعية، وأن يصلح علاقته بدينه وشريعة ربه، مستدلًا بقوله تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ). وختم إمام وخطيب المسجد النبوي الخطبة موصيًا المسلمين بالمبادرة – رحمهم الله – إلى المسارعة في الخيرات، والتسابق في الطاعات، والحذر من الوقوع في المعاصي والسيئات، والتمسك بشرع رب الأرض والسماوات، وحثّ على الإكثار من الصلاة والسلام على نبينا محمد ﷺ، لما في ذلك من رفعة في الدرجات، ونيلٍ للثواب والحسنات.


صدى الالكترونية
منذ 8 ساعات
- صدى الالكترونية
سريلانكا تدشن أضخم طائراتها بمراسم دينية لحلول البركة!..فيديو
استقبلت خطوط SriLankan أضخم وأغلى طائراتها من طراز (Airbus A330-200) فقررت عمل مراسم خاصة لتدشينها . وحرصت الخطوط الجوية السريلانكية على دعوة رجال دين من الديانات الأربع الرئيسية في البلاد (البوذية، الهندوسية، المسيحية، الإسلام) لإقامة طقوس دينية من أجل حلول البركة فيها وضمان سلامة الركاب حسب قولهم. وأظهرت مقاطع قيام رجال الدين بإقامة الطقوس الدينية كلاً على حسب دينه ، فيما قام رجل الدين الاسلامي بتلاوة الآيات من القرآن الكريم .


الرياض
منذ 16 ساعات
- الرياض
صبابة القولفِي المَنَاهِجِ النَّقدِيَّةِ.. المَنهَجُ السِّيميَائِيُّ
تعود أصول هذا المنهج النقدي إلى كلمة (سيمياء) المشتقة من الجذر اللغوي (وسم)، وقد وردت هذه الكلمة في بعض آيات من القرآن الكريم بمعنى (العلامة)، قال تعالى: "تَعْرِفُهُم بِسِيماهُمْ"، وقال تعالى: "وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ"، وقال تعالى: "وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ"، وقوله تعالى: "وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ"، وقوله تعالى: "سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ"، وقال تعالى: "يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ"، ويكاد أن يتفق المفسرون على أن معاني (السيما): العلامة على الشيء. كما جاء هذا المعنى (العلاماتي) في الحديث النبوي الشريف، ففي صحيح البخاري، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: "يَخْرُجُ ناسٌ مِن قِبَلِ المَشْرِقِ، ويَقْرَؤُونَ القُرْآنَ لا يُجاوِزُ تَراقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كما يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، ثُمَّ لا يَعُودُونَ فيه حتَّى يَعُودَ السَّهْمُ إلى فُوقِهِ، قيلَ ما سِيماهُمْ؟ قالَ: سِيماهُمُ التَّحْلِيقُ - أوْ قالَ: التَّسْبِيدُ"، وجاء في شرح الحديث: سيماهم: أي علامتهم، وأوصافهم. وفي كتاب (الكامل في اللغة والأدب) للمبرد (285هـ)، وهو أحد أركان الأدب وأعمدته، نجد هذا النص: "ومعنى قوله: سيما الخسف، تأويله علامة، وقال أبو عبيدة في قوله عز وجل: "مسومين"، قال: معلمين، واشتقاقه من السيما التي ذكرنا، ويقال في هذا المعنى: سيمياء، ممدود، قال الشاعر: غلام رماه الله بالحسن يافعاً / له سيمياء لا تشق على البصر". ويشتق من المنهج النقدي السيميائي مصطلحات: (السيمياء - السيميولوجيا - السيميوطيقا)، وكلها تعني: علم العلامات المرتبط بالمعنى، وقد أصبح هذا العلم اتجاهاً نقديًّا، ومنهجاً علمياً في كثير من الأبحاث والدراسات عند أهل اللغة، والأدب، والنقد، وغيرهم، وقد عُرفت ملامح هذا المنهج قديماً، غير أن أول من فكّر فيه منهجياً الغربيون، كــ: (فرديناند دي سوسير، وشارل ساندرز پيرس، وفلاديمير پروپ، ولويس خورخي پرييتو، وأمبيرتو إيكو، وألخيرداس جوليان غريماس، وتشارلز موريس، ورولان بارت، وتوماس سيبوك)، ثم تأثر العرب المعاصرون فيما بعد بجهود هؤلاء، فأفادوا في دراساتهم منها، وذلك عن طريق ترجمات بعض النقاد المغاربة ودراساتهم، إذ كان لهم فضل في جر تلك الجهود إلى الحقل العربي، كما عند: محمد مفتاح، وسعيد بنكراد، ومبارك حنون، وغيرهم. من هنا اتفق أكثر النقاد السيميائيين على أن السيميائية دراسة العلامات، أو الإشارات التي تقود إلى فهم المعنى، وهي عند العالم اللغوي السويسري (فرديناند دي سوسير 1913م): "علم يدرس دور الإشارات بوصفه جزءاً من الحياة الاجتماعية" وهو ما يمكن أن نصفه بالممارسة اللغوية الاجتماعية، أو الممارسة اللغوية للحياة بشكل عام، أو كما قال العالم اللغوي، والناقد الأدبي الروسي (رومان ياكبسون 1982م) بأن السيميائية: "علم الإشارات العام"، وهو تعريف موجز وجامع؛ لأنه يدخل في إطاره كل ما تؤديه الإشارة. وقد يكون الناقد الإيطالي (إمبرتو إيكو 2016م) أكثر توسّعاً في تعريفه الموجز للسيميائية عندما عرّفها بأنها: "كل ما يمكن اعتباره إشارة"؛ لذلك فالسيميائية ليست محصورة في الإشارات، والعلامات، والرموز في حد ذاتها، بل إنها تتسع لتشمل كل ما ينوب عن العلامات أيضاً؛ ولهذا يقول (دانيال تشاندلر) في كتابه (أسس السيميائية): "من منظور سيميائي، تأخذ الإشارات شكل كلمات، وصور، وأصوات، وإيماءات، وأشياء"، ونحوها من الوسائل التي توصل إلى كيفية صناعة المعنى؛ لذلك هي عند الفيلسوف الأمريكي (تشارلز بيرس 1914م) : "دستور شكلاني للإشارات". د. فهد إبراهيم البكر