
"نبضات القرآن".. ثمانية مسارات عن حياة النص المقدس
الكتاب المقدّس
بين المدجنين والموريسكيين"، الذي افتتحته جامعة غرناطة بالتعاون مع المجلس الأعلى للبحث العلمي (CSIC) يوم الأربعاء الفائت، محاولة بحثية وتاريخية لاستعادة الدورة الحياتية
للقرآن الكريم
كما عاشها المسلمون الذين ظلوا في شبه الجزيرة الإيبيرية بعد سقوط الأندلس، الذين عرفوا لاحقاً باسم المدجنين ثم الموريسكيين.
يهدف المعرض المقام في قاعة لا كبييلا، والذي يتواصل حتى نهاية شهر أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، إلى إحياء ذاكرة ثقافية منسية، وتسليط الضوء على حضور النص المقدس للإسلام في البيئات التي حوصر فيها وأُجبر معتنقوه على التخفّي أو التنصّر القسري.
يُقسم المعرض إلى ثمانية محاور موضوعية تشكّل ما يشبه مساراً لحياة القرآن، هي: فاتحة القرآن، والمدجنون والمورسكيون، والقرآن ونصوص أخرى، ومهنة القلم، وحفظ كلمة الله، والقرآن بين الحياة والموت، والقرآن في أيدي المسيحيين، والمنفى والإخفاء. توثّق هذه المحاور الجوانب المتعددة للعلاقة بين المسلمين والقرآن في ظل أوضاع التقييد والملاحقة الدينية، بدءاً من عمليات النسخ والتعليم السرّي، مروراً بالاستخدامات الطقسية والسحرية، وصولاً إلى ترجمات المستشرقين المسيحيين وإخفاء المخطوطات داخل الجدران قبيل النفي، وانتهاءً بما عُثر عليه من تلك النصوص في العصور اللاحقة. من بين أبرز المعروضات: نسخة "قرآن طليطلة" (1606) التي تجمع بين العربية والعجمية، وقرآن أرندا دي مونكايو، أحد أقدم الشواهد على الترجمة الثنائية للنص، و"قرآن سيغوربي" الذي استُخدم في الطقوس الروحية.
كما يُعرض ما يُعرف بـ"الرسالة الجنائزية" أو "جواز المرور إلى العالم الآخر" إلى جانب أدوات الكتابة التقليدية، وأمثلة على التعليم الديني السري في بيوت الموريسكيين بعد حظر الإسلام.
أكثر من 40 قطعة أصلية مأخوذة من مؤسسات ومجموعات أرشيفية مختلفة
لا يغفل المعرض أيضاً العلاقة المعقدة بين القرآن والمجتمع المسيحي، حيث يُعرض مصحف من القرن السابع عشر احتوى على تعليقات لاتينية كتَبها راهب يسوعي من غرناطة في سياق الجدل الديني ومحاولات التنصير القسري. كما يضم المعرض تسجيلات صوتية تفاعلية لتلاوات قرآنية، وأدوات تعليمية من مدارس سرّية مثل المدرسة اليوسفية، ووثائق من محاكم التفتيش توضح كيف جرت مراقبة هذا التراث ومحاولة محوه.
تستند محتويات المعرض إلى نتائج مشاريع بحثية تهدف جميعها إلى تحليل حضور القرآن في السياقات الثقافية والدينية الأوروبية خلال العصور الوسطى والعصور الحديثة المبكرة، مع التركيز على شبه الجزيرة الإيبيرية باعتبارها مجالاً غنياً للفهم والتمثيل.
إلى جانب ذلك كله، يضم المعرض أكثر من 40 قطعة أصلية مأخوذة من مؤسسات ومجموعات أرشيفية مختلفة على المستوى الوطني، من أبرزها: جامعة غرناطة، ومتحف الحمراء، ومكتبة طليطلة، ومكتبة إكستريمادورا، والمدرسة العليا للدراسات العربية، وأرشيف محكمة غرناطة، وبلدية سيغوربي، والأكاديمية الملكية للتاريخ.
آداب
التحديثات الحية
"القرآن الأوروبي".. توسيع الحدود الدينية والثقافية لفكرة "أوروبا"
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


القدس العربي
منذ 2 أيام
- القدس العربي
عبد السلام عامر: نابغة الموسيقى المغربية
لكل أمة مميزات ودروب من الفن تبرع فيها وتبلغ ذراها، والموسيقى وألوان الغناء مما يمتاز به المغاربة، ولديهم من أنواعها ما يتفردون به ولا يوجد لدى سواهم، ويغلب على هذه الفنون الجمال والإتقان والنظام المنضبط، وبين كنوز المغرب الفنية يلمع اسم الموسيقار الراحل عبد السلام عامر، كجوهرة ثمينة نادرة، هو لحن خالد لا يزال يتردد في وجدان المغاربة، وحلم موسيقي جميل رحل مبكراً كالعديد من العباقرة في تاريخ الموسيقى. ولد عبد السلام عامر عام 1939 وتوفي عام 1979، وهو ابن مدينة القصر الكبير في شمال المغرب، فقد بصره وهو لا يزال في عامه الثاني، وفي المغرب يسمون من حرم نعمة البصر «بصيراً». مثل سيد درويش ومحمد عبد الوهاب والكثيرين من الأفذاذ في عالم الموسيقى والفن والأدب، كانت بداية عبد السلام عامر في كنف القرآن الكريم، وانتظم في الكُتاب منذ طفولته المبكرة، حيث يحظى الأطفال، بالإضافة إلى تنمية الجانب الديني والروحاني، بتذوق اللغة العربية وضبطها نطقاً وسماعاً، والتتبع السليم لإيقاع اللغة وميزانها، وإثراء المخيلة وتعميقها بشكل كبير. كان عامر الطفل يحفظ ويردد، وظهرت موهبته وقدرته على الحفظ السريع بمجرد السماع، تلك القدرة التي تفوق أقرانه من المبصرين، فقد أوتي الأذن الماهرة والذاكرة القوية. بعد ذلك تلقى تعليمه في المدارس والجامعات المغربية، وكان يجيد اللغة الإسبانية، وقد تربت أسماعه أيضاً منذ البداية على المدائح النبوية والأناشيد الصوفية، والتراث والفولكلور المغربي، وللشمال فنونه الخاصة، كما لكل منطقة من مناطق المغرب، التي كان يستمع إليها عامر بكل تأكيد، وأخذ يختزن موسيقى بلاده في وجدانه، إلى أن تفجرت موهبته الإبداعية وانطلقت موسيقى جديدة تضيء سماء المغرب، موهبة فطرية قل مثيلها، فذلك الجمال الساحر وتلك الإلهامات الفاتنة، إنما هي في الوقت ذاته بناء محكم ونسيج هارموني معقد دقيق ذو تفاصيل متشابكة. لكل عصر موسيقاه ويجب أن يجد الناس موسيقى وقتهم وألحان حاضرهم، وقد صنع عبد السلام عامر موسيقى عصره منذ بداية الستينيات، وعلى مدى سنوات عطائه الفني. أدرك عامر أن مرحلة جديدة من الموسيقى المغربية لا بد أن تبدأ، وأدرك كذلك أن وراءه تاريخ طويل من الموسيقى في بلاده يمتد على مساحة واسعة من التنوع والتأثير. انتبه إلى عصره ودفع بقوة نحو موسيقى مغربية جديدة، لم يقدم الأشكال التراثية أو يستلهمها بشكل مباشر، لا شك سنجد لمحة هنا أو هناك من الموسيقى المغربية في شمال المملكة أو جنوبها، أمازيغية أو أندلسية أو جبلية أو شعبية، كما لم يلق بنفسه في أحضان الأشكال والقوالب الغربية، وإن اعتمد في بعض أعماله على بعض التقنيات السيمفونية، أو الأوركسترالية. كذلك لا يمكن القول إنه اتبع النهج المشرقي في التلحين بشكل كامل، لكنه قدّم موسيقى مغربية جديدة عبّرت عن روح عصرها، ووجد النغمة التي تحمل مشاعر المغاربة، وهي امتداد جمالي للموسيقى المغربية، التي عرفت مراحل وفترات كثيرة قديمة ومتنوعة. تلك الموسيقى الخالدة التي ألفها، تحمل عناصر بقائها واستمراريتها وقابليتها للسماع في كل وقت، بل هي كنز لا تزال تكتشف جواهره، وتعد الآن وسوف تظل من كلاسيكيات الموسيقى المغربية رغم حداثتها النسبية في عمر الفن المغربي الطويل. الموهبة النادرة وحوادث الأقدار كان سوء الحظ يطارد عبد السلام عامر من حين إلى آخر، ولعل الضربة الكبرى التي تلقاها كانت في العاشر من شهر يوليو/تموز عام 1971، اليوم الذي يؤرخ لمحاولة الانقلاب العسكري الفاشلة في المغرب، المعروفة باسم انقلاب الصخيرات. في ذلك اليوم كان عامر مع عبد الحليم حافظ في إذاعة الرباط، عندما هاجم الانقلابيون الإذاعة، وأرهبوا جميع من فيها وبحثوا عمن يتلو بيان انقلابهم، ولا نعلم لماذا لم يقرأه أحد رجالهم. في البداية طلبوا من عبد الحليم حافظ أن يقوم هو بقراءة البيان، لكنه تملص منهم بالحيلة، وأقنعهم بأنه ليس من اللائق أن يقرأ مصري بيان انقلاب عسكري في المغرب، ولا تخفى علاقة عبد الحليم حافظ بالمغرب، وزياراته الدورية المتكررة التي كان يقوم بها إلى هناك، وكذلك علاقته بالحسن الثاني الذي قربه إليه وفتح له أبواب القصر الملكي، وأحاطه بالرعاية في أوقات كثيرة. ومن غرائب الأمور أن عبد الحليم حافظ استطاع أن يكون مقرباً من الناصرية والملكية في آن واحد، فكان في مصر رمزاً من أكبر رموز الناصرية، وصوتها الأول الذي يتغنى بأمجادها، ويبث أفكارها، ويعيدها على أسماع الشعب في كل حين ليرسخها في الأذهان ولا يدع مجالاً لسواها. بينما كان في المغرب يعيش في وئام تام مع الملكية، التي تسمى بالرجعية في القاموس الناصري، والتي ترفضها الناصرية، وربما تسعى لإسقاطها أو لا تشجع وجودها على أقل تقدير. كان عبد الحليم حافظ يغني للملكية وللملك الراحل الحسن الثاني في المغرب، كما يغني للناصرية والرئيس الراحل جمال عبد الناصر في مصر، وقد ترك عبد الحليم مجموعة كبيرة من الأغنيات الجميلة التي تمجد المغرب والحسن الثاني، منها على سبيل المثال «عشت يا الحسن»، «الماء والخضرة والوجه الحسن»، «آدي المغرب في عهد الحسن»، وغيرها من الأغنيات الجميلة. رفض عبد الحليم إذن أن يقرأ بيان الانقلاب العسكري بصوته الجميل على أسماع المغاربة، فأمسك الانقلابيون بعبد السلام عامر ولم يفلتوه، ولما كان كفيفاً لا يستطيع أن يطالع الأوراق، حفّظوه البيان وأجبروه على تلاوته. ولحسن حظ الشعب المغربي تم إحباط الانقلاب وإلقاء القبض على الانقلابيين، لكن لسوء حظ عبد السلام عامر أن الأمر كان جللاً، ولم يكن من السهل التسامح معه، حيث أحاطت الريبة بكل شيء وطالت الشكوك الجميع. يقال إنه تم حبس عامر لبعض الوقت، ثم تدخل شقيق الحسن الثاني الأمير مولاي عبد الله من أجل استصدار العفو عنه وإطلاق سراحه، وهو ما تم بالفعل لكن ربما مع بقايا غضب وقليل من الحظر أو الحذر، وربما لم يكن هناك شيئاً من ذلك، وإنما صار الاسم ذاته مصدراً لقلق وخوف وتوجس بعض المسؤولين، وربما اتفق الجميع دونما اتفاق على أن يسدلوا الستار مؤقتاً على هذا الاسم. لكن تتبع المسيرة الفنية للموسيقار الراحل، لا يدلنا على ما يقال من أنه انطفأ واختفى تماماً بعد حادثة بيان الانقلاب، أو أنه كان على الهامش، حيث نرى أنه كان في مركز وقلب الأحداث الوطنية تحديداً، يواكب خطوات الوطن بألحانه الحماسية الرائعة، ويخاطب وجدان المغاربة في لحظاتهم التاريخية، كألحانه للمسيرة الخضراء عام 1975 على سبيل المثال، ومن أعماله الوطنية أغنية «الله أكبر كبروا» وأغنية «الجهاد المقدس». ومن سوء حظ عبد السلام عامر أيضاً أنه كان في مصر عندما وقعت نكسة 1967، فتوقفت رحلته الفنية وغادر إلى المغرب عند أول فرصة أتيحت وسط أجواء بالغة الاضطراب. العلاقة بالشعر وتلحين القصائد لم تكن بداية عبد السلام عامر سهلة، وسط عالم فني يدخله جديداً، وكان في ذلك الوقت دون العشرين من عمره، فتعرض للرفض من بعض الإذاعات، وانتقل بين أكثر من مدينة من المدن المغربية، إلى أن انطلقت أولى أغنياته عبر الأثير، ويقال إنها كانت أغنية «ما بان خيال حبيبي» التي لحنها وكتب كلماتها وغناها بصوته، ثم بدأت أعماله تتوالى وتفرض موهبته نفسها على الجميع، كموهبة لا تنكر وعبقرية لا تجحد. وفي عصره الذي كان كريماً يجود بالمواهب الفذة، التقى عامر بالشاعر المغربي عبد الرفيع الجواهري، وبالقمم الثلاث الشاهقة في الغناء المغربي، عبد الهادي بلخياط ومحمد الحياني وعبد الوهاب الدكالي، وكان كل هؤلاء في بدايات العشرينيات من أعمارهم على الأرجح، وعلى الرغم من أن عبد الوهاب الدكالي يلحن الغالبية العظمى من أعماله بنفسه، إلا أنه غنى من ألحان عبد السلام عامر أغنية «حبيبتي»، وأغنية «آخر آه». وآنذاك كان المغرب بلد الملحون والتراث الهائل من القصائد وفنون الموسيقى والغناء، يكتب شعره الجديد ويؤلف موسيقاه المعاصرة ويشدو طرباً أصيلاً بروح العصر. في عام 1962 بزغ نور «القمر الأحمر»، تلك القطعة الفنية الخالدة التي اجتمع على إبداعها الثلاثي الباهر، الشاعر عبد الرفيع الجواهري والموسيقار عبد السلام عامر والمطرب عبد الهادي بلخياط، وكان عامر في الثالثة والعشرين من عمره، عندما قام بتلحين هذا العمل الجبار، الذي عندما استمع إليه محمد عبد الوهاب أبى أن يغادر مكتبته الموسيقية، وضمه إلى ما يحرص على الاحتفاظ به. القمر الأحمر لحظة إبداعية نادرة لا تتكرر كثيراً، اتفق فيها بلوغ ذروة التعبير الفني شعراً ولحناً وغناء، وفي هذه الأغنية أو القصيدة المغناة، تتجلى ملامح عبقرية عامر الموسيقية، وقدرته على الوصف بالنغم وتلحين قصيدة تتناول بعضاً من جمال الطبيعة في المغرب، ونهر أبي رقراق الذي يجري منساباً في الرباط. وصف الشاعر ما رآه وعبر بالكلمات عن رؤيته لهذا الجمال وانطباعاته الخاصة، وغنى المطرب بإحساسه الخاص بهذا الجمال الذي رآه أيضاً، أما عامر الذي لم ير نهر أبي رقراق في حياته، ولم ينظر إلى القمر في يوم من الأيام، نجد أن لحنه احتوى على عناصر بصرية إلى جانب العناصر السماعية الأساسية، فهناك إلى جانب تلحين المقاطع الشعرية، التأملات الموسيقية البحتة المتمثلة في الفواصل والمقدمة، هي من وحي القصيدة بطبيعة الحال، لكنها تنفرد بالتعبير الخاص والتحرر من موسيقى الكلمات وإيقاعاتها وكذلك أخيلتها. يمكن القول، إن القمر الأحمر نموذج للشكل المكتمل لما يجب أن يكون عليه تلحين القصيدة العربية، كما أنها من الأعمال التي تتحول إلى مشكلة فنية لمبدعها وللآخرين أيضاً، حيث وضع هذا اللحن بعيداً عالياً فوق القمر، وكان ولا يزال مثالاً سامياً من الصعب تجاوزه حتى من عبد السلام عامر نفسه، لكن هل نفى جمال لحن القمر الأحمر غيره من الألحان، بالطبع لا، لكنه احتفظ لنفسه بمكانة خاصة متفردة. كان عبد السلام عامر مغرماً بالشعر، يبحث عن القصيدة دائماً، ويسعى لاختيار ما يلحنه ويقدمه للسامع، وأراد أن تمتزج موسيقاه بالروائع المختارة من القصائد العربية، وكما التقت ألحان محمد عبد الوهاب بأشعار أحمد شوقي منذ العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي في مصر، التقت بعد ذلك بعقود ألحان عبد السلام عامر بأشعار عبد الرفيع الجواهري في المغرب. عندما يلتقي النغم بالشعر تكون الموسيقى مضاعفة حيث يضيفها كل منهما إلى الآخر، وقد كان عامر ضليعاً في تلحين القصيدة، يتفاعل مع النص الشعري بوعي راق وحساسية بالغة، يعبر عن أخيلتها وصورها البلاغية، وحالاتها الشعورية والوجدانية. لم يكن يلوي عنق القصيدة ويتصارع معها من أجل أن يلحنها، ولم يكن يعبث بأوزانها وإيقاعاتها، بل كان يحترم موسيقاها الداخلية ويبرزها، ويظهر جمالياتها على أفضل وجه، ويذهب بها نحو آفاق أرحب. لحّن عامر مجموعة كبيرة من قصائد عبد الرفيع الجواهري، كالقمر الأحمر وراحلة وميعاد، وقصة الأشواق، وغيرها من القصائد، كما لحن مجموعة من القصائد لشعراء مصريين، كالشاعر أحمد رامي الذي لحن من أعماله قصيدة «أرادوني» التي غناها محمد الحياني، ومن قصائد فاروق شوشة لحن قصيدة «واحة العمر» وقصيدة «سمعت عينيك» وقد غناهما عبد الهادي بلخياط. كان عامر يحترم الجمهور ويضعه في مكانة عالية، فلا يقدم إليه إلا ما هو رفيع وراق وممتع، ويساعد العامة على السمو الجمالي والتذوق العميق للألحان الرصينة، وعندما نستمع إليه في حواراته القليلة المتاحة، نجده يتحدث بلسان طلق وأسلوب أدبي جميل، ونجد أنفسنا أمام فنان مثقف، بل رفيع الثقافة شديد الرقي، يتكلم في وقار وجدية مع ابتسامة وبشاشة لا تنقص منهما، بل تزيده قرباً إلى الجمهور، وتكشف عن روحه الطيبة التي تنبع منها ألحانه. التعبير وخلق المعنى الموسيقي تميل موسيقى عبد السلام عامر إلى التعبير بدرجة كبيرة، وتعتني بالجماليات والزخارف والتنميق، لكنها تضع المعنى في المقام الأول، أو تسخّر كل ذلك من أجل وضوح الفكرة الموسيقية، والتعبير لديه قد يكون مطابقاً للكلمة الملحنة، وقد يكون مناقضاً لها عمداً من أجل خلق تأثير نفسي معين، كما في قصيدة «سمعت عينيك» عندما يغني بلخياط: «سمعت عينيك وما قالتاه.. سمعت كل الهمس خلف الجفون»، نجد تصاعداً موسيقياً عند «كل الهمس» على العكس من الهدوء المفترض والنغم الحالم المتوقع هنا، لكن جاء الارتفاع الموسيقي ليدل على عظم هذا الهمس وما في داخله من أسرار. وفي قصيدة «أرادوني» عندما يغني الحياني: «أرادوني على أني أبوح.. وهل يتكلم القلب الجريح.. وماذا يبتغون وفي فؤادي جوى.. أفضى به الدمع الفصيح»، بعدها تنطلق الموسيقى وتندفع لتبوح وتفرغ شحنات شعورية تسبق ما سيأتي من كلمات. تتميز موسيقى عبد السلام عامر بقوة التركيب النغمي وبالنبرة الموسيقية المتفردة والبلاغة الطاغية، ونجد عنده ذلك التوازن بين دور الموسيقى في تنغيم الكلمة والتعبير عنها، وصوت الموسيقى البحتة وتعبيرها الخاص، وقد تميزت مقدماته الموسيقية للأغنيات عامة وللقصائد بشكل خاص بالجمال الفائق، وكانت تمهيداً وجدانياً يدخل السامع في حالة شعورية تهيئه للسماع العميق. كما كان يوظف التكرار كجمالية من جماليات الموسيقى، لا لملء الوقت وتعويض النقص الإبداعي، وكان يوظف المقامات العربية والإيقاعات والموازين المغربية للتعبير عن أعمق الأحاسيس ولخلق جماليات مبتكرة، كما يلاحظ لديه انسيابية الفكرة اللحنية، والترجمة الموسيقية الدقيقة للمعاني والصور الشعرية، وبراعة التلوين وتكثيف النغم، وقدرته على أن ينتج فناً يتذوقه الجميع رغم رصانته وتعقيده الفني، لذلك ظل حياً في قلوب المغاربة يذكرونه بفخر وحنين، وظل كذلك حياً في ذاكرة الموسيقى العربية. كاتبة مصرية


العربي الجديد
منذ 5 أيام
- العربي الجديد
من فرويد إلى ماركيز.. القرن العشرون في ثلاثين كتاباً
من "تفسير الأحلام" لسيغموند فرويد إلى "في الشعر الجاهلي" ل طه حسين ، ومن "عوليس" لجيمس جويس و"1984" لجورج أورويل، و"الغريب" لألبير كامو، إلى "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ، و"الصخب والعنف" لويليام فوكنر، و"الخطيئة والتكفير" لعبد الله الغذامي. هي أعمال أدبية وفكرية تنتمي إلى سياقات وتيارات متباينة، وقد لا تجمعها قواسم موضوعاتية واضحة. لكن ما يوحّدها جميعاً هو أنها صدرت خلال القرن العشرين. فهل يمكن، إذاً، قراءة هذا القرن وتحولاته الكبرى من خلال ثلاثين كتاباً شكّلت ملامحه الفكرية والجمالية؟ أعمال شكّلت وعي العالم "ما وراء الأغلفة.. روائع القرن العشرين" عنوان كتاب صدر حديثاً للشاعر السعودي إبراهيم زولي عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت وعمان، يرصد فيه ثلاثين عملاً أدبياً وفكرياً صدرت خلال القرن الماضي، لنستكشف معاً كيف شكّلت هذه الأعمال وعي العالم، وكيف استحالت إلى جسور تربط بين الشرق والغرب، والأدب والفلسفة، والفرد والمجتمع، من الرواية إلى الشعر، ومن الفلسفة إلى النقد الاجتماعي والسياسي. يرى زولي في مقدمة كتابه أن "القرن العشرين كان بمثابة مختبر للأفكار"، إذ شهد صعود الأيديولوجيات الكبرى وانهيارها، وتفكك الإمبراطوريات، وولادة حركات التحرر في العالم الثالث. وبحسب الكاتب، فإن أهمية هذا القرن لا تكمن فقط في غنى إنتاجه الفكري والأدبي، بل في كونه فترة تحوّل جذري. ففيه ظهرت الحداثة وما بعد الحداثة، وتعرّضت الأطر التقليدية في الرواية والشعر والفلسفة للتفكيك وإعادة البناء، بما عكس التحولات العميقة في الوعي الإنساني والعلاقات الاجتماعية والسياسية. ينطلق المؤلف من العالم العربي مع "زينب" لمحمد حسين هيكل، أول رواية عربية بالمعنى الحديث، ثم يعبر إلى روسيا مع "الأم" لمكسيم غوركي، أحد أبرز أعمال الأدب الاشتراكي. من هناك، يتوقف في اليونان مع "زوربا" لنيكوس كازانتزاكي، وهي رواية تحتفي بالحرية والروح الإنسانية، قبل أن يصل إلى المكسيك مع "بدرو بارامو" لخوان رولفو، العمل الذي ألهم تيار الواقعية السحرية في أميركا اللاتينية. آداب التحديثات الحية قوائم صيفية للجوائز الفرنسية.. روايات عن العنف والذاكرة هويات ثقافية وفكرية متنوعة في "المسخ" لفرانز كافكا، نجد انعكاساً حاداً للاغتراب الفردي في عالم يزداد جموداً وتجريداً، بينما يقدم جيمس جويس في "عوليس" مغامرة لغوية وفكرية تعيد تعريف شكل الرواية الحديثة ومعناها. ومن جهة أخرى، يعبّر عمل "الجنس الآخر" لسيمون دي بوفوار عن صوت المرأة في مواجهة التمييز البنيوي، في حين تجسّد رواية "محبوبة" لتوني موريسون مأساة العبودية وآثارها النفسية والاجتماعية العميقة عبر أجيال متعاقبة. ولا تقتصر القائمة على الأعمال الأدبية، بل تمتد لتشمل نصوصاً فكرية أثارت جدلاً وتحولات كبرى، مثل "الإسلام وأصول الحكم" لعلي عبد الرازق، و"الاستشراق" لإدوارد سعيد، و"تكوين العقل العربي" لمحمد عابد الجابري، بوصفها محاولات لإعادة فحص الهوية الثقافية والفكرية في مواجهة الاستعمار والحداثة، فيما يقدم ميشيل فوكو في "تاريخ الجنون" تأملاً عميقاً في كيفية تعامل المجتمعات مع الآخر، سواء كان المجنون أو المنبوذ أو المهمّش. من الكتب التي يقف عندها زولي أيضاً: "الأرض اليباب" لإليوت، و"في انتظار غودو" لصمويل بيكيت، و"المياه كلها بلون الغرق" لإميل سيوران، و"اسم الوردة" لأمبرتو إيكو، و"مائة عام من العزلة" لغابرييل غارسيا ماركيز. بطاقة شاعر وكاتب سعودي من مواليد مدينة ضمد في منطقة جازان عام 1968. حاصل على إجازة في اللغة العربية وآدابها. عمل في التدريس. صدرت له تسع مجموعات شعرية، من بينها: "رويداً باتجاه الأرض" (1996)، و"رجالٌ يجوبونَ أعضاءنا" (2009)، و"قصائد ضالّة: كائنات تمارس شعيرة الفوضى" (2010)، و"من جهة معتمة" (2013)، و"حرس شخصي للوحشة" (2015). تُرجم عددٌ من نصوصه إلى الإنكليزية والفرنسية.


القدس العربي
٢١-٠٧-٢٠٢٥
- القدس العربي
طه حسين ومحنة التراث: قراءة في كتاب «الشعر الجاهلي»
يعد كتاب «في الشعر الجاهلي» لطه حسين من أبرز المؤلفات التي أثارت جدلاً واسعا في تاريخ الأدب العربي الحديث، وقد شكّل لحظة فاصلة في تطور الفكر النقدي العربي. ظهر هذا العمل في سياق ثقافي كان يقدّس الموروث، ولا يجرؤ على مساءلته، فجاء طه حسين ليكسر هذا الصمت، ويطرح أسئلة جذرية حول أصالة الشعر الجاهلي، وصحة نسبه، وقيمته الأدبية الحقيقية. ولعلّ أهمية الكتاب لا تقتصر فقط على محتواه النقدي، بل تمتد إلى الطريقة التي استُقبل بها، والجدل العميق الذي أثاره، والذي لا يزال حياً حتى اليوم في دراسات الأدب والتراث. حين أصدر طه حسين كتابه «في الشعر الجاهلي» لم يكن غافلا عن طبيعة ردود الفعل التي سيثيرها عمله، فقد صرّح في مقدمته قائلاً: هذا نحو من البحث عن تاريخ الشعر العربي جديد، لم يألفه الناس عندنا من قبل. وأكاد أثق أن فريقا منهم سيلقونه ساخطين عليه، وأن فريقا آخر سيُزْوِرّون عنه ازورارا» . هذه العبارة تكشف وعيه بمدى زعزعة أفكاره لثوابت المؤسسة الثقافية العربية، وإدراكه أن المشروع الذي يقدّمه سيواجه برفض وجداني، قبل أن يُمحّص عقلانياً. كان طه حسين حريصاً على الوضوح التام في طرحه النقدي، حيث أعلن صراحة، «أحب أن أكون واضحا جليا، وأن أقول للناس ما أريد أن أقول دون أن أضطرهم إلى أن يتأولوا ويتمحلوا، ويذهبوا مذاهب مختلفة في النقد والتفسير والكشف عن الأغراض التي أرمي إليها». وهذا الإصرار على الوضوح هو ما جعل أسلوبه مباشرا وصادماً، وهو ما ساهم أيضا في حدة الجدل الذي رافق صدور الكتاب. في تحليله للشعر الجاهلي، اتخذ طه حسين من القرآن الكريم معيارا للمقارنة، معتبرا إياه المرجع الأدق لتمثّل الروح الدينية للعرب في الجاهلية، قائلاً: «فالقرآن إذن أصدق تمثيلاً للحياة الدينية عند العرب من هذا الشعر الذي يسمونه الجاهلي». وفي هذا الطرح، نجد محاولة لإزاحة الشعر الجاهلي عن موقع الوثيقة التاريخية المطلقة، وإخضاعه للمراجعة النقدية. كما شكك في أصالة اللغة التي نُسب بها هذا الشعر إلى الجاهليين، فكتب: «نقول إن هذا الشعر الجاهلي لا يمثل اللغة الجاهلية، ولنَجْتهدْ في تعرف اللغة الجاهلية هذه ما هي». لم يكن طه حسين يقصد نفي وجود الشعر الجاهلي تماما، بل أراد التأكيد على أن ما وصلنا لا يمكن اعتباره دائما ممثلا صادقا للواقع اللغوي والتعبيري الجاهلي، خاصة إذا وضعناه في ضوء التطورات اللغوية التي طرأت بعد الإسلام. ويزيد تأكيده على هذا حين قال: «ولست أنكر أن اختلاف اللهجات كان حقيقة واقعة بعد الإسلام، ولست أنكر أن الشعر استقام للقبائل كلها رغم هذا الاختلاف، ولكن أظن أنك تنسى شيئا يحسن ألا تنساه، وهو أن القبائل بعد الإسلام اتخذت للأدب لغة غير لغته». بهذا المعنى، يؤسس طه حسين لفرضية أن الشعر الجاهلي، في شكله المتداول، قد صيغ بلغة أدبية موحدة استُحدثت بعد الإسلام، ما يطعن في نسبته الزمانية إلى الجاهلية الحقيقية. وفي معرض حديثه عن القوى التي قد تكون ساهمت في اختلاق الشعر ونسبته إلى الجاهليين، يتساءل طه حسين بذكاء نقدي: «والشعوبية، ما رأيك فيهم وفيما يمكن أن يكون لهم من الأثر القوي في انتحال الشعر والأخبار وإضافتها إلى الجاهليين؟». يفتح هذا السؤال الباب أمام تأويلات سوسيولوجية وتاريخية أعمق، حيث يشير إلى احتمال تدخل بعض التيارات الفكرية بعد الإسلام، مثل الشعوبية، في إعادة تشكيل التراث الأدبي الجاهلي بما يتناسب مع صراعات الهوية والانتماء في العصر العباسي على وجه الخصوص. وقد أثار هذا الطرح موجة من الردود المتباينة، فبينما رأى فيه البعض فتحا جديدا في مجال النقد، واتجاها نحو التحرر من سلطة الماضي، هاجمه آخرون بعنف، متهمين إياه بالتشكيك في التراث الإسلامي والطعن في صدقية الشعر العربي. من بين هؤلاء النقاد من رأى أن طه حسين اعتمد في كثير من أطروحاته على مقارنات غير دقيقة، أو أهمل السياق الشفهي الذي كانت تُروى فيه القصائد، وهو ما قد يفسر بعض التناقضات في الأسلوب أو المضمون. ومع ذلك، فإن أصواتا نقدية شابة في ذلك الوقت رأت في مشروع طه حسين لحظة تأسيسية لقراءة جذرية ومتحررة للتراث، ودعت إلى تبني المنهج العلمي في دراسة الأدب العربي، كما يحدث في الآداب الأوروبية. أحدث الكتاب، إذن، زلزالا في النقد العربي، وفرض نفسه مرجعا لا يمكن تجاوزه في أي نقاش حول الشعر الجاهلي. كما أنه مهّد الطريق أمام مقاربات نقدية جديدة تأخذ بعين الاعتبار الظروف السياسية والاجتماعية التي رافقت جمع وتدوين الشعر القديم، ولا تكتفي بالتعامل معه بوصفه انعكاسا نقيا لروح العصر. وقد أسهم هذا التحول في ولادة اتجاهات نقدية عربية أكثر عقلانية وصرامة في التعامل مع الموروث الأدبي، بما فيها الاتجاه التاريخي، والنقد البنيوي، والنقد الثقافي. رغم ما أثاره من جدل واتهامات، يبقى الشعر الجاهلي عملاً استثنائيا في تاريخ الأدب العربي، لأنه أرغم القرّاء على مساءلة ما اعتادوا قبوله، وفتح أمامهم آفاقا جديدة لفهم النصوص القديمة. لقد بيّن طه حسين، بأسلوبه الواضح وأفكاره الجريئة، أن التراث ليس كتلة صماء، بل بناء تاريخي واجتماعي وثقافي يجب فحصه بعين ناقدة. ومن هنا، فإن الكتاب لا يزال يحتفظ بقيمته المعرفية، ويُعد مدخلا ضروريا لكل باحث يرغب في دراسة الشعر العربي القديم بموضوعية وتجدد. وفي الختام، يمكن القول إن طه حسين لم يكن يسعى إلى تقويض التراث، بقدر ما كان ينشد تحريره من طابع القداسة الزائفة. لقد أراد أن يُخضع الشعر الجاهلي، وغيره من الموروث، لمنهج علمي يميز بين التاريخي والمتخيل، وبين الوثيقة والأسطورة. وإذا كانت أفكاره قد أزعجت بعض الأصوات التقليدية، فإنها، في المقابل، أسست لنقلة نوعية في مسار النقد العربي الحديث، وجعلت من التفكير العقلاني أداة مشروعة، بل ضرورية في التعامل مع تراث غني، لكنه معقّد، ويحتاج إلى قراءة متأنية لا تغفل السياقات ولا تسقط في التبجيل، إنه كتاب لا يُقرأ من أجل الإجماع، بل من أجل التفكير. كاتب مغربي