
مسلسل "معاوية"... هل يحرمه الجدل من المشاهدة المنصفة؟
يبدو اللغط المحيط بمسلسل "معاوية" وكأنه استمرار لتريند طويل الأمد، عمره يقترب من الثلاث سنوات، اقترن بالعمل منذ إعلان بدء التحضيرات، فحساسية الفترة التاريخية المفصلية في التاريخ الإسلامي التي تتناولها الحلقات، وكذلك الجدل الذي يحيط بالشخصية الرئيسة معاوية بن أبي سفيان ووالدته هند بنت عتبة، وفكرة ظهور الخلفاء الراشدين، ضمنت الجدل الاستباقي بلا شك.
غير أنه مع عرض المسلسل فعلياً تزامناً مع شهر رمضان الجاري، كانت هناك مستويات أخرى من النقاشات، بعضها متعلق بفنيات التنفيذ، لكن غالبيتها تنحّي هذه الجوانب بعيداً وركز على العنصر التاريخي فقط، معتبرين أن العمل الفني يجب أن يكون توثيقياً وتسجيلياً لما جاء في كتب التراث.
هذه النقطة قد تظلم المسلسل المهم من ناحية أنه مشروع درامي متكامل، فيما يفضل البعض التعامل معه على أنه كتاب تاريخ ناطق، إلا أن صُنَّاع العمل يعلمون منذ اللحظات الأولى مدى الاهتمام الذي ستحظى به القصة، ومدى التدقيق الذي سيصاحب كل لقطة.
هذا التدقيق قد يتحوّل إلى ما يشبه التربص، بخاصة مع تباين الآراء حول الشخصية الرئيسة، فهناك من يرى معاوية، الذي يؤدي دوره في المسلسل الممثل السوري لجين إسماعيل، رجل دولة وسياسياً بارزاً أسس دولة مترامية الأطراف، وهناك من لا يتفق مع هذا الطرح، حاصة أن سيرته، تتناول الفترة الأكثر صخباً أي ما بعد مقتل الخليفة عثمان بن عفان.
إجماع الآراء ليس هدفاً
الاتهامات التي تصاحب حلقات المسلسل تطاول جميع من شارك في المسلسل االرمضاني المكوّن من 20 حلقة يعرض في وقت الذروة على قناة كبيرة مثل "أم بي سي"، التي تقف وراء تنفيذ المشروع منذ البداية.
وبالطبع، أول من يُسأل هنا هو مؤلفه الكاتب خالد صلاح، الذي سارع بكتابة تدوينة طويلة فنّد فيها الهدف من وراء العمل، وجاء فيها، "حين بدأنا هذا المشروع لم تكن غايتنا أن نصوغ حكاية تُضاف إلى سجل الروايات المتضاربة، ولم يكن قصدنا أن ننتصر لرؤية على أخرى، أردنا أن نقترب من معاوية، لا كخليفة نقش اسمه على دواوين الحكم، بل كإنسان وجد نفسه في قلب زلزال لا يهدأ، وأجبرته الحياة على أن يكون لاعباً رئيساً في صراعات لم يخترها بنفسه، بل ألقتها الأقدار بين يديه". فيما قال صلاح لـ"اندبندنت عربية" إن المسلسل "لا يستهدف أبداً إجماع الآراء على شخص، وإنما فتح الباب لنقاش أوسع".
لكن على ما يبدو أن هذا النقاش امتد ليتجاوز ذلك الذي فتحه مسلسل "عمر"، الذي قدمته "أم بي سي" أيضاً قبل نحو 13 عاماً، نظراً لأن الخلافات حول شخصية الخليفة عمر بن الخطاب لا تضاهي أبداً ما يصاحب شخصية معاوية.
أما في ما يتعلق بملف تحريم التجسيد، فقد ظل كما هو بين مؤيد ومعارض؛ ففي حين انطلقت فتاوى لبعض علماء الأزهر، وبينهم أعضاء في هيئة كبار العلماء، ترفض المبدأ تماماً بل وتجرم مشاهدة الأعمال التي تجسد شخصيات من الصحابة والخلفاء والمبشرين بالجنة، خرجت فتاوى مضادة أخرى تبيح التجسيد بشروط.
لكن حزب النور، المحسوب على التيار السلفي في مصر، أخذ جانب الفتاوى الرافضة تمثيل شخصيات كتاب الوحي درامياً، وبينهم معاوية، وتقدم نائبه أحمد حمدي خطاب، عضو الهيئة البرلمانية للحزب بمجلس النواب، بطلب إحاطة إلى المستشار الدكتور حنفي جبالي، رئيس مجلس النواب، يطالب فيه بوقف عرض العمل على قناة "أم بي سي مصر"، مخاطباً المجلس الأعلى للإعلام ورئاسة مجلس الوزراء لسرعة التنفيذ، فيما كانت قد أعلنت هيئة الإعلام والاتصالات في العراق منع بث المسلسل، خوفاً من أن يؤدي إلى "إثارة السجالات الطائفية، مما يهدد السلم المجتمعي ويؤثر في النسيج الاجتماعي"، وفق بيان رسمي.
فترة تاريخية حرجة وارتباك في الكواليس
على جانب آخر، كانت هناك أزمات على مستوى مختلف تتعلق بفريق العمل، إذ فوجئ المتابعون بإضافة أسماء أخرى إلى طاقم الكتابة لم يُعلن عنها من قبل، إلى جانب صاحب المشروع الأول خالد صلاح، وهم محمد يساري، وبشار عباس، وغمار محمود، وأحمد حسني.
لكن علامة الاستفهام الكبرى طاولت اسم المخرج طارق العريان، الذي جرى حذفه من التترات والبيانات الخاصة بالعمل، على رغم عدم الإعلان رسمياً عن انسحابه في أي وقت سابق. في حين تولى مهمة الرؤية الإخراجية المخرج أحمد مدحت، الذي قال لـ"اندبندنت عربية"، إنه لا يوجد أي خلاف بينه وبين العريان، بل إنه تواصل معه قبل البدء في التصوير كما تقتضي أعراف المهنة.
ويوضح مدحت أنه جرى التعاقد معه بعد أن توقف المشروع تماماً. مشيراً إلى أن فريق العمل كان قد يئس من استكماله، وأعاد هو إحياؤه وإنقاذه وفق شروط جديدة في تعاقده. حيث قام بعقد كثير من جلسات العمل لطرح وجهة نظره بناءً على قراءته العميقة لهذه الفترة التاريخية الحرجة. لافتاً إلى أنه صوّر على مدى أكثر من مئة يوم وانتهى من هذه المرحلة في نهاية عام 2023، وتفرغ في ما بعد للعمل مع الفريق على المونتاج.
لكن مع ذلك، حُذفت 12 دقيقة كاملة كانت تمثل مشهداً تمهيدياً لتقديم الشخصية قبل الحلقة الأولى، وكان يتمنّى المخرج لو أنها ظلت. وأكد أحمد مدحت صاحب "الصياد والثمانية وظرف أسود وبين عالمين" الذي يقدم عمله التاريخي الأول في "معاوية" أن المسلسل أيضاً جرت مراجعته قبل وأثناء وبعد التصوير، وفي مراحل عدة، من قبل هيئة العلماء بالسعودية. مشيراً إلى أن جميع القائمين على العمل يدركون تماماً مدى حساسية ما يتناولونه، مؤكداً أن معاوية شخصية درامية من الدرجة الأولى، وداعياً إلى الانتظار لمشاهدة ما سيحدث في الحلقات المقبلة وعدم التسرع في إطلاق الأحكام.
اللافت أنه عبر مواقع التواصل الاجتماعي انتقل المسلسل لبعض الوقت من خانة التدقيق التاريخي إلى خانة الكوميكس والميمز الساخرة، لا سيما في بعض المشاهد التي وجد فيها المتابعون عدم دقة واضحة في ما يتعلق بالملابس والديكورات، مقارنين، على سبيل المثال، مظهر هند بنت عتبة حينما جسّدت دورها منى واصف في فيلم "الرسالة" عام 1976 من إخراج مصطفى العقاد، حيث بدت بملامح قاسية ووجه لوحته الشمس ومظهر يتلاءم مع البيئة المحيطة بها، في حين ظهرت الشخصية التي قدمتها سهير بن عمارة في "معاوية" بمظهر يبدو عصرياً أكثر من اللازم، إضافة إلى التساؤل حول الهدف من اعتماد رواية تاريخية يرى بعض المؤرخين أنها ضعيفة، متمثلة في تأكيد أن معاوية اعتنق الإسلام قبل فتح مكة، وغيره من النقاط التي التقطها المتابعون.
يدافع المخرج أحمد مدحت عن التفاصيل التاريخية. مشدداً على أنه جرت مراعاة أعلى معايير الدقة، لكن في ما يتعلق بمشهد هند بنت عتبة وهي تحمل وليدها مرتدية ملابس تبدو للبعض لا تعبر عن الفترة التاريخية، قال إنه "لم يكن هو من صوّره".
كما رد مدحت على الاتهام بمحاولة إظهار شخصية هند بما يعارض بعض الحقائق التاريخية، مثل واقعة التمثيل بالجثث الشهيرة. موضحاً أنه جرى المرور على بعض الأحداث من دون الدخول في تفاصيلها لأسباب درامية، ليتم التركيز على شخصية معاوية، مع التشديد على أن الحلقة الأولى أظهرت الضغائن التي تحملها هند بشكل واضح.
الأمر هنا يحيل مباشرة إلى المراجع التي جرى الاستناد إليها في رسم الشخصيات وفي تأصيل الأحداث المهمة في كتابة العمل التاريخي الضخم، إذ رصد الكاتب الصحافي خالد صلاح في تصريحاته لـ"اندبندنت عربية" بعضاً منها، وبينها مراجع تركز على الأنساب والسيرة الشخصية، وكذلك التجليات السوسيولوجية للحقبة، إضافة إلى موسوعات تاريخية، وكلها لها موثوقيتها مثل "تاريخ الطبري" لمحمد بن جرير الطبري، و"البداية والنهاية" لابن كثير، و"مروج الذهب ومعادن الجوهر" للمسعودي.
كوميديا "الدولة الدموية"
الملاحظ أن الاهتمام بالمسلسل يأخذ منحى خاصاً لدى المصريين، لدرجة التفتيش في دفاتر الدراما القديمة، واستدعاء مشهد يحمل سيرة معاوية بن أبي سفيان من مسلسل كوميدي عرض عام 1995، من بطولة يونس شلبي وسعاد نصر بعنوان "الستات ما يعملوش كده" تأليف صلاح المعداوي وإخراج حمدي الإبراشي، وكان يناقش المشكلات الزوجية، إذ جرى الحديث عن معاوية بشكل ساخر بين البطلين بل وتمت تسميته "مؤسس الدولة الدموية"، وهو المشهد الذي كان منسياً تماماً، واستغرب المعلقون من سقف الحريات المرتفع في ذلك الوقت الذي سمح بعرض وجهة النظر هذه حتى لو بطريقة كوميدية.
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كذلك، طالب أستاذ التاريخ بجامعة القاهرة، الدكتور محمد عفيفي، عبر حسابه الرسمي على "فيسبوك"، بأن يتم وصف نوعية الأعمال التاريخية مثل "معاوية" بأنها تناقش "تاريخ المسلمين" لا "تاريخ الدين"، نظراً إلى حالة الارتباك والتشتت والآراء المتضاربة. متابعاً "بمناسبة مسلسل معاوية. أفضّل مصطلح (تاريخ المسلمين)... لأنه تاريخ بشر، وليس التاريخ الإسلامي. الدين مطلق ومقدس، لكن التاريخ بشري ونسبي."
المسلسل، الذي يتميز بحبكة درامية جاذبة، وبتنفيذ متقن وصورة عالية الجودة، وإيقاع سريع يليق بالحقبة الدسمة، يشارك فيه أبطال من سوريا ومصر وتونس والأردن، وغيرها من الدول العربية. وقالت عنه "أم بي سي" في بيانها الترويجي إنه "يستعرض هذه الملحمة التاريخية في سياقٍ درامي مشوق ومشهدية بصرية مبهرة مُجسَّدة بأحدث التقنيات الإخراجية والإنتاجية والغرافيكس، إلى جانب معارك عسكرية ضخمة، ومواقع تصوير متكاملة لقلاع ومدن ومبانٍ جرى بناؤها لتحاكي العصور الإسلامية المبكرة في تلك الحقبة التي شهدت احتدام الصراعات الجيوسياسية والعسكرية مُشكّلةً بمجملها تاريخ المنطقة."
وعلى رغم تداول أرقام كثيرة تخص تكلفته الإنتاجية، التي هي كبيرة للغاية بلا شك، إلا أنه لم يتم تأكيد أي معلومة بهذا الصدد، حتى مخرج العمل نفسه، أحمد مدحت، لا يعلم على وجه التحديد حجم الإنفاق، مكتفياً بالتشديد على أنه "بالطبع شديد الضخامة".
"معاوية" لا يزال في بدايته، وكما هو متوقع، فقد حصد اهتماماً كبيراً وحاداً بشكل شبه منفرد، نظراً إلى ندرة الدراما التاريخية في السنوات الأخيرة. والجدل الذي صاحبه يبدو مشابهاً إلى حد كبير لذلك الذي حظي به مسلسلا "رسالة الإمام" العام الماضي، حيث جسد فيه خالد النبي دور الإمام الشافعي، و"الحشاشين" الذي تناول سيرة زعيم طائفة الحشاشين حسن الصباح، حيث كان الترصد على أشده، فيما من المتوقع أيضاً أن تستمر عملية الشد والجذب بين المهتمين بمشاهدة مسلسل سيرة معاوية حتى نهاية حلقاته.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


العربية
١٩-٠٣-٢٠٢٥
- العربية
إياد نصار: لمعت عيناي عندما عرض علي مسلسل معاوية
بعد المشاهدات العالية التي حققها مسلسل معاوية الذي يبث على شاشة "أم بي سي" كشف الممثل إياد نصار كواليس مشاركته في هذا العمل وقال في لقاء مع برنامج "تفاعلكم" على العربية، إنه ترشح للمشاركة في البطولة قبل إنتاجه بعامين، إذ تلقى اتصالاً من أحد المسؤولين في الجهة المنتجة، وأخبره أنهم بصدد إنتاج مسلسل معاوية. كما أضاف أنه رشح لتجسيد شخصية الإمام علي بن أبي طالب، وقد لمعت عيناه في تلك اللحظة، وتحمس كثيراً للعمل. ثقافة وفن إياد نصار عن "أصحاب ولا أعز": كان هناك سوء تقدير مني حكم الدولة الأموية إلى ذلك، اعتبر نصار أن "العمل بمثابة مرجع للأجيال الجديدة من أجل معرفة تفاصيل فترة حكم معاوية والدولة الأموية وما قبلها، خاصة في ظل وجود أجيال لا تقرأ، وتعتمد بشكل كبير على ثقافة المشاهدة". وأوضح أنه كان خائفاً جداً من مسؤولية تجسيد شخصية الإمام علي، لذا درس الموضوع بشكل كبير قبل أن يوافق. إلى ذلك، لفت الممثل المصري إلى أنه يشارك في السباق الرمضاني الحالي بمسلسل "معاوية" و"ظلم المصطبة"، علما أنه يفضل ألا يشغل نفسه بتصوير عملين في وقت واحد. وكشف أن "معاوية"، صور منذ فترة طويلة، لكنه تأجل عدة مرات حتى تقرر عرضه هذا العام. أما عن "ظلم المصبطة"، أشار إلى أنه يعلم أن دوره أثار جدلاً كبيراً قبل عرضه، إلا أنه أكد شغفه بالمشاركة في أعمال درامية قوية، تترك أثراً لدى الجمهور. وختم مشددا على أن مسلسل "ظلم المصطبة" يناقش قضية هامة وقوية.


العربية
٠٩-٠٣-٢٠٢٥
- العربية
معاوية بين التمثيل والتأويل
هو مسلسل رمضاني سنوي متكرر، مقرر سنوي لا بد من أن يشارك فيه الممثلون نفسهم ويشاهده ويتابعه الكل تقريباً، فرضاً من دون رغبة منهم. ولا أقصد مسلسلاً رمضانياً بعينه على شاشة كذا أو قناة كذا، ولكني أقصد أن في كل رمضان معركة رمضانية فنية يشعلها في الغالب رجال دين مسيسون، ويلتقط شررها المغيبون فتشتعل ناراً في شبكات التواصل الاجتماعي، ويزداد الاحتقان ويلتهي الناس بترهات وتوافه لا تغني ولا تسمن من جوع، فمرة مسلسل يرى مناهضوه أنه يروج للمثلية، وآخر يرى فيه بعضهم مؤامرة ضد الدين والأخلاق، وذاك مسلسل قبل عامين كان موجهاً ضد طائفة بعينها، وهكذا. مسلسلات وأفلام يدور حولها لغط ومعارك كلامية لا تعرف من الذي أشعلها، فتقوم قيامة الـ "سوشيال ميديا" ويتطوع المتطوعون للقتال والنزال خلف شاشات هواتفهم وكمبيوتراتهم، ويتحول بعض رجال الدين إلى نقاد فنيين، وبعضهم معروفون بسلفيتهم المتشددة وآرائهم المتحجرة أدلوا بآراء حول مسلسل معاوية الذي تبثه شاشة "أم بي سي" الشهيرة. المتشددون يحرّمون التمثيل أصلاً، والفن والرسم والنحت والموسيقى والغناء والرقص وأنواع الفنون كافة، فكيف لهم أن ينتقدوا عملاً فنياً وهم يحرّمون التمثيل من أساسه؟ والحق بأن كل أنواع الإسلام السياسي، من إخوان وسلف و"حزب الله" وتوابعه، تحرم كل أنواع الفنون، فهل تعرف ممثلاً من الإخوان المسلمين؟ أو موسيقاراً سلفياً؟ وهل هناك مخرجة مسرحية تابعة لـ "حزب الله"؟ هل بينهم روائي أو كاتب مسرحي أو ملحن أو رسام أو مغن أو نحات أو غيره؟ الجواب معروف للقارئ الكريم، فلمَ النفاق والخوض في أمور يحرمونها تحريماً باتاً؟ الجواب لأنهم يهدفون إلى أن يحددوا للناس ما يشاهدون أو يسمعون أو يقرأون، هذا هو السبب، فرجل الدين السياسي يستمد قوته وسطوته وتأثيره من إيهام العامة بأنه يعرف كل شيء، ولأنه رجل دين مسيس فإنه يمتلك الجواب والتعليق على كل شيء، بما في ذلك المسلسلات الرمضانية. مسلسل معاوية أو المسلسلات التاريخية بعمومها ما هي إلا أعمال فنية لها مشاهدوها ومتابعوها وناقدوها ومحبوها وكارهوها، لكن المسلسلات التاريخية لدينا باب متدفق للفتن والمحن والفتاوى والاحتقان، ولذلك سببان رئيسان بين أسباب عدة، أولها أننا لم نتصالح مع التاريخ ولم نجرؤ على قراءته قراءة علمية وليست سردية روائية يحتكرها الحكواتية ورجال القصص التقليدي الذين لا يريدون فتح خزائن التراث لمراجعتها وقراءتها قراءة موضوعية علمية لا تقدس الأشخاص، ولا تضفي قدسية على حوادث التاريخ، من مبدأ أن "تلك أمة قد خلت". وثانيها أننا لا نؤمن بحرية الاختيار، فعلى رغم أن العلم والعلماء من الآخرين من غير المسلمين في الغالب قد اخترعوا لنا أجهزة المشاهدة المختلفة، واخترعوا معها تغيير شاشاتها وقنواتها بضغطة زر عبر جهاز الـ "ريموت كنترول"، لكن الواحد منا يريد حظر هذا العمل أو ذاك أو منع مشاهدة هذا المسلسل أو ذاك، بحجة حماية الدين تارة أو حماية الأخلاق تارة أخرى، فلو كنا نؤمن بالحرية في الاختيار لقلّ مثل هذا الجدل الموسمي الذي يتكرر في كل رمضان، فإذا لم يعجبك ما لا تشاهد فغيّر المحطة وكفى! العالم يسير بسرعة هائلة للولوج في عالم الذكاء الاصطناعي والرقمية التي تشكل دنياً مختلفة تماماً من حولنا، ونحن لا نزال نلوك ونتعارك حول سير شخصيات وحوادث عفا عليها الزمن ومر عليها آلاف السنين، ولو تصالحنا مع تاريخنا وتجرأنا على إعادة قراءة التراث وحوادث تاريخنا بكل حرية وموضوعية وعلمية، وأبعدنا الحكواتية ومرتزقة لوك القصص المتكررة والروايات الملفقة عبر مئات السنين، لانتهينا من العيش في التاريخ وتوقفنا عن خوض معارك قريش قبل 14 قرناً، ولولجنا في القرن الـ 21 مثل باقي البشر على هذا الكوكب. ويل لأمة تعيش في الماضي أكثر مما تدرك الحاضر، فهي لم تستفد من دروس الماضي ولن تبني المستقبل أبداً بأدوات الماضي السحيق وقصصه الخرافية.


Independent عربية
٠٦-٠٣-٢٠٢٥
- Independent عربية
معاوية بين التمثيل والتأويل
هو مسلسل رمضاني سنوي متكرر، مقرر سنوي لا بد من أن يشارك فيه الممثلون نفسهم ويشاهده ويتابعه الكل تقريباً، فرضاً من دون رغبة منهم. ولا أقصد مسلسلاً رمضانياً بعينه على شاشة كذا أو قناة كذا، ولكني أقصد أن في كل رمضان معركة رمضانية فنية يشعلها في الغالب رجال دين مسيسون، ويلتقط شررها المغيبون فتشتعل ناراً في شبكات التواصل الاجتماعي، ويزداد الاحتقان ويلتهي الناس بترهات وتوافه لا تغني ولا تسمن من جوع، فمرة مسلسل يرى مناهضوه أنه يروج للمثلية، وآخر يرى فيه بعضهم مؤامرة ضد الدين والأخلاق، وذاك مسلسل قبل عامين كان موجهاً ضد طائفة بعينها، وهكذا. مسلسلات وأفلام يدور حولها لغط ومعارك كلامية لا تعرف من الذي أشعلها، فتقوم قيامة الـ "سوشيال ميديا" ويتطوع المتطوعون للقتال والنزال خلف شاشات هواتفهم وكمبيوتراتهم، ويتحول بعض رجال الدين إلى نقاد فنيين، وبعضهم معروفون بسلفيتهم المتشددة وآرائهم المتحجرة أدلوا بآراء حول مسلسل معاوية الذي تبثه شاشة "أم بي سي" الشهيرة. المتشددون يحرّمون التمثيل أصلاً، والفن والرسم والنحت والموسيقى والغناء والرقص وأنواع الفنون كافة، فكيف لهم أن ينتقدوا عملاً فنياً وهم يحرّمون التمثيل من أساسه؟ والحق بأن كل أنواع الإسلام السياسي، من إخوان وسلف و"حزب الله" وتوابعه، تحرم كل أنواع الفنون، فهل تعرف ممثلاً من الإخوان المسلمين؟ أو موسيقاراً سلفياً؟ وهل هناك مخرجة مسرحية تابعة لـ "حزب الله"؟ هل بينهم روائي أو كاتب مسرحي أو ملحن أو رسام أو مغن أو نحات أو غيره؟ الجواب معروف للقارئ الكريم، فلمَ النفاق والخوض في أمور يحرمونها تحريماً باتاً؟ الجواب لأنهم يهدفون إلى أن يحددوا للناس ما يشاهدون أو يسمعون أو يقرأون، هذا هو السبب، فرجل الدين السياسي يستمد قوته وسطوته وتأثيره من إيهام العامة بأنه يعرف كل شيء، ولأنه رجل دين مسيس فإنه يمتلك الجواب والتعليق على كل شيء، بما في ذلك المسلسلات الرمضانية. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) مسلسل معاوية أو المسلسلات التاريخية بعمومها ما هي إلا أعمال فنية لها مشاهدوها ومتابعوها وناقدوها ومحبوها وكارهوها، لكن المسلسلات التاريخية لدينا باب متدفق للفتن والمحن والفتاوى والاحتقان، ولذلك سببان رئيسان بين أسباب عدة، أولها أننا لم نتصالح مع التاريخ ولم نجرؤ على قراءته قراءة علمية وليست سردية روائية يحتكرها الحكواتية ورجال القصص التقليدي الذين لا يريدون فتح خزائن التراث لمراجعتها وقراءتها قراءة موضوعية علمية لا تقدس الأشخاص، ولا تضفي قدسية على حوادث التاريخ، من مبدأ أن "تلك أمة قد خلت". وثانيها أننا لا نؤمن بحرية الاختيار، فعلى رغم أن العلم والعلماء من الآخرين من غير المسلمين في الغالب قد اخترعوا لنا أجهزة المشاهدة المختلفة، واخترعوا معها تغيير شاشاتها وقنواتها بضغطة زر عبر جهاز الـ "ريموت كنترول"، لكن الواحد منا يريد حظر هذا العمل أو ذاك أو منع مشاهدة هذا المسلسل أو ذاك، بحجة حماية الدين تارة أو حماية الأخلاق تارة أخرى، فلو كنا نؤمن بالحرية في الاختيار لقلّ مثل هذا الجدل الموسمي الذي يتكرر في كل رمضان، فإذا لم يعجبك ما لا تشاهد فغيّر المحطة وكفى! العالم يسير بسرعة هائلة للولوج في عالم الذكاء الاصطناعي والرقمية التي تشكل دنياً مختلفة تماماً من حولنا، ونحن لا نزال نلوك ونتعارك حول سير شخصيات وحوادث عفا عليها الزمن ومر عليها آلاف السنين، ولو تصالحنا مع تاريخنا وتجرأنا على إعادة قراءة التراث وحوادث تاريخنا بكل حرية وموضوعية وعلمية، وأبعدنا الحكواتية ومرتزقة لوك القصص المتكررة والروايات الملفقة عبر مئات السنين، لانتهينا من العيش في التاريخ وتوقفنا عن خوض معارك قريش قبل 14 قرناً، ولولجنا في القرن الـ 21 مثل باقي البشر على هذا الكوكب. ويل لأمة تعيش في الماضي أكثر مما تدرك الحاضر، فهي لم تستفد من دروس الماضي ولن تبني المستقبل أبداً بأدوات الماضي السحيق وقصصه الخرافية.