
تقرير خطوطه زينت غزة.. أحمد شامية شهيد العمارة والأحلام
غزة/ فاطمة العويني:
كان متمكنًا من الفن المعماري كفنان يحترف الرسم، موهبته أهلته للارتقاء سريعًا في سُلّم الهندسة المعمارية أكاديميًا وعمليًا، فبات من المهندسين القلائل الذين يُشار إليهم بالبنان في غزة. فما أُوكلت له مهمة إنشائية إلا وكانت مميزة، يعرف زملاؤه من خلالها أن "هنا مرّت خطوط المهندس الشهيد أحمد شامية".
فمنذ اللحظة الأولى التي التقى فيها المهندس المعماري محمد الحداد بالشهيد شامية على مقاعد الدراسة في الجامعة الإسلامية، أدرك أنه أمام مهندس عبقري. يقول: "كنتُ مُعيدًا للمرة الأولى في قسم الهندسة المعمارية، وكان شامية طالبًا في عامه الدراسي الثاني. رأيتُ مبدعًا عبقريًا في التقاط القلم وفي رسم الخطوط الهندسية".
ويضيف لصحيفة "فلسطين": "رأيت إنسانًا خلوقًا في تعاملاته، صادقًا في التزاماته وأوقاته. تقربتُ منه، وأحببتُ دوماً الجلوس معه في المرسم لأستمتع بخطوطه الهندسية المتقنة، وكلماته التعبيرية الهندسية الواضحة".
لم تقتصر علاقة الحداد بـ"شامية" على علاقة طالبٍ بأستاذه، بل تطورت سريعًا لتصبح علاقة صداقة راسخة وزمالة في ميادين العمل، "وكنت أفتخر بذلك فخرًا كبيرًا وعظيمًا، فأحمد تقدّم على الجميع من زملائه الطلبة في كل شيء، حتى كنتُ أشعر أنه أصبح المدرس، وأنا الطالب الذي يتعلّم منه كل جديد".
ويتابع: "تخرّج أحمد ليحصد المركز الأول على دفعته، لتنضم إلى علاقتنا صفة جديدة، وهي الزمالة". ويشير إلى أن شامية تفوّق في عمله وانطلق انطلاقة لا توصف في إبداعه المعماري، حتى أصبح الجميع يتسابق للعمل معه من مختلف أطياف المجتمع، رجال أعمال ومؤسسات، لتصميم أجمل الأعمال الهندسية والمعمارية، من تصميمات داخلية للمؤسسات والجامعات والقطاعات الخاصة، إلى منازل متنوعة.
ويتذكّر الحداد بمرارة كيف كان شامية بمثابة الأخ له، فهو سريع في كسب القلوب، ويقول: "أحمد إنسان رقيق المشاعر، حساس، فنان، دومًا يحمل معه في كل مكان القلم والورقة، ويرسم كل ما يراه في حياة شعبه بطريقة فنية معبرة، ينقل فيها هموم الناس وأوجاع الوطن".
ويشير إلى أن الشهيد شامية عمل في الجامعة الإسلامية مُعيدًا، ثم محاضرًا في قسم الهندسة المعمارية، لينتهي به المطاف مديرًا لكلية الهندسة في الجامعة. كما افتتح مكتبه المعماري "آرت هاوس"، الذي مثّل انطلاقة معمارية جديدة لقطاع غزة.
ويُبيّن الحداد أن الشهيد شامية سافر في العديد من البعثات والدورات التدريبية في الخارج، وكان دومًا المتألق في الفريق، والمتفرّد في الإبداع، لكنه لم يرغب أبدًا في مغادرة غزة، فكان طموحه أن يرسم الوطن بريشة معمارية متميزة، ذات طابع حضاري متقدم.
لكن ظروف الحرب الإسرائيلية القاسية على غزة أخذت من أحمد كل شيء، فاستشهد والداه وشقيقه، وتدمّر مكتبه ومعداته. فقرر أن يبدأ من جديد في مكان آخر، وكان قد حاز على قبول للسفر إلى فرنسا، وكان يستعد للرحيل.
ويستذكر الحداد بأسى: "لكن قدر الله كان غالبًا، فقد أُصيب في مجزرة التايلندي، ورقد في العناية المركزة ما بين الوجع والألم إلى أن فارق الحياة".
ويمضي بالقول: "حملته بيدي إلى الثلاجة، وكفّنته، ودفنته بيدي، مودّعًا إنسانًا لن يتكرّر، ليس لي فقط، بل لمهنة الهندسة المعمارية كلها، بل مهندسًا لن يتكرر لكل غزة".
أما الصحفي يوسف فارس فقال عن شامية: "كان أحمد شامية اليد التي رسمت المظهر الحضاري لغزة الجديدة: الشوارع، الفنادق، المطاعم الكبرى، صالات الأفراح، قاعات المؤتمرات، وأبنية الجامعات الحديثة. خلف كل إبهار معماري يد أحمد وخياله الخصب".
ويضيف: "قبل عشرين عامًا أو يزيد، عادت عائلته إلى البلاد من غربة دامت طويلًا. واستشهد والداه وشقيقه الأصغر محمد، ثم رحل أحمد. وقبل ذلك، قُدّر له أن يرى صنيع يديه وسرحات خياله الأخّاذ، وقد تحولت خرابًا في هيئة سحبٍ من رماد".
ويمضي بالقول: "وهو الذي كان يمشي في شارع الرشيد، بين رسوماته الهندسية التي تحوّلت إلى أبنية بديعة وتحف معمارية، ويقول مزهوًّا، صدقًا لا شعرًا ولا شعورًا فقط: (هذه المدينة لي.. هذا البحر لي)".
المصدر / فلسطين أون لاين

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


فلسطين أون لاين
منذ 6 ساعات
- فلسطين أون لاين
عن مقولة "إعادة إنتاج الشهداء"
في معرض الحديث عن تحدي شعبنا المتواصل للاحتلال الصهيو/أمريكي وإصراره على بلوغ حقه في التحرر والعودة والاستقلال، مهما ارتفع عدد الشهداء، ومهما ازدادت الخسائر، ومهما بلغت الكلفة على مختلف التضحيات، قال أحدهم إن "شهداء شعبنا يعاد إنتاجهم", ليلاقي قوله على وسائل التواصل الاجتماعي ما قد لاقاه من عدم الرضا عبر الرفض والمواجهة والسخرية والهجوم والتندر، فجال في خاطري أن أعطي لمقولة "إعادة إنتاج الشهداء" وما لاقته من رفض وسخرية وهجوم شيئا من التفكير الهادئ، في محاولة لاستجلاء ما فيها من حيث "ما لها" أو "ما عليها". وحيث إنني لا أرى ضرورة للإبحار والغوص كثيرا، في هذه المقولة، حفاظا على كثير مما ينبغي الحفاظ عليه، فإنني سأطرح ما هو ميسر لي من تساؤلات عسى أن تشكل مفاتيح أو إضاءات تعين على فهم المقاصد، دون تعقيدات أو مواربات: (١) هل تختلف مقولة "إعادة إنتاج الشهداء" عن الفكرة التي رسمها-بل جسدها- الشاعر محمود درويش عن "الشهيد" في قصيدته الشهيرة "إن سألوك عن غزة" التي يقول فيها: "إن سألوك عن غزة، فقل لهم بها شهيد، يسعفه شهيد، ويصوره شهيد، ويودعه شهيد، ويصلي عليه شهيد"؟! وإن كانت فكرة محمود درويش عن شهيد يسعفه شهيد ويصوره شهيد ويودعه شهيد ويصلي عليه شهيد، تختلف عن مقولة "إعادة إنتاج الشهداء", فأين وكيف تختلف؟! (٢) وهل هناك ثمة فرق بين مقولة "إعادة إنتاج الشهداء" وتلك الفكرة التي جسدها محمود درويش، أيضا، في قصيدته: "ورأيت الشهداء واقفين، كل على نجمته، سعداء بما قدموا للأجيال من أمل"؟! (٣) وهل من فرق بين فكرة محمود درويش التي جسدها للشهداء في "حضرة الغياب", وهو يقول: ورأيت بلادا يلبسها الشهداء، ويرتفعون بها أعلى منها، .............................. موتوا لأعيش"؟! (٤) ماذا عن أب من بين ٱباء كثيرين يودع عددا من أبنائه الشهداء،. هو يتوعد دولة الاحتلال بما تبقى له من أبناء على درب الشهادة في سبيل الكرامة الوطنية والإنسانية، واصفا إياهم بأنهم "الشهداء الأحياء"؟! (٥) وماذا عن أم تشيع دفعة واحدة خمسة من أبنائها شهداء، متوعدة الاحتلال بمزيد من الشهداء الذين يفتدون الوطن بمهجهم وأرواحهم وبأغلى ما يملكون. (٦) وماذا عن كثير كثير مما شيع شعبنا من قوافل الشهداء التي تعج بالمشيعين، أطفالا ونساء وشيوخا وشبابا يتوعدون دولة الاحتلال في ساحات النزال، رافعين لواء التحرير والعودة وهم يقسمون قسم الشهداء أنهم لن ينسوه أو يتناسوه فيغادروه، ولن يسقطوه، بل إنهم بدمائهم وبكل ممكناتهم سيبرون به ويستمرون في تقديسه والمحافظة عليه. (٧) ما الذي يعنيه تعبير "الشهيد الحي" الذي بات متداولا لدى أبناء شعبنا؟! ألا يعني مثل هذا الوصف أو التعبير أن كثيرين ممن يزالون من أبناء شعبنا أحياء قد نذروا أنفسهم وقد نذرهم ٱباؤهم وأمهاتهم شهداء على درب التحرير والكرامة دفاعا عن الأرض والعرض والوطن؟! (٨) هل تختلف مقولة "إعادة إنتاج الشهداء" عن الفهم الفطري العام الذي رضعه شعبنا من الٱباء والأجداد بأن "الشهيد لا يموت", لكنه يغيب ليعود مرة أخرى، وهو ذات المعنى الذي قر في فهم شعبنا، إيمانا بما علمنا القرٱن الكريم إياه: "ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات، بل أحياء ولكن لا تشعرون"؟! (٩) هل تختلف مقولة "إعادة إنتاج الشهداء" عن المعنى الذي يجسده الربط الذي يخلق المعادلة بين الفرح والشهادة، بين الموت"شهيدا" وإطلاق الزغاريد كأننا في فرح وحفل زفاف؟! وهل ثمة سبب يبرر تسمية "الشهيد" لدينا بأنه "عريس", فضلا عما يتصل بهذين الاسمين من فرح وزغاريد؟! (١٠) وهل تختلف مقولة "إعادة إنتاج الشهداء" عن الفكرة التي تجسدها أغنيتنا الشعبية التي تقول: "زغردي يا ام الشهيد وزغردي واشعلي سراجك ع العالي ورددي ظلم الليالي والظالم لازم يزول"؟! وبعد: ففي قصيدتها الشهيرة بعنوان "مرثية الشهداء"، تقول الأديبة الفلسطينية الشاعرة سلمى الخضراء الجيوسي (١٩٢٩-٢٠٢٣): أخنوع وحياة...أم إباء وجموح؟ عقدوا عزمهم، فامتلأت بيض المقابر بالشباب الغض، بالٱمال خضرا، والعطور بالحياة الحرة المعطاء فاضت من أخاديد القبور هكذا ماتوا، ويمضي غيرهم نحو المصير". وإذ تعترف الشاعرة الجيوسي بعظم القيمة التي يحتلها الشهيد وتحتلها الشهادة من أجل االوطن، فإنها تؤكد في الوقت نفسه على وجود حياة أخرى للوطن وللشهيد يصنعها الشهيد ويبدأ في تشكيلها قبل الشهادة التي تعادل في قيمتها ومكانتها قيمة الحرية ومكانتها، الأمر الذي خلق في داخل الشاعرة يقينا عظيما عبرت عنه بقولها: "أنا أدري أنهم ماتوا ليحيا الوطن". وفي قصيدة رائعة له، يعتبر الشاعر مريد البرغوثي الشهادة فعلا يوميا متكررا لا يتوقف في فلسطين، أبدا، فهو مشهد يومي يجب أن يتكرر طالما بقي الاحتلال قائما. ها هو يقول: "استمر المشهد اليومي أولاد يعدون المقاليع وأصوات هتافات ورايات وعسكر يطلقون النار في زهو وفوضى وصبي ٱخر يهوي شهيدا فوق أسفلت الطريق." أما الشاعر عز الدين المناصرة، فها هو يخاطب الشهيد، مبلغا إياه أن كثيرين سيزورونه في القبر، ليقدموا له هدايا الوطن: علم دولة فلسطين وخارطتها وجواز السفر الصادر من الحكومة الوطنية فيها: "سنزورك في القبر سنهديك: هدايا! علما, خارطة، وجواز سفر". لكننا إذ نعود إلى محمود درويش، فنراه يشدو, قائلا: "هذا هو العرس الذي لا ينتهي في ساحة لا تنتهي في ليلة لا تنتهي هذا هو العرس الفلسطيني لا يصل الحبيب إلى الحبيب إلا شهيدا أو شريدا". هذا، وإنني لا أجد سبيلا--في سياق ما نحن الٱن بصدده-- إلى تجاهل أغنية لها شهرة طرقت كل الأبواب فغزت كل الأسماع منا وأقنعت كل الأفهام فينا. إنها قصيدة "شهدانا قوافل" التي كتبها الشاعر العربي الليبي، علي الكيلاني، وتؤديها أصالة نصري. أما ٱخر الكلام، فإنني لا أرى فرقا--ألبتة--أو اختلافا بين مقولة "إعادة إنتاج الشهداء" لشعب واقع تحت احتلال متواصل منذ ٧٧ عاما حتى اللحظة وبين ما قر في الذهنية الفلسطينية الجمعية بأن الإنسان الفلسطيني هو طائر العنقاء الذي يقاتل فيستشهد ويموت لأجل أن يحيا ويحيي.... من أجل أن ينتصر أو يموت ليحيا غيره فيحيا شعبه وينتصر.


جريدة الايام
منذ 16 ساعات
- جريدة الايام
نتنياهو وسموتريتش لا ينكران التجويع
قرار رئيس الوزراء الاستئناف الاضطراري للمساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة أجبره هو وشركاءه على أن يخرجوا إلى هجوم "إعلامي" يرمي إلى مصالحة الجمهور الانتخابي ذاك الذي وعد بعقاب جماعي في شكل تجويع. بعد أن شرح لوزراء الحكومة أنه "توجد حملة في العالم عن "جوع في غزة" كما توجد ضغوط من أصدقائنا في أوروبا وفي الولايات المتحدة"، اضطر نتنياهو لأن ينشر شريطاً مسجلاً في الشبكات الاجتماعية كي يشرح للجمهور الانتخابي خائب الأمل أيضاً أنه لم يتبقَ بديل. وشرح قائلاً: "ثارت مشكلة لأننا نقترب من الخط الأحمر". لمن لا يزال يعتقد أن الخط الأحمر يشكل حافة أخلاقية محظور على الدولة أن تتجاوزها – يجمل به أن يصحو. فإسرائيل ليست هناك منذ زمن بعيد. الخط الأحمر الذي جرى الحديث عنه هو خط الإعلام. "أصدقاؤنا الأفضل في العالم، السناتورات الأكثر وداً لإسرائيل يقولون لنا إنهم يعطون كل المساعدات، السلاح، الدعم، الحماية في مجلس الأمن – لكنهم لا يمكنهم أن يدعموا صور جوع جماعي"، قال نتنياهو لنا. هكذا يسمع زعيم دولة تبنت التجويع الجماعي كسلاح ضد السكان المدنيين. لكن ليس زعيما كنتنياهو هو من يخيب أمل جمهوره الانتخابي دون أن يضمن له مقابلاً هجومياً. ففور الإعلان عن إدخال المساعدات شرح أن "خطة الحرب والنصر" هي عملياً "للسيطرة على كل غزة". بعده جاء بتسلئيل سموتريتش كي يوضح أن إدخال المساعدات لا يشهد على أنه هو وأعضاء حكومته تبنوا لا سمح الله عموداً فقرياً أخلاقياً. "أنا أفهم الغضب وآلام البطن"، اعترف وشرح أنه ببساطة إذا ما واصلنا التجويع "العالم سيفرض علينا وقف الحرب وسنخسر". وفي سياق حديثه هدأ الروع بالوعد بإبادة شاملة: "الجيش الإسرائيلي يعمل في غزة مع خمس فرق، بقوة لم يشهد لها مثيل منذ بداية الحرب. فلا لمزيد من الاجتياحات والدخول والخروج بل نحتل، نطهر ونبقى حتى إبادة حماس". لأجل التأكد من أن الرسالة وصلت، قدم لنا عقبى تتمثل في أنه "في الطريق إلى إبادة حماس نبيد كل ما لا يزال باقياً من القطاع". نتنياهو وسموتريتش لا يحاولان إخفاء الجرائم التي باتا منذ الآن يرتكبانها وما هو مخطط للمستقبل القريب: تخريب القطاع، احتلاله وقيادة ترحيل جماعي. من ناحيتهم الكارثة الإنسانية هي مشكلة إعلام فقط. في الواقع نفسه، ذاك الذي يرفض إسرائيليون كثيرون أن يروه لكن العالم ينظر إليه بدهشة فإن ما تفعله إسرائيل في غزة ليس مشكلة إعلام – هذه جريمة حرب جماعية. الصور التي تأتي من غزة هي وصمة لا تمحى على الصورة الأخلاقية لإسرائيل. بدلاً من مواصلة هذه الكارثة، فإن الحكومة ملزمة بأن تسمح بإدخال مساعدات إنسانية ذات مغزى كي توقف فوراً الجوع الجماعي وتنهي الحرب في إطار صفقة لإعادة كل المخطوفين.


جريدة الايام
منذ 16 ساعات
- جريدة الايام
مـلامـح انـهـيـار اسـتـراتـيـجـي حـقـيـقـي
"تلة الكابيتول لا تجيب". ذات مرة، قبل وقت غير بعيد، كان هذا الشعار صحيحاً وأليماً، للأصدقاء من القاهرة. الرئيس المصري السيسي كان يجد في الإسرائيليين الموصين الأفضل الذين يمكنه أن يطلبهم لنفسه في واشنطن، في ضوء النقد المستمر الذي يربط بين تحسين وضع حقوق الإنسان في مصر وبين المساعدات الخارجية الأميركية السخية التي تمنح للقاهرة. لكن هذه كانت أزمنة أخرى كانت فيها إسرائيل العنوان المضمون، الأفضل، لمسارات قلب واشنطن. اسألوا بوتين. عالم ونقيضه: الضعف العميق لدرجة الشلل الذي تعاني منه حكومة إسرائيل في مجال العلاقات الخارجية (هل لأحد ما بالمناسبة أن التقى مؤخراً وزير الخارجية ساعر؟) يصبح هذه الأيام انهياراً استراتيجياً حقيقياً. فهذا لم يعد مجرد نقد عابر على سلوك الحكومة: فالأمور قد تصعد إلى ضرر بعيد المدى للأمن القومي وللعلاقات الخارجية لدولة إسرائيل. مثلما وصف بين هذه السطور في الأسابيع الأخيرة فإن الانفجار الإقليمي – بإشراف الرئيس ترامب – يقترب. شرق أوسط جديد يدق أبوابنا. الإماراتيون يلامسون شريحة Nvidia. القطريون منشغلون بالتملق لترامب. ودرة التاج، المملكة السعودية – هذه بداية المحاور لكل شيء: أسلحة متطورة بمئات مليارات الدولارات (بما في ذلك طائرات اف 35، تحد مهم للتفوق العسكري الإسرائيلي)، محادثات نووي مدني، مشروع ذكاء اصطناعي هو الأكبر في العالم بمشاركة سام التمن وتفاهمات إقليمية مخترقة للطريق. في الخلفية، مواصلة مفاوضات النووي مع آيات الله بقدر كبير من فوق رأس إسرائيل، حوار مباشر مع حماس واليمنيين، أردوغان يتثبت في الساحة الشمالية، وحتى لبنان يتغير. وحيال هذا التغيير التكتوني، تصمت حكومة إسرائيل وتواصل ما كانت عليه، محاولة الانقلاب النظامي تحصد إنجازات محدودة (في هذه المرحلة)، المناكفة الزائدة لمحكمة العدل العليا وللمستشارة القانونية للحكومة تتواصل، الغرق في القطاع بلا غاية اقتصادية، في ظل مخاطرة حقيقية على مقاتلي الجيش في ظل التدهور الخطير للوضع الإنساني في القطاع، تعرض خطير لعقوبات دولية وامتناع أميركي عن المعركة في القطاع (في ظل انعدام استعداد نائب الرئيس فانس لان يزور البلاد في هذه اللحظة)، قانون التملص من الخدمة، والمخطوفون؟ كمن تملكه الشيطان، يضطر رئيس الوزراء بصعوبة لأن يتعاطى بصعوبة مع منحى ويتكوف في إطار غمزة اضطرارية عن الاستعداد لإنهاء الحرب. تجبي الرؤية المسيحانية – الجمهورية التي تتصدرها حكومة إسرائيل في هذه الأيام منذ الآن أثماناً باهظة لعدة ساحات. يكفي رؤية الأضرار المتراكمة كي نفهم أن ليس هكذا تدار دولة. فحقيقة أن حماس مثلاً تجري حواراً مباشراً مع الولايات المتحدة هي ضرر من الصعب قياس عمقه. "شروط الرباعية" (2006)، أحد الإنجازات الإسرائيلية القليلة في المعركة السياسية حيال الفلسطينيين، تقضي ألا تكون الدول الغربية، بما فيها الاتحاد الأوروبي، الولايات المتحدة وبالطبع إسرائيل – على اتصال مباشر مع منظمة الإرهاب حماس. وهاكم العجب، اليأس المتعمق لدى ترامب من الجمود المتواصل الذي يسيطر على نتنياهو جلب الولايات المتحدة إلى حوار مباشر مع حماس، وإن كانت غايته المخطوفين – لكن تداعياته السلبية باتت واضحة، بينما حماس تتباهى منذ الآن بالحوار الجاري الذي تجريه مع "الجانب الأميركي"، على حد تعريفها. توجب الحفرة العميقة التي علقت فيها إسرائيل في أعقاب الشلل التام الذي ألم بالحكومة –إصلاحاً عميقاً بقدر لا يقل. المعنى الفوري هو أنه مع أقل من سنة ونصف السنة حتى انتخابات الكنيست الـ 26، على الأحزاب أن تعرض رؤية إقليمية تستند إلى زعامة إيجابية مفعمة بالأمل والتفاؤل تعرف كيف تأخذ السنتين الأخيرتين للرئيس ترامب في البيت الأبيض كي تجني أرباحاً لدولة إسرائيل. نافذة الفرص التاريخية لتصميم الشرق الأوسط كفيلة بأن تغلق في السنوات القريبة القادمة وعلى الناخب الإسرائيلي أن يأخذ هذا بالحسبان في يوم الأمر: إما قيادة تتجمد في مكانها محشورة بين جدران التطرف، أو عودة إلى رؤية الآباء المؤسسين في شكل صهيونية مبادرة، قوية وواثقة بنفسها – لضمان ازدهار الدولة للأجيال القادمة.