logo
خدم الوطن في القضاء.. وأفاد المجتمع بالوعظ والإرشادسليمان بن جمهور.. الناصح الأمين

خدم الوطن في القضاء.. وأفاد المجتمع بالوعظ والإرشادسليمان بن جمهور.. الناصح الأمين

الرياضمنذ 8 ساعات

لقد حُبب إليّ فن التراجم والسير منذ أن تعلقت بالقراءة وحب الكتاب، هذا فضلًا عن الالتقاء بالعلماء والأعيان الذين يسّر الله الطريق إليهم وسؤالهم عن حياتهم وسيرتهم ومواقفهم وعن كل ما يتعلق بمشوارهم، حتى كبار السن الذين ليسوا علماء ولا من الوجهاء أعشق الجلسة معهم وسماع حديثهم، وكما قال أستاذنا يعقوب الرشيد الدغيثر -رحمه الله-: "جالس من هو أكبر منك بعشرات السنين لتستفيد من تجربته وتتقي الأخطاء التي وقع فيها"، وهو ممن لازمته سنوات وأفدت من معلوماته وتجاربه فهو تاريخ متنقل وكنوز من المعرفة والمعلومات الحية.
ومن الذين كنت أبحث عن حياتهم وسيرتهم وأسأل عنهم الفقيه القاضي الرحالة والشاعر الشعبي النحل سليمان بن محمد بن سليمان بن منصور بن جمهور -رحمه الله-، ومن الذين سألتهم عنه الأديب والرواية والقاضي حمد بن إبراهيم الحقيل -رحمه الله-، وحدثني أنه شاهده في المجمعة واعتقد أنه قال إنه زار والده في منزله وأثنى عليه وأنه صاحب نكتة ومرح، وقد ذكره الحقيل في كتابه (كنز الأنساب) وروى عنه بيتين من الشعر الشعبي سوف أرويها عنه؛ لأنني سمعتها منه عدة مرات، وقد كتبت عن سليمان بن جمهور عدة أسطر في مقالة من حلقتين عن القضاة الذين نظموا في الشعر الشعبي في صفحة "خزامى الصحاري"، وفي "سطور المشاهير" سوف نلقي الضوء على حياة ومسيرة ابن جمهور من خلال بعض المراجع التي وثقت سيرته.
وأصل أسرة سليمان بن جمهور -رحمه الله- من الطائف، ثم انتقلت إلى نجد وبالتحديد في بلدة جلاجل وهذه البلدة من إقليم سدير.
كتاتيب جلاجل
وذكر المؤرخ الفقيه عبدالله البسام في (كتابه علماء نجد خلال ثمانية قرون) -المجلد الثاني- سيرة سليمان بن جمهور -رحمه الله-، وأنه من مواليد عام 1265هـ، وكذلك حدد محمد القاضي -رحمه الله- في كتابه (روضة الناظرين) -الجزء الأول- في ترجمة ابن جمهور التاريخ نفسه.
ونشأ سليمان بن جمهور في جلاجل وقضى صباه وطفولته فيها ثم تعلم في كتاتيب هذه البلدة وحفظ القرآن الكريم، وهذه البلدة العريقة هي بلدة المؤرخ الشهير عثمان بن بشر -رحمه الله- مؤلف (عنوان المجد في تاريخ نجد) حيث ألّف تاريخه في جلاجل وتوفي 1290هـ فيها، ومن المؤكد أن ابن جمهور قد رأى وشاهد المؤرخ ابن بشر؛ لأنهما في بلد واحد، لكن هل أخذ عنه العلم أو جالسه لا علم لي بذلك، وحينما توفي ابن بشر كان عمر شخصيتنا خمس وعشرون عاماً فهو رجل يدرك جل ما حوله.
عمر مديد
وعاصر سليمان بن جمهور -رحمه الله- الإمام فيصل بن تركي في مرحلته الثانية الدولة السعودية الثانية، فقد طال عمر ابن جمهور وتوفي وعمره ستًا وتسعين عاماً، عمر مديد وحياة طويلة ومسيرة ذات محطات كثيرة متنوعة وثرية وليست عابرة فقط، وللأسف الشديد إن علماء نجد أو الذين يجيدون الكتابة من أهالي نجد لا يقيدون مشاهداتهم حينما يجوبون الأقطار ويقطعون القفار والوهاد، فهذا شخصيتنا من هؤلاء الذين لم يكتبوا تجربتهم في طلب العلم وعاصر أحداثًا كبيرة في نجد والجزيرة العربية وفي العراق، فهو رحالة ويكفي أنه عاصر بدايات عصر الدولة السعودية الثالثة على يد الملك المؤسس الملك عبدالعزيز منذ عام 1319هـ حتى إطلاق اسم المملكة العربية السعودية عام 1351هـ.
رحّالة وجوّال
وسليمان بن جمهور -رحمه الله- رحالة وجوال في طلب العلم من وهو من العلماء النجديين الذين طلبوا العلم خارج نجد، وكانت رحلته إلى العراق حيث العلم والعلماء في بغداد، وكانت بغيته آل الألوسي أشهر أسرة علمية في بغداد إن لم يكن في العراق، ولعل مجيء ابن جمهور إلى بغداد أوائل القرن الرابع عشر الهجري يعني ما بعد 1300هـ تقريبًا، يقول محمد بن عثمان القاضي في كتابه (روضة الناظرين) والبسام في (كتابه علماء نجد): إن شخصيتنا درس على العلامة نعمان بن محمود الألوسي، وهذا الأخير توفي 1317هـ، وكان قبل 1300هـ سافر إلى مصر لطبع تفسير والده روح المعاني وسافر إلى الشام وكانت له رحلات حتى استقر عام 1301هـ في بغداد حتى وفاته، وبهذا يكون ابن جمهور درس عليه بعد هذا التاريخ، والألوسي بحر من العلوم وهو رئيس المدرسين في بغداد، ولا أعلم كم المدة التي قضاها فيها، ولازم شخصيتنا كذلك العلامة المؤرخ اللغوي محمود شكري الألوسي مؤلف (النبذة التاريخية النجدية) وغيرها من المؤلفات وتوفي عام 1342هـ.
الهند والزبير
وبعد بغداد رحل سليمان بن جمهور -رحمه الله- عن طريق البحر إلى الهند، يقول القاضي في كتابه (روضة الناظرين) أنه التقى بعلماء الحديث، أمّا البسام فيذكر أنه سافر لأجل التجارة، ولعل الأمرين قد حصلت لشخصيتنا، وإذا التقى بعلماء الحديث من الممكن أنهم أجازوه بمروياتهم، رجع ابن جمهور إلى العراق مرةً أخرى وسكن إلى الزبير بقصد الدراسة على علمائها في الفقه الحنبلي، وعلماء الزبير حنابلة؛ لأنهم في الأصل نجديون، ونجد أغلبها حنابلة بل جلهم، وشخصيتنا من أهالي نجد من سدير، وكذلك مدينة الزبير فيها أغلبية من أهالي سدير، حطت رحال شخصيتنا في الزبير واعتكف بغرض العلم وتحصيله ولم يشتغل بأي شيء سوى ملازمة الدرس، فكان من العلماء الذين أخذ عنهم العالم محمد بن عوجان -رحمه الله- أخذ عنه الفقه والفرائض، وابن عوجان من فقهاء المذهب الحنبلي، وذكر البسام والقاضي أن شخصيتنا قد انتفع بملازمة هذا العالم انتفاعًا كثيرًا، وبهذا حفظ الفقه الحنبلي واستوعبه، وكذلك المواريث، ولعل هذا من حسن تدريس ابن عوجان لتلاميذه، فليس كل عالم أو طالب يجيد التدريس وإيصال المعلومة بأسلوب سهل وسلس، وقد يكون غزير المعرفة، لكنه لا يتقن الشرح وتفكيك المتون في الفقه والعقيدة والنحو، وبهذا صار شخصيتنا بعد هذه الرحلات العلمية من أهل العلم والمعرفة وكان أهلًا لأن يفتي ويقضي.
قابل المؤسس
وبعد سنوات كثيرة وعندما كبر سليمان بن جمهور -رحمه الله- في العمر اتجه إلى الرياض وقابل المؤسس الملك عبدالعزيز -رحمه الله-، وهنا يقول البسام عند مجيئه للرياض: فلما استقر الحكم للملك عبدالعزيز وزالت تلك الدعايات التي شوهدت العقيدة السلفية التي أحياها الشيخ محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله- عاد ابن جمهور إلى بلاده «نجد»، وحلَّ بالرياض، واجتمع بالعلامة الشيخ عبدالله بن عبداللطيف، فعَّرف الملك عبدالعزيز به كما عرّف به أهل العلم، فأكرمه الملك كعادته في إكرامم أهل العلم وأمر بإنزاله في بيت وتأثيثه له وإجراء نفقات لائقة به، كما باحثه أهل العلم وصار له معهم اجتماعات عرف من خلالها صحة هذه الدعوة ونقاوتها وبعدها عن الخرافات والبدع، فدخلت الدعوة السلفية في قلبه، وصار هو من أكبر دعاتها،
ويضيف البسام قائلاً: وحين أعفي من العمل استقر في مسقط رأسه بلده جلاجل إحدى بلدان مقاطعة سدير، فأقام فيها حتى توفي فيها عام 1361هـ، وقد أفادني الشيخ عبدالعزيز بن سليمان بن سعيد أحد قضاة محكمة التمييز بالمنطقة الغربية بأن لابن جمهور أحفاداً، وأنهم من طلاب العلم، وأنه زامل بعضهم في الدراسة.
قاضي رنية
وعيّن الملك عبدالعزيز -رحمه الله- سليمان بن جمهور -رحمه الله- قاضيًا لبلدة رنية، وهذا أول عمل قضائي يتولاه، ثم بعد ذلك عينه مرشدًا وواعظًا لهجرة «الصرار» عند قبيلة العجمان، وشخصيتنا من الوعاظ المؤثرين في نصحهم وإرشادهم، ولعل ذلك تأثره بشيخه نعمان الألوسي الذي وصف بأنه ابن الجوزي زمانه، ثم بعد ذلك عين مستشارًا عند نائب الملك صاحب السمو الملكي الأمير فيصل -الملك فيما بعد- فكان نعم المستشار الأمين الصادق، فكان يطرح رأيه بدقة حينما تطلب منه المشورة والمستشار، مؤتمن فيما استشير فيه، كأنه قاضي وأمامه الخصوم لا يميل مع أحد الطرفين وهكذا شخصيتنا، وكانت آخر أعماله في القضاء في أبها، ويروي الفقيه عبدالله البسام في هامش ترجمة شخصيتنا أن الوجيه عبدالله العسكر -أمير المجمعة سابقًا- لما عيّنه الملك عبدالعزيز أميرًا على أبها، طلب ابن عسكر من الملك عبدالعزيز أن يختار مرافقين معه إلى أبها، وأن يرسل معه قاضيًا ويكون في السنتين الأولى إمامًا للصلاة فقط، فاختار شخصيتنا إمامًا ثم بعد ذلك بعد سنتين قاضيًا معه.
راعية الأثل
وروى الباحث عبدالعزيز العويد -في إحدى مقاطع اليوتيوب- أن سليمان بن جمهور -رحمه الله- لمّا كان صغير السن اتجه هو وأخوه دخيل من سدير إلى القصيم، وكانت هذه السنة قاسية على نجد، فرحلا إلى القصيم طلبًا وسداً للرمق، فلما وصلا هناك مكثا فيه مدة ثم رجعا إلى سدير، وفي أثناء الطريق نفد ما معهما من الزاد والماء وسقطا مغشيًا عليهما، ومرت بهما امرأة وأنقذتهما وسقتهما وأطعمتهما، ووضعت عليهما شجر الأثل حتى يزول عنهما شدة الحر، وبعدما نشطا واستعدا للرحيل زودتهما بالماء والطعام، ولم ينس شخصيتنا هذا الفعل العظيم من هذه المرأة المحسنة، فلما كبر واشتد عوده خصص لهذه المرأة أضحية باسم راعية الأثل، وهذا من أعظم الوفاء وحسن العهد، ولولا عناية الله ثم هذه المرأة لأصبح شخصيتنا وأخاه من عداد الموتى.
ليس مُكثراً
وسليمان بن جمهور -رحمه الله- من الشعراء المجيدين للشعر الشعبي، والظاهر أنه ليس مكثرًا من الشعر ولم يتفرغ له، ولو بذل نفسه لأبدع كثيرًا، لكن الله اختار له ما هو أفضل، العلم والقضاء والنصح ونفع الأنام، ويروي الأديب القاضي حمد الحقيل -رحمه الله- بيتين فيهما طرافة لشخصيتنا وهما:
مع السلامة يا القدوع
والعود الأزرق واللحم
بشر عيونك بالدموع
من كثر تنفيخ الفحم
كريم المنطق
وقال حمد بن عبدالله بن خنين في مقالة له بمجلة «العدل» عن سليمان بن جمهور -رحمه الله-: كان عف اللسان كريم المنطق، من أبعد الناس عن الغيبة وسوء الظن والخوض في الخصومات، حريصاً على جمع الكلمة ورأب الصدع، كان إماماً في العبادة والتقوى وورعاً في المال والتعفف عن المغريات، كثير الإحسان إلى الناس يسعى في مصالحهم ويقضي ديونهم ويعين فقيرهم ويصلح ذات بينهم ويجيب دعوتهم ويشفع لمحتاجهم، وكان إماماً في العلم والفقه تحصيلاً وفهماً وتكييفاً، ثم صار إماماً في التعليم بذلاً وتوفراً ومداومة وتفهيماً، كما أنه إماماً في الإصلاح والاحتساب والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع المداراة واللطف والحكمة وتقدير المصالح والمفاسد، كم جرى بعد وفاته -رحمه الله- من محن وخطوب يتمنى المرء أن لو ظفر منه بجواب مسألة وكشف شبهة وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر، فتح بابه وقلبه للناس، واستوعبهم بحبه وعطفه وحسن تعليمه لهم وحب الخير لكبيرهم وصغيرهم ما كان يستعصي عليه إنكار منكر مهما كان، لأنه كان ينكره بكل الحب واللطف واللين والحرص على هداية العاصي، كان الأهم الأبرز في جيله وعصره، ففي كل ملمة يفزعون إلى رأيه ومشورته، هكذا هم العلماء الربانيون وهكذا يكون أثرهم، وهكذا يكون الفراق والفقد ووجع رحيلهم، رحمة الله على هذا الشيخ الذي بذل حياته في العلم والتعليم والعبادة والنصح.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

ياسر مدخلي: المسرح يعاني.. ومقاولوه يبحثون عن مكاسبهم
ياسر مدخلي: المسرح يعاني.. ومقاولوه يبحثون عن مكاسبهم

عكاظ

timeمنذ ساعة واحدة

  • عكاظ

ياسر مدخلي: المسرح يعاني.. ومقاولوه يبحثون عن مكاسبهم

/*.article-main .article-entry > figure img {object-fit: cover !important;}*/ .articleImage .ratio{ padding-bottom:0 !important;height:auto;} .articleImage .ratio div{ position:relative;} .articleImage .ratio div img{ position:relative !important;width:100%;} .articleImage .ratio img{background-color: transparent !important;} حاكم الشارقة يسلّم مدخلي جائزة المسرح. مدخلي مع الإعلامية خديجة الوعل في ديوانية القلم الذهبي. مدخلي في أحد اجتماعات جمعية المسرح والفنون الأدائية. فريق مسرحية صادق النمك. جمعٌ من المثقفين في ديوانية القلم الذهبي. مع ناصر القصبي. للكاتب المسرحي مدير الإدارة التنفيذية لـ«ديوانية القلم الذهبي» ياسر مدخلي حضوره الإبداعي، والإداري. أنشأ مبادرة «مسرح كيف» الأولى من نوعها في قطاع المسرح منذ 25 عاماً، وحقق خلالها العديد من الجوائز، ونالت أعماله اهتماماً من الباحثين الأكاديميين داخل المملكة وخارجها. وهنا نحاور تجربة لها رؤية وخبرة، حول شؤون وشجون «أبو الفنون»، فإلى نصّ الحوار: • لماذا أنشأت «مسرح كيف»؟ •• «كيف» سؤال عن الطريقة، والبحث المستمر، وتحقيق الجودة مقابل الكم، و«كيف» تمثّل أسلوب التجربة الذي أصبح سمة هذا الكيان الذي أثبت حضوره كفريق يعمل بشكل مؤسسي ويمتلك حوكمة متفوقة، إضافة إلى أن «كيف» تعبّر عن المنهج العلمي وراء التجارب التي جذبت الجمهور، ولفتت اهتمام المتخصصين. وطيلة الأعوام الماضية حققنا استدامة ثقافية نوعية، ونقدم اليوم مخرجاتنا بجرأة ورصانة كقوالب مبتكرة نقترحها على جمهور المسرح المحلي ومتطلعين إلى جمهور وصناع المسرح العالمي. • ماذا أنتج؟ وما تأثيره؟ •• نفذنا من خلال «مسرح كيف» وبدعم ذاتي، عدداً من الدورات التدريبية التي صقلت العديد من المواهب المسرحية في مجالات مثل الكتابة والتمثيل والإنتاج، وأنتجنا كل الأعمال التي وطدت العلاقة مع الجمهور، ومن خلال هذه العروض قدمنا تجارب علمية منهجية، وكمخرج وباحث توصلنا لفهم أعمق للجمهور. • ماذا يعني فهم الجمهور؟ وهل المسرحي بمعزل عنه؟ •• إن ما يعانيه المسرح في العالم اليوم هو أن المبدع والمنتج يعتمدان في تصميم وصناعة المسرح على ذائقتهما، وقناعتهما، وتوقعاتهما، بعيداً عن دراسة المتلقي المستهدف ومتجاهلاً لدراسة السوق، وحتى نستطيع حل هذه الإشكالية علينا أن ندرك بفهم شامل المنطقة المشتركة بين صانع العرض ومستهلكه، لنقدم عرضاً مسرحياً قابلاً للتلقي وناجحاً مع الجمهور وجاذباً باستمرار ومحققاً للتأثير المسرحي، وبإشراك الجمهور استطعنا أن نوظّف مسرحنا لخدمة المجتمع. • لماذا لديك حساسية من المسرح التجاري، وتطلق على من يتبناه «مقاول»؟ •• أعتقد أن من أدوار المسرح مساعدة الجمهور على الشعور بالسعادة والتفاؤل والأمل والاستمتاع بالجمال، وأيضاً اكتساب الجمهور عدة قيم؛ منها التعايش والتقبّل والولاء والتكاتف بين أفراد المجتمع. والمقاولون الذين يعملون في المسرح يبحثون عن مصلحتهم التجارية ومكاسبهم فحسب، ولا يقدمون دوراً ثقافياً أو حضارياً يسهم في تشكيل إرث فني إبداعي في هذا المجال، لذلك أجد أن موقفي ضد مقاولات المسرح هو بسبب تغييب جزء كبير من المسرحيين الذين توقفوا بشكل أو بآخر عن تقديم أعمال مسرحية ذات قيمة إبداعية عالية، ما جعل المسرح دون أثر اجتماعي، كما تفعل مباراة كرة قدم مثلاً. • ما رؤيتك للكتابة المسرحية؟ •• أؤمن بأهمية تكوين الشخصية الإبداعية للكاتب. دائماً أحاول من خلال كتاباتي أن أقدم أسلوباً يحفّز القارئ على النقاش ويتيح له مساحة لطرح التساؤلات، ورغم أن المسرح العربي متعدد الثقافات والمرجعيات والحاجات، إلا أنه يشترك في القيم والقضايا الإنسانية وشغفنا بالحكايات، لذلك يكون طرح القضايا المشتركة بحاجة ماسة إلى لغة يمكنها التعبير عن مساحة أكبر وزمن أطول لتتلاءم هذه النصوص وهذه الأعمال. وأعتقد أنني أجتهد في تقديم أعمالي بأسلوبي الخاص الذي يتمكن من خلاله النص أن يصل إلى أبعد من البيئة التي أعيش فيها. • من يقف وراء أسماء أعمالك؟ هل هي عفوية، أم أن للعنوان نصيباً من الاشتغال على العمل؟ •• طبعي التأني في إخراج وتنقيح النص والكتابة، مراحل لا تتوقف على مسوّدة واحدة أو اثنتين لأنني دائم الكتابة والتحرير والتعديل على النصوص. واختيار اسم النص دائماً ما يشغلني، ليكون معبراً بشكل جيد ومشوقاً أيضاً، وأنا في الدورات التدريبية في الكتابة أؤكد على أهمية العنوان لتحفيز المخرج والمنتج والقارئ لبدء التواصل مع النص، لذلك أعتقد أنه جزء من أسلوب الكاتب وشخصيته، ومن الذكاء أن نختار اسماً مميزاً لأنه بطاقة عبور باتجاه الآخر، وعتبة أولى للحكاية وأداة تسويقية مؤثرة. • لماذا تميل للتمرُّد على القواعد وتتفنن في كسرها؟ •• ليس تمرُّداً، وإنما محاولة لصياغة التجربة التي أبحث فيها عن شكل يخدم أهدافها، فهذه التجارب هي التي تجعلني أعيد اختبار القواعد، وأبدأ في ابتكار أسلوب مواكب للتغيير الطارئ على المبدع والمتلقي، لذلك فإن كسر القواعد لم يكن هدفاً بذاته وإنما هو وسيلة لمساعدتي على اختبار قواعد جديدة بالبحث العلمي، ولي مع «مسرح كيف»، تجربة مسرحية تختبر فرضية أو تساؤلاً محدداً، والمسرح الذي لا يقدم تجربة مسرح بائد. • كيف وجدت «الكوميديا الارتجالية التفاعلية»؟ •• كانت تجربة «صادق النمك» قائمة على الارتجال، ولم يكن الهدف من الارتجال تقديم ممثل بارع، بل كانت الفكرة كيف نستطيع جعل الجمهور ممثلاً جيداً بإتاحة الفرصة للمشاركة، وهذا ينطلق من كون التفاعل أصبح هوس المتلقي، من خلال تطبيقات التواصل الاجتماعي التي تمنحه فرصة التعبير عن الإعجاب وإعادة النشر ومشاركة المحتوى، والمتلقي اليوم يصنع المحتوى. والمسرح يواجه تحدياً مع التطبيقات والهواتف الذكية التي ترافق الإنسان في كل مكان وتعوضه عن التعامل مع الإنتاج التقليدي للإعلام والثقافة، وبالذات المحتوى الدرامي الذي يطرح في المنصات المختلفة، لذلك صنعت قالب «الكوميديا الارتجالية التفاعلية» كي نستفيد من فكرة التفاعل التي يهتم بها المجتمع، والارتجال ابن اللحظة التي تقدم جوهر الإنسان وتعبّر عن شيء ما في داخله، لذلك كانت فرصة لإطلاق مشاعر الناس ومواقفهم من خلال دور يقدمونه داخل العرض، وكانت كل المداخلات تعبّر عن قبول الجمهور، ومحاولة التداخل تجاوزت عدد الفرص الموجودة في العرض. • بماذا تواجه النقد؟ وما موقفك من النقاد؟ •• ‏أعتقد أن النقد إحدى الركائز لنمو أي إنتاج إبداعي، ومهمة النقد تبدأ بالملاحظة ثم تحاول التوجيه والتوثيق وتقدم القراءة للإبداع، ثم يصبح الناقد أيقونة، عندما يكسب ثقة المبدعين والجمهور، وتقف حركة النقد وإنتاجه على مسوؤلية الحارس الذي يحقق الأمان الإبداعي، ومن خلاله يتم إبراز التجارب الجديدة، وإيقاف المهازل التي ربما تنحدر بالفن والأدب والفكر، لكن النقد اليوم للأسف غاب أو -على أحسن تقدير- انحدر بسبب تعنت النقاد وشراسة أساليبهم، وعدم مواكبتها المشهد الإبداعي، فحاجتنا للنقد لا تقل عن حاجتنا إلى وجود المبدعين، لأن النقد حالة متوازية ومتجدده تشجع المميز وتقوم المتعثر وتحاكم السيئ. • ما موقفك من المهرجانات الكثيرة؟ أم أنك لا تدعى إليها؟ •• الكثرة أو القلّة ليس لها تأثير جوهري، فالمضمون هو الغاية وليس المهرجان نفسه، وتنوع المهرجانات مهم وكثرتها مهمة، ولكن إذا كانت مضامين هذه المهرجانات متشابهة، وضعيفة، أو كانت تدار بأساليب تقليدية أو متحيزة، أو لديها أجندة تؤثر على هدفها الإبداعي فأعتقد بأنها تؤثر سلباً على العمل الفني، لذلك وجود المهرجانات مهم، والتنوع أهم ويجب ألا نغفل أهمية اعتماد واختيار تحكيم وإدارة المهرجانات بطريقة مهنية وفق معايير واضحة وشفافة لتحقق تكافؤ الفرص وتعزز التنافسية بين المبدعين وتبرز التجارب المهمة والأسماء التي تستحق الاحتفاء. • ما الذي دفعك إلى الاستقالة من مجلس إدارة جمعية المسرح والفنون الأدائية؟ •• بدأت عملي في مجلس إدارة جمعية المسرح والفنون الأدائية المهنية منذ ثلاثة أعوام ونصف تقريباً، وكنت مع زملائي الأعزاء بقيادة رئيس مجلس الإدارة الفنان القدير ناصر القصبي نعمل على تأسيس أرض صلبة انطلاقاً من الحوكمة بصياغة عدد ضخم من السياسات الداخلية واللوائح والأدلة والتشريعات وتنظيم مهمات للجمعية بإستراتيجية واضحة تعنى بالجانب المهني، وترتقي بالممارسين، وتعزز الثقافة والوعي في قطاع المسرح والفنون الادائية، وانتهيت من كل المهمات التي كُلفت بها ولم يعد لوجودي ارتباط واضح يستحق بقائي، وللأعزاء في المجلس كل التقدير على فترة أعتبرها تاريخية لتأسيس منظمة مهنية تحافظ على المبدعين وترعى مصالحهم وتنمي أعمالهم وتحمي حقوقهم. • ما القرار الذي تحتاج إليه جمعية المسرح لتقدم أثراً ملموساً في الميدان؟ •• كون الجمعية اليوم ذات شخصية اعتبارية وتخصص مهني، نتوقع من المسرحيين الكثير، وأتمنى أن تقوم بدورها، في ضبط ممارسة المهن المسرحية وتتيح الفرصة المشجعة للممارسين في قطاع المسرح وقطاع الفنون الأدائية، وهو جهد كبير بحاجة إلى أن يكون للجمعية موارد مالية مستدامة، وأن تركز مهماتها وأعمالها على الجانب المهني، والزملاء الكرام في مجلس الإدارة يقومون بجهد عظيم، في المهمات التي ما زالوا يعملون عليها، وسواء كنت في المجلس أو كنت خارج المجلس، وسواء كنا أعضاء اليوم في الجمعية أو خارج الجمعية، يجب أن يكون لنا دور نقوم به بدافع وطني ليكون مسرحنا قائماً وقوياً ومنتجاً ومؤثراً ومواكباً للرؤية الطموحة التي تحققها البلاد. • ألا تبالغ بوصف المسرح بالناضج في ظل النقص الحاد في البنية التحتية وغياب لائحة المهن الفنية؟ •• لدينا مسرحيون، وليس لديهم مسرح، هذه حقيقة، إلا أن هذا لا يجعلنا ننكر ببساطة ما قام به المسرحيون خلال العقود الماضية، وحققوا حضوراً قوياً ومهماً في المحافل الدولية، وعندما تمكنوا من تقديم أعمالهم أقبل عليهم الجمهور، وبالأثر والأرقام حقق المسرحيون دوراً كبيراً في الجنادرية، ومسرح الأمانة، ومهرجانات المناطق والجامعات، والعروض المذهلة في بوليفارد رياض سيتي بدعم هيئة الترفيه، وفي المقابل جمهورنا متعطش ويكاد حضور المسرح يفاجئ الجميع في كثير من الأعمال، إلا أن الإستراتيجية التي تلغي وجود القطاع الخاص، أو لا تشجعه على الاستثمار، خطة ناقصة، وإن لم تُعِق المسرحيين عن مزاولة شغفهم والمساهمة في تشكيل حراك مسرحي ينافس محلياً ودولياً. • متى يستعيد «أبو الفنون» في بلادنا كامل عافيته؟ •• عندما يقترب صانع القرار من المبدع، ويلبي احتاجاته، ويؤمّن له الأدوات الكافية، من التشريعات والحقوق والواجبات والبنى التحتية البسيطة والمعقدة سيستطيع النجاح في الوصول إلى الجمهور ويؤثر فيه. فالمسرحيون هم العتبة الأولى لدعم الحركة المسرحية، وتجسير العلاقة بين الأجيال، وتنمية الفرق ومنحها صفة اعتبارية ستجعلنا أمام سوق مغرٍ يجذب رؤوس الأموال ويحرك المياه الراكدة في قطاع بكر لم يتجرأ المستثمر على اكتشاف الفرص الربحية التي تنتظره والمسرح السعودي قادر برغم ما يعتريه من ظروف، فهو حاضر في منصات التتويج، وفي أبحاث الدراسات العليا، وفي المهرجانات المختلفة، ويقدم اليوم بلغات عديدة. • ماذا عن اهتماماتك الأخرى؟ •• كل اهتماماتي وهواياتي تتضاءل أمام المسرح، لا شك أني أحب الرسم والتصوير وكتابة الشعر والخط، ومن يزور مكتبي يُفاجأ بأن هناك زاوية للرسم، وأخرى للنحت، وعلى طاولتي لوحات للخط، ومسوّدات عديدة للمسرح، وبعض القصائد هنا وهناك. المسرح دفعني لاكتساب هوايات عدة، وتعلم الموسيقى، والاهتمام بالتخطيط الهندسي، والتعمق في فنون الإدارة والمشاريع، والتعرف على تجهيزات الإضاءة والخدع البصرية. • هل ينجح الفنان في إدارة العمل الثقافي؟ •• إدارة العمل الثقافي شاقة، لأنها تقدم خدماتها لمبدعين يمتلكون القدرة على ممارسة أعمالهم بشكل مستقل، وهذا يصعّب الأمر من ناحية، فكيف تجذب شخصاً قادراً على الاستغناء عنك؟ وفي المقابل كيف تحقق تطلعات الأفراد بمختلف أذواقهم واتجاهاتهم وطموحاتهم؟ نجاح الإدارة الثقافية يحتاج نكران الذات، فالمدير يجب أن يستفيد من تجاربه وخبراته في الميدان الثقافي، ولكن عليه ألا يسمح لذائقته أن تؤثر على صناعة قراره، وأن يتجنب التحيز لمن يحبهم ويحب أعمالهم، وفي المقابل عليه أن يقدم الخدمة بعدالة حتى مع من يختلف معهم أو ربما كانوا خصوماً له في يوم من الأيام. • ألا تخشى على ياسر «الكاتب» من «الإداري»؟ •• علينا أن نخشى من «الكاتب» على «الإداري» وليس العكس، فعندما تؤثر الذائقة والمصالح على القرار تسقط المهنية، وأعتقد أن نفقد كاتباً فهذه خسارة لفرد، لكن خسارة إداري ستجعل القطاع كله يعاني وتختل موازين الإبداع ونفقد ثقة المبدع في المجال. • أين المسرحيون من «ديوانية القلم الذهبي»؟ هل يتنكر ياسر لرفاق الدرب؟ •• موجودون، لكن يجب أن نضمن التنوع والفرصة للجميع، ومهما تنكر المثقف للآخر، فلا أحد يقدر على إلغاء أحد، و«ديوانية القلم الذهبي» ليست لأصدقائي ورفاق الدرب كما تقول، لكنها على مسافة عادلة من الجميع، وأسعدني أن الديوانية انفردت بالاحتفاء باليوم العالمي للمسرح، وجمعت أصغر ممثل مبتدئ بأكبر فنان قدير، وكان لقاء رائعاً وإيجابياً، وأدهشتني الطاقة الإيجابية في المسرحيين الحاضرين بتنوع أعمالهم وأساليبهم وتخصصاتهم، وكانوا سبباً في نجاح ذلك اللقاء، ولم يتوقف بعضهم عن زيارة الديوانية والمشاركة في اللقاءات اليومية بين المثقفين. • ماذا منحتك إدارتك للديوانية؟ وماذا اختزلت منك؟ •• فرصة مذهلة للتعرف على عدد كبير من القطاعات المختلفة، والاهتمام بها جميعاً على حد سواء، وقراءة المشهد الثقافي بعمق أكثر، والنظر من زوايا جديدة والوقوف على مسافة واحدة من كل القطاعات. «ديوانية القلم الذهبي» تجبرني يومياً على البحث عن المثقفين لأنهم الفئة المستهدفة باختلاف مشاربهم واهتماماتهم، ولكني أجد أنها تستحق أن أمنحها الأولوية أنا وكل زملائي العاملين في خدمة هذه المبادرة بإشراف ودعم المستشار تركي آل الشيخ، لأنها مشروع مختلف تماماً وفريد من نوعه من حيث الشكل والفكرة والمضمون. وحتى نكون منصفين فإن التجربة في بدايتها، ويجب ألا يغرينا الثناء، وإذا كانت الديوانية نجحت في وقت قياسي فمسؤوليتي وزملائي المحافظة على النجاح خدمة للإبداع الوطني، وتقديراً لثقة من اختارنا وامتثالاً لتوجيهاته. • ما دور ومهمات «ديوانية القلم الذهبي»؟ •• كما أُعلن سابقاً؛ «ديوانية القلم الذهبي» ملتقى يومي للأدباء والمثقفين، تحتوي على أكثر من 2000 كتاب متنوعة التخصصات، ومعتزل للكتابة، وخلوة للقراءة، وصالة للضيافة اليومية، وجلسات خارجية، وفي كل يوم يتعرف الزوار على بعضهم ويخلقون حواراتهم المهنية، وأصبحنا نساعد الجميع على اللقاء بناشرين لطباعة الروايات والكتب المختلفة، ومنتجين لمناقشة مشاريع سينما ومسلسلات، ومخرجين يبحثون عن نصوص مسرحية وسيناريوهات. • لماذا يتم توجيه دعوات لشعراء وكُتّاب بصفة دورية؟ •• الدعوة فقط للقاء الأسبوعي تقديراً للأدباء والمثقفين، وتعريفهم على بيئة تجمعهم يومياً، وخلق أجواء محفزة على الإبداع والحوارات الإثرائية عن تجاربهم ووجهات نظرهم. • ماذا يتمخض عن هذه اللقاءات؟ •• أتمنى أن ننجح في جعلها فرصة نوعية لالتقاء أجيال مختلفة ومبدعين من قطاعات عدة يمارسون بكل حرية حواراً حضارياً لتشكيل موقف من الحالة الإبداعية وظروفها وتطلعاتهم تجاهها، وخلق طاقة إيجابية اعتزازاً بالأمل الذي صنعته السعودية للعالم عموماً والوطن خصوصاً، وهذه الأجواء نجحت في توطيد علاقات مليئة بالود وتقبل الاختلافات واحتفاء بالواعدين وتقدير للرموز وتشجيع للأفكار لتخرج إلى النور. أخبار ذات صلة

مثقفون يتبنّون قضيّة وآخرون يتخلّون عن قضاياهم
مثقفون يتبنّون قضيّة وآخرون يتخلّون عن قضاياهم

عكاظ

timeمنذ ساعة واحدة

  • عكاظ

مثقفون يتبنّون قضيّة وآخرون يتخلّون عن قضاياهم

/*.article-main .article-entry > figure img {object-fit: cover !important;}*/ .articleImage .ratio{ padding-bottom:0 !important;height:auto;} .articleImage .ratio div{ position:relative;} .articleImage .ratio div img{ position:relative !important;width:100%;} .articleImage .ratio img{background-color: transparent !important;} حنان عنقاوي عبدالعزيز أبو لسه خالد قماش عبدالله الغذامي سهام القحطاني من اللافت لنظر الراصد للمشهد الثقافي في عالمنا العربي، تباين أنماط المثقفين؛ بين من يعيش لنفسه، ومن يهب ذاته ومجهوداته لقضايا عدة، وبين من يحاول الجمع بين قضيّة يدافع عنها ويتمسك بها، ويمنح نفسه حقها من المتعة والراحة واللذة، ولتحرير قضيّة الأسبوع من خلال نخبة من مشهدنا الثقافي والأدبي، نعرض ما توصّل إليه التحقيق الأسبوعي من وجهات نظر حول قضيّة المثقف على مستوى العام والخاص.. الكاتبة سهام حسين القحطاني ترى أن السؤال هو سؤال عن مفهوم «أصالة المثقف»، إذ لا بد لكل مثقف أن تكون له قضية، تتمثل في مبدأ، ومنهج ورؤية ثقافية، وتلكم هي التي تمنحه الأصالة سواء على مستوى كونه مثقفاً قادراً على خلق اتجاه وأسلوب ثقافيين، أو على مستوى التاريخ الثقافي لمجتمعه. وعدّت جذرّية القضية؛ تمثيلاتها المختلفة التي لا تعني الأحادية، بل تؤطر هويته الثقافية، كون الهوية لا تُعيق التنوع، بل تُسهم في استثمار توسيع تلك القضية من خلال التطبيقات والأساليب، وتراه مؤشراً على أصالة المثقف، الذي يطوّع قضيته الخاصة لتأسيس منهج كامل الأركان، مستعيدة تجربتي العروي والغذامي، لافتةً إلى أن المنهج الحاصل من خصوصية الهوية الثقافية للمثقف مثل بصمة الأصبع الذي تميزه عن غيره وتُطيل أثره الثقافي. ويحمّل الشاعر خالد قمّاش، الصراع الشكلي بين المثقف والمجتمع، إشكالية تحويل المثقف إلى قضية في الحياة، خصوصاً إذا استطاع المثقف أن يكون منتجاً للأفكار الخلاقة، والمثيرة للاختلاف لا الخلاف، وذهب إلى أن القاسم المشترك الأكبر بين قضايا المثقفين هو الانحياز للهمِّ الإنساني والانتصار للحق ومحاربة الفساد والظلم، مضيفاً أنّ مشكلة بعض المثقفين تتمثل في اختلاق قضايا هامشية لا تغني ولا تسمن من جوع، طمعاً في لفت النظر إليه عقب أن انطفأت قناديل حضوره في المشهد الثقافي! وقال: في قراءة سريعة إذا ما استثنينا المثقفين البرغماتيين يظل الوطن والإنسان هما المحوران المشتركان لأغلب القضايا الثقافية لدى بعض المثقفين العرب. فيما عدّت خبيرة المسرح الدكتورة حنان عنقاوي تبنّي قضيّة ما جزءاً من مشروع تنمية المثقف المستدامة، وترى أنّ تطور الإنسان في مكان ما من الكون هو تطور لكل العالم، فالفرد جزء من عالمه، وتؤكد أن القضية للمثقف ولغيره تشعره بوجوده، وتحقق انتماءه لمنظومته الخاصة والعامة، وتجذّر واجباته تجاه نفسه، أو مجتمعه، أو البيئة. وترى أن المثقفين درجات؛ إذ منهم من يمتلك المعلومة والمعرفة، ومنهم صاحب رؤية، ومنهم صاحب الوعي الذي يدرك جيداً أنه لا بد أن تكون له قضية مرتبطة بكيانه ومسؤوليته، وغاياته، وقسمت القضايا إلى مستويات؛ منها ما يُسهم في النمو، ومنها ما يطوّر القدرات، ومنها ما يحسّن أداء الذات، بالتعليم، وتراكم الخبرات، لتكون ثمرة القضية عائدة على المجتمع الذي يعيش فيه ويعرف احتياجاته، مؤكدةً مقولة: أنا لديّ قضية إذاً أنا موجود. فيما ذهب الشاعر عبدالعزيز أبو لسه، إلى أن وجود المثقف الحقيقي العميق «قضية» بحد ذاتها، بل هو بنية مستقلة تحتاج إلى تفكيك، واستبطان لسبر أغواره، وقال أبو لسه: في البدء يجب أن نميز المثقف من المتثاقف الذي يعتاش على الثقافة، ثم لو صادقنا أن المثقف يجب أن يتجرد مما يحيط به من حيوات ويفرّغ نفسه لحالته الإبداعية لغدا منعزلاً عن مجتمعه وعمّا حوله، ويرى أن المثقف وبما أنه حالة متماهية مع ذاته ومع مجتمعه فإنه حتماً بوعي أو دونه لن ينفك عن شؤونه التي هي بالضرورة جزء من الشأن العام إلا إذا تحدثنا عن فانتازيا وما وراء الطبيعة وما يتجاوز الفهم البشري.. عبدالله الغذامي:مَنْ ليس له قضيّة عبثيّ وزائدة دوديّة يؤكد الناقد الثقافي الدكتور عبدالله الغذامي أن المسألة لا ترد عنده تحت عنوان المفترض، ولا عنوان الواجب، أو المستحب، بل هي أكبر من كل هذه الافتراضات، فالكائن الذي ليس له قضيةٌ لن يكون كائناً سويّاً، وإنما هو كائنٌ عبثي وزائدة دودية -حسب مصطلحات الطب-، لافتاً إلى أن أي إنسان يحتاج لتحفيز عبر صيغ ما يجب، وما يستحب، ولن يكون حقاً مثقفاً، ولن يكون موظفاً يستحق مرتبه، ولن يكون مزارعاً تجود عليه أرضه بالثمر إلا صاحب قضيّة. وقال صاحب النقد الثقافي: أنا وأنت أبناء جيلٍ كانوا فلاحين أو تجاراً، وهاتان مهنتان بشريتان من أعمق مهن البشرية، والفلاح والتاجر لا ينجحان إلا لأنهما أصحاب قضية، أدناها أن يعيش حياة شريفة هو وأهله؛ ليتفادى الوقوع في مساس الحوج. وأضاف: ويحٌ لأي مثقف يزعم لنفسه صفة التثقف إن احتاج التنبيه على ما يجب وما يستحب. وزاد: نعم هناك مستهترون يعيشون اللذة، ولا يعنيهم غير لذتهم، لكن هؤلاء ليسوا مقياساً لأي معنى، ويظلون موضع بحث وتفكر بما أنهم غير أسوياء. أخبار ذات صلة

دور المتاحف في تعزيز التواصل والتفاعل
دور المتاحف في تعزيز التواصل والتفاعل

عكاظ

timeمنذ ساعة واحدة

  • عكاظ

دور المتاحف في تعزيز التواصل والتفاعل

تابعوا عكاظ على بينما تمضي المملكة العربية السعودية قدماً في مسيرة تحوّلها الاستثنائية المدفوعة برؤية 2030، فإنها تنسج توازناً فريداً بين الحرص على صون إرثها العريق والسعي نحو تحقيق تطلعاتها المستقبلية الطموحة، فملامح مدننا تتغير، واقتصادنا يتنوع بوتيرة متسارعة، وطاقات وإبداعات مجتمعنا- خصوصاً شبابه- تنمو وتزدهر في كل ميدان وقطاع، ولكن مع كل هذه التحولات، نبقى متمسكين بهويتنا الوطنية، وبموروثنا الأصيل، فليس الأمر مفاضلة بين الماضي والمستقبل، بل التزامٌ راسخ بكليهما. عندما أطلقنا متحف مسك للتراث «آسان» في فبراير الماضي، كانت مهمتنا واضحة: صون تراثنا السعودي بجانبيه المادي وغير المادي، والاحتفاء بنمط الحياة السعودية، ليس فقط بإبراز قيمنا وتقاليدنا وعاداتنا الأصيلة، بل بضمان ازدهارها ليُعاد اكتشافها جيلاً بعد جيل. وقد أدركنا منذ البداية أن تحقيق هذا الهدف يتطلب تواصلاً فعّالاً مع مختلف فئات المجتمع، لا سيّما الشباب، مع رؤية بعيدة تستشرف احتياجات الغد وتضمن مد جسور التواصل بين أجيال الماضي والحاضر والمستقبل. من هنا، انطلقت رؤيتنا لإعادة تعريف المفهوم التقليدي للمتاحف ودورها في المجتمعات، فأردناه أن يكون متحفاً حيّاً، منفتحاً، متصلاً بالمستقبل، لا جامداً ولا معزولاً عن مجتمعه، وهي رؤية تتناغم بشكل كبير مع موضوع اليوم العالمي للمتاحف لهذا العام: «مستقبل المتاحف في مجتمعات سريعة التغير»، في تذكير مهم بأن المؤسسات الثقافية مطالبة دوماً بمواكبة التغيرات التي تشهدها المجتمعات من حولها. وهذا التحدي، لا يمكن لأي متحف أن يواجهه بمفرده، بل هو مسؤولية مشتركة، تعكس واقعاً ثقافياً حيوياً في المملكة يشهد نمواً متسارعاً وتنوعاً ملحوظاً. وهنا تتجلّى أهمية التعاون والتكامل، إذ يصعب على أي متحف أو موقع تراثي أو مساحة ثقافية، مهما بلغ مستوى ابتكارها، أن تواكب بمفردها وتيرة التغيير المجتمعي، لا سيما في بلد يشكّل الشباب فيه النسبة الأكبر. ومن هنا، تنبع قوة متاحفنا من قدرتها على العمل المشترك والتنسيق، بما يعزّز الأثر الجماعي ويكمّل الجهود الفردية. وبالتعاون وتبادل الخبرات والموارد والتقنيات، نستطيع مضاعفة أثرنا، وصناعة مشهد ثقافي مترابط، نابض بالحيوية والمعرفة، يدفع القطاع بأكمله نحو مستقبل أكثر إشراقاً. وتماشياً مع أحد مستهدفات رؤية المملكة 2030، المتمثّل في رفع مساهمة القطاع غير الربحي إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي، تبرز المتاحف إحدى الجهات المساهمة بشكل فعّال في تحقيق هذا الهدف؛ إذ فضلاً عن أنها تمثل ركائز أساسية لحفظ الهوية الوطنية، فهي في الوقت نفسه محركات فعّالة لدفع عجلة التنمية، حيث لا يقتصر دورها على احتضان المقتنيات التراثية والتاريخية، بل يشمل كذلك كونها منصات حيوية يمكنها المساهمة في خلق فرص العمل، وتطوير البحث الأكاديمي في مجالات مثل حفظ التراث وترميمه وتوثيقه، إضافة إلى إجراء الدراسات والأبحاث ذات الصلة بالمتاحف، فضلاً عن كونها مساحات لتوظيف الابتكارات التقنية والاستفادة منها. وبإلهامها الشباب ليتعرفوا على إرثهم ويقدّروه، تؤدي المتاحف دوراً محورياً في تحويل الاهتمام بالتراث إلى شغف يستمر مدى الحياة، شغفٌ يتحول إلى التزام دائم، والتزام يتحول إلى إنجاز وأثر ملموس. وربما واحدة من أكثر الشراكات نجاحاً وتأثيراً تلك التي تبنيها المتاحف مع مجتمعاتها، لتكريس فكرة أن الزوار ليسوا مجرد متلقين، بل شركاء فاعلين في تشكيل التجربة وإثرائها. وهذا ما نطمح إليه في «آسان»، حيث سيتطور المتحف باستمرار عبر فعاليات وورش عمل تفاعلية ومبادرات شاملة ومبتكرة نأمل أن تفتح باب الحوار بين الأجيال، وتغذي روح الإبداع، وتحفز الجميع على المشاركة في إثراء الإرث الثقافي والحضاري للمملكة. إن رؤيتنا في آسان واضحة لا تحتاج إلى بيان: المتحف لا ينبغي له أن يكون مجرد مبنى أو صالة عرض، بل تجربة غامرة، تنقلك عبر الزمن، تعلّم وتلهم وتوسّع الأفق. المتحف ليس فقط مساحة لعرض مجموعة من القطع النادرة، بل نافذة حيّة إلى العادات والتقاليد والقيم المجتمعية من مختلف مناطق المملكة، تُعيد الحياة إلى الحرف التقليدية، وتسرد القصص الشفهية التي تناقلتها الأجيال، والأغاني والأهازيج والذكريات، والتجارب التي شكّلت هويتنا المجتمعية. كما أن القصص التي نرويها في متاحفنا ليست تفاصيل هامشية، بل هي ما يُشكّل وعينا بذواتنا، ويعكس صورتنا في أعين الآخرين، ونطمح أن يرى كل سعودي، صغيراً كان أم كبيراً، انعكاساً من قصته الشخصية في أروقة آسان، وأن يستشعر مسؤولية نقل هذا الإرث للأجيال القادمة. إن إنشاء مساحات ملهمة تُجسد هويتنا وتعمل على صونها هو ما يضمن استمرار حيوية التراث السعودي، ليس فقط اليوم، أو بحلول عام 2030، بل لسنوات وأجيال طويلة قادمة. الرئيس التنفيذي لمتحف مسك للتراث «آسان» أخبار ذات صلة /*.article-main .article-entry > figure img {object-fit: cover !important;}*/ .articleImage .ratio{ padding-bottom:0 !important;height:auto;} .articleImage .ratio div{ position:relative;} .articleImage .ratio div img{ position:relative !important;width:100%;} .articleImage .ratio img{background-color: transparent !important;} خالد الصقر

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store