
منال إمام تكتب: "وفاء النيل"... حين يفيض العشق وتُختبر الذاكرة
"وفاء النيل" هو الاحتفال الذي كان يُقام سنويًا في مصر القديمة عند اكتمال فيضان نهر النيل، في أواخر يوليو وحتى منتصف أغسطس. في هذا التوقيت، كان النهر يعلو، ويغمر الأرض بالطمي والماء، إيذانًا ببدء موسم الزراعة والحياة.
كان المصريون يرونه هبة الآلهة، وكان فيضان النيل هو الوفاء المنتظر كل عام، والضمانة الأساسية لاستمرار الحضارة.
حكاية من قلب التاريخ: في مصر القديمة، لم يكن نهر النيل مجرد مجرى مائي، بل كان إلهًا يُعبد، اسمه "حابي"، رمز الخصب والعطاء.
كان الكهنة يراقبون مستوى المياه بمقياس خاص، وحين يصل إلى المستوى المطلوب، تبدأ الاحتفالات.
المراكب تُزين، الأغاني تُنشد، والقرابين تُلقى في النهر، في مشهد لا يقل قداسة عن طقوس المعابد.
ويُقال إن من أبرز طقوس الوفاء في الأساطير الشعبية القديمة، أسطورة "عروس النيل"، حيث كانت فتاة تُقدم قربانًا للنهر، ليجود بفيضانه. لكن الحقيقة أن هذه القصة أقرب إلى الأسطورة منها إلى الحقيقة، حيث يرى كثير من المؤرخين أنها رواية، ولا دليل أثري يؤكد حدوثها فعليًا.
مع دخول الإسلام مصر، تغيرت الطقوس، لكن لم يتغير الحب. ويُروى أن الخليفة عمر بن الخطاب، عندما بلغه أن المصريين ينتظرون "عروس النيل"، أرسل رسالة إلى نهر النيل نفسه كتب فيها: من عبد الله عمر بن الخطاب إلى نيل مصر... إن كنت تجري من تلقاء نفسك فلا حاجة لنا بك، وإن كنت تجري بأمر الله فنسأل الله أن يجريك، فجرى النيل كما لم يجرِ من قبل. ومنذ ذلك الحين، ظل الاحتفال بوفاء النيل قائمًا في وجدان المصريين، وإن تغيرت أشكاله.
في العصر الحديث... النهر ما زال يُلهم: حتى بعد بناء السد العالي وتوقف ظاهرة الفيضان الطبيعي، لم يتوقف المصريون عن الاحتفال بالنيل.
تحوّل الوفاء إلى رمز ثقافي وشعبي، ووسيلة للتعبير عن الامتنان، والانتماء، والارتباط الأبدي بين الإنسان والنهر. كانت تُنظم مواكب نيلية، وتُقام عروض فنية ومهرجانات للأطفال، وتزين الشرفات والمراكب، في مشهد لا يقل بهجة عن احتفالات الأعياد.
من "وفاء النيل"... إلى اختبار الوفاء الحقيقي: لقد ظل النيل عبر آلاف السنين وفيًا لمصر، يجري فيها كما تجري الروح في الجسد، لا يعرف الحدود ولا الحواجز، لأنه ببساطة نهرٌ دوليٌ تشاركته شعوب جميعًا. لكن في السنوات الأخيرة، تتعرض هذه العلاقة الخالدة لاختبار عسير، مع بناء سد النهضة الإثيوبي، الذي لا يُمثل مشروعًا تنمويًا فحسب، بل أصبح بما يشكّله من تهديد لحصة مصر المائية رهانًا خطيرًا على مصير شعب بأكمله.
إن ما تحاول اثيوبيا فعله اليوم، من حجز للماء واحتكاره، لا يُهدد فقط الزراعة أو الشرب، بل يضرب في الصميم رابطة تاريخية وروحية بين المصريين ونهرهم.
فالنيل ليس "موردًا" في نظر المصريين، بل هو كائن حي، وذكرى، وهوية، وتاريخ مكتوب بمياه الفيضان.
في هذا السياق، يبدو أن السؤال لم يعد فقط: هل يفي النيل؟" بل أصبح:
"هل تفي الشعوب بالتاريخ؟ وهل نحافظ على ما جمعتْه الطبيعة منذ آلاف السنين؟"
مصر التي لم تمنع الماء يومًا عن أحد لا تطلب المستحيل، بل العدالة، واحترام حقها الأصيل في الحياة. فالماء، كما قال الرئيس عبد الفتاح السيسي، قضية وجود.
صوت مصر.. حضاري ولكن ثابت ستظل مصر تطالب بحقها في مياه النيل بلغة السلام والعقل، لكن دون تفريط. فمن أحب نيله كل هذا الحب، لن يقف صامتًا حين يُهدد مجراه، وحين يُحرم من وفائه الطبيعي.
وفي الختام... وفاء النيل" ليس طقسًا قديمًا فحسب، بل هو أغنية في وجدان المصريين، ونشيد أبدعه التاريخ. وإذا كان النهر قد وفى، فالمصريون أيضًا سوف يوفون بعهدهم مع هذا الشريان الأزلي، دفاعًا عن حقهم المشروع، وحبهم الأبدي.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


صدى البلد
منذ ساعة واحدة
- صدى البلد
حبيبة القلوب.. رانيا فريد شوقي تحيي ذكرى 100 عام على ميلاد هدى سلطان
يوافق اليوم الذكرى المئوية لميلاد فنانة أيقونية،الراحلة هدى سلطان التي شكّلت بأدوارها وتمثيلها وصوتها جمالاً خالدًا في تاريخ الفن المصري والعربي. قالت الفنانة رانيا فريد شوقي في تصريحات خاصة لـ "صدى البلد"، إن هدى سلطان فنانة عظيمة مبدعة و مطربة لها صوت مميز و تركت بصمات في عالم الفن كمطربة و كممثلة و ام البنات الحنونة جدآ انسانة طيبة و جميلة الله يرحمها ويغفر لها ويسكنها فسيح جناته". يذكر أن ولدت هدى سلطان واسمها الحقيقي بهيجة عبد العال في 15 أغسطس 1925 بقرية كفر أبو جندي بمركز قطور، محافظة الغربية. وأظهرت هدى سلطان موهبة قوية مبكراً نحو الغناء والتمثيل، إذ بدأت بالغناء في حفلات المدرسة، وكان صوتها في الإذاعة الفنية، حيث اكتشفها الملحن أحمد عبد القادر، فيما تبنّاها الموسيقار رياض السنباطي فأتاح لها دخول عالم الفن وشاركت معه في فيلمه الوحيد 'حبيب قلبي' عام 1952، وفي عام 1950، كان فيلم 'ست الحُسن' هو انطلاقتها السينمائية الأولى. ونشأت هدى سلطان في أسرة محافظة، وواجهت معارضة، وحتّى تهديدات بالقتل من أفراد الأسرة بسبب قرارها دخول الفن، حيث كان يعيقها شقيقها الفنان محمد فوزي، الذي كان يخشى على سمعتها. برعت هدى سلطان على مدار أكثر من نصف قرن في عالم الفن من خلال مشاركات بارزة في السينما، التلفزيون، والمسرح. من أشهر أفلامها: 'الفتوة'، 'امرأة في الطريق'، 'نساء محرمات'، 'سر امرأة'، 'الاختيار'، 'عودة الابن الضال'، و'وداعا بونابرت'. وتميزت في أعمالها الدرامية وعلى رأسها مسلسلات مثل: 'الوتد'، 'ليالي الحلمية'، 'الليل وآخره'، 'زيزينيا'، و'أرابيسك' وغيرها. تزوّجت هدى سلطان خمس مرات، أشهرها زواجها من فريد شوقي الذي أنجبت منه ابنتين هما ناهد ومها، وتزوجت كذلك من فؤاد الأطرش، المنتج فؤاد الجزايرلي، والمخرج حسن عبد السلام . بعد مسيرة فنية طويلة، توفيت هدى سلطان في 5 يونيو 2006 بمدينة السادس من أكتوبر إثر صراع مع سرطان الرئة، عن عمر يناهز 81 عامًا، تاركة وراءها إرثًا فنيًا لا يزال حاضرًا في وجدان الجمهور .


النهار
منذ 3 ساعات
- النهار
مهرجانات عيد السيدة في القبيات تحيي "عيش لبنان" الإيمان والجمال والفرح
أكثر من 3000 شخص من بلدة القبيات وبلدات وقرى عكارية عدة ووافدين من مختلف المناطق اللبنانية، شاركوا امس في الانطلاقة الرسمية لفعاليات مهرجانات سيدة الغسالة العجائبية لمناسبة عيد انتقال السيدة العذراء والذي يستمر لغاية 16 آب/أغسطس الجاري بدعم من "مؤسسة انسان" وبالتعاون ما بين رعية كنيسة سيدة الغسالة وبلدية القبيات والجمعيات الكشفية. تظاهرة احتفالية دينية سياحية فنية عكست الى حد بعيد ثقافة "عيش لبنان" كما يريدها اللبنانيون جميعاً، مساراً طبيعياً للحياة والتجدد والنهوض. تقدم الحضور المطران يوسف سويف رئيس اساقفة طرابلس للموارنة على رأس وفد من كهنة رعايا الابرشية. كذلك رئيس اتحاد بلديات عكار الشمالي رئيس بلدية القبيات ورئيس "مؤسسة انسان" ميشال عبده، رئيس رابطة كاريتاس لبنان الاب ميشال عبود، وفعاليات بلدية وكهنة. النشيد الوطني ثم فيلم وثائقي تسويقي سياحي عن بلدة القبيات وتراثها وطبيعتها وناسها. والقى المطران سويف كلمة قال فيها: "في هذه الامسية نشكر الرب على هذا اللقاء العائلي القبياتي العكاري الشمالي اللبناني، هذه اللقاءات التي تجدد الفرح بقلوبنا ولنعيش الفرح دائما في بلد يستحق الفرح. لا معنى لحياتنا إلا من خلال بناء السلام والحب والرجاء والغفران". وأثنى على التعاون القائم بين مؤسسات القبيات الكنسية والبلدية والكشافة: "ما خلق دينامية التعاون بين الكنيسة والمسجد وبيوت الله التي هي صورة مجد الله فينا نحن الناس بالخير والحب وبالسلام". وقال: "احتفالنا بيوبيل الرجاء لشعب يصلي للبنان الذي نريد والذي وصلنا اليه اليوم برعاية فخامة الرئيس ودولة رئيسي مجلسي النواب والوزراء والجيش والقوى الأمنية للبنان جديد، لا للحروب ولا للعنف والانتقام نعم للمغفرة ولبناء السلام". من أجواء المهرجانات (ميشال حلاق) ثم ألقى رئيس البلدية كلمة استهلها بتوجيه التحية للمؤسسة العسكرية: "سائلاً الله الرحمة لشهدائه الأبطال والصحة للجرحى من بواسل الجيش ركيزة البلد الذي لولا تضحياته لما كنا هنا اليوم". أثنى على جهود الجيش وفرق الاطفاء في الدفاع المدني والمتطوعين من أبناء البلدة والجوار الذين يعملون على إهماد النار التي اندلعت في جرود القبيات . وقال: "للسنة الخامسة، نحتفل معا بهذا العيد الذي يجمع رعية سيدة الغسالة، ومؤسسة إنسان، والأفواج الكشفية… والفرحة اليوم أكبر لأنكم معنا جميعاً من حيث اتيتم". وأضاف: "اليوم، كبلدية القبيات ومع مؤسسة إنسان، نشتغل معاً لنضوي أكتر على القبيات وعكار، لتصبح وجهة سياحية ريفية طول السنة. وثمة خطط موضوعة في هذا السبيل سنتعاون جميعاً لانجاحها. والقبيات لن تكون جميلة إلا بجيرانها وأهلها، ونحن معاً بالحلوة والمرة، وكما في عكار ، عيد السيدة منذ زمن كان خير مثال يجمع كل القرى والبلدات ومن مناطق لبنانية عديدة فالقبيات بابها مفتوح للجميع". واختتم الافتتاح الرسمي بأمسية غنائية احياها "الفرسان الاربعة"، فكانت بداية تحية للراحل الكبير زياد الرحباني بأغنية "سألوني الناس" للسيدة فيروز ،لتتوالى التراتيل الدينية وبرنامج زاخر بالأغاني الوطنية الحماسية وسط تفاعل كبير من جمهور رفع الاعلام اللبنانية فرقصوا وصفقوا في سهرة امتدت الى ما بعد منتصف الليل.


النهار
منذ 4 ساعات
- النهار
أيقونة من العام 1770 إلى دير سيدة بقعتوتة... متابعة حثيثة أعادتها بعد اختفاء دام نصف قرن
عيد رقاد السيدة العذراء من أعظم أعياد الكنيسة المسيحية الشرقية، ويُحتفل به في ١٥ آب من كل عام. يُعرف في الغرب باسم عيد انتقال العذراء مريم (Assumption of Mary)، لكن في التقليد الشرقي تُستعمل كلمة "رقاد" للدلالة على أن الموت بالنسبة للقديسين ليس فناءً، بل نوماً مؤقتاً بانتظار القيامة. وللعيد هذه السنة طعم اخر لدى الراهبات الباسيليات الشويريات اللواتي استعدن ايقونة ثمينة تعود الى العام 1770، فقدت من الدير، وجرت محاولات حثيثة عبر الزمن لاستعادتها. وها هي أيقونة رقاد والدة الإله تعود إلى حضن ديرها من جديد بعد رحلة طويلة، لتزين مجدداً هيكلها. هذه الأيقونة النادرة، التي تعود إلى القرن الثامن عشر (١٧٧٠) تُجسّد مشهد رقاد العذراء مريم كما صوّرته التقاليد البيزنطية الشرقية، حيث يلتف الرسل حول سريرها، ويظهر المسيح في الوسط حاملاً روحها النقية على شكل طفلة بيضاء. جمال الألوان، ودقة التفاصيل، وعمق الرموز اللاهوتية جعل منها تحفة فنية وروحية لا تقدّر بثمن. غياب هذه الأيقونة الملكيّة النادرة دام أكثر من نصف قرن، اختفت من كنيسة دير النياح في بقعتوته في النصف الأول من القرن الماضي وإذا بها تظهر من جديد في معرض متحف سرسق عام 2000، وتعُرض كتحفة فنية وتاريخية. وبعد 25 سنة من السعي إلى معرفة لغز اختفائها من الدير، وبعد اتصالات ومتابعات عدة، توصل الراهب الباسيلي الشويري الأب نقولا الرياشي إلى التواصل مع مالكيها الجدد، وبعد مفاوضات تمت الموافقة بكل كرم وطيبة خاطر من السيدة نايلة سعادة وعائلتها على اعادة الأيقونة إلى دير سيدة النياح في بقعتوته، لتتربع في مكانها الأصلي حيث كانت منذ عام 1770 التاريخ المدون في أسفل الأيقونة وقد كتبها أحد رهبان دير مار يوحنا الصابغ المنتمي إلى المدرسة الإيقونوغرافيّة الملكيّة الحلبيّة وقد كتب في أسفل الأيقونة: "أوقف هذه الأيقونة المباركة الخوري يوحنا الدمشقي أحد كهنة مدينة دمشق الشام لرهبان مجمع دير مار يوحنا الصابغ الفاسيليان القانونيان لدير نياح والدة الاله سنة 1770 مسيحية، كتبت بيد أحد رهبان المجمع المذكور في السنة نفسها". عادت أيقونة رقاد والدة الإله إلى ديرها الأم، حاملة معها عبق التراث وبركة الأجيال. وكما اجتمع الرسل بمعجزة من أقاصي الأرض ليكونوا حول سريرها لحظة رقادها كذلك اجتمعت الراهبات الباسيليات الشويريات عند استقبال والدة الاله بالترانيم والتسابيح. الكنيسة والرهبانيّة الشويريّة بفرعيها ترى في عودة هذه الأيقونة الى الدير أكثر من مجرد نقل قطعة فنية؛ إنها عودة إلى الجذور، وإلى المكان الذي انطلقت منه الصلوات وتباركت به الأجيال. في أجواء احتفالية مفعمة بالإيمان، تكرم الراهبات الباسيليّات الشويريّات والمؤمنون هذه الأيقونة في عيد رقاد والدة الاله بتراتيل الشكر، وكأن الماضي والحاضر يلتقيان في لحظة واحدة، فيؤكدون أن التراث الحي لا يعيش إلا في حضن الإيمان الذي وُلد منه. وكما حفظت مريم العذراء في قلبها كلمات الله، هكذا يحفظ الدير هذه الأيقونة في قلبه، شاهدة على تاريخ صلاة ومحبة لا يزولان.