
هموم الموريسكيين في مرآة الأدب الخميادي: بين تلاشي المجد وأمل الخلاص
الحلقة 12
حريٌّ بالقارئ المتأمل أن يقف طويلًا أمام الجدل الذي نُقل إلينا بين الإمام علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، وأحد النصارى، وبين النبي المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم وبعض جماعات اليهود، كي يُدرك ما تحمله تلك المحاورات من بُعد رمزي يكشف عن ضحالة الطرح وسذاجة الحوار، لا من حيث الألفاظ فحسب، بل من حيث انقطاع المنطق، وانعدام الترتيب بين السؤال والجواب، ومع هذا، تُستكمل الرواية بما يوحي أن الطرف الآخر يدخل الإسلام طواعية! مشهد يشي بأمنية دفينة لا واقعًا محققًا، ويعبّر في جوهره عن توقٍ مكبوت لدى الأقليّة الموريسكية لأن يُسلم القوم كلهم دفعة واحدة، وأن تعود الأندلس إلى كنف الإسلام من غير جهاد ولا بلاء، وما أبعد الخيال عن سنن التاريخ.
في هذه النماذج الأدبية من الأدب الخميادي، يبرز البُعد الفكري للموريسكيين في أشدِّ حالاته ضعفًا وضياعًا؛ إذ انتقلوا من عقلٍ كان يربط الأسباب بالمسببات، وبنى حضارة الأندلس علماً وفكراً، إلى عقولٍ تبحث عن مهرب وهمي، وتلوذ بالأساطير والكرامات والمهدئات النفسية. كانت تلك النصوص حافلة بالحديث عن مغفرة الذنوب، وبأن مَن خسر الدنيا سيعوضه الله بجنة عرضها السموات والأرض. وماذا عساه يفعل المؤمن المهزوم، إن لم يُمنِّ نفسه بخلاصٍ في الآخرة؟
إن هذا الغرق في عالم التوبة والذنوب لم يكن عبثًا، بل كان آلية دفاع نفسي لتفسير هزيمة المسلمين في الأندلس أمام الإسبان النصارى. فكيف يُهزم الحق أمام الباطل؟ سؤال مرير لم يَجِد له الموريسكيون جوابًا سوى في ربط الأمر بعصيان المسلمين السابقين، وبأن الله سلّط عليهم من لا يخشاه جزاءً لذنوبهم. هذه الرؤية لم تكن محض وعظ ديني، بل تعبير عن شعور جماعي بالذنب الجماعي، ونوع من التبرير الذي يحافظ على بقاء الإيمان رغم مرارة الواقع.
ومن اللافت في هذا الأدب أيضًا، أن البعد النفسي فيه متذبذب ومضطرب؛ فهو تارة يدعو إلى التسامح والأخوة بين المسلمين والنصارى، كما جاء في بعض النصوص: «طوبى للمسلم الذي يكون له صديق نصراني، وطوبى للنصراني الذي يكون له صديق مسلم»، وكأنهم يُنادون بتجاوز الماضي وفتح صفحة جديدة. وتارة أخرى، تمتلئ النصوص بالدعوة إلى الجهاد، والتضحية في سبيل الوطن المفقود، واصفين الأندلس بأنها «سهل من سهول الجنة» و»جزيرة الرحمة» التي فيها من الخير ما يستحق أن تُبذل في سبيله الأرواح.
هذا التناقض بين الدعوة إلى الجهاد وبين التسامح، لا يُفهم إلا في ضوء حالة القهر النفسي التي عاشها الموريسكيون بعد سقوط غرناطة، حين وجدوا أنفسهم غرباء في أوطانهم، لا هم بالمنتمين تمامًا، ولا هم بالخارجين منها. فمنذ القرن الخامس الهجري، كانوا يحلمون بالتعايش السلمي، ولكن آلة الطرد والقمع الإسبانية دفعتهم إلى إعادة إنتاج حلم العودة والانتصار في صورة رؤى ونصوص خيالية، فيها ما يداوي الجراح ويواسي النفوس.
وإن نظرة فاحصة في هذا الأدب تكشف أن الموريسكيين، وهم على عتبة الضياع، لم يكونوا يفتقدون القوة فحسب، بل افتقدوا وضوح الرؤية أيضًا؛ فانقسموا بين واقع قاسٍ لا يرحم، وخيال ديني يبشرهم بخلاصٍ مؤجل، فانسكبت آلامهم على الورق أدبًا خمياديًا فيه من التوسل أكثر مما فيه من الثورة، ومن الرغبة في العزاء أكثر من العزم على الفعل.
إنّ تتبّع خيوط الأدب الخُميادي يُفضي إلى اكتشاف عميق لطبيعة التحوّل النفسي والفكري الذي أصاب الموريسكيين بعد أفول نجم الحضارة الإسلامية في الأندلس. فهذا الأدب لا يُعدّ مجرّد نصوص دينية أو عاطفية، بل هو مرآة صادقة لما يعتمل في نفوس الجماعة المسلمة المهزومة؛ مرآة تعكس ألم الفقد، وارتباك الهوية، ومحاولة مستميتة للتمسك ببقايا الحلم.
وقد عكست هذه النصوص، وإن بدت مشوشة ومتضاربة في خطابها، حاجةً وجودية عند الموريسكي لأن يُصالح بين إيمانه الراسخ وواقعه الكارثي، فانبثق منها خطاب مزدوج؛ أحدهما مسالم يُناشد المؤاخاة، والآخر ثوري يهيب بالجهاد واسترداد الوطن. وهذا التمزق النفسي لم يكن عيبًا فيهم، بل كان نتيجة طبيعية لتصدع تاريخي عنيف طال الكيان الإسلامي كله.
لقد تحوّل الأدب الخُميادي إلى وعاء نفسي وفكري، احتضن أمنياتهم المكبوتة، وأحلامهم المؤجلة، وجراحهم المفتوحة، حتى أصبح شاهداً على حقبة من أخطر مراحل الانكسار الحضاري في التاريخ الإسلامي. ومن خلاله، نستطيع أن نقرأ ليس فقط أدبًا غارقًا في الخيال، بل نداء استغاثة صامتة أطلقها من ظُنّ أنهم قد صمتوا إلى الأبد.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


ملاعب
منذ 11 ساعات
- ملاعب
اسلما معا .. وفاة شقيق محمد علي كلاي
توفي رحمن علي، الشقيق الأصغر للملاكم العالمي الشهير محمد علي كلاي، عن عمر يناهز 75 عامًا. اضافة اعلان لم يكن رحمن علي مجرد شقيق محمد علي، بل كان ملاكمًا محترفًا أيضاً ورفيقه المقرب. رافقه في مسيرته المهنية الحافلة، وشهد على أبرز لحظاته داخل الحلبة وخارجها. ولد رحمن علي باسم رودولف فالنتينو كلاي، لكنه اعتنق الإسلام وغير اسمه ليصبح رحمن علي، على غرار شقيقه الذي غير اسمه من كاسيوس كلاي إلى محمد علي. كان رحمن دائمًا داعماً قوياً لأخيه الأكبر، وظهر معه في العديد من المناسبات العامة، وكان يعتبر شاهداً على التاريخ الحافل لمحمد علي.

عمون
منذ 13 ساعات
- عمون
المسار (القيمة والأثر)
ابتداءً فإن منح الأستاذ الدكتور تركي عبيدات ثقته لي بتحرير محتوى كتابه القيّم والذي عنونه بـ (المسار) وإخراجها بكتاب يضم سيرته الوضّاءة وبكل ما تحفل به من صور ومشاهد وذكريات وانجازات، أمر يعتبر في سياقه الشخصي، شرف عظيم وإضافة نوعية على طريق ما بدأت به قبل سنوات، حين عكفت على خوض غِمار تجربة توثيق سير حياة ثُلّة من رجالات الدولة عبر مراحل زمنية متعاقبة من تاريخها المجيد، ولكنه في إطاره العام كان تكليفًا كبيرًا وضعني أمام مسؤولية عظيمة تبينت لي عقب أول لقاء جمعني بالرجل في الثامن عشر من كانون الأول لسنة 2021، ولعلي كنت أبدو أمامه مترددًا من المضي في التجربة إذ عرفت أن في (مساره) الكثير مما سيكتبه والذي جزمت حينها أن فيه ما "ينفعُ الناسَ ويمكثُ في الأرضِ"، وهكذا كانت الحقيقة التي وقفت عليها في عجالة إن حياة هذا الأردني النبيل وابن العبيدات الأصيل هي شريطٌ بانورامي يتفرّع منه قلبٌ خافقٌ وعرقٌ نابضٌ بمحبةِ وطنه وأبنائه، وضميرٌ مُشبعٌ بالحقّ والحقيقةِ، وكأنّي به يناجي ربّ العزة بقوله تعالى: "وقلْ ربّي أدخلني مُدخل صِدق وأخرجني مُخرج صدق واجعلْ لي من لدنكَ سلطانًا نصيرا" (الإسراء :80"). خرج المسار إلى النور في الحادي والعشرين من تموز من العام الجاري 2025، في حفل إشهار مهيب أمّه نخبة واسعة من رجالات الدولة من السياسيين والأكاديميين والإعلاميين ووجوه ناظرة تمثّل فئات من عشائر أردنية من مختلف مناطق المملكة، التقت على محبة واحترام الدكتور تركي عبيدات الذي ظلّ على امتداد عقود مسيرته العملية وحضوره الاجتماعي متمسكًا بكل ما عرفه الناس عنه من التزام بقيمٍ ومُثل ومبادئ شكلت معينًا خصبًا وموردًا عذبًا كانت هي المكوّنات التي دخل من خلالها إلى قلوب عامة الناس وخاصتهم، وعندما وجّه إليهم دعوته الكريمة لحضور الحفل البهي ما كان منهم إلا لبّوا الدعوة محبة واعتزازًا بعلاقة وثيقة ارتبطوا فيها بالدكتور عبيدات في نسيج متراص هو خير ما نفخر به في أردننا الحبيب على هيئة وحدة وطنية عزّ نظيرها في بلاد غير بلادنا. انتهى الاحتفال، ولم تنتهي الإشادات بالكتاب، ولو أنني على المستوى الشخصي لم أُفاجأ بالكتابات والتحليلات التي تناول كاتبوها (المسار) كلٌّ من وجهة نظره، لأنني الأعرف والأكثر اطلاعًا على المضمون الراقي والمحتوى المتميز بين طياته بكل ما جادت به ذاكرة الدكتور تركي من مشاهد وصور وأحداث أتى عليها وكأنها قد وقعت للتوّ ولم يمضي عليها زمنًا طويلًا، مما يجيز القول أن كتابه كان شهادة حيّة على العصر وعلى حقب عديدة مرّت بها دولتنا الأردنية التي رأى أنها كانت قادرة على تجاوزها في كل مرحلة بهمّة قيادة هاشمية وعزيمة شعب وإيمانه بوطنه وبالرسالة التي استودعها الله في عنق الهاشميين، وهكذا يقدم المسار توثيقًا حقيقيًا أظنّ ومعي الكثيرين أننا بأمس الحاجة إليه في هذه الآونة التي يزداد فيها افتراء المتقولين والمشككين بمواقف المملكة، وعليه فإن ما جاء بالكتاب كان جديرًا بالاهتمام من كل زاوية، وحسبي بأبي قصي فهمًا وثقافة عندما أشار إلى عمق رسالة الأستاذ الجامعي المناط به الأخذ بيد شبابنا للطريق السوي الذي ينأى بهم عما يواجههم من تيارات هدّامة يحاول أصحابها التأثير على عقول الناشئة وإفراغها من كل ما هو مفيد ونافع لهم. في المسار تجربة وملاحظة وفكر وكينونة شاملة، وهو عبارة عن مذكرات وسيرة حياة كما اعتقد الدكتور تركي عبيدات ورأى أنه عاشها هو، وهكذا بدا المسار كقصة أو رواية ممتعة من نوع خاص عبّر فيها عن تجربته، فجاءت دقيقة كحدّ السيف بكل ما يجسده من ارتقاء وأفق وأمل. مطالعة كتاب المسار وقراءته بعناية مسألة جادة تستحق التأمّل، لأخذ العبرة والفائدة وللوقوف على سيرة إنسان لم يولد وفي فمه ملعقة لا من ذهب ولا من فضة بقدر ما كانت العصامية سلاحه، ونظرته إلى مستقبل علمي وعملي باهر، هاجسه، وفي كل فصل من الفصول التسعة "فاكهة" من نوع خاص يتلذذ بها القارئ مع فنجان قهوة أكان احتساه في الصباح أو في المساء، وفي كل سطر حكاية وفي كل صفحة رواية، ويبقى التأكيد على ما يلمسه المتتبع لموضوعات الكتاب إن الدكتور تركي عبيدات رجل منتمي إلى وطنه ويحب قيادته الهاشمية لكن الانتماء والولاء بنظره أمر مقترن بالعمل وبعيدًا عن كل البعد عن الشعارات الفارغة والكلمات الرنانة.

السوسنة
منذ 14 ساعات
- السوسنة
باميلا الكيك تخطف الأنظار بفستان الكوفية .. فيديو
السوسنة - شاركت الممثلة اللبنانية باميلا الكيك في فعاليات مهرجان "بياف" في العاصمة بيروت، حيث ظهرت بإطلالة لافتة حملت رسالة إنسانية وروحية، في وقتٍ يتزامن مع الذكرى الخامسة لانفجار مرفأ بيروت الذي وقع في الرابع من آب عام 2020.وتألقت الكيك بفستان طويل وضيّق من تصميم نور بندقجي، مستوحى من الكوفية الفلسطينية، وجاء باللونين الأبيض والأسود ومزيّن بنقوش تراثية رمزية. وتميزت الإطلالة ببساطتها، إذ تخلّت عن ارتداء المجوهرات واكتفت بمكياج ناعم، موضحة أنها أرادت إيصال رسالة "تدعو إلى وقف نزيف الدماء في العالم"، وفق تعبيرها.وفي تصريحاتها الإعلامية على هامش المهرجان، عبّرت الكيك عن رؤيتها الروحية تجاه الانتماء، قائلة: "في ناس بتحكي أنا علوية، أنا درزية... لا، كل هدول، أنا بنت الله، والله واحد، ونحن لسا مضيعين بالتسميات"، مشيرة إلى أن ملاكها الداخلي ومن حولها هم مجوهراتها الحقيقية.وفي منشور عبر حسابها الرسمي على "إنستغرام"، استحضرت الكيك ذكرى انفجار مرفأ بيروت، قائلة: "وقفوا الدم.. بكرا بصادف 4 آب، بتتذكروا هالتاريخ؟ بكرا بيكون مرق خمس سنين على مجزرة بحق ٢٠٠ شخص... وأكثر. تنذكر وما تنعاد، وإن شاء الله نشهد على محاسبة كل حدا كان السبب."وأضافت: "وقت طلعت الفكرة، عرفت ناس رح يكونوا مع وناس ضد، بس الرسالة الأهم إنو ما رح يكونوا مع أو ضد فلسطين، رح يكونوا مع أو ضد الإنسانية."كما شدّدت على ضرورة وقف الاضطهاد ضد الأقليات، مؤكدة: "بهمني المسيحي، العلوي، الدرزي، السني، والشيعي ما يعيش بخوف بقا... والليستة طويلة، بس بكلمة وحدة... وقفوا الدم."واختتمت منشورها بكلمة: "تصبحوا على سلام."، في دعوة رمزية للسلام والإنصاف في وجه الحروب والصراعات. اقرأ ايضاً: