
"سيرة لسينما الفلسطينيين"... مساحات وشخصيات وحدود
مع تعدد أشكال الإنتاج الثقافي والفنيّ، وتطور أدوات هذه الصناعة، تترسّخ أهمية الكتب وثيقة ومرجعاً، ومن هذا المنطلق ولدت فكرة كتاب "سيرة لسينما الفلسطينيين: محدودية المساحات والشخصيات"، للكاتب الفلسطيني سليم البيك. نال مشروع الكتاب منحة من مؤسسة آفاق في بيروت عام 2021، وصدر حديثاً عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت في 295 صفحة من القطع الكبير. يستعرض العمل سيرة
الأفلام الروائية الطويلة التي صنعها فلسطينيون وفلسطينيات
في الانتفاضة الأولى عام 1987، مروراً بمرحلة تأسيس السلطة الفلسطينية وتوقيع اتفاقيات أوسلو في التسعينيات، والانتفاضة الثانية أوائل الألفية الجديدة، وحتى عام 2024.
في حديث إلى "العربي الجديد"، يقول البيك إن حاجته إلى مراجع عربية يستند إليها في كتاباته وأبحاثه هي أبرز الدوافع وراء إنجاز هذا المشروع الذي لا يكتفي بتوثيق المراحل التاريخية لسينما الفلسطينيين، بل يقدّم كذلك نقداً لهذه الأفلام في سياقها السياسي والاجتماعي فترة إنتاجها. يضيف البيك أن الإطار الزمني لهذا الكتاب يبدأ مع فيلم "عرس الجليل" لميشيل خليفي (1987)، وينتهي بفيلم "الأستاذ" لفرح نابلسي (2024)، ما بين حدثين محوريين في التاريخ الفلسطيني: الانتفاضة الأولى و
الإبادة التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة
، مؤكداً أنه من المستحيل فصل وطأة الحدث السياسي في فلسطين عن الفرد والمجتمع ما ينعكس على الإنتاج الثقافي ويلزمه أن يكون منطلقاً من الواقع.
موقف
التحديثات الحية
في أنّ مُشاهدة "لا أرض أخرى" ضرورية
ما بين فيلمي خليفي ونابلسي يمر الكتاب على تاريخ 55 فيلماً روائياً. يتطرق البيك إلى الانعطافات الرئيسية التي مرّت بها صناعة هذه الأفلام، مشيراً إلى أنه يعتبر مرحلة أوسلو انتكاسة لسينما الفلسطينيين، فيصفها بالسينما البائسة من حيث تصدير شخصيات القصّة، رغم بعض الجماليات التي اتصفت بها هذه الأعمال، على حد تعبيره، معتقداً أن أوسلو عطّلت ما يمكن أن يُصنَّف بـ"سينما الانتفاضة" في ذلك الوقت استكمالاً لدرب خليفي في "عرس الجليل". تستدرك سينما الفلسطينيين مسارها، برأي البيك، بعد الانتفاضة الثانية من خلال أفلام آن ماري جاسر وهاني أبو أسعد وإيليا سليمان ونجوى النجار، إذ يستعيد المقاوم مكانته في سردية أفلام هؤلاء المخرجين وغيرهم. لكنّ البيك يرى أن محدودية المساحات، التي أفرد لها مساحة في عنوان الكتاب ومتنه، تمثّل جزءاً مهماً من هوية هذه الأفلام، فبرأيه أن المقاوم ظهر في عدة أفلام بموقع فشل، قد تكون محدودية المساحات أحد أسبابه، وصنّفها البيك في خمس جيمات: الجندي والجيب والحاجز والسجن والجدار. يقول البيك: "إن اجتمعت الجيمات الخمس أو بعض منها في أحد الأفلام، فإنها عوامل تتحكم بالشخصيات السينمائية الفلسطينية ومساحات حركتها، وتمنع الشخصية الدرامية من استغلال مساحاتها، وبالتالي تحدّها من الوصول إلى غايتها المقصودة وذلك بالطبع بسبب سياق الاستعمار".
يشير البيك إلى أن كتابه، بوصفه عملاً نقديّاً، يتأثر بطبيعة الحال بتفضيلات وأولويات ومعارف واهتمامات المؤلف، مؤكداً أن آراءه غير ملزمة للعاملين في القطاع، لكنها تفتح باب النقاش وتثير الأسئلة، وتؤسس للنقد المفقود في المنطقة العربية. وفي سياق إجابته عن الجدوى من الإنتاج الثقافي والفنّي في ظل الإبادة التي يمارسها الاحتلال في قطاع غزة والانتهاكات في الضفة الغربية والقدس، وهو سؤال ما انفك يتردد في الأوساط الثقافية الفلسطينية منذ بداية الحرب، يؤكد البيك أنه ضدّ نفي الجدوى عن الثقافة، مسترشداً بفترتي الثورة الفلسطينية وما قبل النكبة وسنوات الستينيات والسبعينيات في التاريخ الفلسطيني، وأهمية التأريخ الثقافي الذي منح العصر الحالي صورة عن الماضي من خلال الأدب والشعر والمجلّات والسينما، فشكّلت جميعها مصادر ومراجع مهمة لا غنى عنها.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


BBC عربية
منذ 6 أيام
- BBC عربية
"مهمة مستحيلة: الحساب الأخير" قد يكون "فيلم الصيف الأكثر كآبة"
بينما يترقب كثيرون من عشاق هوليوود أفلام الصيف باعتبارها فرصة للهروب من واقع متوتر ومشحون عالمياً، فإن الجزء الثامن من سلسلة "مهمة مستحيلة"، الذي يحمل عنوان "الحساب الأخير"، يُقدّم تجربة عكس ذلك تماماً. الفيلم، الذي يُرجّح أن يكون ختاماً لمسيرة إيثان هانت بقيادة توم كروز، يُعدّ الأكثر كآبةً وقتامة في تاريخ السلسلة. بعيداً عن أجواء التشويق المرحة أو المغامرات المليئة بالحيوية، يأتي هذا الجزء كبيان سينمائي سوداوي، ينشغل بأسئلة الهاجس النووي، وسرعة انهيار الحضارة الحديثة. صحيح أن كروز يواصل أداءه البدني الجريء – بين قتال بملابس النوم ومشاهد تعلّق جديدة بطائرات – لكنّ هذه اللحظات لا تُخفّف من الجو العام القاتم، بل إن الفيلم يُهدد بأن يكون "أشد أفلام الصيف إحباطاً"، لا بسبب رداءته، بل بسبب ما يحمله من طابع تشاؤمي كثيف. يفتتح الفيلم بجملة تنذر بالكارثة: "الحقيقة تتلاشى، والحرب تقترب"، يتبعها مشاهد لصواريخ تنطلق ومدن تُسحق، لا حوارات ذكية، ولا مزاح، بل فلسفة سطحية عن المصير والاختيار، حتى موسيقى السلسلة الشهيرة تم استبدالها بألحان أوركسترالية ثقيلة ومظلمة. وما يثير الاستغراب أن هذا الانحراف الحاد في نغمة الفيلم جاء من نفس الفريق الذي قدّم الجزء السابق "Dead Reckoning"، والذي تميّز بخفة ظل، ولمسات من الرومانسية والغموض، وإن كان ضمن الحدود المعتادة لأفلام كروز، أما في "الحساب الأخير"، فتجري الأحداث في أماكن مغلقة، أنفاق وكهوف وأعماق بحر، وكأن الفيلم يغوص حرفياً ومجازياً في العتمة. قد يتوقع البعض أن مشهداً لتوم كروز وهو يركض بين الانفجارات أو يتدلى من طائرة يكفي ليُعيد الحيوية إلى أي فيلم أكشن، لكن في "الحساب الأخير"، حتى هذه اللحظات لا تنقذ العمل من طابعه الخانق، إذ يخيم على الفيلم شعور مستمر بالتهديد والدمار، ويبدو أن ما تبقى من الأمل يتم سحقه عمداً في كل مشهد. الحوارات هنا ليست أدوات للتقريب بين الشخصيات أو لإضفاء بعض المرح كما اعتدنا في أجزاء السلسلة السابقة، بل تتحول إلى خطب ثقيلة عن "الاختيار والمصير"، وكأننا أمام محاضرة عن نهاية العالم لا فيلم صيفي من إنتاج ضخم. التحوّل الحاد في توجه السلسلة يبدو وكأنه انعطافة غير محسوبة، ففي الجزء السابق، رغم كل التوتر، كانت هناك مساحات خفيفة من المزاح، ولمسات من البهجة البصرية، ومشاهد في مدن أوروبية نابضة، أما في هذا الجزء، فالفيلم يكاد يختنق في عتمة أنفاقه، وأعماق بحره، وسط ألوان باهتة لا حياة فيها، وصوت موسيقي جنائزي لا يمت بصلة للّحن الشهير الذي طالما رافق السلسلة. كل ذلك يُثير تساؤلاً مشروعاً: هل هذا هو المسار الذي تستحقه سلسلة "مهمة مستحيلة"؟ وهل كان من الضروري أن تُختم بهذا النوع من الكآبة البصرية والعاطفية؟ يُهدر الفيلم جزءاً غير متناسب من مدته – التي تقترب من ثلاث ساعات – في مشاهد متكررة لأشخاص يجلسون في غرف مظلمة، يشرحون القصة لبعضهم البعض بهمس خافت وكأنهم يتآمرون في جنازة، مراراً وتكراراً، يُجبَر المشاهد على متابعة هذه الحوارات الثقيلة، المتكلفة، المليئة بالتحذيرات المبهمة. ولو أُطلق على الفيلم اسم "الشرح الذي لا ينتهي"، لكان ذلك أكثر دقة من "الحساب الأخير". عادةً ما تُقطع هذه المشاهد بلمحات من الماضي (فلاش باك)، أو من المستقبل (فلاش فورورد)، وأحياناً – على طريقة مسلسل "لوست" – بلقطات جانبية تُظهر شخصيات أخرى في غرف مظلمة مشابهة، تهمس بنفس القصة بنفس اللهجة المرهقة. ولكن بدل أن تُضفي هذه التقطيعات شيئاً من الحيوية على السرد، فإنها توحي بأن المخرج كريستوفر ماكوايري وفريقه عجزوا عن تسيير القصة فعلياً، فلجأوا إلى تفكيك المشاهد إلى لقطات صغيرة ومبعثرة، على أمل ألا نلاحظ ذلك. وربما كان من الممكن تجاوز هذه الأجواء القاتمة، لو كان "الحساب الأخير" فيلماً ذكياً بحق، أو يحمل عمقاً درامياً حقيقياً، لكن للأسف، هو مجرد مثال جديد على السذاجة التي يمكن أن تصل إليها أفلام هوليوود الضخمة. القصة، التي تُكمل ما بدأ في الجزء السابق "Dead Reckoning"، تدور حول كيان ذكاء اصطناعي يُدعى "الكيان" (The Entity)، استولى على الإنترنت، ويخطط لإطلاق هجوم نووي عالمي يُفني البشرية. لا نعرف لماذا يريد فعل ذلك، ولا كيف عرف الأبطال بهذه الخطة، لكن لا بأس... المهم أن إيثان هانت (توم كروز) قادر على إنقاذ العالم، بكل بساطة، عبر نقر جهازين صغيرين ببعضهما، وفجأة، يصبح "الكيان" مجرد "لا شيء". من بين هذه "الأجهزة" الحاسمة، هناك صندوق يحتوي على الشيفرة المصدرية لـ"الكيان"، وهو الآن غارق في غواصة محطمة في قاع البحر – ولهذا نشهد مشهد غوص طويل في الأعماق. ورغم أن المشهد يستحق الإشادة من حيث الأجواء الغامضة، فإنه لا يحظى بأي نقطة على مقياس الإثارة. (إلى أي مدى يمكن للمشاهد أن يصبر على لقطة طويلة لشخص يسبح في مياه مظلمة بلا أي ملاحقة؟). أما الجهاز الثاني – الذي يحتاجه إيثان لتدمير "الكيان" – فهو "حبّة السم"، أو ما يُشبه وحدة تخزين صغيرة (USB)، اخترعها صديقه لثر (فيغ ريمز). وفي عالم "مهمة مستحيلة"، هذه الحبّة ليست مجرّد أداة تقنية، بل هي أهم قطعة في تاريخ البشرية. يمكنها حرفياً إنقاذ العالم. ومع ذلك، ما الذي يفعله إيثان بهذه القطعة المصيرية؟ يتركها – ببساطة – في جيب صديقه فاقد الوعي، والذي لا يحرسه أحد، مما يسمح للشرير غابرييل (إيساي موراليس) بسرقتها بكل سهولة. والمفارقة الكبرى أن الفيلم لا يتوقف عن تمجيد بطله، فبين خطب هامسة تتحدث عن "بطولاته الخالدة"، وبين مشاهد أرشيفية تعرض لقطات من الأجزاء السابقة، يكاد المرء يشعر أن إيثان على وشك تسلّم جائزة عن مجمل أعماله. لكن في وسط كل هذا الإطراء، لا أحد يجرؤ على الإشارة إلى مدى غبائه عندما ترك أهم جهاز في العالم في مكان مكشوف. قبل أن يصل الفيلم إلى المشهد الوحيد الذي قد يُغري المشاهد بإعادة تكراره– المشهد الذي تصدر ملصق العمل، حيث يتمسك توم كروز بطائرة ذات جناحين في الجو – عليك أن تتجاوز عدداً لا يُحصى من الثغرات السردية والمفارقات العبثية في الحبكة. نعلم جميعاً أن كروز ينفّذ مشاهده الخطرة بنفسه، وينفذها ببراعة لا شك فيها، لذا إن كنت من عشاق رؤية وجهه وهو يُعصر تحت ضغط الرياح على ارتفاع شاهق، فربما تستمتع بهذا العرض البهلواني الجديد. لكن رغم كل ذلك، لا يحمل المشهد جديداً يُذكر؛ فهو مزيج من مطاردة المروحية في فيلم Fallout، ومشهد الطائرة الشاحنة في Rogue Nation. والسؤال هنا: طائرة ذات جناحين؟ فعلاً؟ يبدو أن صناع الفيلم قرروا أنه لم يبق وسيلة نقل لم يستعملوها في هذه السلسلة الممتدة منذ أكثر من ثلاثين عاماً، فاضطروا لاستخدام الطائرة ذات الجناحين كحل أخير. وإذا ما تقرر إنتاج جزء تاسع، فربما نراهم يقودون دراجات من طراز القرن التاسع عشر داخل حديقة عامة، وهو ما يجعل تسويق هذا الفيلم باعتباره "الخاتمة الكبرى" للسلسلة أمراً منطقياً. المؤسف فقط أن وداع "مهمة مستحيلة" كان بهذا القدر من الجدية... والسخافة في آن واحد.


العربي الجديد
٠٥-٠٥-٢٠٢٥
- العربي الجديد
عروض جديدة لـ"أفلامنا": إطلالة لعمر أميرالاي وقصص فردية وتساؤلات
تستمر المنصّة اللبنانية "أفلامنا" بعرض تنويعات سينمائية عربية، تعكس تفاصيل عيشٍ واجتماع وعلاقات وفنّ والتزام فكري وثقافي وأخلاقي إزاء قضايا فردية وعامة. في الشهر الحالي (مايو/أيار 2025)، تُعرض هذه الأفلام: (*) عمر أميرالاي : الألم والزمن والصمت" (2021، 109 دقائق) للسورية هالة العبدالله: كرّس عمر أميرالاي (1944 ـ 2011) حياته لبلده، وللسينما في سورية، المثخنة بجراح النظام الطاغي. 40 عاماً من الالتزام السياسي وصناعة الأفلام الوثائقية. وفاته حاصلة في 5 فبراير/شباط 2011، قبل خمسة أسابيع على بدء الثورة السورية. الفيلم مقتطفات من تصوير طويل للعبدالله مع أميرالاي (1 ـ 14 مايو/أيار 2025). (*) "جدران ورجال" (2014، 83 دقيقة) للمغربية الفرنسية دليلة الناظر الندري (1966 ـ 2020): "كروح تأبى الموت، تتجسّد مدينة الدار البيضاء القديمة بصوت يرشدنا إلى ناسها. تكشف قصص حياتهم مأساة إنسانية عالمية حقيقية، وشاعرية الدراما حاضرة فيها بقوة"، كما في التعريف الرسمي للفيلم، الذي يُضيف التالي: "رفض الآخر، الظلم، البقاء، وفن العيش منذ فجر التاريخ، هذه أمور راسخة فيهم، أو لا تفارقهم أبداً. لكن، هناك أيضاً الجمال وشاعرية المكان والطاقة المذهلة والفرح والإرادة الشرسة للحياة" (8 ـ 21 مايو/أيار 2025). إضافةً إليهما، تعرض المنصة ثلاثة أفلام أخرى، في فترة واحدة، بين 15 و28 مايو/أيار 2025: (*) "أبوكي خلق عمره 100 سنة، زيّ النكبة " للفلسطينية رزان الصلاح (2017، سبع دقائق): تعود أم أمين إلى حيفا، مسقط رأسها، عبر تطبيق التجوّل الافتراضي من "غوغل"، تلك النافذة الرقميّة التي أصبحت اليوم المنفذ الوحيد للّاجئين الفلسطينييّن لزيارة وطنهم. في لحظةٍ، تقول أم أمين (بلكنتها الفلسطينية): "لو كنت ماشية عرجلیي، كنت لقيتو حتى لو بَطَّل موجود" (لو أني كنتُ أسير على قدميّ، لكنتُ عثرتُ عليه وإنْ لم يعد موجوداً). (*) "سوكرانيا" (2023، 21 دقيقة) للفلسطيني عبدالله الخطيب: في مدينة ألمانية، وجد جمال وزوجته عائشة وابنهما جعفر ملجأ لهم، بعد هروبهم بصعوبة من مخيّم اليرموك الفلسطيني في سورية، بعد تدميره. وفّرت لهم مؤسّسة رعاية اللاجئين في ألمانيا منزلاً مؤقّتاً، بإشراف حارس ثقيل المزاج، عليهم تحمّله والتقيّد بأوامره. ما زاد الإقامة صعوبة، أنّ الإدارة جاءتهم بعائلة أوكرانية لاجئة، مؤلّفة من الأم ماريا وابنتها صوفيا، ففُرض التعايش على أفراد العائلتَين، رغم الاختلاف الكبير في الثقافة والعادات ونمط العيش، إضافة إلى كل عذابات الهجرة والغربة. (*) "طالعين عالجنوب" (1993، 60 دقيقة) للّبنانيَين جايس سلوم ووليد رعد: ظاهرياً، ليس الفيلم مجرّد وثائقي عن جنوبي لبنان ، لأنّه يستكشف ظروف الفترة المُصوَّر فيها، والقضايا الكامنة وراء تلك الظروف، وتمثيلها في الغرب ولبنان: "حاولنا، في هذا الإطار، معالجة مسألتَين: الأولى، المصطلحات (والمواقف) المتأصّلة في الخطاب المحيط بتلك القضايا، كالإرهاب والاستعمار والاحتلال والمقاومة والتعاون والخبراء والمتحّدثون الرسميّون والقيادة والأرض، إلخ. الثانية، تاريخ النوع الوثائقي نفسه وهيكليّته، خاصة فيما يتعلّق بتمثيل الغرب للثقافات الأخرى في الأفلام الوثائقية، والممارسات الإثنوغرافية والأنثروبولوجية، والمشاكل/الأجندات المرتبطة بها، من منظور المواضيع المُصوَّرة، والممارسين أنفسهم"، كما يقول المخرجان، اللذان أضافا أنّ فيلمهما هذا "يتحدّى الأشكال الوثائقيّة التقليدية، بطرح التمثيل نفسه ممارسةً سياسيةً".


العربي الجديد
٠٥-٠٥-٢٠٢٥
- العربي الجديد
"يلا بابا!" لآنجي عبيد: رحلةٌ تستعيد ماضياً وتقرأ علاقات ومشاعر
مع إقلاع السيارة من شارعٍ تقطن فيه آنجي ببروكسل، رفقة والدها منصور، يتّضح أنّ تناقضاً في التفكير والممارسة حاصلٌ بينهما. فمنصور يُصلِّب يده على وجهه، ويتمنّى (ربما بشيءٍ من السخرية المخفّفة) لو أنّ ابنته تفعل مثله، فتُجيبه، بالمحلية اللبنانية، "ألاّ يبدأ" (تعبير يُراد منه ألاّ يبدأ الآخر مسألةً يرفض الخوض فيها قائل التعبير هذا). لكنّ هذه اللقطة غير مختزِلةٍ ذاك التناقض، والإحساس به (التناقض) يكاد ينتهي مع بدء رحلةٍ برّية، من العاصمة البلجيكية إلى البلدة الجنوبية اللبنانية كوكبا، بعد 40 عاماً على قيام منصور بها مع أصدقاء له (1980)، زمن الحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990) . في الطريق الطويلة، التي تشهد تبدّلات جغرافية، ناتجة من نزاعات وحروب وانهيارات، تنكشف مسائل خاصة وعامة، تستعيد الإحساس الأول. والانكشاف هذا متأتٍّ من حوارات بينهما غير طويلة، وغير ثرثارة، وغير غاضبةٍ، رغم توتّر يحصل نادراً. بهذا، تروي آنجي عبيد، في "يلا بابا!" (2024، 100 دقيقة)، المعروض في الدورة الثامنة (27 إبريل/نيسان ـ 3 مايو/أيار 2025) لـ"مهرجان بيروت الدولي لسينما المرأة"، حكايتها مع أبٍ تريد تواصلاً معه، وحكاية أبٍ لعلّه، وإنْ ضمنياً، يريد تواصلاً مثله معها. أو قد تكون المسألة أعمق من ذلك، فالعالم مُتبدّل جذرياً في 40 عاماً، وآخر الضربات الموجَّهة إليه (العالم) متمثّل بكورونا، هذا الفيروس الذي يقتل صديقة قديمة له (غابرييلا تيرابوسكي)، يحثّ ابنته على المرور في بلدتها الريفية للسلام عليها، رغم "نفيه" معرفة بها أكثر من العاديّ، إذْ يلتقيها في رحلته السابقة سريعاً. العالم مُتبدّل، ربما لهذا تريد آنجي "اكتشاف" والدها مًجدّداً، ويريد منصور تبيان معالم التبدّل، وربما التقرّب أكثر من ابنته. كورونا نفسه يدفع آنجي إلى تفكيرها بوالدها، البعيد عنها حينها: "لماذا؟ ألأني كبيرٌ في السنّ؟"، يسأل. والإجابة: "(أخشى أنْ) يحصل أمرٌ مع أحدهم (قريب لها) وهي بعيدة". فيقول: "(أتقصدين) الموت؟ لا أحد سيموت قبل وقته. هذا (موجود) في الدين وفي كلّ شيء". التقدّم في السنّ والموت يحضران لاحقاً أيضاً، في كلامٍ مقتضب لكنّه حسّاس ومؤثّر وحقيقي، من دون تنظيراتٍ وتشاوفٍ وادّعاء. المسائل المطروحة بينهما، بعفوية (!)، تبرع آنجي عبيد في التقاطها سينمائياً وسردياً. مسائل متداولة بين أهل وأبناء وبنات: العلاقة بين رجل/شاب وامرأة/صبيّة، الهجرة، الالتزام الديني المسيحي (مع انفتاح يُبديه منصور من دون خروجٍ كثيرٍ على تعاليم الكنيسة)، وغيرها. الأجمل كامنٌ في كيفية طرحها، إذْ تستغلّ آنجي لحظاتٍ معيّنة فتطرحها، بهدوء وسلاسة، ومنصور يجيب بقناعة تقترب من تشدّد، لكنّه يُدرك أنّ التشدّد لن يكون لمصلحته. سينما ودراما التحديثات الحية "نحن في الداخل": أبٌ يروي ذاته ومدينته كما حالات ومشاعر لقطات عدّة تبدو حميمة بينهما، إزاء منظر طبيعي يُتقن منصور كيفية وصفه، وإسقاط الوصف مواربة على حالة بشرية. يكتب ملاحظات على دفتر صغير (صحافي سابق في "الديار" اللبنانية)، لكنّه لا يُخبر آنجي عمّا يكتبه. يمارس تمارين رياضية، ويُصوّر، ويرقص، ويتناول طعاماً معها، ويحتسي قهوة بمفرده. تُصوّر آنجي هذا كلّه (مدير التصوير : توماس سْزاكا ـ ماريير، تصوير إضافي: آنجي ومنصور عبيد وبولانت ديلاك) كمن يتجاوز توثيق/تأريخ اللحظة إلى الأبعد في الذات والتأمّل والإحساس. في لحظةٍ، قبل وقتٍ قليل على وصولهما إلى لبنان، يقول لها: "أتعرفين ذاك الذي يحلم ولا يريد الاستيقاظ؟ أنا هكذا الآن". نبرةٌ تشي بفرحٍ مخفيّ في ثنايا قلقٍ، لعلّه (القلق) غامض الملامح. خاصةً أنّ آنجي تطلب منه، بعد دقائق، أنْ يُخبرها شيئاً عنه غير عارفة به. يرفض، فتُلحّ، قبل أنْ تُهدّده بأنها ستنام (مع أنّها تقود السيارة) إنْ لم يُخبرها. يصمت لثوانٍ، وبالنبرة نفسها تقريباً، يقول إنّه يكتب وصيته. تُفاجأ، فهي غير راغبة في كلامٍ عن موتٍ، وهو، بتجربته الحياتية والتزامه الديني، يُدرك أنّ العمر (75 عاماً زمن رحلته البرية الثانية) يتطلّب تنبّهاً إلى تفاصيل، أساسها عائلي. يُذكّر هذا بما يقوله مصطفى لابنته فرح قاسم، في "نحن في الداخل" (2024) عن الموت والفقدان. أيّ صلابة تُتيح سلوكاً واضحاً ومباشراً إزاء موت لا مفرّ منه؟ ألأنّها شيخوخة، واختبار الحياة أداة تصالحٍ، قد لا يكون كاملاً، مع رحيل آتٍ لا محالة؟ أيّ جرأة في بوحٍ يقول واقعاً وحقيقة، ولا يخشى ذهاباً إلى مجهول، مع أنّ لمنصور ومصطفى قناعتين دينيتين، لن يقبلا سطوة متشدّدة كلّياً لها عليهما وعلى ابنتيهما؟ أمْ ماذا؟ كلّ كلامٍ، مُثير لنقاش في مسائل مختلفة، يُقال بهدوء، مع شيءٍ من انفعالٍ يُصيب منصور أحياناً. لكنّه، هنا أيضاً كمصطفى، غير فارضٍ رؤيته على ابنته، مع تمسّكه بقناعات مسيحية يراها أساس عيش وعلاقات وسلوك (إنّه غير مُتردّد عن اعترافٍ بقناعة تقول بضرورة أنْ تتجدّد الكنيسة وفقاً لمتطلبات العصر). الجُمل، رغم أهمية ما فيها من بوح وتفكير والتزام، مُختَزَلة بفضل مونتاج (داني أبو لوح) غير مُشوّه ذاك البوح والتفكير والالتزام، وهذا كلّه واضحٌ. الجهد المبذول في تصوير داخل السيارة وخارجها، وفي أزقة وغرف نوم، وفي تجوال هنا وهناك، يصنع (الجهد) فيلماً سلساً يريد أنْ يردم هوّة بين ابنة ووالدها، والنتيجة متروكة لمُشاهدةٍ، تُمتّع ببساطتها وهدوئها (المتناقض وغليان تفكيرين يتناقض أحدهما مع الآخر)، كما باكتشافات الشخصيتين في الجغرافيا والذات والعلاقة بينهما.