
أزمة الترجمة في عالمنا العربي
طالعت في عدد مارس/ آذار من مجلة "البيان الكويتية" مقالاً للدكتور "نزار خليل العاني" بعنوان "ملاحظات حول ترجمة أدب ماركيز إلى العربية". رام الكاتب في زاوية معالجة المقال إلى إسقاط الحاجز البريختي بينه وبين القارئ، في محاولة لإشراكه في موضوع اختلافات الترجمة، وتباينها في روايات ماركيز، لا سيما روايته "مئة عام من العزلة"، وعدد من قصصه القصيرة أيضاً.
وقد استعرض الكاتب عدداً من افتتاحيات ترجمات روايته ذائعة الصيت "مئة عام من العزلة"، وهي الرواية التي حظيت بعدد مهول من الترجمات، سواء إلى اللغة العربية أو اللغات الأخرى، وكنت قد طالعت من قبل عدداً من هذه الترجمات، منها ترجمة "سليمان العطار" (أول من ترجم النص إلى العربية، وقبل حصول ماركيز على نوبل)، وأخرى لـ"صالح علماني"، المتخصص في ترجمة الأدب الإسباني، وأراها الأقرب إلى النص الروائي.
وللحقيقة أيضا؛ فإن معظم الترجمات التي أوردها الكاتب في مقالهِ لم ألحظ فيها أي اختلاف نوعي، يدخل القارئ معه في متاهات سردية، أو يجافي النص الأصلي، وظلت المفاضلة بين ما هو جيد وما هو أجود منه. ولذا تظل عملية الترجمة فعلاً ذوقيّاً طالما سعت في المقاربة للمعنى، مع التسليم بأنه لا بد من هدر لغوي يسقط في المنتصف.
وإذا كان الكاتب الدكتور يدين في ثنايا المقال -ولو بشكل خفي- اختلافات الترجمة وتباينها، الذي لم ألحظه، فإن الأزمة التي لا تخفى لا على الكاتب، ولا على أي مهتم بالعمل الثقافي العربي؛ هي النقص الفادح في حركة الترجمة لدينا، سواء على المستوى الفردي، أو المؤسساتي، وتسعى بعض الهيئات في الوطن العربي؛ مثل "المركز القومي للترجمة في الكويت" وكذا مثيله في مصر، لسد هذا العجز. ومع ذلك، فإن الهوة شديدة الفداحة، ليس فقط في مجال الأدب، بل هي أفدح في علوم اللسانيات والتداوليات وشتى المجالات المعرفية بلا استثناء.
تتبدى هذه الفجوة الترجمية في الإعلان السنوى عن الفائز بجائزة نوبل في الأدب، ورغم كل ما يقال من شوائب حيثيات المنح، فإنها في النهاية لا تمنح اعتباطاً لكاتب عابر، ومع ذلك تتفاجأ الدوائر العربية بعدم وجود أي عمل مُتَرجم للكاتب، أو ربما رواية يتيمة، أو عملين على أحسن الأقوال، ما يعكس بُعد الأزمة لدينا.
تلقفت أوروبا في عصور النهضة والأنوار عمليات الترجمة من العربية والعبرية إلى اللاتينية -لغة العلوم آنذاك- لتنقل كتب ابن سينا، والخوارزمي، وابن رشد الذي تمدد في برودة الشتاء الأوروبي المظلم فبُعث هناك من جديد
أهمية الترجمة في حركة التاريخ
انتشرت في عالمنا العربي قديماً ومن بداية الدولة الأموية حركة ترجمة هائلة، بلغت ذروتها في عصر الخليفة المأمون، الذي افتتح داراً للترجمة "دار الحكمة"، وكافأ المترجمين بوزن ما تُرجم ذهباً، ومع شيوع هذه القصة -التي لا يمكن التيقن من صحتها- فإنها دالة على أهمية الترجمة كأساس لحركة صعود حضاري، تُرجم من خلاله ميراث الحكمة الفارسية، والأدبيات السنسكريتية، والعلوم السريانية، والأرامية، فيما حظيت الفلسفة اليونانية بنصيب الأسد، ما أفضى إلى نشوء الفلسفة المشائية العربية شرقاً على يد الفارابي، والكندي، وابن سينا، والرواقية غرباً على يد ابن باجة، وابن طفيل، وابن رشد.. لتُضرب بعد ذلك المحاولات الفلسفية العربية هذه لاحقاً من قبل القوى الرجعية، التي أعاقت حركة صعودنا الحضاري، وهذا ما لسنا بصدده هنا.
تلقفت أوروبا في عصور النهضة والأنوار عمليات الترجمة من العربية والعبرية إلى اللاتينية -لغة العلوم آنذاك- لتنقل كتب ابن سينا، والخوارزمي، وابن رشد الذي تمدد في برودة الشتاء الأوروبي المظلم فبُعث هناك من جديد، وخمد صيته لقرون في وطننا العربي، وهو أمر يدعو للرثاء والحزن والعجب.
البيانات المنخفضة تشير إلى أننا بحاجة إلى مجهود ترجمي هائل، مجهود لا بد أن تتبناه مؤسسات بمخصصات مادية مجزية، وخطط واضحة، كمشاريع ترجمية كبرى تأخذ بعين الاعتبار استخدام الوسائل الحديثة في النشر إلى جانب الكتاب الورقي
نسب الترجمة في العالم العربي
في لقاء معه، يقول الكاتب والمترجم المغربي "عبد الفتاح الحجمري" عن الترجمة، وبالإحصائيات: "متوسط عدد الكتب المترجمة في الوطن العربي هو 4.4 كتاب لكل مليون مواطن سنوياً، في حين يحظى كل مليون مواطن في المجر-مثلاً- بنحو 519 كتاباً سنوياً، كما يبلغ نصيب كل مليون مواطن إسباني في العام الواحد 920 كتاباً". ويقول عن الهوة المعرفية بيننا وبين الدوائر العلمية الغربية: "لا يتعرف الفكر العربي على نظريات في العلوم والفلسفة إلا بعد مرور عقد من الزمن أو أكثر". كما يتأسى على حال مراجع مهمة تعد دعامة نهضة فكرية وعلمية وأدبية لم تترجم حتى الأن.
هذه النسب المذكورة تبدو مخجلة بالمقارنة مع حركة الترجمة في الغرب، التي تترجم وبشكل فوري ما يصدر من سرديات العلوم المختلفة، سواء النظرية أو العملية بين لغات الغرب المتعددة، فضلاً عن الصحف والمواقع التي تصدر بكذا لغة في وقت واحد، ما يجسر الفجوة المعرفية بين الشعوب، ويرفع من وعيها الجمعي، فضلاً عن أن القارئ الغربي مداوم أصلاً على فعل القراءة عموماً، وهو ما نكاد نعدمه هنا، وما تشير إليه النسب (الوقت الذي ينفقه المواطن العربي في القراءة) نخجل عن ذكره.
البيانات المنخفضة تشير إلى أننا بحاجة إلى مجهود ترجمي هائل، مجهود لا بد أن تتبناه مؤسسات بمخصصات مادية مجزية، وخطط واضحة، كمشاريع ترجمية كبرى تأخذ بعين الاعتبار استخدام الوسائل الحديثة في النشر إلى جانب الكتاب الورقي، مثل الكتاب الإلكتروني، والكتاب المسموع، وغيرها من وسائط حديثة، إلى جانب مجازاة العاملين فيها بعوائد مادية تضمن لهم حياة كريمة، لأن أغلب المترجمين -وللأسف- ينصرفون إلى مهن أخرى، ويترجمون في أوقات فراغهم فقط، متعاملين مع الموضوع كهواية لا تدر عائداً مناسباً.
أظن أن رأس المال العربي قادر على صنع "دور للحكمة" لا دار واحدة فقط، وقادر أيضاً على ضخ الأموال اللازمة لمثل هذه المشاريع الفكرية، بدلاً من الإنفاق على المهرجانات الشكلية، والأعمال الفنية رديئة الجودة.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
٢١-٠٤-٢٠٢٥
- الجزيرة
أزمة الترجمة في عالمنا العربي
طالعت في عدد مارس/ آذار من مجلة "البيان الكويتية" مقالاً للدكتور "نزار خليل العاني" بعنوان "ملاحظات حول ترجمة أدب ماركيز إلى العربية". رام الكاتب في زاوية معالجة المقال إلى إسقاط الحاجز البريختي بينه وبين القارئ، في محاولة لإشراكه في موضوع اختلافات الترجمة، وتباينها في روايات ماركيز، لا سيما روايته "مئة عام من العزلة"، وعدد من قصصه القصيرة أيضاً. وقد استعرض الكاتب عدداً من افتتاحيات ترجمات روايته ذائعة الصيت "مئة عام من العزلة"، وهي الرواية التي حظيت بعدد مهول من الترجمات، سواء إلى اللغة العربية أو اللغات الأخرى، وكنت قد طالعت من قبل عدداً من هذه الترجمات، منها ترجمة "سليمان العطار" (أول من ترجم النص إلى العربية، وقبل حصول ماركيز على نوبل)، وأخرى لـ"صالح علماني"، المتخصص في ترجمة الأدب الإسباني، وأراها الأقرب إلى النص الروائي. وللحقيقة أيضا؛ فإن معظم الترجمات التي أوردها الكاتب في مقالهِ لم ألحظ فيها أي اختلاف نوعي، يدخل القارئ معه في متاهات سردية، أو يجافي النص الأصلي، وظلت المفاضلة بين ما هو جيد وما هو أجود منه. ولذا تظل عملية الترجمة فعلاً ذوقيّاً طالما سعت في المقاربة للمعنى، مع التسليم بأنه لا بد من هدر لغوي يسقط في المنتصف. وإذا كان الكاتب الدكتور يدين في ثنايا المقال -ولو بشكل خفي- اختلافات الترجمة وتباينها، الذي لم ألحظه، فإن الأزمة التي لا تخفى لا على الكاتب، ولا على أي مهتم بالعمل الثقافي العربي؛ هي النقص الفادح في حركة الترجمة لدينا، سواء على المستوى الفردي، أو المؤسساتي، وتسعى بعض الهيئات في الوطن العربي؛ مثل "المركز القومي للترجمة في الكويت" وكذا مثيله في مصر، لسد هذا العجز. ومع ذلك، فإن الهوة شديدة الفداحة، ليس فقط في مجال الأدب، بل هي أفدح في علوم اللسانيات والتداوليات وشتى المجالات المعرفية بلا استثناء. تتبدى هذه الفجوة الترجمية في الإعلان السنوى عن الفائز بجائزة نوبل في الأدب، ورغم كل ما يقال من شوائب حيثيات المنح، فإنها في النهاية لا تمنح اعتباطاً لكاتب عابر، ومع ذلك تتفاجأ الدوائر العربية بعدم وجود أي عمل مُتَرجم للكاتب، أو ربما رواية يتيمة، أو عملين على أحسن الأقوال، ما يعكس بُعد الأزمة لدينا. تلقفت أوروبا في عصور النهضة والأنوار عمليات الترجمة من العربية والعبرية إلى اللاتينية -لغة العلوم آنذاك- لتنقل كتب ابن سينا، والخوارزمي، وابن رشد الذي تمدد في برودة الشتاء الأوروبي المظلم فبُعث هناك من جديد أهمية الترجمة في حركة التاريخ انتشرت في عالمنا العربي قديماً ومن بداية الدولة الأموية حركة ترجمة هائلة، بلغت ذروتها في عصر الخليفة المأمون، الذي افتتح داراً للترجمة "دار الحكمة"، وكافأ المترجمين بوزن ما تُرجم ذهباً، ومع شيوع هذه القصة -التي لا يمكن التيقن من صحتها- فإنها دالة على أهمية الترجمة كأساس لحركة صعود حضاري، تُرجم من خلاله ميراث الحكمة الفارسية، والأدبيات السنسكريتية، والعلوم السريانية، والأرامية، فيما حظيت الفلسفة اليونانية بنصيب الأسد، ما أفضى إلى نشوء الفلسفة المشائية العربية شرقاً على يد الفارابي، والكندي، وابن سينا، والرواقية غرباً على يد ابن باجة، وابن طفيل، وابن رشد.. لتُضرب بعد ذلك المحاولات الفلسفية العربية هذه لاحقاً من قبل القوى الرجعية، التي أعاقت حركة صعودنا الحضاري، وهذا ما لسنا بصدده هنا. تلقفت أوروبا في عصور النهضة والأنوار عمليات الترجمة من العربية والعبرية إلى اللاتينية -لغة العلوم آنذاك- لتنقل كتب ابن سينا، والخوارزمي، وابن رشد الذي تمدد في برودة الشتاء الأوروبي المظلم فبُعث هناك من جديد، وخمد صيته لقرون في وطننا العربي، وهو أمر يدعو للرثاء والحزن والعجب. البيانات المنخفضة تشير إلى أننا بحاجة إلى مجهود ترجمي هائل، مجهود لا بد أن تتبناه مؤسسات بمخصصات مادية مجزية، وخطط واضحة، كمشاريع ترجمية كبرى تأخذ بعين الاعتبار استخدام الوسائل الحديثة في النشر إلى جانب الكتاب الورقي نسب الترجمة في العالم العربي في لقاء معه، يقول الكاتب والمترجم المغربي "عبد الفتاح الحجمري" عن الترجمة، وبالإحصائيات: "متوسط عدد الكتب المترجمة في الوطن العربي هو 4.4 كتاب لكل مليون مواطن سنوياً، في حين يحظى كل مليون مواطن في المجر-مثلاً- بنحو 519 كتاباً سنوياً، كما يبلغ نصيب كل مليون مواطن إسباني في العام الواحد 920 كتاباً". ويقول عن الهوة المعرفية بيننا وبين الدوائر العلمية الغربية: "لا يتعرف الفكر العربي على نظريات في العلوم والفلسفة إلا بعد مرور عقد من الزمن أو أكثر". كما يتأسى على حال مراجع مهمة تعد دعامة نهضة فكرية وعلمية وأدبية لم تترجم حتى الأن. هذه النسب المذكورة تبدو مخجلة بالمقارنة مع حركة الترجمة في الغرب، التي تترجم وبشكل فوري ما يصدر من سرديات العلوم المختلفة، سواء النظرية أو العملية بين لغات الغرب المتعددة، فضلاً عن الصحف والمواقع التي تصدر بكذا لغة في وقت واحد، ما يجسر الفجوة المعرفية بين الشعوب، ويرفع من وعيها الجمعي، فضلاً عن أن القارئ الغربي مداوم أصلاً على فعل القراءة عموماً، وهو ما نكاد نعدمه هنا، وما تشير إليه النسب (الوقت الذي ينفقه المواطن العربي في القراءة) نخجل عن ذكره. البيانات المنخفضة تشير إلى أننا بحاجة إلى مجهود ترجمي هائل، مجهود لا بد أن تتبناه مؤسسات بمخصصات مادية مجزية، وخطط واضحة، كمشاريع ترجمية كبرى تأخذ بعين الاعتبار استخدام الوسائل الحديثة في النشر إلى جانب الكتاب الورقي، مثل الكتاب الإلكتروني، والكتاب المسموع، وغيرها من وسائط حديثة، إلى جانب مجازاة العاملين فيها بعوائد مادية تضمن لهم حياة كريمة، لأن أغلب المترجمين -وللأسف- ينصرفون إلى مهن أخرى، ويترجمون في أوقات فراغهم فقط، متعاملين مع الموضوع كهواية لا تدر عائداً مناسباً. أظن أن رأس المال العربي قادر على صنع "دور للحكمة" لا دار واحدة فقط، وقادر أيضاً على ضخ الأموال اللازمة لمثل هذه المشاريع الفكرية، بدلاً من الإنفاق على المهرجانات الشكلية، والأعمال الفنية رديئة الجودة.


الجزيرة
١٤-٠٤-٢٠٢٥
- الجزيرة
بين الأدب والسياسة.. ماريو فارغاس يوسا آخر أدباء أميركا اللاتينية الكبار
كان الكاتب الإسباني البيروفي ماريو فارغاس يوسا، الحائز جائزة نوبل في الآداب عام 2010 والذي توفي الأحد عن 89 عاما، آخر ممثل عن الجيل الذهبي للأدباء في أميركا الجنوبية. وقد كان فارغاس يوسا الذي نالت أعماله إعجابا كبيرا حول العالم بفضل طريقة تجسيده للحقائق الاجتماعية، أحد أبرز الكُتاب في فترة الطفرة الأدبية في أميركا اللاتينية، إلى جانب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز والأرجنتيني خوليو كورتازار والمكسيكيين كارلوس فوينتس وخوان رولفو. ألهمت تلك "الطفرة الأدبية" -التي عرفت باسم "إلبوم" (El boom)- حالة ثقافية جارفة وأثرت على الأفلام والمسرح والموسيقى والفولكلور، باختصار جعلت من أدب أميركا اللاتينية منتجا حيا وقابلا للتسويق في أوروبا وآسيا والشرق الأوسط وأفريقيا والولايات المتحدة، مما جعل شعوب القارة اللاتينية مرئية للعالم بفضل أدب لم يكن معروفا خارج حدود بلدانه، قبل أن يتحول إلى أهم الصادرات الثقافية، بحسب تقرير سابق للجزيرة نت. وكتب ابنه الأكبر ألفارو في رسالة وقّعها أيضا شقيقه غونزالو وشقيقته مورغانا ونُشرت في الساعة 19.23 بالتوقيت المحلي (00.23 ت.غ) "ببالغ الحزن نعلن أن والدنا ماريو فارغاس يوسا توفي اليوم في ليما محاطا بعائلته وفي سلام". جدل سياسي وواجه فارغاس يوسا الذي انتخب عضوا في الأكاديمية الفرنسية عام 2021، انتقادات من الدوائر الفكرية في أميركا الجنوبية بسبب مواقفه المحافظة. ورغم أن الأديب ماريو فارغاس يوسا كان قريبا في موقفه من صديقه المدافع عن إسرائيل خورخي لويس بورخيس (1899-1986)، وكان يُنظر إليه في بلاده (البيرو) باعتباره يمينيا مؤيدا لأميركا، وكان يصف نفسه أحيانا بأنه صديق لإسرائيل، فإنه ذهب بنفسه في رحلات ليتعرف على واقع الحياة الفلسطينية، مما جعل رأيه يتغير من القضية. وفي منتصف عام 2016، كتب يوسا -الذي حاور بورخيس- مقالا لصحيفة إلباييس الإسبانية ذاتها، وانتقد فيه ممارسات قوات الاحتلال الإسرائيلي التي قال إنها "تثير الذعر والاستقرار النفسي للأطفال والمراهقين الذين تتراوح أعمارهم بين 12 و17 عاما لتمنع الإرهاب"، وأضاف أن هذه الطريقة تختلف عندما يتعلق الأمر بالبالغين والمشتبه بهم، إذ تشمل "القتل الانتقائي والتعذيب وعقوبات السجن الطويلة والهدم ومصادرة الممتلكات". وأبدى الأديب البيروفي الحائز على جائزة نوبل للآداب عام 2010 تعاطفه مع شبان فلسطينيين حضر بنفسه جلسة لمحاكمتهم، وقال "كان الصباح الذي قضيته معهم في القدس من أكثر ساعات حياتي تنورا". سيرة لاتينية وقال الأديب الراحل قبيل تسلمه جائزة نوبل في عام 2010 "نحن في أميركا اللاتينية حالمون بطبيعتنا، ونواجه صعوبة في التمييز بين الواقع والخيال. ولهذا السبب لدينا موسيقيون وشعراء ورسامون وكتاب بارعون، وكثير من القادة السيئين". تُرجمت روايات فارغاس يوسا المحب للغة الفرنسية، إلى حوالي 30 لغة، وكان أول كاتب أجنبي يدخل مجموعة "بلياد" المرموقة خلال حياته في عام 2016، وهو العام الذي بلغ فيه الثمانين من عمره. وكان المؤلف البيروفي الذي حصل على الجنسية الإسبانية عام 1993، قد قدم قبل بضع سنوات أحدث أعماله بعنوان "النظرة الهادئة (لبيريز غالدوس)"، وهي مقالة أدبية عن الكاتب الإسباني بينيتو بيريس غالدوس (1843-1920). ولد فارغاس يوسا في أريكيبا في جنوب بيرو في 28 مارس/آذار 1936 لعائلة من الطبقة المتوسطة، ونشأ على يد والدته وعائلتها في بوليفيا ثم في بيرو. بعد دراسته في الأكاديمية العسكرية في ليما، حصل على شهادة في الأدب واتخذ خطواته الأولى في الصحافة. انتقل في عام 1959 إلى باريس حيث أمضى سنوات "حاسمة"، كما كتب في مقدمة أعماله المنشورة في مجموعة "بلياد". وفي العاصمة الفرنسية كتب فارغاس يوسا أولى رواياته. وكان يقول إنه "بفضل (الأديب الفرنسي غوستاف) فلوبير" تعلم أسلوب العمل الذي يناسبه وكيفية أن يصبح "الكاتب الذي أراد أن يكون". وفي باريس أيضا -حيث كان فارغاس يوسا مترجما ومعلما للغة الإسبانية وصحفيا في وكالة فرانس برس- تزوج من خوليا أوركيدي، التي كانت تكبره بـ10 سنوات، والتي ألهمت المؤلف لاحقا لكتابة "العمة خوليا والكاتب". وبعد سنوات قليلة انفصل عنها وتزوج من قريبته باتريشيا يوسا، وأنجب منها 3 أبناء وظل معها لمدة 50 عاما. تحولات الروائي والسياسي انطلقت المسيرة الأدبية للكاتب البيروفي الشهير ماريو فارغاس يوسا عام 1959، مع صدور مجموعته القصصية الأولى "الزعماء" (Les caïds/Los jefes)، التي شكّلت باكورة إنتاجه الأدبي، وفتحت له باب الدخول إلى المشهد الثقافي في أميركا اللاتينية. غير أن الانطلاقة الحقيقية نحو الشهرة جاءت بعد سنوات قليلة، حين أصدر روايته "المدينة والكلاب" (La ciudad y los perros) عام 1963، التي لاقت رواجًا نقديًّا وجماهيريًّا واسعًا، وأعقبها عمله الأبرز "البيت الأخضر" (La casa verde) سنة 1966، الذي رسّخ مكانته بين كبار كُتاب جيله. في عام 1969، عزز فارغاس يوسا حضوره الأدبي برواية "حوار في الكاتدرائية" (Conversación en La Catedral)، التي تُعد من أبرز أعماله وأكثرها تعقيدًا، لما حملته من عمق سياسي ونقد اجتماعي حاد للواقع البيروفي آنذاك. وواصل الكاتب الحائز على جائزة نوبل للآداب (2010) إبداعاته بروايات متنوّعة، من أبرزها: "بانتاليون والزائرات" (Pantaleón y las visitadoras)، و"حرب نهاية العالم" (La guerra del fin del mundo)، اللتان عكستا اهتمامه بالقضايا الإنسانية والحروب الأيديولوجية، فضلًا عن مذكراته "السمكة في الماء" (El pez en el agua)، التي وثّق فيها تفاصيل حملته الانتخابية للرئاسة في بيرو عام 1990، كاشفًا جانبًا من سيرته الذاتية والتجربة السياسية التي خاضها. في البداية انجذب فارغاس يوسا إلى أب الثورة الكوبية فيدل كاسترو، لكنه ابتعد عن النظام الشيوعي في عام 1971 عندما أجبرت كوبا الشاعر هيبرتو باديا على القيام بـ"نقد ذاتي". كان مرشحا لرئاسة بيرو في عام 1990، وبدا فوزه مؤكدا حتى ظهر مهندس زراعي غير معروف، ألبرتو فوجيموري، وجرى انتخابه على نحو فاجأ الجميع. ثم تخلى الحائز جائزة نوبل للآداب عن السياسة البيروفية. ولكنه لم يتوقف أبدا عن متابعة الأخبار الدولية عن كثب، وكان يندد بانتظام بالشعبوية باعتبارها "مرض الديمقراطية"، بما يشمل سياسات تشافيز وكاسترو في أميركا اللاتينية واليمين المتطرف واليسار الراديكالي في أوروبا. كان فارغاس يوسا صديقا مقربا من الكاتب الكولومبي الشهير غابرييل غارسيا ماركيز، قبل أن تنتهي علاقتهما بسبب جدال غامض. وتعهد فارغاس يوسا بالتكتم إلى الأبد عن الأسباب التي أدت إلى خلافهما. وبعد أن انفصل عن زوجته الثانية، تصدر الكاتب عناوين الصحف المتخصصة في المشاهير في عام 2015 بسبب علاقته بالمرأة الإسبانية من أصل فلبيني إيزابيل بريسلر، الزوجة السابقة للمغني خوليو إيغليسياس. وأعلنا انفصالهما في نهاية عام 2022.


الجزيرة
١٤-٠٤-٢٠٢٥
- الجزيرة
أيقونة الأدب اللاتيني.. وفاة أديب نوبل البيروفي ماريو فارغاس يوسا
توفي أمس الأحد الكاتب الإسباني-البيروفي ماريو فارغاس يوسا الحائز جائزة نوبل للآداب عن 89 عاما في العاصمة البيروفية ليما حيث كان يعيش منذ أشهر قليلة بعيدا عن الحياة العامة، على ما ذكرت عائلته في رسالة عبر منصة اكس. ولد ماريو فارغاس يوسا في بيرو عام 1936 وأقام في بوليفيا وليما قبل أن ينتقل إلى إسبانيا لدراسة الآداب. كما عاش فترة معينة في باريس، وعدّ مدريد بلده، لكنه احتفظ بجنسيته ونفوذه في بيرو حيث كتب لصحف بيروفية عن الأحداث الراهنة وترجمت أعماله إلى أكثر من 20 لغة. وجاء في رسالة كتبها نجله البكر ألفارو ووقعها شقيقه غونزالو وشقيقته مورغانا "بحزن عميق نعلن وفاة والدنا ماريو فارغاس يوسا في ليما بهدوء محاطا بعائلته". وسرت في الأشهر الأخيرة شائعات كثيرة حول تدهور وضع الكاتب الصحي. وقال نجله ألفارو في تشرين الأول/اكتوبر الماضي "شارف على التسعين وهو عمر ينبغي فيه التحفيف من نشاطاته" من دون أن يوضح وضع والده الصحي. كان يوسا واحدا من بين 4 كتاب، وصفوا في القارة اللاتينية بأنهم الكبار، من بينهم الأرجنتيني خوليو كورتاثار، والمكسيكي كارلوس فوينتس، والكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز، وأخيرا البيروفي ماريو فارغاس يوسا. وقد جاء صعودهم في تلك القارة، والانطلاق منها إلى بقية بلدان العالم، اعتبارا من بدايات الستينيات، بالتزامن مع ما بات يُعرف بطفرة الرواية التي شهدتها أميركا اللاتينية، وكان هؤلاء الأربعة، من بين أبرز ممثليها. في حين كان مجرد ذكر أسمائهم، يستدعي اسم خورخي لويس بورخيس، الكاتب الأرجنتيني الذي كان له الفضل، في تشكيل خريطة الأدب اللاتيني خلال القرن الـ20. كانت رواية " حرب نهاية العالم" هي التي فتحت الطريق أمام فارغاس يوسا، الأمر الذي كان له أثر واضح في وصول جائزة نوبل إليه في عام 2010، تلك الرواية التي يزيد عدد صفحاتها المترجمة إلى العربية عن 700، يتناول فيها الكاتب أحداث الحرب الأهليّة، التي اندلعت في شمال البرازيل، أواخر القرن الـ19، ويروي فيها قصة حرب "كانودوس"، وكأنه يرسم لوحة جدارية مدهشة، ويستعرض فيها تطلعات الإنسان، في عالم لم تغادره تلك المفاهيم التي تتعلق بالمدينة الفاضلة. كان يوسا قد بدأ حياته مثل عديد من مثقفي أميركا اللاتينية، متعاطفا مع أهداف اليسار، لكنه مع حلول الثمانينيات، أصبح يدعو بحماس لقيم التجارة الحرة والليبرالية السياسية. ولم يكتف بذلك، بل انتقل إلى مرحلة أخرى عندما شارك كمرشح رئاسي عن تيار يمين الوسط، في الانتخابات الرئاسية البيروفية التي جرت عام 1990، لكنه لم ينجح في حصد النجاح. وفي أعقاب ذلك، واصل يوسا إبداء حماسه الشديد، وميله الواضح نحو اليمين، وعندها أعلن انضمامه في عام 2014، إلى جمعية مونت بيليرين، المعروفة باحتضانها لليبرالية الجديدة. لم يكن يوسا كما بات معروفا عنه، يتردد في التصرف، إذا ما رأى أن الأمر يستوجب ذلك، وفي هذا الإطار يمكن تفسير تقدمه لترشح إلى منصب رئاسة بلاده. بعد أن بات مؤمنا أن من واجبه الأخلاقي أن يكون ناشطا فعّالا في الحياة العامة، واتخاذ موقف لشجب ما يصدر عن الحكومات الشمولية أينما وجدت. كما يمكن في هذا الإطار، تفسير صعوده إلى خشبة المسرح، لأداء أحد الأدوار التمثيلية، بدافع ميله الشديد للتمثيل المسرحي. منعطف فكري كانت أفكار يوسا قد تغيرت في أعقاب القراءات التي انشغل بها، والتي كانت لمفكرين كبار، من أمثال آدم سميث، وكارل بوبير، وأورتيغا إي غاسيت. وفي كتابه الذي أصدره تحت عنوان "نداء القبيلة"، أكد على ذلك، كما أنه كان قد عاش في فرنسا لمدة 7 سنوات، وتأثر خلالها بأفكار ألبير كامو، وفي عدة حوارات تناولت تلك الفترة، أكد يوسا أن إقامته في فرنسا، شكلت منعطفا جوهريا في حياته. كما أن انتقاله من الماركسية إلى الليبرالية، كان وراء تلك القطيعة التي حدثت في علاقته مع خوليو كورتاثار، وكارلوس فوينتس، وغابرييل غارثيا ماركيز. من بعد هذا تحول الذي كانت لافتا في مسار فارغاس يوسا، راح يصف الزعيم الكوبي فيديل كاسترو بأنه دكتاتور، ويعتبر نظامه من أبشع الديكتاتوريات في أميركا اللّاتينيّة، في حين أن ماركيز وفوينتس وكورتاثار كانوا يعبرون في كل وقت، عن دعمهم التام لكاسترو ونظامه. خلال ذلك، انتهت العلاقة الوثيقة بين يوسا وماركيز، بسبب ذلك الخلاف الشخصي الذي راح يتطور، إلى أن بلغ الحد الذي اندفع فيه الكاتب البيروفي إلى توجيه لكمة إلى وجه غارسيا ماركيز، وهو ما تسببت له بكدمة دكناء تحت العين اليسرى. وقبل حدوث ذلك بوقت، كان فارغاس يوسا، قد تحدث في العاصمة الإسبانية مدريد، عن طبيعة العلاقة الشخصية والمهنية التي كانت تربطه بغارسيّا ماركيز، والتي بدأت بالتدهور بسبب اختلاف في المواقف السياسية التي تبناها كل منهما تجاه الثورة الكوبية، وانتهت تماما، إثر مواجهة حامية. وقعت في بهو قصر الفنون الجميلة في مدينة مكسيكو سيتي، عندما اقترب غارسيا ماركيز للترحيب بيوسا فاتحا له ساعديه، لكن فارغاس يوسا ومن دون أن ينبس بكلمة، سارع إلى توجيه لكمة قوية لوجه الكاتب الكولومبي. قوة الأدب ظل يوسا في كتاباته يواصل الاهتمام بإسقاط الماضي على الحاضر، فطبيعة الإنسان ثابتة دائما مهما بدت البيئة متحولة. وبجرد بسيط للشخصيات يمكن توضيح لعبة يوسا السياسية لإيصال رسائل معينة ضمن إطار أدبي، فهو يتحكم في الشخصيات، فيجعل منها فاعلا مؤثرا في الأحداث وناتجا عنها في الوقت ذاته. وعندما تلقى سؤالا أثناء مقابلة أُجريت معه في عام 1990 عن الأسباب التي تدعوه للكتابة، سارع يوسا للقول "أكتب لأني غير سعيد. ولأن الكتابة طريقة لمحاربة التعاسة، كما أن قوة الأدب تكمن في أنه يسمح لنا بأن نحيا حيوات عديدة، وهذه واحدة من أعظم ميزاته.. إذ ينتشلنا من واقعنا ويجعلنا ندخل إلى عوالم رائعة، نعيش حيوات غنية بكل ما هو مثير، ونغوص مغامرات في عوالم غير عالمنا، ونحن نتقمص شخصيات كثيرة، نختبر نفسيات مختلفة وعقليات متباينة. إنه إغناء مذهل للحياة. لكن الأدب في الوقت ذاته ليس شيك ضمان على السعادة، بل العكس ما يحدث أحيانا، بطريقة ما، فهو يحولك إلى شخص حزين لأن من خلاله تفهم أن هناك حيوات أغنى من حياتك. فأنت تصبح واعيا بحقيقة أنك قليل الأهمية". وفي حواره مع صحيفة لوفيغارو الفرنسية، قال يوسا "نحن نؤلف روايات ليس فقط لنحكي واقعا موجودا بل لنغيره مضيفين له شيئا ما"، وتابع قائلا إن "الأدب هو يوتوبيا الواقع" فهو لا يحكي لنا واقعا متوارثا محققا، ودرسا تاريخيا أكاديميا، بل يفتش بدقة حاويا محترفا، على إسقاطات تجمع الماضي بالحاضر، في توليفة سردية، غالبا ما تخرج بنتائج تنعكس على المستقبل. مؤكدا أن "الأزمنة تمر على المواقف السياسية البليدة، لكن الرواية العظيمة تبقى مؤثرة وخالدة على مرّ الزمن'. مشددا على ضرورة أن على المرء أن يتقبل الحرية بوصفها عنصرا أساسيا للتمتع بثقافة غنية وإبداعية. ولا يمكن أن تُحبَس الثقافة، في سجن أخلاقي أو ديني أو لائق سياسي، إذ يجب أن ندافع عن الحرية. لأن الأعمال الأدبية العظيمة لم تكن أبدا لائقة من الناحية السياسية، وفي كثير من الحالات، كان الأدب يأتي في صدارة العديد من الأشياء التي بدت رهيبة في بادئ الأمر، ثم صارت مقبولة على اعتبار أنها تمثل طفرات وتقدما اجتماعيا وثقافيا. وفي هذه المقابلة لخص يوسا مفهومه لعملية الكتابة، قائلا "أعتقد أن ما أحبه ليس الكتابة نفسها، بل إعادة الكتابة، الحذف والتصحيح.. وأعتقد أن ذلك، هو أكثر أجزاء العمل، إبداعية". وانتُخِب الكاتب البيروفي الإسباني في نوفمبر/تشرين الثاني 2021 عضوًا في الأكاديمية الفرنسية وهي هيئة حكومية تأسست عام 1634 لتطوير وتقعيد اللغة الفرنسية. وليس فارغاس يوسا أول أجنبي يحصل على عضوية الأكاديمية الفرنسية، إذ سبقه إليها الأميركي جوليان غرين عام 1971، والكندي من أصل هاييتي داني لافريير عام 2013. الخبرة والحكاية وتستند أعمال فارغاس يوسا إلى خبرته في الحياة في بيرو منذ أواخر أربعينيات القرن الماضي والتي توجت بخوضه لانتخابات الرئاسة عام 1990، لكنه خسر لصالح ألبرتو فوجيموري الذي اضطر في نهاية المطاف للفرار من البلاد وأدين بعد ذلك بعدة جرائم وكتب عن ذلك في مذكراته الصادرة عام 1993 بعنوان "السمكة في الماء"، وفي روايته "زمن البطل" استعرض فترة مراهقته في أكاديمية عسكرية في ليما. ومن خلال أكثر من 30 رواية ومسرحية ومقالا صحفيا، طوّر فارغاس يوسا أسلوب سرد الحكاية الواحدة من عدة أوجه يفصلها أحيانا المكان أو الزمان. وتجاوزت أعماله الأشكال الأدبية المعروفة ووضعته في مكانة رفيعة بين أبناء جيله الذي قاد بعث الآداب في أميركا اللاتينية في الستينيات من القرن الماضي. وباختلاف خبراته تنوعت كتاباته، فنوّع كثيرا في الأشكال والرؤى والموضوعات، وكانت روايته "شيطنة الطفلة المشاغبة" أولى محاولاته لكتابة قصة حب وأشيد بها باعتبارها من أفضل ما كتب في هذا النوع.