
'انظر في عيني'.. عرافون غلبت عليهم الوحدة والذكريات القاسية
تروي الطبيبة -وقد ناهزت الخمسين- قصة مروعة عن تجربة مرت بها في بداية مسارها المهني، حين شهدت آخر لحظات حياة طفلة أصابها إطلاق نار عشوائي، فحين وصلت إلى قسم الطوارئ بالمستشفى، حملت الطبيبة جزءا من دماغها الذي كاد يسقط من رأسها بسبب الرصاص، ثم ماتت بين يديها.
بدت الطبيبة في المشهد الافتتاحي من الفيلم كأنها تفتح قلبها في جلسة علاج نفسي محترفة، بيد أن جليستها على الطرف الآخر من الطاولة هي عرّافة ممن يزعمون أنهم يستطيعون التواصل مع الموتى، ونقل حوارات معهم من وراء الموت إلى الأحياء في عصرنا الحالي.
كانت تتمنى أن تعرف ما تفكر فيه تلك الطفلة اليوم، وهي رغبة تعكس بوضوح فداحة تلك الحادثة عليها، وصعوبة التعايش معها، مع أنها حدثت منذ سنين كثيرة.
فيلم 'انظر في عيني' (Look into my Eyes) الوثائقي، الذي أخرجته 'لانا ويلسون' (2024)، يقارب عالم العرّافين وقارئي الطالع، وقد اختيرت مدينة نيويورك، لكونها حاضرة عالمية تجمع خليطا متنوعا من البشر، يختلفون في هواجسهم وأحلامهم وخوفهم من المستقبل والحياة.
يركز الفيلم على جماعة من المنجمين، ويرافق بعضهم إلى منازلهم، ويتقرب منهم إلى درجات حميمية كبيرة، تكشف خوالجهم وحيرتهم أمام ما يجري في العالم، بل إنهم بدوا أحيانا أشد حيرة وضياعا من زبائنهم.
آمال في حضرة المنجمين
يتنقل الفيلم في ثلثه الأول بين حوارات يجريها أمريكيون عاديون مع عرافين يتعاملون معهم، وتميزت تلك المشاهد بجودتها التقنية العالية من تصوير وإضاءة، كانا يقتربان مما يُنجز في الأستوديوهات التلفزيونية المحترفة.
كانت تلك الجودة التقنية مهمة لنقل كل همسة أو حركة للجسد بدقة عالية، من المنجمين أو من ينشدون المساعدة على حد سواء، وسيبني الفيلم على تلك المشاهد نصفه الآخر، وهو الجزء الذي سيخرج في مجمله من أسر الحوارات المباشرة، ويتنقل إلى بيوت العرافين.
تختلف قصص من يطلبون التواصل مع الموتى، فمنهم فتاة آسيوية تريد أن تتواصل مع أهلها الحقيقيين في الصين، الذين قرروا -لأسباب لا تعرفها- أن يتخلوا عن تربيتها، ومنحوها لأبوين أمريكيين في مدينة نيويورك، والمفارقة أن المنجم الذي تقابله هو أيضا طفل متبنى من آسيا، وسينسج ذلك وشائج واضحة بينهما.
وإلى جانب الباحثين عن التواصل مع البشر الموتى، هناك من يريد أن يتواصل مع الحيوانات، ومنها ما هو حي وما قد نفق، ولهم عرّافون متخصصون في التواصل معها، منهم امرأة سيركز عليها الفيلم كثيرا، وينقل حياتها التي هيمنت عليها الوحدة والانعزال عن المجتمع من حولها، وهي تروي أنها حولت حبها للحيوانات إلى وظيفة، وبدأت تساعد أصحاب حيوانات يتمنون التواصل مع كائناتهم اللطيفة.
وحدة وفشل مهني في بيوت العرافين
لم يكن معروفا بعد الثلث الأول من الفيلم أي وجهة سيتخذ، فهل يواصل أسلوب المراقبة الذي بدأ به، أم يحقق في قضية التواصل مع الموتى ذاتها، ليعلم هل تقوم على أسس عقلية أو علمية، أم هي محض أكاذيب وادعاءات غير حقيقية. وتأتي التحويلة الأولى في الفيلم عندما يتنقل فجأة إلى بيت أحد المنجمين، فنراه في محيطه الطبيعي، يمارس حياته العادية.
عندما يصل الفيلم إلى العراف الشاب، نجده يتدرب على أداء دور تمثيلي صغير ينوي تقديمه، فهو ممثل هاوٍ يحاول منذ سنوات أن يصل للنجاح المهني في مجال التمثيل، وهو يعيش في شقة صغيرة متواضعة، وقد بدا حائرا أمام حياته، وما زال يطارد حلمه في التمثيل، لكن الظروف الاقتصادية أجبرته على البحث عن أعمال أخرى، فقادته المصادفات إلى العمل منجما.
يتنقل الفيلم بعدها إلى بيوت المنجمين الذين ظهروا في الجزء الأول، ولا تختلف ظروف حياتهم عن حياة المنجم الشاب ذي الأصل الآسيوي، ومنهم ممثل ومغنٍّ آخر يزوره الفيلم في شقته الصغيرة الفائضة بالأغراض.
يحاول هذا الرجل منذ سنوات تحقيق النجاح في مجال الفن، لكنه لم يحقق نجاحات تذكر، بل إن طموحه صار محدودا كثيرا، ويقتصر على الغناء مجانا في مقاهي نيويورك، لإرضاء رغبته الكبيرة في الأداء الفني أمام الجمهور.
وفي هذا الجزء من الفيلم، نتعرف على قصة المنجمة المختصة بالحيوانات، وهي تعيش وحيدة مثل كثير من شخصيات الفيلم، وتعاني من ذكريات طفولتها الصعبة، وحياتها السابقة التي جعلتها منطوية كثيرا، بل كانت تخاف من العالم الخارجي، ولا تكاد تتقاطع مع هذا العالم.
ويعود جزء من انعزالها إلى رفضها ما يجري في العالم الرأسمالي، وعدم مبالاته بمن يحملون قيما مختلفة متعارضة، وقد اتخذت اتصالها بالحيوانات مهنة لها، فأصبحت عرّافة مختصة بالتواصل مع الحيوانات.
هل هذه ادعاءات أو طاقة مخفية؟
في مشهد وحيد له طبيعة نقدية حول مصداقية المنجمين في الفيلم، كان العراف الشاب يسأل فتاة تجلس أمامه هل تعرف امرأة بمواصفات معينة كان يراها، وحين قالت إنها لا تعرفها، بدا الارتباك واضحا عليه، وقد حاول الضغط بعدها مرارا حتى تتذكر، فلما أصرت الفتاة على الرفض، قرر وقف الجلسة، واعتذر بأن الاتصال بعالم الأرواح متعذر له ذلك اليوم، وأنه مضطر للتوقف.
وهي الحادثة الوحيدة في الفيلم التي تنطوي على نقد مبطن لادعاءات المنجمين، ذلك أن الفيلم لم يبدُ مهتما كثيرا بهذا الجانب، بل اختار أن يركز على البشر الذين وراء هذه الظاهرة، وعلى خوالجهم وحياتهم، والظروف التي قادتهم إلى طلب المساعدة، واهتم كثيرا بمن يوفرون هذه الخدمة أيضا.
هذا الخيار الموضوعي أبعد الفيلم كثيرا عن فئة الفيلم الاستقصائي التحقيقي، وذلك ما كان متوقعا من فيلم يتناول ظاهرة جدلية، يحيطها كثير من الشكوك والريبة، مثل التنجيم.
وعندما بدأ الفيلم فعليا بمناقشة ظاهرة التواصل مع الأرواح والموتى، كان قد انقضى أكثر من نصفه، حيث بدأ بعض العرافين في الفيلم بالحديث عما يفعلونه، ووصفته إحداهن بأنه بحث عن الطاقة، وهو في حد ذاته يعد وصفا مبهما، وزادت هذه العرّافة من إبهام ما كانت تقوله، بأنها لا تعرف كيف تصل إلى الطاقة لكنها تحاول كل مرة أن تعثر على طاقة خاصة وهي التي تقودها إلى التواصل مع أرواح راحلة لعبت أدوار مهمة في حياة زبائنها.
مجتمع صغير من عرّافين تثقلهم الوحدة
يفتح بعض المنجمين في الفيلم قلوبهم للمخرجة، إلى درجات كبيرة من الصدق والمكاشفة، منهم منجم خمسيني يعاني كثيرا من غياب أخيه، الذي مات بسبب جرعة مخدرات زائدة، ويقول إن سبب اتجاهه لهذا العمل هو حزنه وعدم تقبله لرحيل أخيه الشاب.
وقد مر الفيلم على قصص أخرى، بعضها مؤثر كثيرا عن الوحدة والانعزال وتجارب الطفولة المؤلمة، وهي التي يبدو أنها دفعت عددا من الشخصيات للابتعاد عن العالم الواقعي الذي نعيشه، والبحث في عالم الماورائيات عن الأمان الذي تفتقده في حياتها الفعلية.
وفي مشهد طويل مؤثر في الفيلم، جمعت المخرجة معظم المنجمين في الفيلم في مكان واحد، وجعلتهم يتواصلون مع أرواح بعض الذين مروا بهم في حياتهم، وقد بدا الصدق والتأثر واضحا على الجميع، وهو ما يمكن أن يشكك أكثر المرتابين بموضوع التنجيم، ويدفعهم لطرح أسئلة عن 'الطاقة' التي يتحدثون عنها كثيرا، فهل نحن البشر ما زلنا عاجزين عن فهم كل أسرار الكون من حولنا؟
اختارت المخرجة المقاربة الإنسانية لموضوع التنجيم النادر الحضور في السينما الوثائقية، ولم تكن غاية الفيلم استغلال شعبية الموضوع وأخذه إلى وجهات مثيرة كان يمكن أن تصل إليها بسهولة، بل حافظ على التزامه بالطبيعة الحميمية الإنسانية التي سعى إليها، والتي وازنت في الاهتمام بين قصص من يبحثون عن تواصل مع الموتى، وبين المنجمين أنفسهم.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 15 ساعات
- الجزيرة
"كان يا ما كان في غزة" يحصد جائزة أفضل إخراج في "نظرة ما" بمهرجان كان
فاز الفيلم الفلسطيني "كان يا ما كان في غزة" (Once Upon a Time in Gaza) بجائزة أفضل إخراج ضمن قسم "نظرة ما" في الدورة الـ78 من مهرجان كان السينمائي الدولي. الفيلم من إخراج التوأمين طرزان وعرب ناصر، وقد شهد عرضه العالمي الأول ضمن المسابقة الرسمية للقسم الذي يحتفي بالأصوات السينمائية المختلفة والجريئة. وقد تقاسم طرزان وعرب ناصر جائزة الإخراج، في خطوة اعتبرت تقديرا لرؤيتهما السينمائية المتميزة، ولقدرتهما على نقل صورة مختلفة عن غزة، رغم الظروف الصعبة التي تعيشها. وعبر المخرجان عن سعادتهما وامتنانهما لهذا التكريم، مشيرَين إلى أن السينما بالنسبة لهما كانت دائمًا محاولة للبقاء، ورسالة حياة وسط الركام. مقاومة في زمن الحصار تدور أحداث الفيلم الفلسطيني "كان يا ما كان في غزة" عام 2007، داخل قطاع غزة المحاصر، حيث يتتبع العمل قصة صديقين يحاولان البقاء وسط واقع خانق. يحيى، طالب جامعي يحلم بالهروب من القطاع، يعمل على إعداد الفلافل في زاوية مطبخ صغير داخل مطعم يملكه صديقه أسامة. يستخدم مطحنة لحم يدوية لطحن الفول والأعشاب، في ظل انقطاع دائم للكهرباء، أما أسامة فهو شاب ذو شخصية آسرة، يدير مطعمه البسيط بينما ينخرط في تهريب الحبوب المخدرة مستعينا بوصفات طبية مسروقة. معًا، يستخدمان وجبات الفلافل لإخفاء تلك الحبوب وتوزيعها سرا. في الخلفية، يلاحقهما شرطي فاسد يحاول السيطرة عليهما مستخدما سلطته وسلوكه القمعي، لتتحول رحلتهما إلى مواجهة مع الفساد، في سردية تمزج بين المرارة والروح الساخرة، بعيدًا عن الطرح السياسي المباشر. غزة التي لم تعد كما كانت خلال العرض العالمي الأول لفيلمهما "كان يا ما كان في غزة" ضمن فعاليات مهرجان كان السينمائي، صرّح المخرجان الفلسطينيان طرزان وعرب ناصر أن أحداث الفيلم تدور في عام 2007، وهي مرحلة مفصلية في تاريخ القطاع، إذ كان يرزح آنذاك تحت حصار خانق، مما زاد من تعقيد الحياة اليومية للسكان وفاقم تدهور الأوضاع المعيشية وأوضح الأخوان ناصر، اللذان غادرا غزة عام 2012، أن الواقع الذي يصوره الفيلم لم يعد موجودًا كما كان، قائلين إن القطاع اليوم يواجه كارثة إنسانية حقيقية بعد اندلاع الحرب الإسرائيلية في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، والتي أدت إلى دمار واسع النطاق وسقوط عشرات الآلاف من الضحايا. وقال طرزان إن الحصار الإسرائيلي المفروض على غزة اشتد تدريجيًا عبر السنوات، حتى بلغ حد "الإبادة الجماعية"، مشيرا إلى أن الاحتلال لا يزال يتحكم حتى في كمية السعرات الحرارية المسموح بدخولها إلى القطاع. ورغم هذا الواقع المأساوي، شدد المخرجان على أن أهل غزة ما زالوا يتمسكون بالحياة، ويتمتعون بقدرة لافتة على الصمود. وذكر طرزان أن والده لا يزال يقيم في شمال غزة، رغم تدمير منزل العائلة، مضيفا أن والده كان يحرص دائما على ترميم ما تهدم من منزله فور سقوط أي صاروخ. وأشار الشقيقان إلى أن أفلامهما لا تسعى إلى تقديم خطابات سياسية مباشرة، بل تهدف إلى تسليط الضوء على الإنسان الفلسطيني، وعلى تفاصيل حياته اليومية في ظل ظروف استثنائية، وقالا إن ما يعنيهما أكثر هو الإنسان "من يكون، وكيف يعيش، وكيف يحاول التكيّف مع واقع بالغ القسوة". ذكر الشقيقان أن فكرة فيلم "كان يا ما كان في غزة" وُلدت عام 2015، وعملا على تطويرها على مدى سنوات من خلال كتابة عدة مسودات متتالية للسيناريو. وأوضحا أن الهدف كان تقديم صورة مختلفة لغزة بأسلوب مستلهم من روح السينما الغربية، من خلال قصة بسيطة تسلط الضوء على تفاصيل الحياة اليومية لسكّان القطاع، عبر شخصيتين أو ثلاث. وأكدا أن الإلهام جاء من مدينتهما الأصلية، غزة، حيث يبقى البُعد الإنساني حاضرًا رغم الاحتلال والحصار والظروف القاسية، مشددَين على أن إنسانية الناس هناك تظل جوهرا لا يمكن محوه. الشقيقان طرزان وعرب ناصر اللذان شاركا من قبل في مهرجان كان بفيلمها القصير "كوندوم لد" في عام 2013، بعد مرور 12 عاما يعودان ليحصدا جائزة "نظرة ما" في الإخراج، بفيلم "كان يا ما كان في غزة"، وهو ثالث أفلامهما الروائية. والفيلم من إنتاج دولي مشترك بين فرنسا وألمانيا والبرتغال وفلسطين، بمشاركة قطر والأردن. فريق العمل والمشروعات القادمة يشارك في بطولة الفيلم عدد من الممثلين البارزين، من بينهم نادر عبد الحي، الذي عُرف بأدائه في فيلم "فرح"، ورمزي مقدسي، أحد أبطال فيلم "اصطياد أشباح" الحائز على جائزة أفضل فيلم وثائقي في مهرجان برلين، إلى جانب مجد عيد، الذي شارك في فيلم "عنكبوت مقدس" الفائز بجائزة أفضل فيلم وثائقي في مهرجان كان. أما المشروع السينمائي المقبل للأخوين ناصر، فيتناول حكاية 3 نساء من غزة تتقاطع طرقهن في خضم واقع قاس، ويكشف عن نضالهن اليومي وتحدياتهن المستمرة من أجل البقاء، حيث يسلط الضوء على قوتهن وصمودهن في الدفاع عن أبسط حقوقهن في الحياة.


الجزيرة
منذ يوم واحد
- الجزيرة
'جورج لوكاس'.. سيد سرد الحكايات وقائد الثورة الرقمية في هوليود
في المدرسة الثانوية، كان المراهق 'جورج لوكاس' شغوفا بسباقات السيارات، ولم يكن حلمه يوما صناعة الأفلام، بل أن يصبح سائق سباقات محترفا، ولكن قبل تخرجه في المدرسة الثانوية بأيام قليلة، وبالتحديد في 12 يونيو/ حزيران 1962، أصابه -وهو ابن 18 عاما- حادث أثناء قيادته سيارته، حين صدمته سيارة قادمة من الجانب الأيسر، فانقلبت سيارته عدة مرات، وسقط منها قبل لحظات من اشتعال النيران فيها. نجا 'جورج' بأعجوبة، لكنه أصيب إصابات خطيرة، وقضى أسابيع في رحلة التعافي، وقد قادته تلك التجربة القاسية إلى حافة الموت، لكنها كانت نقطة التحول الكبرى في حياته، فأجبرته على إعادة النظر في مستقبله. كانت كسوره في الحادث إشارة واضحة على أنه لن يكون سائقا في سباقات السيارات، وفي مواجهة هذه الخسارة، كان عليه أن يجد شغفا وهدفا جديدين. شغف سرد الحكايات بالعدسة.. سينما السرعة خلال مكوث 'جورج لوكاس' في المنزل عاجزا عن الحركة، اتجه نحو التأمل الذاتي، حتى استهواه التصوير الفوتوغرافي والسينما، فالتحق بعد شفائه بكلية الفنون السينمائية بجامعة جنوب كاليفورنيا، فاكتشف شغفا جديدا، هو سرد القصص بعدسة الكاميرا. وضعه هذا التحول على مسار أعاد به تعريف السينما، وطرح موضوعات كبرى مثل التمرد والقدر جنبا إلى جنب مع التكنولوجيا على طريقته، من خلال أفلام رائدة، منها: '1138 تي إتش إكس' (THX 1138)، عام 1971. 'غرافيتي أمريكي' 1973(American Graffiti)، عام 1973. 'حرب النجوم' (Star Wars)، عام 1977. لكن تأثير السباقات لم يفارقه، فقد استوحى مشهد سباقات الكبسولات عالية السرعة من شغفه بالسيارات السريعة في مراهقته، وذلك في فيلم 'حرب النجوم1 – تهديد الشبح' (Star Wars: Episode I – The Phantom Menace)، الذي أُنتج عام 1999. وقد عُمل مونتاج معارك الفضاء الشهيرة في 'حرب النجوم' بإيقاع ووتيرة تشبه سباقات السيارات، مما يعكس ارتباط 'لوكاس' العميق بالسرعة والخطر، وكان ما بدا نكسة مأساوية هو الدافع الأهم إلى مسيرة مهنية، أحدثت ثورة في سرد القصص الحديث. رؤية غيرت جوهر سرد القصص بالتكنولوجيا يغلب الظن أن من يتصدى لكتابة تاريخ السينما الحديثة، سيكون حريصا على التأكيد بأن 'جورج لوكاس' ليس مبتكر سلسلة أفلام 'حرب النجوم' فحسب، وهي إحدى أكثر السلاسل السينمائية شهرة وتأثيرا في تاريخ السينما، بل إنه أيضا ذو رؤية ثاقبة، غيّرت جوهر سرد القصص بالتكنولوجيا. فقد أعادت أعماله صياغة السرد السينمائي بدمج الهياكل الأسطورية مع الأدوات الرقمية الثورية، معيدا بذلك تعريف كيفية سرد القصص ومشاهدتها وتجربتها. ولد 'لوكاس' في كاليفورنيا عام 1944، ولم تظهر في حياته المبكرة بوادر تشير إلى إمبراطورية الإعلام التي بناها لاحقا، لكنه انغمس بعد التحاقه بكلية الفنون الجميلة في جامعة جنوب كاليفورنيا، في عالم السينما الطليعية والأوروبية، وانبهر بإمكانيات المونتاج والتركيب البصري التجريدي، وسرد القصص غير الخطي. اقتبس 'لوكاس' فيلمه الروائي الأول '1138 تي إتش إكس' من فيلم طلابي قصير، وكان رؤية مأساوية لمستقبل مجرّد من الشخصية، ومنظّم تكنولوجيا. ومع أنه كان ضعيف الأداء تجاريا، فقد أبرز انشغالات 'لوكاس' الرئيسية، وتتمثل في العلاقة بين البشر والتكنولوجيا، وقد تكرر الموضوع نفسه في رواياته، وفي مساره ومنهجه السينمائي. حقق 'لوكاس' نقلة نوعية في عام 1977 مع فيلم 'حرب النجوم'، الذي أعيدت تسميته لاحقا بـ'حرب النجوم 4: أمل جديد' (Star Wars: Episode IV – A New Hope). بدا الفيلم في أول وهلة حنينا لمسلسل 'باك روجرز في القرن الـ25' (Buck Rogers in the 25th Century) الذي عُرض بين عامي 1979-1981، وفيلم 'الحصن الخفي' (The Hidden Fortress) للمخرج الياباني 'أكيرا كيرو ساوا' (1958). لكنه صنع تداخلا في العمل بين السرد العتيق والسرد المستقبلي، وكان تأثير كتاب 'البطل ذو ألف وجه' 1949 (The Hero with a Thousand Faces) للكاتب الأميركي جوزيف كامبل واضحا على العمل، حيث استخدم 'لوكاس' هيكل 'رحلة البطل' النموذجي التي كانت موضوع الكتاب ليقدم نموذجا قصصيا عالميا لأجيال من صانعي الأفلام. صنع فيلم 'حرب النجوم' ثورة في التكنولوجيا، بقدر ما كان ثورة في الشكل السردي، لكن 'لوكاس' لم يجد المؤثرات التي يحتاجها لأوبرا الفضاء، فبنى مؤثراته الخاصة. صناعة المؤثرات البصرية الرقمية.. ثورة قهرت هوليود في عام 1975، أسس 'لوكاس' شركة 'إندستريال لايت أند ماجيك' (ILM)، وهي شركة مؤثرات بصرية أرست معايير جديدة في الصناعة، وطورت تقنيات في التصوير بالتحكم الحركي والمنمنمات، ولاحقا التركيب الرقمي، مما حول خياله إلى مجرة تبعد عن أرضنا ملايين السنوات الضوئية إلى واقع ملموس. والأهم من ذلك، أن استثماره في الابتكار التقني مكّن الكاميرا نفسها من أن تصبح أداة لسرد القصص، تحلق في الفضاء، وتدخل في مشاهد معارك مستحيلة، وتتابع الشخصيات بطرق جديدة. ومع أن نجاحاته كانت هائلة، فلم يكن تأثيره الأكبر في مجال الإخراج السينمائي، بل في التصوير الرقمي لسينما المستقبل، قبل وقت طويل من استسلام هوليود له، وكانت أفلامه التمهيدية لسلسلة حرب النجوم (1999-2005) هي الأولى التي صنعت عبر خطوط الإنتاج الرقمية بالكامل. وقد تضمن فيلم 'حرب النجوم: الحلقة الأولى – تهديد الشبح' أكثر من 2000 لقطة مؤثرات بصرية، دمج في كثير منها شخصيات رقمية تماما، منها 'غار غار بينكس'، الشخصية الخيالية في ملحمة حرب النجوم، ومسلسل 'حرب النجوم: حروب المستنسخين'، وقد جسّدها صوتيا الممثل الصوتي 'أحمد بيست'، وكان الدور كوميديا، وحظي باستقبال سلبي من النقاد والمشاهدين، لكنه ظل مثالا مبكرا ومثيرا للجدل على تقنية التقاط الحركة. أما فيلم 'حرب النجوم 2 – هجوم المستنسخين' (Star Wars: Episode II – Attack of the Clones) عام 2002، فقد صوّره 'لوكاس' بكاميرات رقمية عالية الدقة، وهو خيار رائد أثار انتقادات وإعجابا، وشكّلت هذه القفزة نقطة تحولا حاسما من الأفلام التناظرية وبكرات الفيلم إلى صناعة الأفلام المعتمدة على بيانات تحفظ في ملفات رقمية. لم يكن التحول إلى الرقمي أمرا جماليا ولا ماديا لتوفير التكلفة، بل تغييرا تاما لطريقة سرد القصص، فقد أتاحت الكاميرات الرقمية لقطات أطول، ومرونة أكبر، واعتمادا أقل على مواد الأفلام باهظة الثمن. وأصبحت مرحلة ما بعد الإنتاج ساحة إبداعية، فمن الممكن بناء عوالم وشخصيات وحالات مزاجية كاملة باستخدام البرامج. كما أحدث دفع 'لوكاس' نحو المونتاج الرقمي تحولا في البنية السينمائية، فقد كان له دور كبير في تطوير نظام المونتاج غير الخطي (EditDroid)، الذي تطور إلى 'آفيد' (Avid)، وغيره من أنظمة المونتاج الرقمية. وبفضل ابتكاراته في أدوات المونتاج غير الخطية أصبح صانعو الأفلام قادرين على تجربة الإيقاع والتماسك المكاني بحرية أكبر، وأصبح المونتاج تكراريا وسلسا كالكتابة، فطُمس الخط الفاصل بين التخطيط والاكتشاف. 'إنديانا جونز'.. ظاهرة تتجاوز الترفيه إلى التثقيف تعاون 'جورج لوكاس' مع صديقه المخرج الأمريكي الأيقوني 'ستيفن سبيلبيرغ' في فيلم 'إنديانا جونز' (Indiana Jones)، كاشفا بذلك جانبا آخر من عبقريته الإبداعية، وهو قدرته على إعادة تصور الأنواع السينمائية، التي تحمل ذكريات الماضي لجيل جديد. وقد ولدت سلسلة أفلام 'إنديانا جونز' في رأسه، بسبب شغفه بمسلسلات المغامرات في الثلاثينيات، فأصبحت سلسلة أفلام خالدة، تجمع سحر المدرسة القديمة، ورواية القصص السينمائية المتطورة. ابتكر 'لوكاس' شخصية 'إنديانا جونز' أول مرة باسم 'إنديانا سميث'، وكان 'حرب النجوم' أصبح ظاهرة عالمية عام 1977، فانجذب 'سبيلبيرغ' إلى الفكرة فورا، وكان يتطلع إلى إخراج فيلم على غرار 'جيمس بوند'، ونتج عن ذلك فيلم 'سارقو التابوت المفقود' (Raiders of the Lost Ark) عام 1981، الذي يمزج بين الحركة والألغاز القديمة، وعالم آثار مفعم بالحيوية، له بوصلة أخلاقية ناقدة، لكنها جذابة. ومع أن 'سبيلبيرغ' هو من أخرج الأفلام، فإن القصة كانت من بنات أفكار 'لوكاس'، فقد غرس في السلسلة أساطير تاريخية، ومواقع خلابة، وإيقاعا سرديا أبقى الجمهور منجذبا منذ المشهد الافتتاحي. والأهم من ذلك، أن الفيلم أظهر فهمه العميق لنماذج الأبطال العتيقة. ومثل 'لوك سكاي ووكر'، يعد 'إنديانا جونز' بطلا مترددا، وله علاقة معقدة بالسلطة والتاريخ والأخلاق. ومن الناحية التقنية، استخدم 'لوكاس' موارد شركة 'إندستريال لايت آند ماجيك'، لتوسيع آفاق سينما الحركة في أوائل الثمانينيات. ولم يكتفِ في فيلم 'إنديانا جونز' بالترفيه؛ بل ثقّف الجمهور، فقد أدخل علم الآثار والحضارات القديمة إلى الثقافة الشعبية، وأعاد إحياء اهتمام الجمهور بالتاريخ والأساطير، وتثبت مشاركته في السلسلة أنه بجانب الخيال العلمي كانت له قدرة فريدة على إحياء أشكال السرد القديمة وإعادة توظيفها، من مسلسلات المغامرات إلى الملاحم القديمة، وتحويلها إلى قصص ناجحة. السيطرة والصراع مع النظام القديم لم تقتصر ابتكارات 'لوكاس' على الأجهزة، بل أعاد تصور الشكل السردي بصفته وحدة نمطية وقابلة للتوسع، فهو من قدم بسلسلة 'حرب النجوم' عالم القصص بالوسائط، الذي يستطيع به المبدع سرد القصة بالأفلام والكتب وألعاب الفيديو والمسلسلات التلفزيونية، ويضيف إليها شخوصا وأماكن وأحداثا، لأنه لم يجعل قصته عالما مغلقا، بل عالما حيّا يتسع لشخصيات ووجهات نظر وجداول زمنية متعددة. وقد أحدث هذا النهج ثورة في تفاعل الجمهور، فلم يعد المشاهد يستهلك القصص فحسب، بل يسكنها، وفتح قرار 'لوكاس' بترخيص الشخصيات والأماكن لمواد، عالما ممتدا أمام سلاسل أفلام مثل 'مارفل' و'هاري بوتر' و'سيد الخواتم'، للتفكير فيما وراء السرديات المنفردة. واشتهرت 'الإصدارات الخاصة' التي أصدرها من ثلاثية 'حرب النجوم الأصلية' أواخر التسعينيات، بتعديل مشاهد رئيسية، باستخدام تقنية الصور المولّدة بالحاسوب، فأثار جدلا حول النية الفنية، والتأليف، وديمومة النص السينمائي. وقد دشن بذلك حقبة جديدة ترى أن الفيلم كائن قابل للتغيير، قد يُعاد تشكيله حتى بعد الإصدار، وتُراجع إصداراته الأولى، وتعدل لتصبح أجزاء سابقة -في زمنها الدرامي- لما قد صُنع وعُرض. استقلال عن حيتان هوليود ورقيبها لم تكن الثورة السردية والتقنية التي قادها 'لوكاس' تدور في الفراغ، بل في هوليود التي يعيش كبارها ويبرحون ويستمرون بالنظام الإنتاجي القائم، وكانت تحت أعين سلطة تحب السينما ليلا وتراقبها صباحا، وإن أنكرت. لذلك فقد احتُفي بالرجل وانتقد على حد سواء، بسبب ابتكاره منظومة إنتاجية متكاملة و متجاوزة، فلم يعد بحاجة إلى حيتان هوليود ولا سلطتها، وانضم إلى المنتقدين الحانقين عليه نقاد آخرون، رأوا أن اعتماده التام على تقنية الصور المولّدة بالحاسوب أضعف تطور الشخصيات. كان 'لوكاس' رائدا على المستوى الفني في سرد القصص الملحمية المستوحاة من الأساطير في الأفلام الحديثة، كما استوحى فيلم 'حرب النجوم' من رحلة البطل لـ'جوزيف كامبل'، فابتكر شخصيات نموذجية ومواضيع أخلاقية، لاقت صدى واسعا في شتى الثقافات، وطور عوالم خيالية متكاملة بلغاتها وتاريخها وجمالياتها (مثل: الغيداي، والسيث، والقوة)، وهو ما أرسى نموذجا لسرد السلاسل الفيلمية الجديدة وبناء الأكوان. أما إنتاجيا، فقد تحرر من سيطرة الأستوديوهات بتمويله الذاتي لأفلامه عبر شركته 'لوكاس فيلم'، واحتفظ بحقوق الترويج لسلسلة 'حرب النجوم'، وهي خطوة تاريخية، كما أنشأ 'لوكاس آرتس' للألعاب، و'سكاي ووكر ساوند'، و'لوكاس فيلم أنيميشن'. فالتحكم المستقل في الإنتاج والملكية الفكرية قد يكون أقوى من صفقات الأستوديوهات، وكان لا بد للثائر الجديد أن يواجه قوى السوق القديمة، فاستسلمت بعد أن حسم الجمهور المعركة في شباك التذاكر. شجاعة وضعت حجر أساس الثورة الرقمية بعد النقد والهجوم، اعترف كبار صناع السينما في العالم أنه لولا شجاعة 'جورج لوكاس'، ومغامراته الأولى في الإنتاج لاستغرق التصوير السينمائي الرقمي وقتا أطول ليحظى بقبول صناع السينما. ولعل النجاح الكبير في سلاسل الأفلام الرقمية، يعود الفضل فيه للبنية التحتية الرقمية التي أسهم 'جورج لوكاس' في وضع حجرها الأساس في عالم السينما، ومن تلك السلاسل: 'أفاتار' (Avatar) للمخرج 'جيمس كاميرون'. 'سيد الخواتم' (The Lord of Rings) للمخرج 'بيتر جاكسون'. 'المصفوفة' (The Matrix) للأخوين 'واتشوسكي'. لقد غير 'جورج لوكاس' طريقة صناعة الأفلام، وكيفية سرد القصص، وكيفية تفاعل الجمهور مع العوالم السردية. ولم يقتصر اعتماده الأدوات الرقمية على العرض المذهل فحسب، بل امتد إلى منح المبدعين حرية تخيل المستحيل، وإعادة صياغة الأساطير بما يتناسب مع العصر الحديث.


الجزيرة
منذ 4 أيام
- الجزيرة
جائزتان لـ"شكرا لأنك تحلم معنا" للفلسطينية ليلى عباس على هامش مهرجان كان
حصد الفيلم الفلسطيني "شكرا لأنك تحلم معنا" للمخرجة ليلى عباس جائزتي أفضل فيلم وأفضل مخرجة ضمن جوائز النقاد للسينما العربية، التي تُمنح سنويا على هامش مهرجان كان السينمائي الدولي. جاء هذا التتويج بناء على تصويت لجنة تحكيم ضمت 281 ناقدا سينمائيا من مختلف أنحاء العالم. "شكرا لأنك تحلم معنا" يحكي قصة شقيقتين تسعيان لإدارة ميراثهما بعيدا عن شقيقهما، مستعرضا قضايا المرأة في سياق درامي شائق. وتسلم الجوائز منتجا العمل شاهيناز العقاد وحنا عطا الله، اللذان عبّرا عن سعادتهما بهذا التقدير الدولي. وذلك بالإضافة إلى الإشادات التي حصل عليها من عرضه خلال الفترة الماضية في العديد من الدول والمشاركة في عدد من المهرجانات. العقاد أكدت أن الفيلم يقدم قصة شخصية عميقة تسلط الضوء على المعاناة التي تواجهها المرأة، مشيرة إلى أن هذا هو دور السينما في تقديم مثل هذه النقاشات بلغة تصل إلى العالم أجمع. يُذكر أن الفيلم يُعد آخر فيلم فلسطيني تم تصويره في الضفة الغربية، ويُعتبر إنجازا جديدا للسينما الفلسطينية على الساحة الدولية. وكان الفيلم الفلسطيني "شكرا لأنك تحلم معنا" -الحاصل على جائزة الجونة الذهبية كأفضل فيلم عربي روائي طويل في الدورة 7 لمهرجان الجونة السينمائي 2024- تصدر قائمة الترشيحات في فئة أفضل فيلم، بعد منافسة مع الفيلم المغربي "في حب تودا" للمخرج نبيل عيوش، وفيلم "البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو" للمخرج خالد منصور من مصر، والفيلم التونسي "عائشة" لمهدي برصاوي، إلى جانب الفيلم السوري "أثر الأشباح" لجوناثان ميلي.