
أجساد ضاوية وقلوب مقاتلة.. عندما تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها
جو 24 :
بين الجسد والقلب والروح تناسب عكسي في غزة، فالنار واللهب والجوع تملأ الأجسام هشاشة وانحناء، تمتص نضرة الجسم، وتحيله أكواما متراكبة من العظام الناحلة، أما القلوب فيزيدها الألم قوة وعنفوانا وتعلقا بالشهادة. هكذا تنطق الوجوه الشاحبة، وتفتر الشفاه المتقلّصة إلا عن بسمة تغالب شبح الجوع الرهيب.
هنا غزة، يبيت مئات الآلاف ويظلون على الطوى في انتظار مأكل كريم، تقف دونه سطوة الاحتلال ولهب صواريخه، وخذلان ذوي القربى عربيا وإسلاميا.
رياحين تحت نار المجاعة
لم تعد المجاعة في غزة شرَّ غائب منتظر، بل أصبحت الشبح المرعب الذي يجول بين الخيام، ويطبع ببصماته المؤلمة على الأمعاء الخاوية، ويمتص عصارة سنوات من خِصب قليل تحت حصار سيئ.
أكل الجوع ما بتلك الأجسام الصغيرة من نضارة، وأنضَب أثداء الأمهات اللائي طالما أرضعن أبناءهن عصارة سحرية من الصمود والمقاومة، فلم تعد تلك الأثداء الشاحبة تَبِضُّ بمِصاص لطفل رضيع مُنعت عنه كل أسباب الحياة، وذوَى جسمه الضاوي كما يذوي الغصن الرطيب تحت لافحات السَّموم.
وحده الجلد المتغضّن حدّ اليبس يحنو على عظام بالية، ويرسم الصورة البشعة التي تقرع بعنفها غفوة الشعوب والأنظمة التي يفترض أن تنهض دعما لغزة وفكا للحصار، وإنهاء للحرب التي أكلت الأرض وما عليها، ثم أكلت من عليها.
أبواب الموت
للموت اليوم ألف باب، وإنّ منها لما يهبط من السماء لهبًا لا رحمةَ فيه، وغضبا إسرائيليا على أبرياء أرادوا أن يعيشوا بكرامة في أرض يرون أنهم ألصق بها من العنف والوحشية بقلوب من يصبّون عليهم نار الموت كل حين.
للجوع في غزة أكثر من مليون قصة، تتعدد الألسنة، وتتكاثر الحالات؛ دعك من شيخ يأكل جسمَه السكري والسرطان، ثم يأتي الجوع ليأكل ما بقي من ركام السنين، ومن طفل ضنّ عليه ثدي أمه التي تُكاتم لوعة الجوع، وشابٍّ يعصب على بطنه مقاوما شبح الاحتلال وشبح الجوع في الآن ذاته.
لم يعد اللهب القاتل الوحيد في غزة، بل يُتوقع أن يتراجع إلى الرتبة الثانية إذا تواصل الحصار المؤلم، واستمر شريان الحياة في التوقف بعد أن كان -قبل استئناف الحرب- يقطر بتباعدٍ وضآلة عبر الشاحنات التي ترد بين الحين والآخر من المعابر إلى غزة.
الجوع اليوم هو القاتل الأكبر، وعما قريب ستحدُث -لا قدر الله- واحدة من أبشع المجاعات التي عرفها العالم في قرنيه الأخيرين، خصوصا أنه لا أمل يلوح في الأفق، ولا سند يحنو على الأجساد الضاوية، ولم يعد في الأرض ما يَنبت ولا في الضرع ما يدِرّ.
من ينقذ الأمعاء المتكلسة؟
تأكل المجاعة في غزة أجساد أكثر من 876 ألف إنسان لم يعرف للراحة ولا الأمن ولا استمرار النظام الغذائي طعما منذ أكثر من سنة ونصف، كما ينخر شبح المجاعة بوحشية أيضا أكثر من مليون طفل اجتمع عليهم الجوع والخوف والاضطراب النفسي جراء موج اللهب المستمر منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
على أن من بين هذا المليون نحو 60 ألف طفل أصبحوا في وضعية كارثية أو في عداد الأموات تقريبا بسبب سوء التغذية الحاد، فلم تعد أجسادهم غير ركام من العظام الصغيرة التي يكسوها جِلد امتصّ الجوعُ نضارته وروحه وتركه شنًّا باليا، شاهدا على أبشع جرائم العصر وأطول نومات الضمير العالمي.
عالم من البدانة والوجبات السريعة
في حين يمتص الجوع ما بقي من أجساد الغزيين مما لم تأكله نار القصف، يعيش العالم بشكل عام والعالم العربي فورةً في البدانة، وصرفا غير مسبوق على الوجبات السريعة، تُظهره فواتير متعددة لأرباح المطاعم وسوق الأغذية أيام الأعياد والمناسبات وغيرها، وكأن الدنيا قد قُسّمت عالمين بينهما سور، باطنه فيه عذاب أهل غزة وجوعهم القاتل ومأساتهم المستمرة، وظاهره من قبله فورة في الرفاهية والمتعة واستمرار رتيب لحياة لا تشكو مراكبها عِوجًا ولا أمتًا.
وتُقدر مصادر متعددة ما ينفقه العالم العربي سنويا على الوجبات السريعة وفي الأفراح والأعياد والمناسبات المختلفة، بعشرات المليارات من الدولارات، دون أن يكون لأهل غزة من ذلك أي نصيب سوى وجبات سريعة مستمرة من الموت الزؤام واللهب الفتاك والجوع ذي الأنياب المتوحشة.
ولقد أبيت على الطوى وأظله
لا صوت في غزة ولا صِيت يعلو على الصمود، يهدم اللهبُ والجوع البنايات والأجساد، غير أنه لا يهدم الأرواح المتوثبة كالخيل العتاق؛ وحدها الأجساد تذوي، كما يذوب الشمع الذي أضاء للعالم العربي والإسلامي بل وللعالم كله فجَّين عميقين أحدهما عن أنصع ما تكون المقاومة، وأعلى ما يكون التصدي للاحتلال، والآخر عن أفظع ما يرسم الجوع وأسوأ ما يكون الخذلان.
وبين الفجّين العميقين، يواصل أهل غزة يوميات من الموت والشهادة والجوع، ولسان حالهم يتردد بين ثلاث لا تتخلف:
ولي وطن آليت ألا أبيعه … وأن لا أرى غيري له الدهر مالكا
فإذا ما عض الجوع بأنيابه العُصل، ترنم الصوت المبحوح في الجسد الضاوي:
ولقد أبيت على الطوى وأظله … حتى أنال به كريم المأكل
ثم كانت بسمات الشهادة هتافا إلى الخلود "وعجلت إليك رب لترضى".
المصدر : الجزيرة
ا
تابعو الأردن 24 على
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


خبرني
منذ 26 دقائق
- خبرني
"الأحزاب الوسطية" تطّلع على واقع مستشفيات البشير وتؤكد دعمها
خبرني - نفذت كتلة اتحاد الأحزاب الوسطية النيابية، برئاسة رئيسها النائب الكابتن زهير محمد الخشمان، زيارة ميدانية إلى مستشفيات البشير، للاطلاع على واقعها الصحي وأبرز إنجازاتها والتحديات التي تواجهها، مؤكدة أن "البشير" يمثل صرحًا طبيًا وطنيًا يقدم خدمات حيوية لملايين الأردنيين والمقيمين. وأكد الخشمان أن مستشفيات البشير، التي تستقبل ما يقارب 1.8 مليون مريض سنويًا، تُعد من أهم المؤسسات الصحية في المملكة، داعيًا إلى دعمها وتعزيز قدراتها من خلال تحرك تشريعي منسق مع مجلس النواب والجهات المعنية، لتجاوز التحديات التي تعيق تطورها وتوسعتها. وشارك في الزيارة عدد من أعضاء الكتلة، منهم النواب: أيمن بدادوة، جهاد عليوي، سليمان السعود، وعبدالرحمن العويشة، حيث أثنوا على الجهود المبذولة من كوادر المستشفى رغم الضغط الكبير، مشيرين إلى ضرورة سد النقص في الكوادر الطبية، وتحديث البنية التحتية، وتوفير مواقف سيارات، وتطوير الأجهزة والمعدات الطبية. واستعرض مدير إدارة مستشفيات البشير الدكتور علي العبداللات أبرز الإنجازات، منها توسعة مستشفى الجراحات التخصصية، ومركز سميح دروزة لعلاج الأورام، وتوسعة أقسام الطب النووي والأشعة العلاجية، وافتتاح مركز التصلب اللويحي. وأشار إلى أن مستشفيات البشير تضم 5 مستشفيات بطاقة 1200 سرير، ويعمل فيها نحو 6500 موظف، بينهم 4500 من الكوادر الصحية، موضحًا أن المستشفى استقبل 1.8 مليون مراجع في 2024، وأجرى 51 ألف عملية جراحية، و3800 عملية قسطرة، و380 جراحة قلب. وأكد العبداللات أن "البشير" يخدم جميع محافظات المملكة، وأن وزارة الصحة تعمل على تعزيز الكوادر من خلال برامج الإقامة والتعليم المستمر، مع دور مهم لمراكز الرعاية الصحية الأولية في تخفيف الضغط على المستشفيات الكبرى. وشدد أعضاء الكتلة، خلال لقائهم مديري المستشفيات والأقسام، على أهمية التنسيق المشترك لتحسين جودة الخدمات الصحية، مؤكدين أن الكتلة ستواصل متابعتها لهذا الملف الحيوي، بما ينعكس إيجابًا على المواطنين والمقيمين في مختلف أنحاء المملكة.

الدستور
منذ 26 دقائق
- الدستور
تعطيل مستشفيات الخدمات الطبية 25 الشهر الحالي
عمان - أعلنت مديرية الخدمات الطبية الملكية، بأن يوم الأحد الموافق 25/ 5/ 2025 عطلة رسمية لكافة المستشفيات والمراكز الطبية التابعة لها، بمناسبة عيد استقلال المملكة. وأكدت المديرية أن مستشفياتها ستستمر باستقبال كافة المرضى في أقسام الطوارئ على مدار الـ24 ساعة. --(بترا)

سرايا الإخبارية
منذ 27 دقائق
- سرايا الإخبارية
الخدمات الطبية: عطلة رسمية في عيد الاستقلال
سرايا - أعلنت مديرية الخدمات الطبية الملكية، بأن يوم الأحد الموافق 25/ 5/ 2025 عطلة رسمية لكافة المستشفيات والمراكز الطبية التابعة لها، بمناسبة عيد استقلال المملكة. وأكدت المديرية أن مستشفياتها ستستمر باستقبال كافة المرضى في أقسام الطوارئ على مدار الـ24 ساعة.