
لماذا تعجز إسرائيل عن الانتصار حتى الآن؟
التفوق الساحق
منذ اللحظة الأولى، قررت دولة الاحتلال طي صفحة عملية طوفان الأقصى بكل تأثيراتها السلبية عليها والإيجابية لأعدائها، ضمن سياسة "كيّ الوعي" وفرض نسيان ما حصل يومها من انتكاسة كبيرة لها على كافة المستويات.
كما ترسخت القناعة بالخطر الوجودي على دولة الاحتلال، ما فرض عليها تغيير تعاملها مع التهديدات التي تواجهها في المنطقة، إضافة إلى الرغبة في استعادة ثقة الجبهة الداخلية بالدولة والمؤسسة العسكرية والحكومة، فضلًا عن كون ما حصل فرصة غير مسبوقة لفرض وقائع ومسارات جديدة على المنطقة في إطار "تغيير خرائط الشرق الأوسط"، والتي كانت خطة معدة مسبقًا وُضعت في إطار التنفيذ.
تفاعل كل ما سبق ليولّد "إسرائيل" جديدة، في ذروة العدوان والوحشية والدموية، بنظرية أمنية مختلفة، لا تنتظر حصول التهديد لتتعامل معه احتواءً أو إدارةً أو إفناءً، وإنما تسعى لمنع نشوئه، ومواجهة هذا الاحتمال/ الإمكانية بالقوة الغاشمة وبأقصى دموية ممكنة، بشكل متعمد، كبديل عن معادلة الردع التي تداعت يوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023.
تبلور ذلك إبادةً جماعيةً في غزة، ذهب ضحيتها عشرات آلاف الشهداء، وأكثر منهم من الجرحى والمصابين، ونزوح معظم سكان القطاع، وتدمير شبه كامل لمؤسساته وبنيته التحتية، وخسائر كبيرة للمقاومة الفلسطينية في العتاد والرجال، وفي القطاعات العسكرية والسياسية والحكومية.
وسعيًا للضغط بالقوة القصوى على المقاومة في المفاوضات، فرض الاحتلال حصارًا مطبقًا، وتجويعًا غير مسبوق، وتهجيرًا مستمرًّا لسكان القطاع؛ تمهيدًا لمشروع تهجير شامل إن استطاع. كل ذلك بغطاء أميركي كامل ساهم في قدرة "إسرائيل" على التعامل مع الضغوط الدولية.
وفي لبنان، شنّت دولة الاحتلال حربًا ساحقة على حزب الله؛ بغية تدميره واجتثاثه، من خلال عمليات "البيجر" والاتصالات، ثم سلسلة الاغتيالات التي طالت قيادات عسكرية وأمنية وسياسية وازنة، على رأسها أمينه العام السابق حسن نصر الله، بكل ما يمثله من ثقل ورمزية وقدرات قيادية.
وترافق ذلك مع مئات الغارات التي استهدفت أسلحته وصواريخه الإستراتيجية، وتبعها توقيع الاتفاق المجحف لوقف إطلاق النار، وإطلاق يد "إسرائيل" في لبنان قصفًا وتوغّلًا واغتيالًا، مع ضغط الجبهة الداخلية اللبنانية لتسليم سلاح الحزب. كما لا يمكن تجاهل آثار تغيير النظام في سوريا على خطوط إمداد الحزب وقدرته على التعافي.
وفي إيران، وجّهت "إسرائيل" لها خلال "حرب الـ12 يومًا" ضربات موجعة، بالاغتيالات، واستباحة الأجواء، وتدمير منظومات الدفاع الجوي، وصولًا لاستهداف المنشآت النووية بالقصف الأميركي المنسق معها.
كما استهدفت قوات الاحتلال اليمن مرات عديدة، مُوقعة خسائر فادحة في ميناء الحُديدة ذي الأهمية الإستراتيجية، فضلًا عن غارات جوية مستمرة، ومحاولات الاغتيال.
وفي سوريا، ورغم غياب أي تهديد حقيقي لها، أعلنت "إسرائيل" إلغاء اتفاق فض الاشتباك لعام 1974 من جانب واحد، واحتلت مساحات جديدة، وسيطرت على مصادر المياه، وقصفت قرب القصر الرئاسي، وهددت باغتيال الرئيس أحمد الشرع، وأعلنت جهارًا دعم الأقليات، وهددت بتقسيم البلاد، وفرضت واقعًا جديدًا في السويداء تفاوض دمشق بخصوصه، فضلًا عن تدمير معظم الأسلحة وقدرات الدولة السورية.
لا انتصارَ ساحقًا
يعطي كل ما سبق انطباعًا بأن "إسرائيل" هزمت كل أعدائها، بل وخصومها المحتملين مستقبلًا، وحقّقت الانتصار الكامل الذي طالما وعد به نتنياهو، وأنها أعادت فعلًا رسم خرائط المنطقة بالقوة والنار، على ما تبجّح به الأخير.
والحقيقة أن هذا ليس مجرد انطباع خاطئ وحسب، بل هو إيحاء تعمل على ترسيخه البروباغندا "الإسرائيلية"، لتخدم أهدافًا داخلية وخارجية على حد سواء.
في غزة، بؤرة الحرب الرئيسة والجبهة التي أذلّت الاحتلال يوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، وهزّت دعائم نظريته الأمنية وتفوّقه الاستخباري والعسكري، في تلك الجبهة المحاصَرة تمامًا والمفتقدة للدعم الخارجي بالكامل، تكيّفت المقاومة بقيادة كتائب القسام بنيويًا ومؤسسيًا وميدانيًا بحيث ما زالت تُنازل الاحتلال رغم ضخامة الخسائر التي تعرضت لها.
أثبتت الكتائب قدرتها على استنزاف العدو وإيقاع خسائر كبيرة فيه، بل وطوّرت عملها لمحاولة أسر جنود إضافيين في المعركة. وما زالت المقاومة ممسكة بورقة الأسرى، والتي هي ورقتها الأقوى في مسار التفاوض، الذي يؤكد بدوره أنها ما زالت عصية على الهزيمة والانْسحاق، بما يفرض على الطرف الآخر التفاوض معها حتى اللحظة.
وفي لبنان، ورغم الخسائر صعبة التعويض، لم ينكسر حزب الله ولم يستسلم، ورغم مرونته الكبيرة- والمستغرَبة- في موضوع السلاح جنوب نهر الليطاني، حيث تتحدث التقارير عن مصادرة معظم سلاحه هناك، فإنه بعيد جدًّا عن فكرة تسليم السلاح، وما زال الرئيس جوزيف عون مصرًّا على سيناريو الحوار الداخلي بهذا الخصوص وليس المواجهة.
كما ارتفعت وتيرة تصريحات الحزب مؤخرًا، بما في ذلك تصريح أمينه العام نعيم قاسم، بأنه يتعافى ورمّم الكثير من خسائره، وبات "مستعدًّا للمواجهة" إن اضطر لها.
كما أن إيران استوعبت الصدمة الأولى وخاضت حرب استنزاف لاحقة، مستهدفة- كما كشفت تقارير لاحقة- الجبهة الداخلية "الإسرائيلية"، وبعض المواقع الحساسة بدقة فاقت التوقعات.
كما فرضت صواريخها معادلات ردع جديدة دفعت نتنياهو للدعوة إلى وقف إطلاق النار بعد الضربة الأميركية للمنشآت النووية، وهذا- من البديهي- ليس موقف مَن حقق انتصارًا كاسحًا.
كما أنه ليس من المعروف حتى اللحظة مدى الضرر الذي تعرض له المشروع النووي، بل تشير معظم التقديرات إلى عدم تدميره بالكامل، ما يعني إمكانية استعادته النشاط، وبشكل أسرع ربما، إن توفرت إرادة سياسية لذلك.
ولعل اليمن أقل الجبهات التي تعرضت لضربات "إسرائيلية" كبيرة، وهي- للمفارقة- الجبهة التي ما زالت على نشاطها وفاعليتها، مع سقف خطاب أعلى بكثير اليوم، وبوعيد بتصعيد الاشتباك مع الاحتلال؛ بسبب حرب التجويع لأهل غزة.
والخلاصة..
يتيح التفوق العسكري والاستخباري الكبير لدولة الاحتلال، والذي بنته لها الولايات المتحدة الأميركية على مدى عقود، وانخراط الأخيرة بشكل واسع في الحرب دعمًا وغطاءً ومشاركة فعلية (كما حصل في إيران وجبهات أخرى)، يتيح لها توجيه ضربات قاسية لأعدائها، بما يشمل الدمار الكبير، والاغتيالات الوازنة، والاختراقات العميقة، وبما يتسبب بخسائر بشرية كبيرة جدًّا، ولا سيما في غزة.
لكن كل ذلك لم يمكّنها من تحقيق الانتصار، ولا حتى ادعائه.
تحاول دولة الاحتلال أن تُصوّر الخسائر الكبيرة التي تسببت بها على أنها النتيجة النهائية للحرب، ويتساوق معها البعض أحيانًا، إما جهلًا بالوقائع، أو تحت ضغط الأزمة الإنسانية الخانقة، أو بسبب أجندات سياسية معروفة.
لكن ذلك غير دقيق بالمرة، ليس تقليلًا من شأن الإنسان، شهيدًا وأسيرًا ومصابًا ومهجّرًا ومجوَّعًا، ولا تقزيمًا من قدرات "إسرائيل" وأثر الدعم الذي تحظى به، ولكن لأن ذلك جزء من تقييم المعركة/الحرب، وليس نتيجتها النهائية.
لقد فصّلنا في مقالات سابقة العوامل التي تُقيّم نتائج الحروب على أساسها، والتي منها بالتأكيد الخسائر البشرية والمادية، ولكنها ليست الوحيدة، وفي أحيانٍ كثيرة ليست الأولى، فكم من دولة قدّمت خسائر أكبر بكثير من عدوّها ولكن انتصرت عليه في النهاية.
فإذا كان ذلك حال الدول، فحركات التحرر الوطني ومقاومة الاحتلال أولى وأجدر. فضلًا عن أن المبالغة في الوحشية مع المدنيين مقصودة لذاتها من قبل "إسرائيل"، ما يدفع للحذر من الوقوع في فخ التقييم الذي تنصبه.
كل ذلك في حال وُضعت الحرب أوزارها واتضحت نتائجها بشكل كامل، فما بالنا والحرب مستمرة، وهي- بالمعنى الأشمل- طويلة الأمد، قد تقف مؤقتًا، لكن مسارها ومفاعيلها مرشحة دائمًا للانفجار والتوسع، ولا سيما في ظل النوايا المعلنة لنتنياهو وشركائه؟
والإشارة الأخيرة، أنه كلما أظهر طرف من الأطراف مرونة كبيرة وسعيًا ملحوظًا لوقف الحرب، تَصَلَّب الموقف "الإسرائيلي" أكثر، وبات أكثر عدوانية ودموية. وقد تكرر الأمر في غزة، ولبنان، وسوريا، وإيران.
أخيرًا، ما زالت نتائج عملية السابع من أكتوبر/ تشرين الأول قائمة، لم تُمحَ ولم تُنسَ، وسيُبنى عليها.
وأما تفاعلاتها ومآلاتها طويلة الأمد، فما زالت لم تتبلور جميعها بشكل واضح وكامل.
قد نكون اليوم أمام نصف الساعة الأخير من الجولة الحالية من الحرب، وقد نكون أمام جولة ممتدة، لذلك فالمنطق المُجدي تركيزُ كافة الجهود لتعزيز أوراق القوة، وزيادة الضغط على "إسرائيل"، وليس العكس.
فالمطلوب حاليًّا الصمود وتعزيز الموقف، وإلّا تحوّلت الأزمة الإنسانية التي تسبب بها الاحتلال إلى انتصار إستراتيجي له، وهذا ما ينبغي منعه.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


معا الاخبارية
منذ 3 ساعات
- معا الاخبارية
مسؤولون عسكريون سابقون يصدرون تحذيرا غير عادي: "اسرائيل على حافة الهزيمة"
بيت لحم معا- تصاعدت الضغوط لإنهاء الحرب خطوةً أخرى مساء الأحد حيث أطلق معظم كبار مسؤولي الأمن السابقين حملةً تناولت وضع حرب غزة، ودعوا إلى وقفها فورًا. وتضم هذه المجموعة رؤساء أجهزة أمنية على مدار عقود سابقة، منهم رؤساء أركان، ومفوضون، ورؤساء الشاباك، ورؤساء الموساد، والاستخبارات العسكرية. وأكّدوا أن إسرائيل باتت "على شفا الهزيمة"، وأنه كان من الممكن إنهاء الحرب "بالأمس"، وإعادة الرهائن في قطاع غزة، دفعةً واحدة. ويظهر أعضاء المجموعة في مقطع فيديو مدته أكثر من ثلاث دقائق تم تصويره في الأيام الأخيرة خلال اجتماع عقده مسؤولون كبار سابقون، حيث يعرضون الحجج من أجل وقف فوري للحرب. في الفيديو، قال رؤساء المؤسسة العسكرية السابقون : " لدينا أكثر من ألف عام من الخبرة هنا. من واجبنا أن نقف ونقول ما يجب أن نقوله: نحن على شفا الهزيمة". وأضافوا: "بدأت هذه الحرب حربًا عادلة. كانت حربًا دفاعية. ولكن عندما حققنا جميع الأهداف العسكرية. عندما حققنا نصرًا عسكريًا باهرًا على جميع أعدائنا، لم تعد هذه الحرب عادلة، وهي تقود دولة إسرائيل إلى فقدان أمنها وحريتها".


معا الاخبارية
منذ 3 ساعات
- معا الاخبارية
عمدة أثينا: إسرائيل ترتكب إبادة جماعية في غزة
بيت لحم معا- اشتبك عمدة العاصمة اليونانية أثينا لفظيا مع السفير الإسرائيلي لدى اليونان نعوم كاتز، بعد أن اتهم الأخير سلطات بلدية المدينة بعدم القيام بما يكفي لتنظيف الكتابة على الجدران المعادية للسامية. وقال هارث دوكاس في منشور على وسائل التواصل الاجتماعي "من المروع أن يركز السفير فقط على الكتابة على الجدران (التي من الواضح أنها تتم إزالتها) في وقت تحدث فيه إبادة جماعية غير مسبوقة في غزة". "تحترم أثينا، عاصمة بلد ديمقراطي، زوارها احتراما كاملا وتدعم حق مواطنيها في حرية التعبير. وبصفتنا السلطة البلدية في المدينة، أثبتنا معارضتنا النشطة للعنف والعنصرية. واضاف " نحن لا نقبل الدروس في الديمقراطية من أولئك الذين يقتلون المدنيين والأطفال الذين ينتظرون في طابور للحصول على المساعدات الغذائية، من أولئك الذين يقودون عشرات الأشخاص إلى الموت كل يوم في غزة، من خلال القنابل والجوع والعطش.


معا الاخبارية
منذ 3 ساعات
- معا الاخبارية
إيران تعلن تأسيس "مجلس الدفاع الوطني"
بيت لحم- معا- صادق المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني على تأسيس"مجلس الدفاع الوطني. وقالت وكالة "إرنا" للأنباء، إنه "وفقا لتقرير صادر عن أمانة المجلس الأعلى للأمن القومي يوم الأحد، يراجع مجلس الدفاع الخطط الدفاعية ويعزز قدرات القوات المسلحة بشكل مركزي". وأوضحت أن رئيس الجمهورية وهو من يرأس المجلس، ويضم قادة القوات المسلحة، وقياداتها، وبعض الوزارات ذات الصلة. ونقل موقع "إيران إنترناشيونال"عن تقرير لوكالة "تسنيم" أن هذا المجلس يضم كلا من رؤساء السلطات الثلاث، وممثلين عن المرشد الإيراني، علي خامنئي، في المجلس الأعلى للأمن القومي، ووزير الاستخبارات، ورئيس الأركان العامة للقوات المسلحة، بالإضافة إلى قادة من الحرس الثوري والجيش ومقر "خاتم الأنبياء". وتابعت أن تأسيس هذا المجلس يأتي استنادا إلى المادة 176 من الدستور الإيراني، التي تمنح المجلس الأعلى للأمن القومي صلاحية تشكيل مجالس فرعية، مثل مجلس الدفاع ومجلس أمن البلاد، بما يتناسب مع مهامه.