
رسالة في الظلام: كيف كسرت RTVE جدار الصمت الأوروبي عن غزة؟
إيطاليا تلغراف
عبد القادر الفرساوي
في مساء كان يفترض أن يكون مخصصا للأغاني والبهجة، وفي لحظة كان الجمهور الأوروبي ينتظر فيها استعراض الألوان والأنغام، اختارت شاشة RTVE الإسبانية أن تفتح جرحا كان يراد له أن يندمل بالصمت. لم تبث القناة نشيدا ولا لحنا، بل بثّت لحظة صمت حادة كسكين الحقيقة، أطفأت شاشتها وأعلنت، بحروف بيضاء على خلفية سوداء:
'Frente a los derechos humanos, el silencio no es una opción. Paz y Justicia para Palestina.'
'أمام حقوق الإنسان، الصمت ليس خياراً. سلام وعدالة لفلسطين.'
في وقت تعالت فيه أصوات الموسيقى الأوروبية في مهرجان 'اليوروفيزيون'، كانت هناك أصوات أخرى تُدفن تحت الأنقاض في غزة. أطفال تُنتزع أرواحهم من بين الركام، نساء يصرخن بحثا عن فلذات أكبادهن، وشعب بأكمله يقف وحيدا في وجه آلة عسكرية لا ترحم. وفي المقابل، كانت هناك محاولة منظمة لجعل العالم يصمّ آذانه، ويحوّل وجهه إلى الجهة الأخرى، بإسم الفن، وبإسم 'الحياد'.
لكن الحياد أحيانا يكون أقبح الوجوه.
الحياد حين يُطلب من إعلامي أن لا يذكر الدم، أن لا يدين القتل، أن لا يعكّر أجواء الغناء بذكر الحقيقة، هو ليس حيادا… بل تواطؤ.
اتحاد البث الأوروبي (UER) كان واضحا في تهديده: إذا تحدثت RTVE مجددا عن المجازر في غزة أثناء بثّ اليوروفيزيون، ستواجه بعقوبات مالية صارمة. لقد أرادوا حفلا نقيا من 'السياسة'، لكنه كان حفلا ملطخا بالصمت المذنب، حيث يصفّق الجمهور لأغان عابرة، بينما تُقصف أحياء بأكملها في غزة، ودولة الاحتلال تصعد على المسرح كما لو أنها حملت آلة موسيقية لا طائرات مسيّرة.
ومع ذلك، لم تصمت RTVE كليا.
امتثلت للصيغة القانونية، لكنها رفضت أن تُطفئ ضميرها. اختارت أن تقول كلمتها، لا عبر تعليق صوتي،بل عبر مشهد بصري قاتم وأبدي. اختارت أن يكون احتجاجها صامتا لكن موجعا، مثل صمت أم فلسطينية فقدت أولادها ولم يبق لها سوى النظر إلى السماء.
وما جعل هذا الموقف أكثر نبلاً هو أنه لم يأت من بلد عربي، ولا من قناة محسوبة على تيارات النضال، بل من قناة رسمية أوروبية، تموَّل من ضرائب مواطنيها، وتعرف جيدا أن هذه الخطوة قد تفتح عليها أبواب العتاب والضغوط، وربما أكثر.
الرسالة كانت واضحة: إذا كان ممنوعا علينا أن نقول الحقيقة، فسوف نكتبها على الشاشة، ونجعل المشاهدين يرونها رغما عن الجميع.
مجالس RTVE المهنية بدورها لم تقف مكتوفة الأيدي، بل أدانت محاولات تكميم أفواه الصحفيين، وأكدت أن المذيعين الإسبان الذين أشاروا سابقا إلى المجازر في غزة، مارسوا حقهم وواجبهم في نقل ما يحدث في العالم، لا ما يُراد لنا أن نراه فقط.
وهنا يطرح السؤال نفسه: كيف تحوّل مهرجان الغناء إلى ساحة مواجهة أخلاقية؟
الجواب ليس في الحدث نفسه، بل في السياق.
حين يُستخدم الفن لتبييض صورة دولة تقتل، ويُمنع الحديث عن الضحايا بحجة 'الاحتفال'، تصبح المنصات
الفنية أخطر من المنصات الحربية، لأنها تُخدر الشعوب، وتُزين المجرم، وتمنح الشرعية للمحتل.
وإذا كان الفن تعبيرا عن إنسانية الإنسان، فإن تغييب القضية الفلسطينية من هذه المنصات هو نفي للإنسانية ذاتها.
قد لا تغيّر شاشة سوداء مجرى التاريخ، لكنها كافية لفضح التواطؤ، ولتذكير الجمهور أن هناك من يموت في مكان ما، بينما تُرفع أعلام الاحتلال على منصات النفاق الدولي.
وربما، بعد سنوات، حين يُكتب تاريخ هذه المرحلة، سيُقال إن الفلسطينيين لم يكونوا وحدهم، بل كان هناك دائما صوت يتسلل من شاشة سوداء، منسجما مع وجعهم، ولو لحظات.
إيطاليا تلغراف
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


إيطاليا تلغراف
منذ 4 ساعات
- إيطاليا تلغراف
رسالة في الظلام: كيف كسرت RTVE جدار الصمت الأوروبي عن غزة؟
إيطاليا تلغراف عبد القادر الفرساوي في مساء كان يفترض أن يكون مخصصا للأغاني والبهجة، وفي لحظة كان الجمهور الأوروبي ينتظر فيها استعراض الألوان والأنغام، اختارت شاشة RTVE الإسبانية أن تفتح جرحا كان يراد له أن يندمل بالصمت. لم تبث القناة نشيدا ولا لحنا، بل بثّت لحظة صمت حادة كسكين الحقيقة، أطفأت شاشتها وأعلنت، بحروف بيضاء على خلفية سوداء: 'Frente a los derechos humanos, el silencio no es una opción. Paz y Justicia para Palestina.' 'أمام حقوق الإنسان، الصمت ليس خياراً. سلام وعدالة لفلسطين.' في وقت تعالت فيه أصوات الموسيقى الأوروبية في مهرجان 'اليوروفيزيون'، كانت هناك أصوات أخرى تُدفن تحت الأنقاض في غزة. أطفال تُنتزع أرواحهم من بين الركام، نساء يصرخن بحثا عن فلذات أكبادهن، وشعب بأكمله يقف وحيدا في وجه آلة عسكرية لا ترحم. وفي المقابل، كانت هناك محاولة منظمة لجعل العالم يصمّ آذانه، ويحوّل وجهه إلى الجهة الأخرى، بإسم الفن، وبإسم 'الحياد'. لكن الحياد أحيانا يكون أقبح الوجوه. الحياد حين يُطلب من إعلامي أن لا يذكر الدم، أن لا يدين القتل، أن لا يعكّر أجواء الغناء بذكر الحقيقة، هو ليس حيادا… بل تواطؤ. اتحاد البث الأوروبي (UER) كان واضحا في تهديده: إذا تحدثت RTVE مجددا عن المجازر في غزة أثناء بثّ اليوروفيزيون، ستواجه بعقوبات مالية صارمة. لقد أرادوا حفلا نقيا من 'السياسة'، لكنه كان حفلا ملطخا بالصمت المذنب، حيث يصفّق الجمهور لأغان عابرة، بينما تُقصف أحياء بأكملها في غزة، ودولة الاحتلال تصعد على المسرح كما لو أنها حملت آلة موسيقية لا طائرات مسيّرة. ومع ذلك، لم تصمت RTVE كليا. امتثلت للصيغة القانونية، لكنها رفضت أن تُطفئ ضميرها. اختارت أن تقول كلمتها، لا عبر تعليق صوتي،بل عبر مشهد بصري قاتم وأبدي. اختارت أن يكون احتجاجها صامتا لكن موجعا، مثل صمت أم فلسطينية فقدت أولادها ولم يبق لها سوى النظر إلى السماء. وما جعل هذا الموقف أكثر نبلاً هو أنه لم يأت من بلد عربي، ولا من قناة محسوبة على تيارات النضال، بل من قناة رسمية أوروبية، تموَّل من ضرائب مواطنيها، وتعرف جيدا أن هذه الخطوة قد تفتح عليها أبواب العتاب والضغوط، وربما أكثر. الرسالة كانت واضحة: إذا كان ممنوعا علينا أن نقول الحقيقة، فسوف نكتبها على الشاشة، ونجعل المشاهدين يرونها رغما عن الجميع. مجالس RTVE المهنية بدورها لم تقف مكتوفة الأيدي، بل أدانت محاولات تكميم أفواه الصحفيين، وأكدت أن المذيعين الإسبان الذين أشاروا سابقا إلى المجازر في غزة، مارسوا حقهم وواجبهم في نقل ما يحدث في العالم، لا ما يُراد لنا أن نراه فقط. وهنا يطرح السؤال نفسه: كيف تحوّل مهرجان الغناء إلى ساحة مواجهة أخلاقية؟ الجواب ليس في الحدث نفسه، بل في السياق. حين يُستخدم الفن لتبييض صورة دولة تقتل، ويُمنع الحديث عن الضحايا بحجة 'الاحتفال'، تصبح المنصات الفنية أخطر من المنصات الحربية، لأنها تُخدر الشعوب، وتُزين المجرم، وتمنح الشرعية للمحتل. وإذا كان الفن تعبيرا عن إنسانية الإنسان، فإن تغييب القضية الفلسطينية من هذه المنصات هو نفي للإنسانية ذاتها. قد لا تغيّر شاشة سوداء مجرى التاريخ، لكنها كافية لفضح التواطؤ، ولتذكير الجمهور أن هناك من يموت في مكان ما، بينما تُرفع أعلام الاحتلال على منصات النفاق الدولي. وربما، بعد سنوات، حين يُكتب تاريخ هذه المرحلة، سيُقال إن الفلسطينيين لم يكونوا وحدهم، بل كان هناك دائما صوت يتسلل من شاشة سوداء، منسجما مع وجعهم، ولو لحظات. إيطاليا تلغراف


إيطاليا تلغراف
٢٩-٠٤-٢٠٢٥
- إيطاليا تلغراف
ترامب... حين يحكم البلاد والعالم من منصة واحدة
إيطاليا تلغراف عبد القادر الفرساوي في عالم لا يكاد يلتقط أنفاسه بين أزمة وأخرى، يخرج دونالد ترامب، الرئيس الأمريكي العائد، ليعلن ببساطة مدهشة: 'أنا أدير الولايات المتحدة والعالم'. كلمات أقل ما يقال عنها إنها تختصر شخصية الرجل الذي لا يؤمن بنصف الانتصارات، ولا يرضى إلا بالجلوس على عرشين معًا. في مقابلة مع مجلة 'ذا أتلانتك'، بدا ترامب كعادته، واثقًا من نفسه، مهاجما خصومه، مقللا من العقبات. تحدث عن ولايته الأولى وكأنها كانت معركة وجودية ضد 'الأشباح الفاسدة'، وعن ولايته الثانية وكأنها عصر ذهبي يقود فيه دفة أمريكا… والعالم بأسره. لكن الواقع، كما ترسمه قراراته، أكثر صخبا مما تقوله الشعارات. منذ عودته إلى البيت الأبيض في يناير الماضي، لم تهدأ العواصف: قرارات صادمة في الهجرة، رسوم جمركية مشتعلة أرهقت الأسواق، توترات مع الحلفاء التقليديين، بل ووصل الأمر إلى طرح فكرة شراء جزيرة غرينلاند، ومداعبة أحلام ضم كندا إلى الولايات المتحدة. ترامب الذي يؤكد أنه لا يخطط لولاية ثالثة، يبدو وكأنه لا يفكر أصلًا في الرحيل الهادئ. تحركاته تشي برغبة واضحة في إعادة تشكيل العالم وفق رؤيته الخاصة: اقتصاد مضطرب، تحالفات مشروطة، وعالم يقف مترقبا عند كل تصريح يصدر عنه. واليوم، مع اقترابه من الاحتفال بمرور 100 يوم على عودته إلى الحكم، يتجه إلى ولاية ميشيغان ليخاطب أنصاره، وليؤكد للعالم مرة أخرى أن المعادلة تغيرت: لم يعد رئيسا للولايات المتحدة فقط، بل قائدا يرى أن على كتفيه حمل خارطة العالم بأكملها. بين التصريحات النارية والإجراءات المثيرة للجدل، يبقى ترامب حالة سياسية نادرة: رجل لا يكتفي بإدارة بلاده… بل يطمح إلى إعادة رسم ملامح العالم كما يشتهي. إيطاليا تلغراف


إيطاليا تلغراف
٢٥-٠٤-٢٠٢٥
- إيطاليا تلغراف
البابا فرنسيس... حين تحدثت الكنيسة بلهجة الفقراء - إيطاليا تلغراف
إيطاليا تلغراف عبد القادر الفرساوي رحل البابا فرنسيس. نعم، رحل الرجل الذي أتى من آخر الدنيا، من حواري بوينس آيرس الشعبية، ليصعد إلى أعلى سلطة روحية في العالم المسيحي، ثم يختار أن لا يسكن القصر البابوي، بل غرفة متواضعة في بيت ضيافة الفاتيكان. في زمن تتهافت فيه الزعامات على الألقاب والرخام، جاء هذا الرجل العجوز ليعلم العالم أن البساطة ليست ضعفا، وأن التواضع قد يكون أبلغ من ألف خطبة لاهوتية. فرنسيس لم يكن بابا كغيره، حتى من وجهة نظر مسلم يقرأ المشهد من الخارج. كان البابا الذي تجرأ على كسر الصمت، لا ليحدث فتنة، بل ليوقظ الضمير في مؤسسة كنسية أثقلها التاريخ والبروتوكول والفضائح. لم يكن رجلا ثوريا على طريقة الحشود، لكنه حمل مطرقة التغيير بصمت، وطرق بها على أبواب أُغلقت طويلا. منذ بداية حبريته عام 2013، بعد استقالة بنديكتوس السادس عشر، أصر فرنسيس على أن يكون بابا الناس، لا بابا النخبة. اختار اسم 'فرنسيس' تيمنا بالقديس الذي عاش ومات بين الفقراء، وكأنه يعلن من البداية: سأعيد الكنيسة إلى الشارع، حيث الألم، حيث الصمت، حيث تولد الأسئلة ولا يجرؤ أحد على طرحها. كان صوته مرفوعا ضد الظلم الاجتماعي، الرأسمالية المتوحشة، الفقر، التلوث، الهجرة القسرية. تحدث عن البيئة كما يتحدث إمام مسجد عن الأمانة، وعن العدالة كما يتحدث شيخ زاوية عن التوازن. انتقد الجرائم الجنسية داخل الكنيسة دون مواربة، ووضع قوانين جديدة لمحاسبة المتورطين، معلنا أن التستر ليس من الله. كمسلم قد لا أتفق مع العقيدة الكاثوليكية لكن لا يمكنني إلا أن أقدر شخصية فرنسيس الذي سعى جاهدا لجعل الكنيسة أكثر قربا من الناس خاصة الفقراء و المهمشين، الرجل ظل وفيا لفكرته الكبرى: الإنسان أولا، ثم تأتي المؤسسة. هذه الفكرة التي كانت صادمة لكثيرين في الفاتيكان، لكنها كانت متنفسا لآلاف من المسيحيين الذين اختنقوا في جدران الصمت والخوف. فرنسيس، الذي تنقل على كرسي متحرك في آخر سنواته، زار أكثر من خمسين بلدا، بين جنوب السودان والعراق ومنغوليا. لم يكن يسافر كسائح بابوي، بل كمن يشعل شمعة في ظلام السياسة والديكتاتورية والاضطهاد. ومن بين كل الزيارات، بقيت زيارته للعراق محفورة في الذاكرة، حين دخل أرض الرافدين التي طحنها الحرب والطائفية، ليقول من هناك: كفى حروبا باسم الله. ومع ذلك، فإن هذا البابا ، الذي وصف أحيانا بـ'اليساري'، وأحيانا بـ'المتساهل' ، لم يكن يطلب إعجاب أحد. كان فقط يحاول أن يعيد للكنيسة صدقها الأول، ذلك الصدق الذي ربما ضاع في دهاليز الفاتيكان، بين الذهب والمخمل. وبصفتي مسلما، لا أراه وليا ولا نبيا، لكنني أرى فيه رجل اجتهد بإنسانيته، وصدح بكلمة حق في زمن الخضوع الجماعي. اختلفت معه في العقيدة، نعم. تحفظت على بعض تصريحاته، قطعا. لكني لم أستطع إلا أن أحترم فيه اتساقه مع نفسه، وأسلوبه في خوض المعارك بالكلمة لا بالسيف، بالبصيرة لا باللائحة. لقد مات البابا فرنسيس، لكنه ترك وراءه دروسا في التواضع، في القيادة، وفي الإصلاح من الداخل. مات الرجل، لكن فكرته لا تزال تتنفس: أن المؤسسة مهما عظمت، تحتاج دائما لصوت يعيدها إلى أصلها. فهل يكون خليفته على خطاه؟ أم تعود الكنيسة إلى الغرف المغلقة، واللغة الخشبية، والتواطؤ مع الصمت؟ هذا ما ستكشفه الأيام. أما هو، فقد أدى ما عليه و رحل. إيطاليا تلغراف