أزمة أوكرانيا : من يقوض التسوية السلمية ؟ توفيق سلاّم
أزمة أوكرانيا : من يقوض التسوية السلمية ؟
توفيق سلاّم –
في مواسم الحروب الطويلة، لا يُعاب المنتصرون ولا يُسأل المهزومون عن الأسباب، بل يُصفَّق للدم إذا رقص على إيقاع المصالح. لكن ماذا لو توقفت الطبول.. ماذا لو صمتت المدافع فجأة، من الذي سيخشى السلام أكثر من خوفه من الهزيمة؟ في عالم لا تحكمه فقط الجيوش، بل تتحكم به الطموحات الشخصية، والتوازنات السياسية، قد لا يكون إنهاء الحرب هدفًا بحد ذاته، بل خطرًا يهدد مصالح صانعيها. ذلك هو الحال في الأزمة الأوكرانية، التي لم تعد مجرد صراع بين دولتين، بل مسرحًا مفتوحًا ترتعد فيه أرواح السياسيين حين تلوح أي بادرة للسلام.
أوروبا ليست مع فكرة السلام
يبدو أن التفاوض بين روسيا وأوكرانيا لا ترحب به بعض العواصم الأوروبية، الذين ينتهجون سياسة التصعيد لتعطيل المفاوضات. فبينما تتسرب إشارات هشة عن محاولات العودة إلى طاولة الحوار، تقف أوروبا كمن يتربص بالهدنة، تفرغ مخازنها من الأسلحة بعيدة المدى لا حبًا في الانتصار، بل خوفًا من توقف الحرب، لأن توقفها يهدد بوقف سيرهم السياسية، وربما نهايتهم المخزية وغير المشرفة.
ومن المفارقة أن توتر باريس ولندن وبرلين ووارسو لا يعكس بالضرورة حماسة لهزيمة روسيا، بل خشية عميقة من أن تُترك وحدها في ميدان مُكلف، إذا ما قررت واشنطن أن تنأى بنفسها عن هذا الاستنزاف طويل الأمد.
ولم يعد خافيًا أن كثيرًا من عواصم القرار الأوروبي ترى في فكرة التفاوض بين روسيا وأوكرانيا تهديدًا لمكانتها أكثر مما ترى فيه فرصة لحل الأزمة.
موسكو تشير بوضوح إلى أن الأوروبيين، يجهدون في تعقيد المشهد، ليس من أجل الانتصار، بل لتأجيل انهيار مشروعهم السياسي المعلق على استمرار الحرب. تقول روسيا إن أوروبا لم تعد تكتفي بتقديم العتاد لأوكرانيا، بل تسعى حثيثًا لرفع القيود عن الأسلحة بعيدة المدى، كمن يسكب الزيت على النار، لا حبًا في الانتصار بل كرهًا في الإطفاء.
هذا التصعيد الأوروبي لا يُقرأ فقط في بعده العسكري، بل في جوهره السياسي العميق. أوروبا ما بعد أوكرانيا ليست أوروبا ما قبلها، وكثير من الساسة يدركون أن انتهاء الحرب دون نصر واضح، سيعني أفول نجومهم في سماء السياسة، وفضح عجزهم في مخاطبة شعوبهم بلغة الانتصارات التي وعدوا بها. لذلك ربما بات السلام خصمًا مشتركًا للعديد من العواصم، لا يقل خطورة عن أزماتهم وتناقض مواقفهم.
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، عبَّر عن موقف مختلف. لم يتردد بالقول بأن هذه 'ليست حربًا' بالمعنى التقليدي، بل عبث سياسي قابل للحل بالتفاوض. وبأنه مهتم باستمرار المفاوضات بين روسيا وأوكرانيا. هو الآخر يُدرك أن استمرار النزاع يخدم مصالح من يفضلون الفوضى، وربما لهذا السبب يرى فيه كثير من القادة الأوروبيين تهديدًا يجب كبحه، إذ أن أي تسوية قد تقطع خيوطًا نسجتها العواصم الأوروبية في الظلام، وتُنهي أدوارًا رُسمت على وقع الطائرات المسيّرة.
وفي سياق التصعيد المتجدد حول أوكرانيا، عبّر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن استيائه العميق من الأوضاع الراهنة، محذرًا روسيا من 'اللعب بالنار'، دون الإفصاح عن طبيعة الرد الأمريكي المحتمل، ما يعكس استراتيجية غموض مقصودة. في المقابل، واجهت موسكو هذه التصريحات بردود شديدة من مستويات مختلفة؛ فقد حذر مدفيديف من خطر الانزلاق نحو حرب عالمية ثالثة، بينما اتهم لافروف الإدارة الأمريكية بتلقي معلومات 'مفلترة' تدفعها نحو مواقف أكثر عدوانية.
تصعيد ألماني
تتصاعد حدة التوتر الروسي-الألماني على خلفية نية برلين تزويد كييف بصواريخ 'توروس'، وهو ما وصفه المسؤولون الروس بأنه قد يشكل مشاركة مباشرة في الحرب، مع التهديد برد غير متماثل ومؤثر. ويبدو أن برلين تحاول الالتفاف عبر دعم إنتاج الصواريخ داخل أوكرانيا وهو الأمر الذي يفسره ابرام اتفاق بين الجانبين. ورغم هذا التوتر العسكري والدبلوماسي، تم الإعلان عن تسليم مذكرة أوكرانية لتسوية النزاع إلى روسيا، تتضمن استعداد كييف لوقف إطلاق نار غير مشروط واستئناف المفاوضات، والتي يُتوقع استئنافها في إسطنبول في 2 الجاري. إلا أن هذا المسار التفاوضي يظل هشًا وسط التصعيد الإعلامي والعسكري المتبادل، وانعدام الثقة بين الأطراف.
مواجهة عسكرية مع روسيا
نائب وزير الخارجية الروسي ألكسندر جروشكا وضع النقاط على الحروف، حين صرح بأن الاتحاد الأوروبي لا يبدو مهتمًا بتسوية النزاع، بل يتجهز لمواجهة عسكرية مباشرة مع روسيا، فيما يتحدث نائب رئيس مجلس الأمن الروسي، دميتري ميدفيديف، بقلق أكبر عن شبح الحرب العالمية الثالثة، رابطًا ذلك بالمواقف الغربية الرافضة لوقف التصعيد. في المقابل، تحاول موسكو أن تُبقي أبواب التفاوض مواربة، ولو على مضض، مؤكدة أن كل الخيارات على الطاولة، لكن أوروبا تُمعن في إغلاقها.
في خضم ذلك، تحاول واشنطن عبر صوت المتحدثة الرسمية باسم خارجيتها، أن توفّق بين حذرها من التصعيد، وحرصها على موقعها في قلب الصراع. تقول تامي بروس إن ترامب لا يخذل أحدًا، بل يرى أن 'الحل الدبلوماسي ضروري'، وهي رسالة موجهة إلى الداخل الأمريكي قبل الخارج، مفادها أن سياسة الحرب لم تعد مجدية، لا ماليًا ولا أخلاقيًا.
لكن هل تستطيع أوروبا أن تواكب هذا التحول؟ تصريح المتحدث باسم الكرملين، دميتري بيسكوف، يُظهر أن موسكو لا تراهن على ذلك. فروسيا لن تتردد–حسب قوله– في الرد الحاسم على أي عدوان، مهما كانت نوايا كييف أو الغرب في تغليفه بخطابات السلام.
يرى بيسكوف أن استقرار روسيا فوق كل اعتبار، وأن تحركات كييف نحو خلق حالة من الفوضى، ستنقلب عليها قبل غيرها.
أما لافروف، صاحب الخبرة الطويلة في خيوط الدبلوماسية، فقد ذهب إلى لب المشكلة. فيقول:' ليس هناك سلام، دون معالجة الجذور، ولا تفاوض حقيقي في ظل أطراف تسعى لعرقلته'.
ولعل ما قاله نظيره التركي هاكان فيدان، عن استعداد بلاده لاستضافة جولة جديدة من المفاوضات، ليس إلا محاولة جديدة لإحياء ما تحاول أوروبا وأوكرانيا دفنه.
إننا أمام مشهد معقد لا تُحركه الطائرات أو الصواريخ وحدها، بل تُديره مخاوف سياسية دفينة. مخاوف من أن يفضح زيف المعارك، وأن تخرج الحقيقة من ركام المدن المدمرة لتسأل: من كان يخشى السلام أكثر من الحرب..!
وفي سياق الإصرار الأوروبي على إدامة أمد الحرب، تتواصل جهود الاتحاد الأوروبي لفرض المزيد من العقوبات على موسكو، وكأن العقوبة أصبحت بديلاً عن الحل. لا تنبع هذه العقوبات من رؤية استراتيجية ناضجة، بل من رغبة في إثبات الحضور السياسي داخل نزاع فقدت أوروبا فيه زمام المبادرة، لكنها لا تزال تتمسك بدور الضامن للتهديد. ويبدو أن الاتحاد الأوروبي بات يراهن على إنهاك روسيا، ولو على حساب تدمير أوكرانيا نفسها، في معركة لا تريد أوروبا أن تُحسم إلا بشروطها، أو لا تُحسم إطلاقًا.
دعم القارة العجوز لأوكرانيا، لم يعد مجرد تضامن مع 'دولة وكيلة حرب للأطلسي'، بل أصبح استثمارًا سياسيًا مكلفًا، ترى فيه بروكسل وباريس وبرلين فرصتها الأخيرة لإثبات أن أوروبا لا تزال لاعبًا دوليًا قادرًا على التأثير، حتى ولو عبر بوابة التصعيد والعقوبات.
وهكذا، بينما تتزايد دعوات السلام، تواصل أوروبا تغذية آلة الحرب، خشية أن يتوقف الطلق وتبدأ الأسئلة. وفي كل مرة تُفرض فيها عقوبة جديدة، يبدو وكأنها ليست موجهة لروسيا وحدها، بل لكل مبادرة تحاول أن تعيد للعقل مكانه في فضاء تملؤه طبول المعارك.
فالحرب التي تراها واشنطن اليوم عبئًا استراتيجيًا، تراها أوروبا حاجة وجودية. وأي تسوية محتملة بين موسكو وواشنطن ستُقصيها عن الطاولة، وتُخرجها من مشهد الحضور إلى الهامش. لذلك تظل أوروبا تمارس دورها بحماس المُحرض لا الحَكم، وبدلاً من أن تكون جسرًا للسلام، صارت أحد أعمدته المحترقة.
2025-06-01
The post أزمة أوكرانيا : من يقوض التسوية السلمية ؟ توفيق سلاّم first appeared on ساحة التحرير.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


شفق نيوز
منذ 7 ساعات
- شفق نيوز
مرونة خفية تناقض المُعلن.. واشنطن "قد تسمح" لطهران بمواصلة تخصيب اليورانيوم
شفق نيوز/ نقل موقع "واللا" الإخباري الإسرائيلي، يوم الاثنين، عن مصدرين مطلعين على تفاصيل مقترح قدمته الإدارة الأمريكية لإيران بشأن برنامجها النووي، بأن واشنطن قد تسمح لطهران بمواصلة تخصيب اليورانيوم بنسبة تصل إلى 3%، في حال تم التوصل إلى اتفاق. وكشف المصدران، أن المقترح الأمريكي لا يتضمن تفكيكاً كاملاً لجميع المنشآت النووية الإيرانية، بل ينص على السماح لطهران بتخصيب محدود لليورانيوم منخفض التخصيب على أراضيها، وذلك لفترة زمنية يتم تحديدها ضمن المفاوضات الجارية بين الجانبين. ويأتي هذا الطرح، الذي وصفه المصدران بأنه يمثل مرونة من جانب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في تناقض مع التصريحات العلنية لكل من مبعوث البيت الأبيض ستيف ويتكوف ووزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو، واللذين أكدا مراراً أن واشنطن لن تسمح بأي شكل من أشكال التخصيب داخل إيران، وستطالب بتفكيك كامل للبنية التحتية النووية الإيرانية. ورجّح المصدران أن يؤدي المقترح إلى زيادة حدة التوتر بين إدارة ترامب وحكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، التي لطالما طالبت بسياسة أكثر صرامة تجاه إيران ورفضت أي تسوية تسمح لها بالحفاظ على قدرات نووية مهما كانت محدودة.


شفق نيوز
منذ 14 ساعات
- شفق نيوز
مسؤول إيراني معلقاً على العرض الأمريكي: لا تنازلات في التخصيب
شفق نيوز/ أعلنت طهران عبر أحد كبار دبلوماسييها، يوم الاثنين، رفضها القاطع للمقترح الأمريكي الأخير الرامي إلى إنهاء حالة الجمود التي تخيّم على المفاوضات النووية منذ شهور. وصف الدبلوماسي الإيراني الذي فضّل عدم الكشف عن اسمه نظراً لحساسية المفاوضات، العرض الأمريكي بأنه "غير واقعي وغير قابل للتطبيق"، مؤكداً أن بلاده لا ترى فيه أي تغيير حقيقي في موقف واشنطن من مسألة تخصيب اليورانيوم، التي تعتبرها طهران "خطاً أحمر" لا يمكن تجاوزه، وفقا تصريحات نقلتها "رويترز"، وتابعتها وكالة شفق نيوز. وأضاف أن المقترح لم يقدم ضمانات ملموسة بشأن رفع العقوبات، بل تجاهل تماماً ما تسميه إيران "حقوقها النووية المشروعة"، ما يجعله تكراراً لصيغ سابقة لم تثمر سوى عن مزيد من التعقيد. وكانت واشنطن قد طرحت مؤخراً عبر وسطاء أوروبيين مبادرة جديدة لإحياء الاتفاق النووي الموقع عام 2015، والذي انسحب منه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في 2018، ما فجّر دوامة من التوتر بين الجانبين.


شفق نيوز
منذ 21 ساعات
- شفق نيوز
تقرير: ارتباك داخل الإدارة الأمريكية يوقف مؤقتاً العقوبات على إيران
شفق نيوز/ كشفت صحيفة "وول ستريت جورنال"، اليوم الاثنين، أن المتحدثة باسم البيت الأبيض كارولين ليفيت أرسلت توجيهًا إلى وزارتي الخارجية والخزانة بوقف فرض أي عقوبات جديدة على إيران. وذكرت الصحيفة، نقلًا عن مصدر، أن القيود التي فرضتها الولايات المتحدة على مبيعات النفط والأصول الإيرانية المجمدة ستظل قائمة. وأفاد مصدر الصحيفة المقرّب من البيت الأبيض بأن حملة "الضغط الأقصى" التي يشنها الرئيس دونالد ترامب لا تزال قائمة، مؤكدًا أن السياسة الجديدة أُبلغت لكبار المسؤولين في مجلس الأمن القومي ووزارة الخزانة، ثم إلى وزارة الخارجية. وأضاف أن "المسؤولين المعنيين بشؤون الشرق الأوسط أُطلعوا على السياسة الجديدة، ولكن كان لا بد من نشر التوجيه على نطاق أوسع". وقالت "وول ستريت جورنال" إن الخبر صدر من البيت الأبيض وليس من مجلس الأمن القومي أو وزارة الخزانة، كما هو متوقع، مبينة أن "مجلس الأمن القومي يعاني حالة فوضى بعد أن منحت إدارة ترامب أكثر من 100 موظف إجازة. ولم تُسوّ المسؤوليات المتعلقة بالسياسات الجديدة بشكل كامل بين وزارة الخارجية ومكتب نائب الرئيس". وأفادت قناة "سي بي إس" بأن فريق الاتصالات التابع لمجلس الأمن القومي في طريقه إلى الحل، وقد تدخل مكتب المتحدثة باسم البيت الأبيض لسد هذه الثغرة. وأضافت الصحيفة أنه عندما طُلب من البيت الأبيض التعليق على توقف العقوبات، لم ينكر ذلك، لكنه قدّم البيان التالي من نائبة السكرتير الصحفي آنا كيلي: "سيتم الإعلان عن أي قرارات جديدة فيما يتعلق بالعقوبات من قبل البيت الأبيض أو الوكالات ذات الصلة داخل الإدارة". ويعتقد بعض مسؤولي إدارة ترامب أن هذه السياسة لا تهدف إلا إلى إبطاء إجراءات العقوبات الجديدة والتدقيق فيها، في ضوء المحادثات النووية الحساسة، وأنها فُسّرت بشكل مبالغ فيه في مرحلة ما من مراحلها. ويخشى آخرون من أن يكون اللاعبون الرئيسيون في السياسة قد غابوا عن المشهد، وفوجئوا بالتوقف الشامل. كما يفتقر المسؤولون الأميركيون إلى الوضوح بشأن نطاق تطبيق قرار الإيقاف، وما إذا كان يقتصر على العقوبات الجديدة فقط، أو أن أي نشاط جديد لتطبيق العقوبات القائمة سيُخالف العقوبات الحالية أيضًا. ويحرص مسؤولو ترامب على عدم إثارة الإيرانيين بلا داعٍ خلال المفاوضات النووية، لكن الضغط هو ما دفع إيران إلى طاولة المفاوضات، وكانت العقوبات الأميركية الأخيرة في بدايتها. كما بدأوا يحققون نجاحًا في تعطيل صادرات النفط الإيرانية إلى الصين. وترى الصحيفة أن إيران تستغل المحادثات لكسب الوقت وتهدئة الأوضاع، حتى مع رفضها الشروط الأميركية. ويُظهر تقريران جديدان صادران عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية أن إيران ماضية قدمًا في إنتاج اليورانيوم عالي التخصيب، وأنها خدعت المفتشين بشأن أنشطتها النووية لسنوات، مستغلةً أيّ حسن نية قُدّم لها. ومن غير المرجح أن يكون هذا استثناءً.