logo
فضائيّات الحابل والنّابل

فضائيّات الحابل والنّابل

الدستور١٥-٠٣-٢٠٢٥

محمَّد سلَّام جميعان
الذاتُ العربيةُ الآن جريحة كليمة، متأثِّمة، قَلِقة ومُحبَطَة، وعاجزة عن التكيُّف مع حضارة الأقوياء ومع العنف الذي يرسم لوحةً سوريالية للموت المجّانيّ وبقايا الجثث التي تحوم فوقها الغربان
إنَّها ذات مرسومة على شاشات البث الفضائي، وسائمة في حقول الصورة، تطارد جراد الألوان الصاخبة؛ وإذ ترى في الفواصل الدعائيّة، الفاتناتِ، بأوصافهن الواردة في معلَّقة الأعشى، تتذكر إبليس والثعبان والتفاحة، وإذ ترى القبور والشواهد تتذكَّر قابيل، وتلوح لها سيماء تيمورلنك وهولاكو...
ولأنَّ الذات العربيَّة الجريحة بـ «أيّام العرب» المعاصرة، تكره الصمت ونُباح الكلاب، فإنَّها تلوذ بأضعف الإيمان، وتُصغي إلى البرمائيين في نصائحهم التي تقود إلى الاستبداد الذي عناه الكواكبي بقوله في طبائع الاستبداد: (تضافرت آراء أكثر العلماء الناظرين في التاريخ الطبيعي للأديان على أن الاسـتبداد السـياسي متولّد من الاستبداد الديني... بينهما رابطة الحاجة على التعاون لتذليل الإنسان).
وهكذا تبحث الذات العربية عن ذاتها المتخيَّلة في الصورة، تتغذَّى بمنتوجاتها. والعلاقة بين الجمهور والصورة تتعدّى التسلوية والتّلهي إلى حدّ الغرق التام في تفاصيلها، وتطابقه وتماهيه معها، والتذاذه بها.
لم تستطع الذات العربية النكوصية الارتداديَّة استصدار تقرير طبّي أو فرمان قانوني يحمي شَبكيَّتها من عمى الألوان، ويحفظ عقلها من القُبَل والعمائم والتوابل ونكهات المطبخ الحديث، ووصفات الكهانة التي ستشفي الحارث بن حلّزة اليشكري من داء البَرَص، وتُحصّن غمّازة الخدِّ من الحسد...
الكلُّ مبتهجٌ بالصورة: المُصوِّر والمُخرِج والمُشاهِد، ولا أحدَ يصيحُ: « قرِّبا مربط النعامة منّي... «كما صاح المهلهل حين قُتل ابنه. (فالعين) لم تعد تفيض بالدمع، وليست هي جهاز الإبصار، فقد حوَّلتها الصورة إلى حرفٍ استهلَّ به الفراهيدي مُعجمه الشهير «معجم العين»، ولا داعي لاستذكار (عين جالوت) فقطز مُدرجٌ على لائحة الإرهاب وحسبُ المُشاهِد «عيون المها بين الرصافة والجسر» لأنَّ عين المشاهِد العربي غدت أصغر من عيون الشرق آسيويين .
إنَّه الاستبداد الجديد الذي دعا الذات العربية إلى أن تكون منشغلة بحريتها المفصَّلة بمقاييس فساتين هيفاء وأليسّا.. حرِّية مزركشة كفساتين بنات الغجر.. حرّية تُغيّر وظيفة اليد من رافعة لراية الوطن وعازفة على أوتار الآلات الموسيقية غِبطةً بالحياة، إلى ممسكة «بالريموت» مشبعة بِمَهمَّة قصّاصي الأثر، ليس طلباً للثقافة والوعي، بل إمعاناً في الرضوخ والاسترخاء أمام الاستبداد الجديد، فاستنشـاق حرية العـالم الحرّ يجب أن تكون من النوافذ بحسب تعليمـات «الباب العالي» و»الصدر الأعظم» .
وإذا كان الاستبداد في القديم « يسلب الحرية والوعي»، فإنَّ الاستبداد الجديد « يزيّف الحريّة والوعي» ويُنادي الذات العربية المنصدِعة، التي تكاثرت عليها القواهر والمستلِبات: تعاليْ إلى دواء الإرهاق والحرمان والقلق والجوع وعواصف الأخبار، وعنتريات امرىء القيس في طلب ثأر أبيه، وفخر ابن كلثوم بالصبيّ المفطوم الذي تخرُّ له الجبابرُ ساجدينا... نَم الآنَ على إيقاع جديد.. لدينا الحلّ، فقيس بن الملوّح الذي أحبّ ليلى ولم يحظ بها سنزوجه منها زواجاً عرفياً ريثما تهدأ الأحوال (برامج التعارف والبحث عن شريك)، وجوع أبي الشمقمق سنداويه بالوجبات السريعة (برامج الطبخ).. حتى الزوجات غير المستويات التضاريس يجدن لدينا ما لم تجده ولّادة بنت المستكفي في بيت أبيها (برامج الريجيم)... لا تخش (الدكتاتور) فالصاحب بن عبّاد في سجن أغمات مسجون، فقد درست دولة الأدارسة والأغالبة ولا غالب إلّا الله. لا تصدِّق الكواكبي حين يقول: (أقبح أنواع الاستبداد، استبداد الجهل على العلم، واستبداد النفس على العقل، ويسمّى استبداد المرء على نفسه). فهذا لغو لا يساوي أرخص أنواع السجائر.. سنريك سحرَة فرعون وهم يفكّون الطلاسم وسيقرأون عليك من آيات الله البيّنات ما يحلّ العقد ويكفيك شرّ حاسد إذا حسد (برامج العلاج والرقى). قُلْ أعوذ بربّ الفلق واخفض توترك الصِّراعيّ مع اللقمة والسلطة والطبيعة، فلدينا من هو أمهر من (ابن سيرين) في تفسير تضغيثات الأحلام والتخريف النفسي، فإذا رأيتَ في منامك قِرداً يقشّر الموز فهذا إيذان بانسحاب القوات الأمريكية وحلول السلام في الشرق الأوسط، وإذا رأيتِ يا أختي في منامِك قطّاً سيامياً فهذا يعني انتهاء عقد عمل خادمتك السيرلانكية، (وإذا رأيت ثمّ رأيت نعيماً وملكاً كبيراً): ... شرق أوسط جديد مليء (باعتذارات النابغة) عن عداء السّاميَّة والبغضاء والكراهيات والمسوغات البذيئة للوقوع في شباك غواية الحرب والاستنارة والرفض والغثيان الروحي تحت سماء بلا أديان، حتى يغدو من الاستقباح والاستبشاع أن تقول (لا) للغباء المتفوِّق .. لن تصبح مفاهيمك التاريخية خاضعة للحرب الإعلامية التي يتحدَّث عنها وفيها خبراء في شؤون القارات الخمس!.. سنكون على درجة عظيمة من تحريف الحقيقة الحرّة! هذا هو قَدرُك الذي لا تستطيع الفكاك منه كالجوع والشيخوخة والموت، وما تبقّى من بلادات وتفاهات وأوبئة صرت محكوماً لها بحكم منطق وجودك.
فالإحساس بالانغلاب والانقهار أمام الآخر يولِّد هوان الاعتبارات الذاتية، فالقواهر الخارجية تضاعف من الإِعْنات أمام القواهر الداخلية، فتُكثِرُ الشخصيةُ المستَلَبةُ والمستَبدُّ بها من الاجترار والاستكئاب: طلب الكآبة، والاستحزان، لأنَّ صورة الحاضر غير ناصعة، وغير بهيّة، فتدخل الذات عندئذ في لحظة انبهار، تُخفِت من حدَّة التوتر الصراعيّ النازفِ من كراماتٍ مجروحة، بفعل الضوابط الاجتماعية الكابحة أو القهر السياسي الرادع للحرية، أو الانحرافات في الوجدان الديني الآيل بالذات إلى عنف ضد ذاتها وضد الآخر، سبيلاً إلى الخروج من القلق والإثم والانجراح، وهو ما يسعى إليه ويوفِّره الاستبداد الجديد، حيث يتواطأ الديني والسياسي ويتقاسمان المهمات (فالمتن) للسياسي و(الحاشية) للفقيه المرسِّخ لمفهوم التبعية والطاعة، والناهز بمهمة التطويع والترويض من خلال النأي بـ(السياسة الشرعية) خارج السياق الأُحدوثي لخطابه، والاكتفاء – من ثم – بالشَّكلانية والتفريعات الصُّغْرَويّة، وتعزيز فكرة الخلاص الفردي، والتنافي والتنافر مع فكرة الخلاص الجماعي أو الاهتمام بالحرية والتفكُّر الحرّ، وتكريس فكرة الموت والحياة الأُخروية، والقناعة بالقليل والتّشظُّف والزهد،... وباختصار شديد: يسعى فقهاء الفضائيات إلى تفكيك العلاقة بين اللقمة والسلطة والمجتمع، وسجن المستمعين والمشاهدين في تصورات مثالية، قوامها الانشغال فحسب بحياة ما بعد الموت، نأياً بالجمهور عن الواقع أو التفكّر الحرّ في واقعه المعصوف بكُبْرَيات القضايا والأزمات.
أما مفسرو الأحلام في الفضائيات، فيُسهمون في تكريس غايات الاستبداد الجديد بإلجاء جمهور الحالمين إلى الأحجبة والطلسمات الغيبية، وحرف الحلم وتأويله بعيداً عن واقعته الموضوعية، بجعل الأحلام المؤوّلة وسيلة للتكيف مع واقع الاستبداد الجديد، عن طريق تحويل الأُزعومات إلى اعتقادات، واللعب على فكرة التأويل بالضد. إنَّ إخراج المنامات من اللاوعي إلى الواقع وتحويلها من كونها هواجس مهموسة للباطن إلى حقائق مُسْتَعلَنة للخارج هو احتيال على الطاقة الحرة للإنسان في رفض واقعه، ومن ثم تدجين الإنسان/ صاحب الحلم، وإلجائه إلى الإيمان الوهمي بما ستؤول إليه حياته من بعد.
فمؤولو الأحلام الفضائيون يتقصّدون إزاحة العوامل البيئية من تأويلاتهم، ويدعون مستفسريهم إلى عدم إتخام المعدة، وهذه في حد ذاتها عولمة اقتصادية للحلم، قوامها الاحتيال على لقمة المواطن المقهور والمنغلِب، وحقه في العيش الكريم، وتكمن أبعاد هذا الأمر في تقسيم الموائد إلى أطعمة أثرياء وأطعمة فقراء.
وبتلقائية وعفوية صارخة ضاجّة ومحتجَّة تنطلق الذات المقهورة بجموح غادِر لذاتها في البحث عن الإشباع الجنسي. واللافت أن الكتب التي عنيت بالجنس في التاريخ العربي انولدت في عصور الانقهار العربي والاستبداد الأجنبيّ حيث الجنس يصير تعويضاً عن خسارات السلطة والاقتصاد والجاه الاجتماعي، وتعويضاً عن فقدان الأمن والطمأنينة، والليلةُ هذهِ تُشبهُ البارحة تلك، في النزوع إلى الخلاص من سلطة الانقهار، وها هي فضائيات الاستبداد الجديد تحقق غاية الاستبداد في كافة عصوره كما أشار إليه الكواكبي (الاستبداد تصرّف فرد أو جمع في حقوق قومٍ بالمشيئة وبلا خوفِ تبعة).

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

كل سمات السقوط التراجيدي..!
كل سمات السقوط التراجيدي..!

الغد

time١٥-٠٣-٢٠٢٥

  • الغد

كل سمات السقوط التراجيدي..!

يألف المشتغلون بالأدب والفلسفة الكلاسيكيين مفهوم «السقطة التراجيدية». ومع أن المفهوم ينطوي على عنصر من الوعظ الأخلاقي والتأثير التطهيري، فإنه يظل صالحا لتفسير الكثير من التحولات في أقدار الأفراد –والأمم والإمبراطوريات. والفكرة هي أن مزيجا من العيوب الشخصية، والقدر، والظروف الخارجية تتضافر لإسقاط الشخصية، أو القائد، أو الكيان. وغالبا ما يكون هذا السقوط دراميا لا رجعة فيه. والعيب القاتل في الشخصية قد يكون الكبر، الطموح المفرط، العناد المتعنت، أو الضعف الأخلاقي المؤذي. اضافة اعلان في الأدب، ثمة سقوط أوديب وماكبث. وفي الميثولوجيا، ثمة سقطة إبليس الشهيرة سجلتها أسفار «العهد القديم»، وملحمة الشاعر جون مليتون «الفردوس المفقود»، والقرآن الكريم في الآية: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين) . ويؤمن المليارات من أتباع الديانات السماوية بأن سقطة إبليس هي أصل كل الشرور لأنها أسقطت آدم وحواء من الجنة وصنعت الصراع بين الخير والشر. وفي التاريخ، ثمة سقطات نابليون، وهتلر، والإمبراطورية الرومانية، والكثير من أسقطهم الجشع وازدراء الآخرين. اليوم، ثمة مرشحان مثاليان للسقوط التراجيدي، يعميهما غرورهما وعيوبهما الأخلاقية عن رؤية ما يربيانه في داخلهما من بذور دمارهما الخاص: الولايات المتحدة، والكيان الصهيوني. ويحمل مسار هذين الكيانين جميع سمات المأساة الكلاسيكية –الطموح الجارف، والعمى القاتل عن رؤية العيوب، واللحظة الحتمية للمحاسبة التي تزداد وضوحًا واقترابا مع كل تطور جديد. عيب أميركا القاتل هو عطشها الذي لا يُروى للهيمنة. وقد بدا هذا الطموح لفترة من الوقت غير مقيد، لكنه أصبح يترنح بفعل تناقضاته الذاتية. مثل كل الإمبراطوريات البائدة، أفرطت الإمبراطورية الأميركية في التوسع في مسعاها فرض صورتها على العالم. وقد استخدمت القوة العسكرية، والضغط الاقتصادي، والتأثير الأيديولوجي للحفاظ على تفوقها، واختارت الإكراه على القوة الناعمة معظم الوقت. وكانت الحروب الدموية في فيتنام والعراق وأفغانستان تجليات قاتمة لعقيدة الغطرسة الأميركية والاعتقاد بامتلاك التاريخ. في العقود الأخيرة، شرعت الأوهام التي كانت تحيط بالقوة الأميركية في التبدد. لم يكن الانسحاب الكارثي من أفغانستان في العام 2021 مجرد هزيمة عسكرية فقط؛ كان كشفا لحدود القوة الأميركية وتذكيرًا قاسيًا بأنه لا يمكن حتى لأعظم القوى أن تتحدى مسار التاريخ إلى الأبد. و»السلام الأميركي» الذي رُوِّج له لعقود يظهر الآن على حقيقته كفاصل زمني عابر، بينما يتشكل باطراد واقع متعدد الأقطاب لم تعد الهيمنة الأميركية فيه مضمونة، أو حتى مرغوبة. كما يعكس الكيان الصهيوني الذي أصبح مرتبطا وجوديا بمثاله الأميركي أيضا هذا المسار التراجيدي للحماقة المتغطرسة، ويمعن في تقمص العقلية الاستعمارية التي أفضت تاريخيا إلى الانهيار. منذ إنشائه، أقام الكيان وجوده على مبدأ الاغتصاب والغزو الدائم –للأرض، والتاريخ، والسردية. وكما يلاحظ كثيرون، لا يكمن ضعف الكيان الأهم في التهديدات الخارجية بقدر ما هو في تصلبه الإيديولوجي وفشله في تخيل مستقبل لا يحكمه بالقوة. وكما يبدو من حالة القلق التي يعيشها الكيان، فإن التطرف العسكري وسياسات الفصل العنصري والتوسع المستمر لا تؤمن له البقاء بقدر ما تقربه من الانهيار. على الرغم من فظائعها التي لا توصف، أضاءت الحرب المستمرة غزة هذا المسار التراجيدي فحسب. ليست المذابح العشوائية للمدنيين، وحصار المدن، والتدمير المنهجي للحياة الفلسطينية علامات قوة بقدر ما هي تجليات يأس. والأعمال الوحشية ربما تكون الأنفاس الأخيرة المشحونة بالعنف التي ميزت تاريخيًا الأنظمة الاستعمارية المنقرضة. وهذا نمط تاريخي موثق: عندما تدرك المشاريع الاستعمارية الاستيطانية أن وجودها ليس مضمونًا، تستعين بالعنف المفرط في محاولة يائسة لقمع الحتمية التاريخية. وقد دفعت هذه الرؤية المؤرخ «الإسرائيلي» المعروف، أيلان بابيه، إلى التحدث بثقة عن سقوط الكيان: «أننا في مرحلة بداية نهاية المشروع الصهيوني، ويجب أن نكون جزءًا من الجهود لتقصير هذه الفترة». وبابيه ليس وحيدًا في رؤيته. في الأشهر الأخيرة، تآكلت المكانة الدولية للكيان كما لم تفعل من قبل. الحصانة التي تمتع بها لعقود أصبحت موضع تساؤل، وجرائمه تقارن بأكبر فظائع التاريخ وتناقشها المحام الدولية. وحركات المقاطعة والعقوبات ضده تزداد وتصبح أكثر جاذبية. حتى أن الشكوك بدأت تتسلل إلى الخطاب الدبلوماسي لأقرب حلفائه. وتواجه الولايات المتحدة، الراعية المطلقة لهذه الوحشية، إدانة مماثلة وتفقد آخر ما تبقى من ادعاء للأخلاقية واحترام القانون الإنساني. الآن، يخاطب الرئيس الأميركي كل الآخرين، ومنهم أوثق الحلفاء، بمنطق «أنا ربكم الأعلى». وربما تكون هذه بداية فض التحالف الغربي الذي أرهق العالم، وعزل الولايات المتحدة وتجنب التعاون معها، كما يظهر في بحث أوروبا عن نفسها وتأكيد استقلالها، وتركيز كندا على قوميتها، وتطلع الكثير من العالم النامي إلى القوى الكبرى البديلة. وينبغي للذهاب الواضح إلى التعددية القطبية أن يُنزل أميركا عن المسرح الذي غنّت عليه طويلًا وحدها. ربما يكون الجانب الأكثر تراجيدية في هذه الانهيارات المحتملة هو أنه كان بإمكان الكيانين اختيار طريق آخر. كان بإمكان أميركا أن تكون قوة بناءة في التعاون العالمي بدلًا من الإصرار على الهيمنة. وكان بوسع اليهود الهاربين من اضطهاد الغرب إلى فلسطين اختيار التعايش بدلًا من التطهير العرقي والإبادة والفصل العنصري. لكن البطل التراجيدي عندما يصل لحظة الإدراك، ويعرف عيبه القاتل، يكون الأوان غالبًا قد فات وانتهى الأمر. يوصف البطل التراجيدي بأنه شخصية بصفات نبيلة، لكنها تنطوي على عيب قاتل. لكننا نتعامل مع كيانين لا ينطويان على أي قدر من النبل أو الأخلاق المعروفة التي يمكن أن تجلب لهما التعاطف الذي يحظى به البطل التراجيدي. إنهما العرض المثالي للغطرسة، والجشع، والتعالي المتأله، وكل الشر المطلق الذي يعنيه الاستعمار الاستيطاني الإبادي –كل ما ينبغي للسقوط التراجيدي الحتمي.

فضائيّات الحابل والنّابل
فضائيّات الحابل والنّابل

الدستور

time١٥-٠٣-٢٠٢٥

  • الدستور

فضائيّات الحابل والنّابل

محمَّد سلَّام جميعان الذاتُ العربيةُ الآن جريحة كليمة، متأثِّمة، قَلِقة ومُحبَطَة، وعاجزة عن التكيُّف مع حضارة الأقوياء ومع العنف الذي يرسم لوحةً سوريالية للموت المجّانيّ وبقايا الجثث التي تحوم فوقها الغربان إنَّها ذات مرسومة على شاشات البث الفضائي، وسائمة في حقول الصورة، تطارد جراد الألوان الصاخبة؛ وإذ ترى في الفواصل الدعائيّة، الفاتناتِ، بأوصافهن الواردة في معلَّقة الأعشى، تتذكر إبليس والثعبان والتفاحة، وإذ ترى القبور والشواهد تتذكَّر قابيل، وتلوح لها سيماء تيمورلنك وهولاكو... ولأنَّ الذات العربيَّة الجريحة بـ «أيّام العرب» المعاصرة، تكره الصمت ونُباح الكلاب، فإنَّها تلوذ بأضعف الإيمان، وتُصغي إلى البرمائيين في نصائحهم التي تقود إلى الاستبداد الذي عناه الكواكبي بقوله في طبائع الاستبداد: (تضافرت آراء أكثر العلماء الناظرين في التاريخ الطبيعي للأديان على أن الاسـتبداد السـياسي متولّد من الاستبداد الديني... بينهما رابطة الحاجة على التعاون لتذليل الإنسان). وهكذا تبحث الذات العربية عن ذاتها المتخيَّلة في الصورة، تتغذَّى بمنتوجاتها. والعلاقة بين الجمهور والصورة تتعدّى التسلوية والتّلهي إلى حدّ الغرق التام في تفاصيلها، وتطابقه وتماهيه معها، والتذاذه بها. لم تستطع الذات العربية النكوصية الارتداديَّة استصدار تقرير طبّي أو فرمان قانوني يحمي شَبكيَّتها من عمى الألوان، ويحفظ عقلها من القُبَل والعمائم والتوابل ونكهات المطبخ الحديث، ووصفات الكهانة التي ستشفي الحارث بن حلّزة اليشكري من داء البَرَص، وتُحصّن غمّازة الخدِّ من الحسد... الكلُّ مبتهجٌ بالصورة: المُصوِّر والمُخرِج والمُشاهِد، ولا أحدَ يصيحُ: « قرِّبا مربط النعامة منّي... «كما صاح المهلهل حين قُتل ابنه. (فالعين) لم تعد تفيض بالدمع، وليست هي جهاز الإبصار، فقد حوَّلتها الصورة إلى حرفٍ استهلَّ به الفراهيدي مُعجمه الشهير «معجم العين»، ولا داعي لاستذكار (عين جالوت) فقطز مُدرجٌ على لائحة الإرهاب وحسبُ المُشاهِد «عيون المها بين الرصافة والجسر» لأنَّ عين المشاهِد العربي غدت أصغر من عيون الشرق آسيويين . إنَّه الاستبداد الجديد الذي دعا الذات العربية إلى أن تكون منشغلة بحريتها المفصَّلة بمقاييس فساتين هيفاء وأليسّا.. حرِّية مزركشة كفساتين بنات الغجر.. حرّية تُغيّر وظيفة اليد من رافعة لراية الوطن وعازفة على أوتار الآلات الموسيقية غِبطةً بالحياة، إلى ممسكة «بالريموت» مشبعة بِمَهمَّة قصّاصي الأثر، ليس طلباً للثقافة والوعي، بل إمعاناً في الرضوخ والاسترخاء أمام الاستبداد الجديد، فاستنشـاق حرية العـالم الحرّ يجب أن تكون من النوافذ بحسب تعليمـات «الباب العالي» و»الصدر الأعظم» . وإذا كان الاستبداد في القديم « يسلب الحرية والوعي»، فإنَّ الاستبداد الجديد « يزيّف الحريّة والوعي» ويُنادي الذات العربية المنصدِعة، التي تكاثرت عليها القواهر والمستلِبات: تعاليْ إلى دواء الإرهاق والحرمان والقلق والجوع وعواصف الأخبار، وعنتريات امرىء القيس في طلب ثأر أبيه، وفخر ابن كلثوم بالصبيّ المفطوم الذي تخرُّ له الجبابرُ ساجدينا... نَم الآنَ على إيقاع جديد.. لدينا الحلّ، فقيس بن الملوّح الذي أحبّ ليلى ولم يحظ بها سنزوجه منها زواجاً عرفياً ريثما تهدأ الأحوال (برامج التعارف والبحث عن شريك)، وجوع أبي الشمقمق سنداويه بالوجبات السريعة (برامج الطبخ).. حتى الزوجات غير المستويات التضاريس يجدن لدينا ما لم تجده ولّادة بنت المستكفي في بيت أبيها (برامج الريجيم)... لا تخش (الدكتاتور) فالصاحب بن عبّاد في سجن أغمات مسجون، فقد درست دولة الأدارسة والأغالبة ولا غالب إلّا الله. لا تصدِّق الكواكبي حين يقول: (أقبح أنواع الاستبداد، استبداد الجهل على العلم، واستبداد النفس على العقل، ويسمّى استبداد المرء على نفسه). فهذا لغو لا يساوي أرخص أنواع السجائر.. سنريك سحرَة فرعون وهم يفكّون الطلاسم وسيقرأون عليك من آيات الله البيّنات ما يحلّ العقد ويكفيك شرّ حاسد إذا حسد (برامج العلاج والرقى). قُلْ أعوذ بربّ الفلق واخفض توترك الصِّراعيّ مع اللقمة والسلطة والطبيعة، فلدينا من هو أمهر من (ابن سيرين) في تفسير تضغيثات الأحلام والتخريف النفسي، فإذا رأيتَ في منامك قِرداً يقشّر الموز فهذا إيذان بانسحاب القوات الأمريكية وحلول السلام في الشرق الأوسط، وإذا رأيتِ يا أختي في منامِك قطّاً سيامياً فهذا يعني انتهاء عقد عمل خادمتك السيرلانكية، (وإذا رأيت ثمّ رأيت نعيماً وملكاً كبيراً): ... شرق أوسط جديد مليء (باعتذارات النابغة) عن عداء السّاميَّة والبغضاء والكراهيات والمسوغات البذيئة للوقوع في شباك غواية الحرب والاستنارة والرفض والغثيان الروحي تحت سماء بلا أديان، حتى يغدو من الاستقباح والاستبشاع أن تقول (لا) للغباء المتفوِّق .. لن تصبح مفاهيمك التاريخية خاضعة للحرب الإعلامية التي يتحدَّث عنها وفيها خبراء في شؤون القارات الخمس!.. سنكون على درجة عظيمة من تحريف الحقيقة الحرّة! هذا هو قَدرُك الذي لا تستطيع الفكاك منه كالجوع والشيخوخة والموت، وما تبقّى من بلادات وتفاهات وأوبئة صرت محكوماً لها بحكم منطق وجودك. فالإحساس بالانغلاب والانقهار أمام الآخر يولِّد هوان الاعتبارات الذاتية، فالقواهر الخارجية تضاعف من الإِعْنات أمام القواهر الداخلية، فتُكثِرُ الشخصيةُ المستَلَبةُ والمستَبدُّ بها من الاجترار والاستكئاب: طلب الكآبة، والاستحزان، لأنَّ صورة الحاضر غير ناصعة، وغير بهيّة، فتدخل الذات عندئذ في لحظة انبهار، تُخفِت من حدَّة التوتر الصراعيّ النازفِ من كراماتٍ مجروحة، بفعل الضوابط الاجتماعية الكابحة أو القهر السياسي الرادع للحرية، أو الانحرافات في الوجدان الديني الآيل بالذات إلى عنف ضد ذاتها وضد الآخر، سبيلاً إلى الخروج من القلق والإثم والانجراح، وهو ما يسعى إليه ويوفِّره الاستبداد الجديد، حيث يتواطأ الديني والسياسي ويتقاسمان المهمات (فالمتن) للسياسي و(الحاشية) للفقيه المرسِّخ لمفهوم التبعية والطاعة، والناهز بمهمة التطويع والترويض من خلال النأي بـ(السياسة الشرعية) خارج السياق الأُحدوثي لخطابه، والاكتفاء – من ثم – بالشَّكلانية والتفريعات الصُّغْرَويّة، وتعزيز فكرة الخلاص الفردي، والتنافي والتنافر مع فكرة الخلاص الجماعي أو الاهتمام بالحرية والتفكُّر الحرّ، وتكريس فكرة الموت والحياة الأُخروية، والقناعة بالقليل والتّشظُّف والزهد،... وباختصار شديد: يسعى فقهاء الفضائيات إلى تفكيك العلاقة بين اللقمة والسلطة والمجتمع، وسجن المستمعين والمشاهدين في تصورات مثالية، قوامها الانشغال فحسب بحياة ما بعد الموت، نأياً بالجمهور عن الواقع أو التفكّر الحرّ في واقعه المعصوف بكُبْرَيات القضايا والأزمات. أما مفسرو الأحلام في الفضائيات، فيُسهمون في تكريس غايات الاستبداد الجديد بإلجاء جمهور الحالمين إلى الأحجبة والطلسمات الغيبية، وحرف الحلم وتأويله بعيداً عن واقعته الموضوعية، بجعل الأحلام المؤوّلة وسيلة للتكيف مع واقع الاستبداد الجديد، عن طريق تحويل الأُزعومات إلى اعتقادات، واللعب على فكرة التأويل بالضد. إنَّ إخراج المنامات من اللاوعي إلى الواقع وتحويلها من كونها هواجس مهموسة للباطن إلى حقائق مُسْتَعلَنة للخارج هو احتيال على الطاقة الحرة للإنسان في رفض واقعه، ومن ثم تدجين الإنسان/ صاحب الحلم، وإلجائه إلى الإيمان الوهمي بما ستؤول إليه حياته من بعد. فمؤولو الأحلام الفضائيون يتقصّدون إزاحة العوامل البيئية من تأويلاتهم، ويدعون مستفسريهم إلى عدم إتخام المعدة، وهذه في حد ذاتها عولمة اقتصادية للحلم، قوامها الاحتيال على لقمة المواطن المقهور والمنغلِب، وحقه في العيش الكريم، وتكمن أبعاد هذا الأمر في تقسيم الموائد إلى أطعمة أثرياء وأطعمة فقراء. وبتلقائية وعفوية صارخة ضاجّة ومحتجَّة تنطلق الذات المقهورة بجموح غادِر لذاتها في البحث عن الإشباع الجنسي. واللافت أن الكتب التي عنيت بالجنس في التاريخ العربي انولدت في عصور الانقهار العربي والاستبداد الأجنبيّ حيث الجنس يصير تعويضاً عن خسارات السلطة والاقتصاد والجاه الاجتماعي، وتعويضاً عن فقدان الأمن والطمأنينة، والليلةُ هذهِ تُشبهُ البارحة تلك، في النزوع إلى الخلاص من سلطة الانقهار، وها هي فضائيات الاستبداد الجديد تحقق غاية الاستبداد في كافة عصوره كما أشار إليه الكواكبي (الاستبداد تصرّف فرد أو جمع في حقوق قومٍ بالمشيئة وبلا خوفِ تبعة).

مسلسل المداح 5 الحلقة 16.. عودة رحاب لـ صابر
مسلسل المداح 5 الحلقة 16.. عودة رحاب لـ صابر

الوكيل

time١٥-٠٣-٢٠٢٥

  • الوكيل

مسلسل المداح 5 الحلقة 16.. عودة رحاب لـ صابر

الوكيل الإخباري- بعد عرض الحلقة 16 من مسلسل "المداح 5"، شهدت منصة X تفاعلاً كبيرًا من الجمهور، الذين عبروا عن آرائهم حول الأحداث المتصاعدة والتطورات الغامضة في الحكاية. اضافة اعلان تفاعل الجمهور أثار أحد المتابعين تساؤلات مثيرة حول عروسة المداح، حيث قال: "حاسس اللي هينهي على بنات إبليس العروسة اللي مع المداح.. هما دول سبب فتح البوابة وهتكون سبب قفلها، ولا انتو رأيكوا إيه؟"، بينما أشادت متابعة أخرى بقصة الشيخ جاد، ووصفتها بأنها "حلوة أوي، تفاصيلها وأحداثها مشوقة جدًا!" أحداث الحلقة 16 بدأت الحلقة بمشاهد فلاش باك، حيث كشفت زوجة جاد الله (حمادة هلال) عن كلمات غامضة أثناء مرضها، مما دفعه لاكتشاف بعض الحقائق التي ستؤثر على مجريات الأحداث. في الزمن الحاضر، حاولت فحيح (دارين حداد) السيطرة على صابر المداح وسط النيران، لكنه نجح في النجاة بعد هزيمة سعير، أحد أعوان الجن. في مفاجأة أخرى، ظهرت نتيجة تحاليل صابر المداح التي أكدت إصابته بالوباء، لكن دكتورة فاتن (غادة عادل) أنقذته بمصل اخترعته باستخدام السحر، واكتشف أن الميدالية التي يحملها قد حمتْه من تأثير السحر. عودة رحاب (هبة مجدي) كانت هي المفاجأة الكبرى في الحلقة، حيث أعادتها منال (دنيا عبد العزيز) وحسن (خالد سرحان) إلى صابر. وعندما رآها، شعرت بالاطمئنان وأخبرته عن معاناتها مع الجن، مما جعله يطلب منها البقاء في المنزل لحمايتها.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store