logo
البطالة وأثرها على الاستقرار المجتمعي

البطالة وأثرها على الاستقرار المجتمعي

جريدة الرؤية٢٦-٠٧-٢٠٢٥
علي بن عبدالله بن منصور السليمي
10259288@uofn.edu.om
دائمًا ما نسمع عبارة: "الباحثون عن عمل"، ولعلّك -عزيزي القارئ- واحدٌ منهم الآن. ولكن، هل تساءلت يومًا عن حقيقة هذه المشكلة التي تواجهها؟
أو عن الآثار التي قد تخلّفها، سواء على حياتك الشخصية أو على المجتمع بأسره؟
وهل حاولت في وقتٍ ما أن تبحث عن حلّ جذري لها؟
أنا لا أشك في ذلك... لكن في السطور القادمة، سنحاول أن ننظر إلى هذه المعضلة من زاوية مختلفة، لعلنا نستلهم منها شيئًا، أو يلتمس -ولو أحدنا- طريقًا نحو المستقبل الذي ينشده.
لا شكّ أنّ مشكلة "البطالة" باتت من القضايا العالمية الملحّة، فلا يكاد يخلو بيت -تقريبًا- من باحث عن عمل. ومع توالي الأزمات العالمية وتفاقم الصراعات الدولية، تتعاظم هذه الظاهرة، ويكون أول المتضررين منها هو المواطن الصالح البسيط، الذي يسعى بشرف إلى لقمة عيشه.
وعلى الرغم من الجهود الجادة التي تبذلها الحكومات في سبيل احتواء هذه الأزمة، إلا أننا نلاحظ -مع مرور الوقت- ازدياد أعداد الباحثين عن عمل، دون تحسّن ملموس في الأوضاع. ومن هنا، بات من الضروري عقد لقاءات موسعة ومناقشات جادة لإيجاد حلول واقعية وعملية لهذه الآفة، التي تنهش في نسيج المجتمع مثل سوسةٍ تأكل في صمت، حتى تحدث فيه شرخًا يصعب رأبه.
فهل ننتظر -لا قدّر الله- أن يبلغ السيل الزُبى؟
هل ننتظر انتشار الفقر، وازدياد معدلات الجريمة، وظهور الانحرافات السلوكية في مجتمعنا؟ بالتأكيد لا.
إنّ مجتمعنا المسلم المحافظ، يدرك تمامًا أن البطالة قد تفضي إلى هذه المشكلات الخطيرة، فهي نتيجة طبيعية للفراغ، واليأس، وانعدام مصدر الدخل.
وقد حث الإسلام على العمل والكسب الحلال، واعتبره من أسباب الكرامة والعيش الكريم، فقال تعالى:
"هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ" (الملك: 15).
وقال أيضًا: "وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ" (التوبة: 105).
كما قال النبي ﷺ: "مَا أَكَلَ أحدٌ طعامًا قط خيرًا من أن يأكلَ من عملِ يدِهِ..." (رواه البخاري).
إذاً يجب على كل امرئ فينا أن يسعى في طلب رزقه، ويطرق جميع الأبواب حتى يحقق مبتغاه.
وفي المقابل يجب أن تكون هناك تسهيلات كبيرة من لدن الدولة؛ حتى تتحقق للفرد الوظيفة المناسبة له التي يستطيع من خلالها أن يعيش حياة كريمة.
فلا يمكن للإنسان -بطبيعة الحال- أن يكون كائنا خاملا وسط الخلية المنتعشة التي تتطلب كل ذرة قوة فيها حتى تنمو وتزدهر، وإلا سيتم إقصاؤه بعيدًا.
إلا أن هذا الأمر لا يتحقق إلا إذا تكاتف الجميع، وعملوا فيما بينهم على إصلاح الخَلَّة، ومعالجة العِلَّة، فلا يمكن القضاء على هذه الظاهرة إلا إذا تظافرت جميع الجهود من أعلى الهرم إلى أدناه.
ولربما هناك بعض الحلول التي من شأنها أن تسهم في تقليص حجم هذه المشكلة ومضرتها، وسنسردها لكم فيما تبقى من سطور قليلة قادمة...
ولمواجهة هذه الظاهرة، تبرز الحاجة الملحّة إلى تبنّي سياسات تنموية واقتصادية شاملة، تستند إلى رؤى واقعية وفاعلة. ومن أبرز هذه السياسات: تنشيط الاستثمارات في القطاعات المنتِجة لفرص العمل، ودعم ريادة الأعمال والمبادرات الفردية، والعمل على مواءمة مخرجات التعليم والتدريب مع متطلبات سوق العمل. كما ينبغي تشجيع الشباب على الانخراط في المهن الحرفية والتقنية، ونشر ثقافة الإنتاج والعمل الجاد، باعتبارها أساسًا لبناء مجتمع متماسك واقتصاد مستدام.
وفي الختام، فإنّ البطالة ليست مجرد أزمة اقتصادية، بل هي تحدٍّ حضاري يمسّ كيان المجتمع واستقراره وأمنه.
ومن هذا المنطلق، يجب علينا -أفرادًا ومؤسسات- أن نستشعر حجم المسؤولية، ونتكاتف جميعًا في السعي الجاد نحو إيجاد الحلول، وتوفير بيئات محفزة للعمل، وتمكين الشباب من أداء دورهم الحقيقي في بناء أوطانهم.
ولنأخذ بأسباب النجاح والتوكل على الله، متيقنين بأن العمل شرف، والكسب الحلال عبادة، وأن في الجد والاجتهاد تُصنع الأمم وتنهض الحضارات.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

وزراء الاجتماع
وزراء الاجتماع

جريدة الرؤية

timeمنذ 7 ساعات

  • جريدة الرؤية

وزراء الاجتماع

د. صالح بن ناصر القاسمي بعض اللقاءات التي تجمعك مع بعض القامات الفكرية، وما يدور في تلك اللقاءات من نقاشات، تجعلك تقف أمام مشاهد قلَّ أنْ تلاحظها بتلك الصورة، لولا احتكاكك بتلك العقول، التي حباها الله بميزة القراءة الناقدة المتفحصة والمتأنية قبل إطلاق تصوراتها المبنية على اقتناع بأفكارها تجاه القضايا المجتمعية. ولا شك أن تلك التصورات لم تكن ناتجة فقط عن عملية القراءة والمطالعة، بل هي نتيجة امتلاك عقلية نقية حباها الله بميزات استثنائية، تجعلها تفرز تصورات قابلة للفهم وهي أقرب للواقع، بحيث تمكن المتلقي من فهمها وتقبلها بصورة سهلة وبسيطة. نعم، كم هي ذات فائدة مثل تلك اللقاءات وما ينتج عنها من تنوير للعقول، واكتساب المعرفة التي ربما كانت أفضل من اكتسابها بطرق أخرى، وذلك لسهولة وبساطة التلقي، ولوجود تلك الكاريزما التي لديها القدرة على التأثير والإلهام. وفي أحد تلك اللقاءات دار النقاش حول ما الذي يجعل بعض الشخصيات تتمتع بمزايا وصفات إيجابية، وسمات أخلاقية، تميزهم عن الآخرين، بل تجعلهم محطة ومهوى لجذب قلوب واستحسان كل من يعرفهم ويخالطهم، ويحرص على اللقاء بهم، بل ويلجأ إليهم متى ما ضاقت بهم الأحوال. والسؤال المطروح: هل للبيئة تأثير في تكوين تلك الشخصيات؟ أم أن للجينات الوراثية تأثيرا في ذلك؟ وإذا كان للبيئة تأثير فلماذا لا تتشابه الشخصيات في المحيط الواحد؟ أسئلة جديرة بالتفكر -لا شك في ذلك- فمن المعلوم أن البيئة المحيطة ذات تأثير مباشر على تكوين شخصية الإنسان، ونعني هنا: البيئة بمعناها الطبيعي؛ أي الحياة على الشواطئ، والصحاري، والجبال، هذه البيئات التي تنعكس بشكل مباشر على شخصيات الناس التي تقطنها. ناهيك عن المؤثرات الأخرى مثل التعليم والثقافة العامة للمجتمعات في تلك البيئات. ما يعنينا هنا هو التأكيد على أن البيئة لها انعكاس مباشر على شخصية الإنسان، وذلك التأثير يظهر أثره على تصرفات وتعاملات الإنسان بحسب كل بيئة، مثل صفات الكرم، والأمانة، والتسامح، وتقبل الآخر، والصبر، وغيرها من الصفات، ولا شك أيضًا أن هناك صفات تُعد سلبية بحسب تقييم وتقدير المتعامل مع تلك الشخصيات. ومن خلال ذلك المعترك البيئي المادي، والموروث الثقافي والأخلاقي، تبرز على الساحات تلك النماذج من الشخصيات الإنسانية المميزة النادرة، وهو ما جعل أحد المحاورين يطلق عليها -وزراء الاجتماع- وهو مصطلح، وبحسب ما يتضح، أنه من إبداعات ذلك العقل الرائع، وهو في الحقيقة مصطلح استوقفني وشدني ووجدتني أخط هذه الأسطر لنتناوله ولو بشيء من التوضيح. ببساطة شديدة.. فإنَّ شخصيات وزراء الاجتماع هي تلك الشخصيات التي تتمتع بدماثة الأخلاق، وطيبة النفس، والكرم، والصبر، ونقاء الفطرة، وحسن العشرة، بالإضافة إلى امتلاك بشاشة الوجه، وطلاقة اللسان. مثل هذه الشخصيات، تجدها دائمًا حريصة كل الحرص على التواصل المجتمعي في المناسبات بشكل عام، مع حرصها على التواصل الفردي بشكل خاص، هذا التواصل الخالي من المصلحة الشخصية، والنفاق المجتمعي- كما يُطلق عليه- عند البعض. وغالبًا ما تكون هذه الشخصيات محورية في مجتمعها، وتمثل محل جذب إليها دون تكلف أو حتى تعمد الجذب، وإنما هي فطرة وسجية لديها. وغالبًا ما تكون مثل هذه الشخصيات تتمتع بصفة الكرم والبساطة. هناك جانب آخر مضيء لهذه الشخصية، إنه جانب التسامح غير المتكلف مع الآخر، فهو لا يتوقف كثيرًا عند الأخطاء والزلات، فتجده يعاشر من أخطأ في حقه وكأن شيئًا لم يحدث، فيلاقيه بوجه طلق ويبدأه بالسلام والتحية، بل أحيانًا يبالغ في إكرام من أخطأ في حقه. وقد روى لي صاحب مصطلح "وزراء الاجتماع" عن قصة حدثت عند أصحاب إحدى تلك الشخصيات؛ حيث تنامى إلى مسمعه أن أحد الأشخاص تكلم في شخصه كلامًا مسيئًا، وما هي إلا أيام معدودة حتى وجه له دعوة لزيارته في منزله وكأن شيئًا لم يحدث بينهما، إنها الشجاعة الأخلاقية في أبهى صورها، والنفس النقية التي لا تعرف الحقد والضغينة. إنهم حقًا وزراء اجتماعيون بطبيعتهم، بثقلهم الأخلاقي، ولكون هذه المناصب -وزراء الاجتماع- من يتولاها هم أناس قليلون؛ فإنهم حقًا يستحقون هذه المناصب عن جدارة واستحقاق، فليس من السهولة في هذا الوقت المتسارع الأحداث، المليء بالآفات النفسية والأخلاقية، أن نجد مثل هؤلاء بكل سهولة، ومع هذا لا يخلو منهم مجتمع، تجدهم مثل النور الذي يُستضاء به في العتمة. ولعل أجمل ما يميز هؤلاء، أن وجودهم في المجتمع يشبه وجود الجذور العميقة للشجرة، تلك الجذور التي قد لا نراها، ولكنها تحفظ الشجرة من السقوط في وجه الرياح، وتغذيها بالماء حين تجف الأرض. إنهم يربطون الماضي بالحاضر، ويحافظون على الخيط الرفيع الذي يمنع القلوب من التباعد، ويصونون حرارة العلاقات الإنسانية وسط برودة الحياة المادية المتسارعة. وحين يرحلون، نشعر وكأن جزءًا من ملامح المجتمع قد غاب، لا لكونهم أشخاصًا عاديين، بل لأنهم كانوا يمثلون صمامات الأمان التي تهدئ النفوس، وتعيد التوازن حين تميل الكفة إلى الصخب أو الخصام. ألا يخطر على بالنا ونحن نتحدث عن مثل تلك الشخصيات آباؤنا وأجدادنا الذين كانوا على قدرٍ عالٍ من التسامح، وعلى مرتبةٍ رفيعة من الحكمة، ومكانةٍ مرموقة لم يكونوا يبحثون عنها؛ وإنما فرضت حضورها في المجتمع، وحظيت بما حظيت من احترامٍ وتقديرٍ في أوساط فئات المجتمع. والسؤال هنا: هل سيأتي زمن تختفي فيه مثل هذه الشخصيات من مجتمعاتنا؟ أم أن بيت الطين لا يخلو من الطحين؟ بحسب المثل السائر. إنَّ الخطوة الأولى التي ينبغي علينا الاهتمام بها، لكي نحافظ على وجود مثل هذه الشخصيات في مجتمعنا، بل وزيادة عددها، لإيماننا بأن هذه الشخصيات هي ميزان التوازن لمجتمعنا، أن نكرس اهتمامنا بغرس مبادئنا وقيمنا الأخلاقية في الناشئة، سواء في مدارسنا، وجامعاتنا، ومجالسنا العامة والخاصة، فمجتمعنا له تلك النكهة الخاصة به، والسمت الذي يشعرك بالاطمئنان والأمان. ونأمل أن يُصبح جميع أفراد مجتمعنا وزراء اجتماعيون؛ فليس ذلك على الله بعزيز. فبقدر ما تشرق الشمس فتمنح الأرض دفئها، يشرق هؤلاء في قلوبنا فيمنحونها سكينة وسلامًا، وبقدر ما يروي الغيم الحقول بالماء، يروون الأرواح بحسن الخلق وجميل العشرة، فإذا غابوا، بقي عبيرهم في الأفق شاهدًا أن النبل لا يزول، وأن الخير مهما تراجع، لا ينطفئ نوره أبدًا.

الوسطية.. ميزان الحياة ومفتاح السعادة
الوسطية.. ميزان الحياة ومفتاح السعادة

جريدة الرؤية

timeمنذ 7 ساعات

  • جريدة الرؤية

الوسطية.. ميزان الحياة ومفتاح السعادة

د. ناصر بن علي الجهوري في عالم يتأرجح بين الإفراط والتفريط، تبرز الوسطية كنمط راقٍ للعيش المتوازن، لا هو انحياز للمبالغة، ولا هو انجراف نحو الإهمال، بل هو طريق مستقيم منير يحقق للإنسان راحته النفسية، ويمنحه القدرة على التفاعل الإيجابي مع واقعه ومع تفاصيل الحياة. قبل الخوض في تفاصيل الوسطية، من المهم التفريق بينها وبين مفاهيم قريبة مثل التوازن والاعتدال والاعتراف بالاختلاف؛ فالتوازن يشير إلى حالة من التساوي بين عناصر معينة، بينما الاعتدال هو مظهر من مظاهر الوسطية يتمثل في الاعتراف بالمقاييس الصحيحة للأمور دون مبالغة أو تفريط. أما الاعتراف بالاختلاف فهو احترام وتقدير التنوع في الآراء والسلوكيات، وهو أحد أبعاد الوسطية التي تسمح بالتعايش السلمي بين الأفراد والمجتمعات. إذن، الوسطية ليست مجرد حالة توازن جامدة، بل هي فلسفة شاملة تجمع بين الحكمة والمرونة والاعتدال، وتُفضي إلى حياة متكاملة متزنة. وفي السياق ذاته، فإن الوسطية ليست حكرًا على جانب بعينه، بل هي قيمة إنسانية راقية تعززها الحضارات الإنسانية عبر العصور، وليست فقط مبدأً دينيًا؛ إذ نجدها متجذرة في مختلف الثقافات التي سعت إلى بناء مجتمعات متماسكة ومتعايشة، حيث الكفة التي توازن الميزان، لا تميل إلى جانب على حساب آخر، بل تحفظ استقرار النظام العام في الحياة. في تعاليم الدين الإسلامي الحنيف، الوسطية قيمة جوهرية؛ فهي ترفض الغلو والتسيب، وتدعو إلى التوازن بين متطلبات الروح والجسد، وبين الحقوق والواجبات. قال الله تعالى: " وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا " (البقرة: 143)؛ أي أمة عادلة معتدلة. وعلاوة على ذلك، فإن هذا المنهج يُشجع على التسامح والتفاهم في الحياة الاجتماعية، مما يسهم في بناء جسور المحبة والتعاون بين الناس. ومن الأمثلة التي تُعزِّز هذا المفهوم، أن الفكر المتزن والمعتدل لا يحصر نفسه في رأي واحد ولا يرفض كل ما سواه؛ بل ينفتح على التنوع والتعددية ويختار ما هو أصلح وأقرب للحقيقة. وهو يمنح الإنسان القدرة على الحوار البنّاء، وتقبل الرأي الآخر، وعدم مصادرة الفكر، ويجنبه التطرف والتشدق في تبني الأفكار أو رفضها. كما إن السلوك المعتدل يظهر في التعامل مع الآخرين بإنصاف واحترام، دون إفراط في الثقة يعرّض صاحبه للاستغلال، ولا تفريط يولّد الجفاء والانعزال. والوسطية تتطلب وزن الأمور بعدالة، فنحسن لمن يستحق الإحسان، ونحذر ممن يُخشى شره، دون أن نفقد إنسانيتنا. وفي الجانب العملي من الحياة، يحتاج الجسد كما يحتاج الروح، إلى توازن دقيق بين العمل والراحة. الإفراط في العمل قد يؤدي إلى الإنهاك والتعب المزمن، بينما الإفراط في الراحة يولد الكسل وفقدان الإنتاجية. الوسطية هنا تشبه الكفة التي توازن الميزان، بحيث نحقق الإنجازات والنجاحات دون أن نفقد صحتنا أو حياتنا الاجتماعية. وفي السياق ذاته، فإن التوازن البيئي جزءٌ لا يتجزأ من فلسفة الوسطية؛ فكما إن الإنسان يحتاج إلى موارد الطبيعة للعيش، فإن عليه مسؤولية الحفاظ عليها لاستدامة الحياة وللأجيال القادمة. ولا شك أن الإفراط في استنزاف الموارد أو الإهمال في حمايتها يخلّ بالنظام البيئي، ويهدد التنوع الحيوي الذي هو أساس الحياة على الأرض. الوسطية البيئية تعني أن نستفيد من خيرات الأرض دون إسراف، ونستخدم التقنيات والموارد بوعي، ونسهم في إعادة التدوير والحفاظ على نظافة البيئة، حتى نحافظ على هذا الكوكب كبيت مشترك لكل الكائنات الحية. مما سبق.. يتضح لنا أن الوسطية ليست ضعفًا ولا حيادًا سلبيًا؛ بل هي قوة الحكمة التي تُمكِّن الإنسان من أن يعيش حياة مستقرة، متصالحة مع ذاته ومع الآخرين. إنها الكفة التي توازن ميزان الحياة، وتمكننا من الصمود في وجه تحديات العصر. والتوازن في مختلف مناحي الحياة هو الضمان الحقيقي للنجاح والسعادة، وهو ما يجعل الوسطية منهجًا صالحًا لكل زمان ومكان، ومنهجًا تُحتذى به عبر حضارات البشر وتقاليدهم في كل بقاع الأرض.

"البيت العود" في مطرح
"البيت العود" في مطرح

جريدة الرؤية

timeمنذ يوم واحد

  • جريدة الرؤية

"البيت العود" في مطرح

أنور الخنجري alkhanjarianwar@ كان صباحًا من تلك الصباحات التي تنبض بالحياة في المناطق الساحلية، حيث تعانق أشعة الشمس صفحة الماء الصافية، فتبدو كمرآة شفافة تمتد في الأفق، متجاوزة اليخوت السلطانية والسفن السياحية الفاخرة وقوارب الصيادين التي تتناثر على ساحل سوق الأسماك في مطرح. هناك، في تلك البقعة المعروفة بـ"الشارع البحري" أو "الكورنيش"، وفي هذه المدينة العريقة التي كانت في زمن ما مرسى لأساطيل البرتغاليين، والإسبان، والعثمانيين، والفرنسيين، والهولنديين، والبريطانيين، تستعرض قواها أمام صمود الأسطول العُماني الفذ، إلى جانب تلك السفن التجارية القادمة من شرق المعمورة وغربها، وما تحمله في خاناتها من سلع وبضائع خاصة بالتجار العمانيين، وجلها كانت ترد عن طريق وكلاء الشحن المحليين ومنهم الحاج علي بن عبداللطيف فاضل، التاجر والوجيه المطرحي البارز، الذي يعود إليه الفضل -بعد الله سبحانه وتعالى- في بناء هذا الصرح المعروف بـ"البيت العود" أو "بيت الحاج علي" كما يسميه عامة الناس، و"البيت العود" بالمصطلح العماني هو البيت الكبير أو بيت كبير العائلة، ويعود تاريخ تشييده لأكثر من 100 عام. يصعب على الزائر أن يخطئ رؤية هذه الأيقونة المعمارية المطلة على شاطئ مطرح، بواجهتها البحرية الخلابة، وشرفاتها الواسعة، وأقواسها الضخمة، ونوافذها الخشبية المطلية باللون الأزرق، ومشربياتها المتقنة، التي تثير الحيرة والتأمل؛ حيث يقف الزائر أمامها متأملًا حائرًا بين ماضٍ يبدو كأنه خرج من صفحات التاريخ، وحاضر لا يخلو من ملامح تجربة فريدة في هندسة البناء، مما يثير تساؤلات عدة؛ هل هي عمارة عُمانية؟ أم هندو - أوروبية؟ أم مستلهمة من طراز البيوت الشاطئية الانجلو - فرنسية، أو تلك المطلة على مضيق البوسفور؟ كثيرة هي التساؤلات، لكن هذه التفاصيل الدقيقة هي التي تمنح مطرح نكهتها الخاصة، ولولاها لكان الشاطئ كبقية الشواطئ، بمياهه الفيروزية ورماله الناعمة. لكنه لم يكن كذلك؛ لقد كان مسرحًا لتجربة حضارية فريدة، انصهرت فيه ثقافات وخلفيات وأعراق متعددة، لتشكل أول مدينة اقتصادية في البلاد، لها قوانينها وتعاملاتها التجارية الخاصة. وفي هذا السياق، مارسَ الحاج علي بن عبداللطيف فاضل وذريته دورًا محوريًا في تاريخ المدينة، إذ كانت لهم وكالات تجارية واسعة مع تجار الأسواق المحلية والعالمية، ومع شركات ما وراء البحار في آسيا وإفريقيا وحتى أوروبا وأمريكا. فقد شملت وارداته وصادراته سلعا مختلفة من كل تلك المناطق، وكان شهبندر التجار هذا محل تقدير ومكانة من الحكام والأعيان، ومنهم السلطان سعيد بن تيمور، الذي حل ضيفًا مرحبًا به في "البيت العود" في أواخر أربعينيات القرن الماضي وبصحبته عدد من أصحاب السمو والأعيان والتجار، في مناسبة لا تزال حاضرة في ذاكرة بعض أبناء مطرح الذين غمرهم الفخر والغبطة بمقدم السلطان. كما استقبل "البيت العود" في العهود السابقة شخصيات ورموزا سياسية واقتصادية وتجارية في المجتمع المحلي والخليجي، منهم على سبيل المثال الشيخ عبدالله السالم الصباح الذي حل ضيفًا على وليمة أقامها على شرفة الحاج علي في عام 1950؛ أي قبل أن يصبح الشيخ أميرًا على دولة الكويت، إضافة إلى خطّار آخرين من مختلف الأجناس والجنسيات. كما شهدت جدران البيت العديد من اجتماعات أهل الحل والعقد في مطرح، وجرت في قاعاته الواسعة العديد من الصفقات والعقود التجارية والعائلية. لكن الزمن لم يعد هو الزمن؛ فالمدن قد تبدلت، والوجوه تغيّرت، وبقي الحنين إلى الماضي حلمًا طويلًا، إلى أن بدأ يتجلى واقعًا ملموسًا. ففي قلب مدينة مطرح؛ حيث تتعانق طموحات المال والأعمال مع تحديات الواقع، بزغ اسم "البيت العود" من جديد، برؤية لا تنتمي إلى الماضي ولا تحاكي الحاضر، بل ترسم ملامح مستقبل ما يزال يتشكل. ويقف "البيت العود" اليوم على ذلك الشريط الساحلي الممتد بين مسقط ومطرح، مبنى من طابقين، بمدخل جانبي يعلوه باب خشبي أنيق بنقوش إسلامية جميلة، وجدران بيضاء تتخللها نوافذ زرقاء، كأنها تعلن عن لونٍ في لوحةٍ قديمة. أما في الداخل، فثَمّ مساحات رحبة، مؤثثة بذوق رفيع، تتوسطها صالات فاخرة بأبواب طويلة يكسوها الزجاج الملون. فإذا خرجت إلى الخارج، ألفيتَ شُرفات ظليلة لا متناهية، يُخيّل للناظر أنها تندمج مع الأفق وكأنها رأس بر ممتد داخل البحر الفسيح. يتكوّن البيت في الأصل من بيتين متراصين، تغطي مساحة بنيانه حوالي 1100 متر مربع، قام ورثة الحاج علي بترميمها وتجديدها بما يتلاءم مع متطلبات العصر، ليصبح "البيت العود" وجهة نادرة، تحاكي المتاحف الخاصة في كبرى مدن العالم. وهناك، تحت سقف ذلك البيت الكبير، التقيت بالرجل الذي يقف خلف هذا المشروع الطموح رضا ابن الحاج علي العبد اللطيف، رجل تجاوز منتصف العمر، يحمل في ملامحه صلابة واضحة، وقد خاض تجارب عديدة في الحياة والأسفار. بدا هادئًا، واقعيًا، يتحدث بلغة بسيطة واضحة، بعيدة عن الزخرف والتكلف. شرح لنا، نحن الضيوف، عن تاريخ البيت وتفاصيل إحيائه، بلغة يميزها الاتزان والدقة، في تعبير صادق عن رؤية حقيقية لإحياء "البيت العود" مع فريق عمل آمن بفكرته حتى تحققت. وهكذا، بعد مرور حوالي مائة عام على تشييده، يعود "البيت العود" إلى الحياة من جديد، تحفة معمارية تستعيد أمجادها بهدوء وأناقة، شاهدة على عراقة مطرح وعبقرية الإنسان العُماني حين يتلاقى الوفاء بالتاريخ مع طموح المستقبل. وفي هذا المقام لا يسعني إلا الاستشهاد بالأبيات الشعرية المحفورة على باب المدخل الرئيسي للبيت والتي تقول: هذه الدار ما تزال سعيدة لا تراها العيون إلا مشيدة كلما رمّها العدو بليلٍ ردّها الله فاستقامت جديدة

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store