
جدلية الأداء والتأويل في الشعر
العربي الحميدي - المغرب
التباين بين شاعر الإلقاء محمود درويش وشاعر المعنى د. محمد حلمي الريشة.
أيّهما أولى الأداء أم العمق الدلالي؟
بين شاعر الإلقاء وشاعر المعنى، أقف كقارئ ومتلقٍّ أمام تجربتين مختلفتين: إحداهما تسحره بالأداء الصوتي والإيقاعي، كما في تجربة محمود درويش، والأخرى تأخذه إلى عمق الدلالة والتأويل، كما في شعر د. محمد حلمي الريشة. وهذا لا يعني أن درويش يفتقر إلى المعنى، ولا أن الريشة يفتقر إلى الجمالية الصوتية، بل يكمن الفرق في الأولوية التي يمنحها كل شاعر لهويته الإبداعية.
في الغالب ينجذب الجمهور العام إلى شاعر الإلقاء بسبب التأثير المباشر للصوت والإيقاع، بينما يجد القارئ المتأمل في نصوص د. محمد حلمي الريشة تجربة أكثر تحديًا وتأملًا. وبين هاتين التجربتين، يظل الشعر فنًّا عصيًّا على التعريفات، يفتح لكل دارسٍ وقارئٍ ومتلقٍّ أفقه الخاص في التفاعل معه.
تمثل تجربة كلٍّ من محمود درويش وحلمي الريشة نموذجين متباينين في التعاطي مع الشعر، حيث يختلفان في الأدوات والأساليب والرؤى الجمالية التي تشكّل قصيدتيهما. فمن جهة، كان محمود درويش شاعرًا استطاع أن يجعل الإلقاء جزءًا من تجربته الإبداعية، بينما يتجه حلمي الريشة إلى الاشتغال العميق على المعنى، ليكون بذلك أكثر انشغالًا ببنية النص الداخلية وتأويلاته الممكنة.
هذه الثنائية ليست حكرًا على الشعر العربي، بل نجدها في التجارب الغربية أيضًا، حيث برز شعراء جعلوا من الأداء وسيلةً لإحياء النص، وآخرون اتخذوا التأمل الفلسفي محورًا لتجربتهم الشعرية.
حلمي الريشة: شاعر المعنى واستبطان اللغة
يمثّل حلمي الريشة نموذجًا مختلفًا في الشعرية العربية، فهو شاعر يشتغل على المعنى في عمقه الفلسفي والدلالي، حيث تصبح القصيدة لديه مختبرًا لغويًا وفكريًا. تتسم قصيدته بكثافة المعنى، وتتطلب من القارئ جهدًا تأويليًا يتجاوز السطح المباشر للكلمات إلى مستويات متعددة من الفهم والتأمل.
تشبه تجربة الريشة في كثير من جوانبها تجربة الشاعر الأميركي-البريطاني ت. س. إليوت (T. S. Eliot)، الذي تميزت قصيدته "الأرض اليباب" (The Waste Land) بتركيباتها الرمزية واستبطانها العميق للمعنى. كان إليوت يؤمن بأن القصيدة ليست مجرد انفعال لحظي، بل بناء معقد من الرموز والتأويلات، وهو ما يتقاطع مع تجربة الريشة في تعامله مع اللغة بوصفها فضاءً تأويليًا غنيًا.
أما الشاعر الألماني بول سيلان (Paul Celan)، فقد تبنّى نهجًا أكثر تجريدًا واستبطانًا، حيث تعجّ نصوصه بالإشارات الفلسفية والميتافيزيقية، خاصة في قصيدته الشهيرة فوغا الموت (Todesfuge). وكما هو الحال مع حلمي الريشة، كان سيلان شاعرًا يرفض المباشرة، ويدفع بالقارئ إلى إعادة قراءة النص عدة مرات لفهم مستوياته المتعددة.
محمود درويش: شاعر الإلقاء وسحر الأداء
لا يمكن الحديث عن محمود درويش دون التوقف عند أدائه الشعري الاستثنائي، فقد امتلك القدرة على تحويل القصيدة إلى خطاب شفهي يأسر السامعين، ما جعله من أكثر الشعراء العرب تأثيرًا من خلال صوته قبل كلماته. اعتمد درويش على الإيقاع الموسيقي في قصيدته، وكان يجيد التحكم بنبرة صوته، متنقلًا بين الانفعال والتأمل، ليخلق تجربة شعرية تتجاوز المعنى النصي إلى تجربة حسية كاملة.
تذكرنا تجربة درويش بتجربة الشاعر الأميركي ألين غينسبرغ (Allen Ginsberg)، أحد أبرز شعراء جيل البيت (Beat Generation)، الذي كان يستخدم الأداء الشفهي والموسيقى لإيصال نصوصه. قصيدته الشهيرة عواء (Howl) ليست مجرد نص مكتوب، بل تجربة صوتية ملحمية يكتسب فيها الإلقاء بُعدًا سياسيًا وثقافيًا. كان غينسبرغ يلقي شعره بإيقاع موسيقي أقرب إلى الترانيم، تمامًا كما كان درويش يخلق موسيقاه الخاصة داخل النص.
قصائد درويش (المغناة) تحمل بعدًا شعريًا وأدائيًا، حيث تتحول الكلمات إلى تجربة حية عبر اللحن والصوت، ما جعل القصيدة فنًّا أدائيًا مؤثرًا يتجاوز حدود النص المكتوب.
الأداء والتأويل: جدلية عالمية
نرى هنا أن التمييز بين شاعر الإلقاء وشاعر الاستبطان ليس قاطعًا، بل هو طيفٌ يمتد بين الأداء الحيّ للقصيدة والنص المكتوب كفضاء للتأويل. يمثل محمود درويش وحلمي الريشة نموذجين متباينين داخل الشعر العربي، لكنّهما يعكسان جدلية عالمية أوسع نجدها في الشعر الغربي أيضًا.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الديار
١٢-٠٥-٢٠٢٥
- الديار
متحف محمود درويش يطلق فعالياته في ذكرى النكبة
اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب "متحف محمود درويش" يفتتح فعاليات إحياء الذكرى الــ 77 للنكبة بمعرض فني بعنوان: "لن نرحل... ستبقى فلسطين للفلسطينيين". في إطار إحياء الذكرى الــ 77 للنكبة، وتأكيداً على الصمود الفلسطيني والتمسك بالهوية الوطنية، افتُتح أمس الأول في "متحف محمود درويش" في رام الله، معرض فني بعنوان: "لن نرحل.. ستبقى فلسطين للفلسطينيين". ويضم المعرض 77 لوحة لفنانين وفنانات من القدس والضفة الغربية وقطاع غزة ومختلف أماكن الوجود الفلسطيني، تُجسّد محطات مركزية من النكبة الفلسطينية، من الحياة قبل التهجير عام 1948، إلى مشاهد الاقتلاع واللجوء، مروراً بتداعيات النكبة المستمرة، ومعاناة اللاجئين، والاعتداءات المتكررة على المخيمات، والتهجير القسري المتواصل، وصولاً إلى استذكار القرى المهجّرة وإحياء ذاكرتها في وجدان الأجيال. وقال المنظمون إن المعرض ليس مجرد مساحة فنية، بل هو منصة وطنية مقاومة تُعبّر عن النكبة كحدث مستمر، وتمثّل انطلاقة لسلسلة من الفعاليات الوطنية في الذكرى الـ77 للنكبة، وتجسّد معاناة اللاجئين الفلسطينيين المتجددة مع كل استهداف للمخيمات، واستمرار حرب الإبادة في غزة، وكل محاولة لإنهاء دور وكالة "الأونروا" كمدخل لتصفية القضية. ومن المقرر أن يتواصل المعرض لمدة 5 أيام، ويُستأنف في 13 أيار 2025 في مركز البيرة الثقافي، بالتزامن مع وقفة دعم للأسرى، حيث يُعلَن رسمياً عن انطلاق فعاليات إحياء ذكرى النكبة لهذا العام، إلى جانب الحملة الإعلامية المصاحبة.


الديار
٢٥-٠٤-٢٠٢٥
- الديار
ريتشارد غير يدعم فلسطين
اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب واصل النجم الأميركي ريتشارد غير تسجيل مواقف داعمة لفلسطين ووقف الاعتداءات على قطاع غزة، وآخر ما أقدم عليه إطلاق مطلع قصيدة: فكر في غيرك، للشاعر محمود درويش الذي سبق والتقاه قبل فترة طويلة، سجلها وصورها بالإنكليزية تحت عنوان: think of others. المطلع نشرته مجموعة: "فنانون من أجل وقف إطلاق النار"، على موقعها عبر أنستغرام، وهي التي شاعت للشاعر درويش وتتناول صرخة إلى الإنسان في كل مكان لكي يفكر في آخرين في هذا العالم يعيشون مآسي متعددة الأشكال للتضامن معهم. "وأنت تعد فطورك، فكّر بغيرك. لا تنسى قوت الحمام، وأنت تخوض حروبك، فكر بغيرك. لا تنس من يطلبون السلام، وأنت تعود إلى البيت، بيتك، فكر في غيرك. لا تنس شعب الخيام وأنت تحرر نفسك بالاستعارات، فكر بغيرك. من فقدوا حقهم في الكلام، وأنت تفكر في الآخرين البعيدين فكر في نفسك، قل ليتني شمعة في الظلام" هذا مطلع القصيدة.


صوت بيروت
٢٤-٠٤-٢٠٢٥
- صوت بيروت
ريتشارد غير يُحرّك الضمير العالمي بقصيدة درويش من أجل غزة
عبّر الممثل الأميركي 'ريتشارد غير' عن دعمه للشعب الفلسطيني من خلال مشاركته الصوتية في أداء قصيدة 'فكّر بغيرك' للشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش، وذلك ضمن حملة أطلقتها مجموعة 'فنانون من أجل وقف إطلاق النار' عبر منصة إنستغرام. وظهر 'غير' وهو يلقي القصيدة، مستحضرا لقاء جمعه بدرويش قبل أعوام طويلة. وقد لاقت المبادرة تفاعلا واسعا على منصات التواصل الاجتماعي، حيث وُصف الممثل الأميركي بأنه 'صوت ضمير إنساني' و'مدافع بارز عن حقوق الإنسان'، خصوصًا في ظل دعوته الواضحة لوقف إطلاق النار في غزة، وإنهاء معاناة المدنيين. وبوسم 'وقف إطلاق النار الدائم الآن' نشرت مجموعة 'فنانون من أجل وقف إطلاق النار' الفيديو مع رسالة جاء فيها: 'نُكرّم اليوم جميع من يسعون لإنهاء المعاناة والظلم في فلسطين وفي جميع أنحاء العالم، وندعو أولئك الذين لم يرفعوا أصواتهم بعد للانضمام إلى هذه القضية الإنسانية. في هذا السياق، نشارككم قصيدة 'فكّر بغيرك' للشاعر محمود درويش، بصوت الممثل وناشط حقوق الإنسان ريتشارد غير، أحد أعضاء مجموعة (فنانون من أجل وقف إطلاق النار)'. وأضافت 'فنانون من أجل وقف إطلاق النار' أنه في ظل الظروف الصعبة التي يعيشها المدنيون في غزة ندعو إلى ضرورة وضع المحبة والتعاطف في صميم جهودنا الجماعية لحماية إنسانيتنا. نحن نلتزم بالعمل من أجل وقف دائم لإطلاق النار، والإفراج عن جميع الرهائن، وإنهاء الحصار على المساعدات الإنسانية التي تسهم في إنقاذ الأرواح. وتقول قصيدة الشاعر الفلسطيني محمود درويش: و'أنت تعدّ فطورك، فكّر بغيرك' (لا تنسَ قوت الحمام) وأَنت تخوض حروبك، فكّر بغيرك (لا تنسَ من يطلبون السلام) وأنت تعود إلى البيت، بيتك، فكّر بغيرك (لا تنسَ شعب الخيام) وأنت تحرّر نفسك بالاستعارات، فكّر بغيرك (من فقدوا حقّهم بالكلام) وأنت تفكّر بالآخرين البعيدين، فكّر بنفسك (قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلام)' ولا يخفي النجم الأميركي، البالغ من العمر 75 عاما، تأييده لحقوق الشعب الفلسطيني، وفي تصريحات سابقة له اعتبر أن الوضع في الأراضي الفلسطينية يعد مستحيلا ولابد إنهاء الاحتلال. ففي عام 2017 انتقد 'غير' المستوطنات التي يقيمها الاحتلال الإسرائيلي داخل الأراضي الفلسطينية، واعتبر أنها تمثل شيئا استفزازيا منافيا للعقل. وفي عام 2021 كان من بين مجموعة من المشاهير الموقعين على رسالة ترفض تصنيف مجموعات فلسطينية تعمل في مجال حقوق الإنسان كمنظمات إرهابية، ومن بين الموقعين على الرسالة كل من سوينتون وسوزان ساراندون، والمخرج كين لوتش. وقال في تصريحات له وقتها إن للشعب الفلسطيني مكانة في قلبه، بسبب محنته في ظل الاحتلال الإسرائيلي، كما تحدث عن أمل الفلسطينيين وقدرتهم على الصمود. وكان مكتب وكالة 'الأونروا' في الولايات المتحدة قد أعاد نشر تصريحات الفنان الأميركي الداعمة لفلسطين عبر منصة 'تويتر'، في وقت تعاني فيه الوكالة من ضغوط مالية متزايدة، وسط محاولات ممنهجة من جانب الاحتلال لتعطيل تمويلها والحد من قدرتها على تقديم الخدمات الأساسية للاجئين، بالإضافة إلى استهداف منشآتها التعليمية في قطاع غزة بالقصف المباشر. وزار الممثل الأميركي مدينة رام الله الفلسطينية عام 2003 وحرص على زيارة عدد من الفنانين والمثقفين الفلسطينيين في إطار جولة قام بها للتقريب بين الشعوب، خاصة أنه من نجوم هوليود الحريصين على المشاركة في العمل السياسي التطوعي.