logo
معركة الوثائق السرية في مواجهة التاريخ الاستعماري المظلم لبريطانيا

معركة الوثائق السرية في مواجهة التاريخ الاستعماري المظلم لبريطانيا

الجزيرةمنذ 11 ساعات

في عام 2009، تقدم 5 كينيين مسنين بطلب رسمي إلى رئيس الوزراء البريطاني غوردون براون ، طالبوا فيه بالاعتراف بالانتهاكات الجسيمة التي تعرضوا لها خلال الحكم الاستعماري البريطاني لكينيا في خمسينيات القرن الماضي.
ورغم ضعف الأدلة المتوفرة في البداية، فقد وصلت القضية إلى المحكمة العليا البريطانية عام 2011، لتكشف عن مفاجأة مدوية، وهي أن بريطانيا تعمدت إخفاء وتدمير آلاف المستندات التي توثق ممارسات قمعية ارتُكبت خلال تلك الحقبة، خشية الإضرار بسمعتها أو فتح الباب أمام مطالبات قانونية قد تؤدي إلى مساءلة تاريخية.
ما بدأ كقضية قانونية محدودة فتح الباب واسعا على تاريخ طويل من القمع الاستعماري الذي مارسته بريطانيا في مختلف أنحاء العالم. فعلى مدار قرون، بسطت الإمبراطورية البريطانية نفوذها على مساحات شاسعة وتركت خلفها إرثا من الظلم والجروح والصراعات لا يزال يلقي بثقله على المشهد العالمي حتى اليوم.
من التجارة إلى الإمبراطورية
بدأت الإمبراطورية بتأسيس شركة الهند الشرقية البريطانية التي سرعان ما تحولت من مشروع تجاري إلى قوة إمبريالية، تخوض الحروب وتفرض سيطرتها على مساحات شاسعة من جنوب آسيا، مما مهد لصعود بريطانيا كقوة عالمية، ومع احتكار التجارة في الهند و الصين ، عززت بريطانيا نفوذها الاقتصادي والعسكري، واضعة الأسس لإمبراطورية امتدت عبر القارات.
مع دخول القرن الـ19، أصبحت القارة الأفريقية ساحة جديدة لمشاريع بريطانيا الاستعمارية بعد احتلال مصر عام 1882 والسيطرة على قناة السويس ، التي ضمنت لبريطانيا هيمنتها على أحد أهم طرق التجارة إلى الهند.
واجه سلوك بريطانيا الاستعمارية في أفريقيا مقاومة شرسة، لا سيما في جنوب القارة، ولكن بحلول أواخر القرن الـ19، كانت بريطانيا قد أحكمت قبضتها على أجزاء واسعة من القارة، محققة رؤيتها بإنشاء إمبراطورية تمتد "من كيب تاون إلى القاهرة"، كما في أدبيات تلك المرحلة.
وكانت الإمبراطورية حينها تضم ما يقرب من ربع مساحة اليابسة في العالم وأكثر من ربع مجموع سكانها، ولم تكن هيمنة بريطانيا مقتصرة على الأراضي وحدها، بل امتدت للسيطرة التجارية والسياسية في مناطق إستراتيجية أبرزها الصين.
في الصين، فرضت بريطانيا ما يُعرف بـ"المعاهدات غير المتكافئة" بعد سلسلة من الحروب سميت ب حروب الأفيون الأولى والثانية، التي بدأت بسبب قيام بريطانيا بتصدير الأفيون إلى الصين لتعويض العجز التجاري المتزايد لديها بسبب الطلب الكبير على الشاي الصيني.
لكن مع تصاعد التغيرات الجيوسياسية، وظهور قوى دولية منافسة، بدأت هيمنة بريطانيا العالمية بالتآكل التدريجي. وفي محاولة لإعادة صياغة علاقتها بمستعمراتها السابقة، أُعلن عام 1931 عن تشكيل الكومنولث البريطاني، الذي ضم الكيانات التي حازت قدرا واسعا من الحكم الذاتي، لكنها استمرت في الاعتراف الرمزي بالملك البريطاني كقائد لهذا التجمع.
ظلّت هونغ كونغ الشاهد الأخير على التاريخ الاستعماري البريطاني حتى عام 1997، لتسلمها بريطانيا رسميا إلى السيادة الصينية، وتطوي بذلك آخر صفحات إمبراطوريتها المباشرة.
يروج بعضهم لفكرة أن الإمبراطورية البريطانية شكلت استثناء ملحوظا في القاعدة الاستعمارية، استنادا إلى ما يُعرف بـ"النهج الناعم" البريطاني، في إدارة مستعمراتها دون اللجوء إلى الفظائع التي ارتكبتها القوى الاستعمارية الأخرى، غير أن هذا التصور، بحسب عدد من الباحثين والمؤرخين، أدى إلى إضفاء سردية مُجتزأة تُخفي جوانب أساسية من العنف البنيوي الذي ميز التجربة الاستعمارية.
ووفقا لهذا الطرح، تم تقديم السياسات العسكرية البريطانية باعتبارها إجراءات "منضبطة" و"متحضرة"، بل وذات طابع إنساني، في حين جرى تبرير استخدام القوة على أنه ضرورة تهدف إلى فرض النظام بين شعوب توصف بأنها "بدائية" أو "متخلفة".
ورغم أن القانون الدولي وضع قواعد تضبط سلوك الدول "المتحضرة" في النزاعات المسلحة، فإن هذه القواعد لم تُطبق في الحروب الاستعمارية التي خاضتها بريطانيا، بل غالبا ما جرى تجاهلها وفق مختصين، مما فتح المجال أمام ارتكاب مجازر واسعة بحق السكان الأصليين تحت غطاء استعادة الأمن أو فرض الهيبة الإمبراطورية.
في عام 1898، ارتكب الجيش البريطاني بقيادة الجنرال هربرت كتشنر مجازر واسعة ضد قوات المهدية السودانية في معركة كرري (أم درمان)، استخدم البريطانيون أسلحة حديثة مثل المدافع الرشاشة والبنادق المتطورة، في حين كان غالبية المقاتلين السودانيين مسلحين بأسلحة بيضاء وأسلحة تقليدية.
فتحت نيران البوارج، واستخدمت القوات البريطانية رشاشات مكسيم المحملة بذخائر "دوم دوم" المتمددة، وكانت القذيفة الواحدة تخلف عشرات القتلى، وهي من أوائل الأسلحة الآلية في التاريخ العسكري الحديث، وفرت هذه الرشاشات كثافة نارية غير مسبوقة، مما جعلها واحدة من أقوى الأسلحة في الحروب الاستعمارية.
تصف المصادر والشهادات المعركة بأنها كانت إبادة جماعية أكثر منها مواجهة عسكرية متكافئة، إذ واصل الجنود البريطانيون إطلاق النار حتى بعد هروب أو استسلام العديد من السودانيين، وأعدموا الجرحى على أرض المعركة. أسفر ذلك عن مقتل ما يقدر بين 10 آلاف إلى 26 ألف مقاتل سوداني في غضون ساعات، بينما لم تتجاوز خسائر البريطانيين 100 قتيل.
وقد أثارت وحشية المجزرة انتقادات واسعة في الصحافة البريطانية في ذلك الوقت، واعتبرها كثيرون رمزا لهمجية الإمبريالية البريطانية واحتقارها لحياة الشعوب المستعمَرة.
ورغم الانتقادات الدولية الواسعة، استمرت بريطانيا في استخدام هذه الذخائر حتى عام 1902، ليس بسبب اعتبارات إنسانية، بل خوفا من أن تُستخدم ضد قواتها من قبل خصومها، بحسب ما ذكره متخصصون.
وفي عام 1919، شهدت الهند واحدة من أسوأ المجازر، حين فتحت القوات البريطانية نيرانها على حشد من المتظاهرين المدنيين في حديقة جاليانوالا باغ بمدينة أمريتسار في إقليم البنجاب ، قُتل في ذلك اليوم نحو 400 شخص، وأصيب أكثر من 1000 وفق الأرقام الرسمية، بينما تشير مصادر مستقلة إلى أن الأعداد الحقيقية أكبر بكثير.
لم تكتف القوات البريطانية بإطلاق النار، بل منعت أيضا تقديم الإسعافات للمصابين، في خطوة أثارت موجة غضب عالمي.
لم تكن هذه الحادثة سوى واحدة من سلسلة طويلة من الانتهاكات التي ارتكبتها بريطانيا في مستعمراتها، فقد استخدمت السلطات الاستعمارية سياسة الأرض المحروقة في مواجهة أي مظاهر مقاومة، شملت إحراق القرى وتهجير السكان، كوسيلة لفرض السيطرة وإخماد التحركات الشعبية.
وكان أحد أكثر أساليب الإعدام الوحشية التي استخدمها البريطانيون ضد المتمردين في الهند هو تفجير الأسرى من أفواه المدافع، وهو أسلوب دموي تعمّد انتهاك الشعائر الدينية لدى المسلمين والهندوس معا، جعلت من المستحيل دفن أو حرق الجثث وفق الشعائر الدينية، مما أضفى طابعا رمزيا يهدف إلى تحطيم الروح المعنوية والدينية للمجتمعات المُستعمَرة.
ووفقا للمؤرخين الرسميين، شهدت الهند خلال الحكم البريطاني إعلان الأحكام العرفية، حيث كان الجنود والمدنيون البريطانيون يعقدون محاكمات دموية صورية أو يعدمون السكان الأصليين دون أي محاكمة، بغض النظر عن الجنس أو العمر.
A post shared by الجزيرة الوثائقية (@aljazeeradocumentary)
وكان ونستون تشرشل وزيرا للدولة لشؤون الحرب والطيران -مازال يُحتفى به باعتباره رمزا للمقاومة البريطانية خلال الحرب العالمية الثانية – من أشد المدافعين عن الحفاظ على الإمبراطورية البريطانية حتى باستخدام أساليب قمعية مثيرة للجدل.
ففي عام 1919، كتب تشرشل صراحة أنه "يؤيد بشدة استخدام الغاز السام ضد القبائل غير المتحضرة"، وفي العام التالي أصدر أوامر باستخدام القوة المفرطة لقمع الانتفاضة في العراق ، حيث نفّذ سلاح الجو الملكي أكثر من 4 آلاف ساعة من الطلعات القتالية، وأسقط ما يزيد عن 97 طنا من القنابل، وأطلق ما يزيد عن 184 ألف طلقة ضد المدنيين العراقيين، مما أسفر عن دمار واسع وسقوط أعداد كبيرة من الضحايا المدنيين.
وخلال الثورة الفلسطينية الكبرى بين عامي 1936 و1939، واجه البريطانيون المقاومة الفلسطينية بأساليب وحشية، تمثلت في الإعدامات العلنية دون محاكمة، وهدموا المنازل كعقاب جماعي، وفرضوا عقوبات جماعية على القرى المشتبه بدعمها للثوار، كما مارست قوات الانتداب التعذيب المنهجي في مراكز التحقيق بحق مئات المعتقلين الفلسطينيين خلال التحقيقات مع الفلسطينيين المشتبه بهم.
وشكّلت أساليب القمع البريطاني في أفريقيا نموذجا للوحشية المؤسسية الاستعمارية تحت غطاء التمدن ومسمى "إعادة التأهيل". ففي مالاوي وحدها، بين عامي 1948 و1960، أسفرت العمليات العسكرية عن مقتل نحو 6711 شخصا، وصفتهم بريطانيا بـ"الإرهابيين"، إلى جانب 2473 مدنيا، ضمن حملة استُخدمت فيها أقسى وسائل العنف العسكري.
وفي كينيا، تحولت البلاد إلى مسرح لانتهاكات واسعة خلال الثورة الكينية بقيادة شعب الكيكويو ضد الاستعمار البريطاني، حيث اعتُقل مئات الآلاف من المدنيين وزُجّ بهم في معسكرات اعتقال ومورست داخلها أشكال مختلفة من التعذيب، شملت الضرب والتجويع والانتهاكات الجنسية والعمل القسري والإذلال الممنهج.
وبحلول عام 1955 تم تهجير أكثر من مليون شخص من منازلهم في كينيا إلى مناطق مغلقة بالأسلاك الشائكة، وفقا للتقارير البحثية، وتشير السجلات إلى أن من بين ضحايا التعذيب كان جدّ الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما.
وفي محاولة للقضاء على المقاومة، أسقطت القوات البريطانية أكثر من 6 ملايين قنبلة على غابات كينيا خلال 18 شهرا فقط. وبينما تقدّر الأرقام الرسمية عدد القتلى بنحو 11 ألف شخص، فإن مؤرخين بارزين، مثل ديفيد أندرسون من جامعة أكسفورد، يرجّحون أن العدد الحقيقي يصل إلى 25 ألفا، في حين قدّرت كارولين إلكينز من جامعة هارفارد عدد الضحايا بنحو أكثر من 300 ألف قتيل.
التمييز الممنهج
شملت السيطرة البريطانية التمييز القانوني والاجتماعي ففي عام 1902، فرضت الإدارة الاستعمارية ضريبة الكوخ (Hut Tax) بعد أن صادرت أراضي السكان الأصليين، مما أجبرهم على العمل لدى المستوطنين الأوروبيين من أجل تأمين دخل لدفع هذه الضريبة.
وقد ترافقت هذه السياسة مع قوانين مجحفة، أبرزها قانون الأراضي الصادر عام 1913، الذي منح المستوطنين البيض في كينيا وجنوب أفريقيا امتيازات عقارية طويلة الأمد تصل إلى 999 عاما، في حين حُرم السكان الأصليون من حق التملك أو الإيجار في معظم الأراضي الخصبة.
وفي عام 1919، فرضت السلطات البريطانية على السكان الكينيين الأصليين حمل أقراص معدنية للتعريف الشخصي.
وقد اعتُبرت هذه الإجراءات من أوائل أشكال التمييز الممنهج الذي مارسته سلطات استعمارية باستخدام وسائل توثيق شخصية تُفرّق بين السكان على أساس العرق أو الأصل، في إجراء قارنه مختصون بما فعله النظام النازي لاحقا في أوروبا، وبأنظمة الفصل العنصري اللاحقة في أفريقيا.
التهجير القسري
وفي الستينيات، ومع تصاعد حركة الاستقلال في أفريقيا، نسّقت بريطانيا سرا مع الولايات المتحدة واحدة من أكبر عمليات التهجير القسري إثارة للجدل في تاريخها لترحيل سكان جزر تشاغوس من وطنهم، بهدف إنشاء قاعدة عسكرية أميركية على جزيرة دييغو غارسيا.
ورغم صدور عدد من الأحكام والتوصيات الدولية التي تدين هذا الفعل، أبرزها الرأي الاستشاري الصادر عن محكمة العدل الدولية في فبراير/شباط 2019، الذي خلص إلى أن استمرار السيطرة البريطانية على الأرخبيل غير قانوني، وأن على المملكة المتحدة إنهاء إدارتها "في أقرب وقت ممكن"، لم تُبدِ الحكومة البريطانية أي التزام فعلي بإعادة السكان أو الاعتراف بمسؤوليتها التاريخية.
في عام 2023، أصدرت منظمة "هيومن رايتس ووتش" تقريرا وصفت فيه التهجير القسري لسكان تشاغوس بأنه "جريمة ضد الإنسانية"، وطالبت فيه بمحاكمة المسؤولين عن الانتهاكات، إضافة إلى تعويض السكان وأحفادهم بشكل كامل وغير مشروط.
الاستغلال الاقتصادي والعبودية.. أدوات بريطانيا لبناء إمبراطوريتها
كانت السياسات البريطانية في مستعمراتها مبنية في الأساس على نهج الاستغلال الاقتصادي واستعمال العبودية، فلم تكن مجرد تدابير تنظيمية، بل وسيلة ممنهجة لتحقيق التوسع والثراء الاستعماري.
يتضح ذلك جليا في إقليم البنغال الهندي، حيث فرضت شركة الهند الشرقية زيادات حادة في الضرائب أدت إلى تدهور الوضع المعيشي للسكان، إذ تضاعفت الضرائب 3 مرات في غضون 5 سنوات فقط.
وقد أسهمت هذه السياسة القسرية في التحصيل الضريبي، المصحوبة بتجاهل الإدارة البريطانية للمجاعات المتكررة، بشكل مباشر في وقوع مجاعة كبرى عام 1770، قُدّر عدد ضحاياها بنحو 10 ملايين بنغالي، أي ما يعادل ثلث سكان الإقليم في ذلك الوقت.
وتكشف الدراسات أن السياسات الاقتصادية البريطانية في الهند بين عامي 1765 و1938 أدت إلى نهب واستنزاف ما لا يقل عن 9 مليارات جنيه إسترليني من ثروات الهند.
ولم تقتصر سياسة الاستغلال هذه على شبه القارة الهندية، بل امتدت إلى ما وراء المحيط الأطلسي، حيث كانت بريطانيا لاعبا أساسيا في تجارة الرق، إذ شارك تجارها في استعباد أكثر من 3 ملايين أفريقي، نجا منهم نحو 2.7 مليون فقط من ظروف النقل القاسية، وقد شكل الأطفال نسبة كبيرة من الضحايا.
أتاحت العبودية لبريطانيا تراكم ثروات طائلة من خلال استغلال المستعبدين في إنتاج محاصيل مربحة كالسكر والقطن والتبغ، وأسهمت بشكل مباشر في تمويل الثورة الصناعية.
ورغم صدور قانون لحظر تجارة الرقيق عام 1807، فإن العبودية لم تُلغَ بالكامل حتى 1833، واستمر التمييز ضد المستعبدين السابقين فظلوا يواجهون عنصرية ممنهجة أبقتهم مواطنين من الدرجة الثانية، وهو إرث ما زالت آثاره ممتدة حتى اليوم.
السياسات الاستعمارية في الشرق الأوسط
لعبت بريطانيا دورا محوريا في تشكيل خريطة الشرق الأوسط خلال الحرب العالمية الأولى وما تلاها، من خلال انتهاج سياسات اتسمت بالتناقض والمراوغة، فقد أطلقت لندن سلسلة من الوعود السياسية المتضاربة.
إذ تعهدت للشريف حسين بدعم الاستقلال العربي عن الدولة العثمانية مقابل وقوفه إلى جانبها في الحرب. غير أن بريطانيا سرعان ما نكثت هذا الوعد، ودخلت في مفاوضات سرية مع فرنسا تمخضت عن اتفاقية سايكس-بيكو عام 1916، التي اقتسمت بموجبها القوتان النفوذ الاستعماري في المنطقة.
وبعد أيام قليلة من دخولها الحرب ضد الدولة العثمانية في نوفمبر/تشرين الثاني 1914، شرع مجلس الوزراء البريطاني في بحث مستقبل الحركة الصهيونية.
وفي عام 1917 صدر وعد بلفور الشهير، الذي أعلنت فيه بريطانيا دعمها لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، لتخضع فلسطين لاحقا للانتداب البريطاني (1920-1948) بتفويض من عصبة الأمم.
خلال تلك الفترة، شجعت بريطانيا الهجرة اليهودية إلى فلسطين وعملت على تعزيز نفوذها في المنطقة دون أن تلجأ إلى الضم المباشر بما يتطلبه من موارد وكلفة إدارية وعسكرية.
وقد لخّص أحد المؤرخين البريطانيين هذا النهج بقوله: "الاستنتاج الوحيد المنطقي هو أن الجميع كذبوا على الجميع، ولم يكذب أحد بأكثر براعة، بناء على طموحاته، مثل البريطانيين".
وفي عام 2017، رفضت الحكومة البريطانية تقديم أي اعتذار بشأن وعد بلفور، الذي قالت حينها إنه موضوع تاريخي ولا نية لها في الاعتذار عنه، بل أعربت عن الفخر بدور بريطانيا في إيجاد دولة إسرائيل.
وجاء هذا الموقف رغم التماس قُدم للحكومة وقع عليه أكثر من 11 ألف بريطاني يطالبون بالاعتذار عن الوعد، مما ألزم الحكومة بإصدار رد رسمي.
ضحايا مدنيون في المحاكم البريطانية
في عام 2012، شهدت المحكمة العليا في لندن واحدة من أبرز القضايا التاريخية التي سلطت الضوء على الجرائم الوحشية التي ارتكبتها بريطانيا خلال فترة استعمار كينيا، أدلى 4 مواطنين كينيين -بينهم امرأة تدعى جين مارا- بشهاداتهم أمام المحكمة حول الانتهاكات المروعة التي تعرضوا لها خلال حملة القمع البريطانية في خمسينيات القرن الماضي.
كانت جين تبلغ من العمر 15 عاما عندما جرى اعتقالها وتعذيبها بوحشية، وابتكر الجنود البريطانيون أداة تشبه الكماشة لاستخدامها في الضغط على المناطق الحساسة للمعتقلين، في محاولة لإلحاق أكبر قدر ممكن من الألم والإذلال.
أثناء جلسات المحاكمة، ظهرت أدلة قاطعة على أن السلطات البريطانية سعت إلى طمس هذه الجرائم، حيث تبين أن وثائق رسمية كانت قد أُخفيت أو نُقلت سرا إلى منشآت حكومية مراقبة، وفي ديسمبر/كانون الأول 2010، حكم القاضي بأن وزارة الخارجية ومنظمة الكومنولث البريطانية ملزمتان بالكشف عن الوثائق المرتبطة بالقضية.
ونتيجة لهذا القرار، تعهدت الحكومة البريطانية بإطلاق أكثر من 8800 ملف سري تعود إلى 37 مستعمرة سابقة، كانت مخزنة في منشأة شديدة الحراسة تعرف باسم "هانسلوب بارك" في مقاطعة باكينغهامشير.
فتحت هذه القضية الباب لقضايا أخرى مشابهة، ففي أعقابها، قرر 35 من مقاتلي منظمة "إيوكا" القبرصية، التي خاضت نضالا مسلحا من أجل استقلال قبرص، رفع دعوى جماعية ضد الحكومة البريطانية.
وأكد المدّعون تعرضهم لانتهاكات جسيمة على أيدي القوات الاستعمارية في خمسينيات القرن الماضي، ومن بين هؤلاء امرأتان قدمتا شهادات مروعة عن معاملة غير إنسانية، تضمنت الاغتصاب والتعذيب والضرب والإيهام بالغرق.
عززت الوثائق التي أفرج عنها الأرشيف الوطني البريطاني عام 2012 مصداقية هذه الروايات، وكشفت عن أدلة موثقة على الانتهاكات، بما في ذلك مقتل رجل قبرصي كفيف أثناء حملة أمنية، لجأت الحكومة البريطانية مرة أخرى للتسوية المالية، معلنة أنها ستدفع مليون جنيه إسترليني كتعويض للمتضررين. غير أنها شددت في الوقت نفسه أن هذا الاتفاق لا يُعد اعترافا قانونيا بالمسؤولية عن الانتهاكات.
View this post on Instagram
A post shared by الجزيرة الوثائقية (@aljazeeradocumentary)
تدمير وإخفاء ممنهج للوثائق الاستعمارية
في أعقاب قضية كينيا 2012 أظهرت مراجعة رسمية أن بريطانيا قامت بإتلاف آلاف الوثائق التي توثق أكثر الجرائم خلال السنوات الأخيرة من الإمبراطورية البريطانية، لمنع وقوعها في أيدي حكومات ما بعد الاستقلال، مما يكشف عن محاولات متعمدة لمحو التاريخ الاستعماري القاتم وتفادي أي مساءلة قانونية.
أما الوثائق التي نجت من التدمير فقد تم نقلها سرا إلى أرشيف وزارة الخارجية، بعيدا عن متناول المؤرخين والجمهور، حيث تم إخفاؤها لما يقارب 50 عاما، في مخالفة صريحة للالتزامات القانونية التي تفرض إتاحتها للعلن.
تتضمن هذه الأوراق تعليمات التدمير المنهجي الصادرة في عام 1961 بعد أن وجه إيان ماكلويد، وزير الدولة لشؤون المستعمرات، بأن حكومات ما بعد الاستقلال يجب ألا تحصل على أي مواد "قد تحرج حكومة صاحبة الجلالة"، والتي يمكن أن "تحرج أفراد الشرطة أو القوات العسكرية أو الموظفين العموميين أو غيرهم مثل مخبري الشرطة"، وقد تعرض مصادر الاستخبارات للخطر.
وضمن الوثائق القليلة التي كُشف عنها لاحقا، تبيّن أن الوزراء في لندن كانوا على دراية تامة بعمليات التعذيب والقتل التي تعرض لها متمردو ماو ماو في كينيا، ومن بينها حالة مروعة لامرأة "شُويت حية".
كما تضمنت السجلات تفاصيل عن التهجير القسري لسكان جزيرة دييغو غارسيا في المحيط الهندي، الذين أُجبروا على مغادرة أراضيهم بالقوة.
إضافة إلى وثائق حساسة من مستعمرة عدن، حيث كان فيلق المخابرات التابع للجيش البريطاني يدير مركزا سريا للتعذيب خلال ستينيات القرن الـ20. كذلك، تم تدمير جميع الوثائق الحساسة المتعلقة بمستعمرة غويانا البريطانية.
في كينيا، أُبلغ المسؤولون الاستعماريون بأن "البديل عن الإحراق هو وضع الوثائق في صناديق ثقيلة وإلقاؤها في أعماق البحر بعيدا عن الساحل".
اعتذارات مبهمة ومترددة
في الماضي، كان البريطانيون ينظرون إلى إمبراطوريتهم بفخر واعتزاز، باعتبارها فترة جلبت القوة والثروة إلى بريطانيا، وساهمت في تمويل الاكتشافات العلمية، وتوسيع آفاق التجارة الدولية، ومساعدة البلدان الأخرى على ولوج عالم الحداثة والتقدم.
لكن هذا التصور اصطدم باستطلاعات حديثة أظهرت أن 6 من كل 10 بريطانيين يؤيدون تقديم اعتذار رسمي لأحفاد ضحايا العبودية، سواء من الحكومة البريطانية أو العائلة المالكة، أو الشركات التي استفادت من استغلال البشر خلال الحقبة الاستعمارية، وتتعالى الأصوات المطالبة بالاعتذار أيضا خارج بريطانيا، حيث تزداد الدعوات في دول الكاريبي وأفريقيا إلى اتخاذ مواقف أكثر شجاعة تجاه الماضي الاستعماري.
خلال زيارته إلى كينيا عام 2023، أقر الملك تشارلز الثالث بارتكاب بريطانيا "أعمال عنف بغيضة وغير مبررة" خلال فترة الاستعمار، معبرا عن "الأسف العميق" لما حدث.
ووصف الرئيس الكيني وليام روتو تصريحات الملك بأنها "خطوة شجاعة"، لكنه شدد على أن "التعويض الكامل لم يتحقق بعد".
أما لجنة حقوق الإنسان الكينية، فقد دعت الملك إلى تقديم "اعتذار علني غير مشروط"، معتبرة أن التصريحات البريطانية لا تزال "حذرة وتحمي مصالحها".
ويثير هذا التردد تساؤلات قانونية وأخلاقية، خاصة من منظور مختصين في القانون الدولي، فبينما تحمل الاعتذارات الرسمية رمزية سياسية عميقة، لكنها لا تُلزم الدولة قانونيا بأي التزامات مادية أو تعويضات، مما يجعل امتناع بريطانيا عن الاعتذار يبدو خيارا سياسيا أكثر منه ضرورة قانونية.
ورغم أن الإمبراطورية البريطانية لم تعد قائمة رسميا، فإن نفوذها الثقافي والاقتصادي لا يزال ملموسا، حيث يرى مراقبون أن الهيمنة البريطانية ما زالت تستمر اليوم في أشكال أكثر نعومة، من خلال مؤسسات دولية تبدو محايدة، كالكومنولث أو الأمم المتحدة أو منظمات متعددة الأطراف تحتفظ فيها القوى الاستعمارية السابقة بثقل كبير في صناعة القرار.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

هل يفتح الاتحاد الأفريقي صفحة جديدة مع السودان؟
هل يفتح الاتحاد الأفريقي صفحة جديدة مع السودان؟

الجزيرة

timeمنذ ساعة واحدة

  • الجزيرة

هل يفتح الاتحاد الأفريقي صفحة جديدة مع السودان؟

على هامش قمة الجامعة العربية في بغداد أثارت تصريحات لافتة أدلى بها رئيس المفوضية الأفريقية محمود علي يوسف أبدى فيها تفاؤله بانتصارات الجيش السوداني حالة من الجدل بشأن تغيرات محتملة في موقف المؤسسة القارية من طرفي الصراع ببلاد النيلين. وتأتي هذه التصريحات في لحظة مفصلية من الحرب السودانية أعقبت تغييرات كبيرة على المستوى الميداني بتقدم القوات المسلحة السودانية في العديد من المحاور الإستراتيجية، في ظل فشل المبادرات المختلفة للدفع نحو تسوية سلمية. علاقة متوترة طبع التوتر علاقة الاتحاد الأفريقي والسودان منذ انقلاب أكتوبر/تشرين الأول 2021، والذي تلاه تعليق الاتحاد عضوية السودان ، معتبرا ما حدث "تغييرا غير دستوري للسلطة". وقد جاء هذا القرار ضمن سياسة الاتحاد الأفريقي الصارمة تجاه الانقلابات العسكرية في القارة، حيث شدد على ضرورة العودة إلى المسار الانتقالي المدني كشرط أساسي لأي انخراط رسمي مع السلطات السودانية. ومع اندلاع الحرب في السودان في أبريل/نيسان 2022 تزايدت المبادرات الأفريقية لكبح جماحها، وبرز منها إعلان الاتحاد "خارطة طريق" لحل الأزمة السودانية في مايو/أيار 2023 تضمنت 6 محاور رئيسية، منها الوقف الشامل لإطلاق النار، وتسهيل وصول المساعدات الإنسانية، وبدء حوار سياسي شامل، واستعادة النظام الدستوري. كما شُكلت في يناير/كانون الثاني 2024 لجنة رفيعة المستوى معنية بالسودان ضمت 3 شخصيات أفريقية بارزة برئاسة الممثل السامي للاتحاد الأفريقي لإسكات السلاح الدكتور محمد بن شمباس. لكن أحد أبرز ملامح العلاقة بين الاتحاد الأفريقي والسودان شكّلها الخلاف الحاد بين الأخير ورئيس المفوضية الأفريقية السابق موسى فكي محمد الذي وصفت ورقة صادرة عن مجموعة الأزمات الدولية إدارته لاستجابة المفوضية للحرب في السودان بـ"الفوضوية". وفي هذا السياق، اتهم الجيش السوداني فكي والمفوضية بالانحياز لصالح أطراف معينة، خصوصا بعد لقاءات مثيرة للجدل بين مسؤولي الاتحاد ومستشارين لقوات الدعم السريع، مما فاقم التوتر وأدى إلى "حرب بيانات" بين الخارجية السودانية والاتحاد الأفريقي. ويرى محللون أن هذه الاتهامات أضعفت مصداقية الاتحاد الأفريقي لدى الحكومة السودانية، وأدت إلى تراجع التعاون مع مبادراته، كما انعكست على فعالية اللجنة الرفيعة المستوى التي أخفقت في تحقيق تقدم ملموس بملف إيقاف الحرب. سياق متغير التوتر وعدم الثقة اللذان وسما علاقة المفوضية الأفريقية والسودان بين خريف 2021 ومطلع العام الحالي كانا سببا رئيسيا وراء المفاجأة التي رافقت تصريحات لافتة أدلى بها رئيس المفوضية الأفريقية محمود علي يوسف في 19 مايو/أيار الجاري عقب لقاء جمعه بعضو مجلس السيادة الانتقالي ورئيس وفد السودان إلى قمة الجامعة العربية في بغداد إبراهيم جابر. وفي إفادته أكد يوسف أن السودان يعد القلب النابض للقارة الأفريقية، مضيفا "نحن نستبشر خيرا ونتفاءل كثيرا بأن القوات المسلحة السودانية بدأت تسيطر على مناطق كثيرة"، معربا عن أمله في أن يتمكن السودان من استعادة مكانته الطبيعية ضمن محيطه الإقليمي والدولي. ورغم ما أثارته هذه الكلمات من جدل فإنها تأتي متطابقة مع ما أدلى به يوسف في مؤتمر صحفي بعد زيارته بورتسودان في أكتوبر/تشرين الأول 2024، حيث صرح بأن الحرب الحالية "فُرضت على السودان من قبل التمرد"، وأن بوادر "انتصار القوات المسلحة السودانية الآن واضحة". ولا يمكن فصل التصريحات الأخيرة لرأس المفوضية الأفريقية عن سياق شهد تحولا نوعيا في العلاقة بين المؤسسة القارية والحكومة السودانية خلال الأشهر الأخيرة. وهو ما يعزى إلى مجموعة من العوامل يأتي في مقدمتها التغير الذي تم في أعلى هرم قيادة المفوضية الأفريقية في فبراير/شباط من هذا العام بتولي وزير الخارجية الجيبوتي محمود علي يوسف رئاسة المفوضية ونائبته الجزائرية سلمى مليكة الحدادي. وتمثل تصريحات يوسف في بورتسودان -التي زارها باعتباره وزيرا لخارجية بلاده- نقلة في موقف الأخيرة. وكان الرئيس الجزائري عبد العزيز تبون صرح خلال استقباله رئيس المجلس السيادي عبد الفتاح البرهان في يناير/كانون الثاني 2025 بوقوف بلاده إلى جانب السودان لتجاوز الظروف الصعبة "ومواجهة قوى الشر"، في ما اعتبره العديد من المراقبين إشارة إلى قوات الدعم السريع وداعميها الخارجيين. وكانت أصداء هذا التغيير إيجابية في السودان، حيث صرح وزير الخارجية السوداني السابق علي يوسف الشريف بسعادة بلاده بفوز يوسف برئاسة المفوضية، ووصف هذا التغيير بأنه "مفيد للسودان". بدوره، أبدى مالك عقار نائب رئيس مجلس السيادة في زيارته لجيبوتي في مارس/آذار الماضي ثقة السودان في قدرة القيادة الجديدة لمفوضية الاتحاد الأفريقي على تصحيح مسار المفوضية والقيام بدورها في إيجاد الحلول للقضايا الأفريقية. هذا الانفتاح السوداني على القيادة الجديدة للمفوضية الأفريقية يعزوه مراسل الشؤون الدبلوماسية والإقليمية لصحيفة ستاندارد الكينية موانغي ماينا إلى سعي القيادة السودانية بعد سنوات من الغياب إلى إصلاح العلاقات واستعادة مكانتها في الإيغاد والاتحاد الأفريقي. مقاربة جديدة ويشير العديد من المراقبين إلى أن انتخابات المفوضية في فبراير/شباط الماضي لم تسفر عن قيادة جديدة فحسب، بل كذلك عن مقاربة مختلفة في التعاطي مع الأزمات الأفريقية، ومن ضمنها الحرب المستعرة في السودان. وتعد هذه المقاربة امتدادا لنقاش واسع بشأن كيفية وجدوى تعاطي الاتحاد الأفريقي مع دول الانقلابات من خلال الأدوات التقليدية كتعليق العضوية وفرض العقوبات، حيث تشير -على سبيل المثال- ورقة صادرة عن مجموعة الأزمات الدولية المرموقة إلى نجاعة هذا النهج في أوائل هذا القرن في عدد من الحالات، وهو ما تضاءلت احتمالاته بشكل كبير حاليا. وفي السياق السوداني، تأتي هذه المقاربة كجزء من تحرك إقليمي شامل من تجلياته موقف مجلس السلم والأمن الأفريقي المطالب بإعادة فتح مكتب الاتصال التابع للاتحاد الأفريقي في بورتسودان في أكتوبر/تشرين الأول 2024 على الرغم من استمرار تجميد عضوية السودان ورفض الاتحاد الأفريقي الاعتراف بسلطة الانقلاب. هذا البحث عن أدوات أكثر واقعية وفاعلية ترافق مع إعلان رئيس المفوضية عن رفض الاتحاد الأفريقي للتدخلات الخارجية في الشأن السوداني، وضرورة البناء على الحلول الأفريقية لأزمات القارة، مما يشير -وفق العديد من المحللين- إلى رغبة في دور أكبر للتكتل القاري بالملف السوداني. ويتناغم هذا مع تصريحات يوسف لصحيفة "ميل آند غارديان" والتي انتقد فيها إبان حملته نهج المفوضية تجاه السودان، والذي وصفه بـ"عدم النجاح"، موضحا أن الأزمة السودانية ستكون من أولوياته، إلى جانب ملفات أخرى في القارة. هذه الرغبة تأتي في أعقاب عدد من المتغيرات، من أبرزها التقدم الكبير للجيش السوداني الذي عبر يوسف عن سعادته به، وكذلك ما أشارت إليه الدكتورة منى عبد الفتاح في مقال من أهمية الاستقرار في السودان وتأثير موقعه على دول شمال وشرق أفريقيا، إضافة إلى دول حوض النيل. وهكذا، فقد تجلى التخوف الأفريقي من تحول الحرب السودانية إلى سيناريوهات أكثر تعقيدا في رفض مجلس السلم والأمن الأفريقي إعلان الحكومة الموازية في السودان في مارس/آذار الماضي، وهو ما اعتبرته وزارة الخارجية في بيان لها دعما "للشعب السوداني ومؤسساته الوطنية". وضمن هذا السياق يأتي إعلان يوسف عن بدء حوار مع المجلس السيادي السوداني، لبحث الأزمة السياسية وسبل عودة السودان إلى العضوية الكاملة في الاتحاد التي وضعها قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان شرطا للانخراط في مساعي الحلول الأفريقية. ورغم السجال الحاد بشأن من يملك شرعية تمثيل الخرطوم في المؤسسات القارية والدولية فإن تصريح يوسف في بغداد يحمل وزنا سياسيا كبيرا، فهو يعني ضمنيا أن الاتحاد الأفريقي يعترف بوجود سلطة شرعية، ويرفض الدعوات التي تطالب بالتعامل مع السودان كدولة فاقدة للشرعية أو مفتوحة للتدخل الخارجي. هذا التوجه يعضده تصريح لرئيس الآلية الأفريقية المعنية بالسودان محمد بن شمباس الذي أوضح في لقاء على الجزيرة مباشر أن المجلس السيادي هو "السلطة التي يعمل معها الاتحاد الأفريقي"، داعيا الشعب السوداني إلى بناء سلطة "أكثر شرعية" في البلاد عبر عملية انتقالية شاملة. وفي إشارة إلى تغيرات في تعاطي الاتحاد الأفريقي مع الأزمة السودانية، كشفت "سودان تريبون" في 21 مايو/أيار الجاري عن مصادر داخل الاتحاد عن ترتيبات جارية بين المفوضية والهيئة الحكومية للتنمية (إيغاد) بمشاركة مسؤولين من الأمم المتحدة لإنشاء آلية جديدة للملف السوداني برئاسة "إيغاد". ردود فعل وتداعيات وأثارت تصريحات يوسف حالة من الجدل في الساحة السودانية، حيث اعتبرها البعض دعما للجيش السوداني وتعزيزا لشرعيته في مواجهة خصومه العسكريين والسياسيين. وعلى الضفة الأخرى، قوبلت التصريحات برفض صريح من قوات الدعم السريع التي اعتبرتها في بيان "انحيازا سافرا" و"خرقا لقيم الحياد والموضوعية" التي يجب أن يتحلى بها الاتحاد الأفريقي، ووصفتها بأنها محاولة لتجيير موقف الاتحاد لصالح الجيش السوداني، كما حذرت من مغبة استمرار المفوضية في هذا النهج، معتبرة أن ذلك يتناقض مع دور الاتحاد كوسيط محايد. ويشير مراقبون إلى أن هذه التصريحات قد تزيد تمسك الطرفين بمواقفهما، مما سيضيف المزيد من التعقيدات أمام الوساطة الأفريقية. ورغم أن تصريحات رئيس المفوضية الأفريقية تشير إلى مقاربة جديدة في التعاطي مع الأزمة السودانية فإن القرار النهائي بشأن رفع تجميد عضوية السودان يتخذ حصريا بواسطة مجلس السلم والأمن الأفريقي الذي يربط هذه الخطوة بتحقيق انتقال ديمقراطي مدني، وليس من صلاحيات رئيس المفوضية أو حتى المفوضية مجتمعة اتخاذ هذا القرار بشكل منفرد.

هل استخدم الجيش في السودان أسلحة كيميائية ضد الدعم السريع؟
هل استخدم الجيش في السودان أسلحة كيميائية ضد الدعم السريع؟

الجزيرة

timeمنذ ساعة واحدة

  • الجزيرة

هل استخدم الجيش في السودان أسلحة كيميائية ضد الدعم السريع؟

أثار الإعلان الأميركي عن استخدام الجيش السوداني أسلحة كيميائية في العام 2024 موجة من الغضب الرسمي والشعبي في السودان، ليس بسبب نيّة واشنطن فرض عقوبات على السودان -فقد تعوّدنا على عقوباتهم ودعايتهم السوداء- ولكن لعدم وجود أدلة أو منطق يدعم تلك المزاعم، واستسهال إطلاق الاتهامات والأكاذيب، وبناء إستراتيجية حولها تقوم على قهر الشعوب، وسلبها الحقّ في الحياة والاستقرار. سلق الاتهامات وتسويقها الجيش السوداني ليس بحاجة لاستخدام أسلحة كيميائية في حربه ضد مليشيا الدعم السريع، التي انهارت مؤخرًا، وفقدت الحماس والقدرة على القتال، ولم يعد بمقدورها تعويض خساراتها أو استعادة المناطق التي فقدتها. أما واشنطن فهي لا تمتلك دليلًا واحدًا على استخدام الجيش السوداني تلك الأسلحة المحرمة، ولا نعرف عنها سوى رواية غير مسنودة نشرتها صحيفة نيويورك تايمز منتصف يناير/ كانون الثاني 2025، عن مسؤولين أميركيين، لم تسمِّهم الصحيفة، زعموا أن الجيش السوداني استخدم الأسلحة الكيميائية في مناسبتين على الأقل، ضد قوات الدعم السريع. وفيما تم سلق تلك الاتهامات بمنطق الفتوة والخباثة، لا توجد روايات متطابقة تعزز ذلك، ما دفع المسؤولين الأميركيين للتهرب بالقول إن استخدام الأسلحة الكيميائية كان محدود النطاق، ووقع في مناطق نائية، ولم يُحقق أي فاعلية تُذكر، لتجنّب الأسئلة المحرجة، على شاكلة أين وكيف حدث ذلك، وما هي البيّنة المادية على ذلك الادّعاء الأجوف؟ فلا يعقل أن يستخدم الجيش السوداني موادّ سامة بلا فاعلية، ثم لماذا لم تظهر آثار تلك الأسلحة على أجساد قوّات التمرّد، إذ إنّه يصعب بالمَرّة التخلّص من تبعات تلك الأسلحة على الطبيعة. والمثير للدهشة أن الرواية اليتيمة مصدرها صحيفة غربية ليس لها مراسل على الأرض، ولم تسعَ للقيام بعمل استقصائي يسند ظهر اتهامات على ذلك النحو الخطير، والتي للغرابة أيضًا لم تتفوّه بها منصات مليشيا الدعم السريع، وهي تنفث كل ماهو مدسوس ومُختلق في حق الجيش السوداني! موت منبر جدة بهذا الموقف العدائي الأميركي تجاه السودان، تكون واشنطن قد تخلّت عن حياديتها المفترضة كوسيط، حين لوّحت بسيف العقوبات، ووضعت نفسها عمليًا في موضع الخصم. وقد كشف هذا الانحياز الواضح للمليشيا عن فقدانها للمصداقية، وجعلها طرفًا غير مؤهّل لدعم أي مسار تفاوضي، وغير جدير بالثقة من جانب الأطراف السودانية. فقد تعثّرت تلك المفاوضات أكثر من مرّة، وعجزت الوساطة عن حمل قوات الدعم السريع على الالتزام بإعلان جدة في مايو/ أيار 2023 والذي قضى بخروج الدعم السريع من بيوت المواطنين والمرافق الحكومية، والدخول في هدنة مؤقتة، لكن شيئًا من ذلك لم يحدث، ما دفع الجيش السوداني إلى مواصلة القتال، وإخراج قوات التمرد من القرى والمدن بالقوة. وعلى ما يبدو، ثمة قرائن كثيرة تشير إلى أن مليشيا الدعم السريع مجرد بندقية مؤجرة، وأن أميركا ليست بعيدة عن توجيه نيران الحرب، واستئناف حلقات المشروع الاستعماري القديم بتدمير السودان، وخنقه بالعقوبات، حتى يخضع لها، ودعم حركات التمرّد وحفز الهويات القاتلة، واستباحة كل ما هو موروث ووطني، عبر شعارات خادعة تتغنى بالديمقراطية وحقوق الإنسان، لكن النزعة الكولونيالية هي الغالبة على سياساتهم تجاه كل بلد حباه الله بالموارد، أو كما عبّر عن ذلك ليوناردو دي كابريو في فيلم الألماس الدموي: "نحنُ لا نتبنى الحروب، ولكن نخلق الظروف التي تجعلها تستمرّ". وهنا قد تعهّدوا بذلك لوكيلهم في الشرق الأوسط، إسرائيل، ومن يقوم بخدمة مصالحهم، ومن بين ذلك دولة معروفة تناصب السودان العداء، هي التي تقف حاليًا وراء استعداء حكومة دونالد ترامب ضد السودان، وتريد أن تستنصر بها لإنقاذ فصيلها العسكري -الدعم السريع-المهزوم على الأرض. خيبة أمل هائلة بالعودة للعقوبات الأميركية- التي سوف تدخل حيز التنفيذ بعد فترة إخطار مدتها 15 يومًا للكونغرس، على أن تشمل قيودًا على الصادرات الأميركية إلى السودان، وحرمان المصارف الحكومية السودانية من الوصول إلى خطوط الائتمان الحكومية الأميركية- هي بالمناسبة ليست جديدة. فقد ظلت العقوبات الأميركية على السودان باقية بالرغم من قيام السودان بتسديد مبلغ 335 مليون دولار؛ تعويضًا لعائلات أميركية من ضحايا هجمات شنها تنظيم "القاعدة" على سفارتَي واشنطن في كينيا وتنزانيا عام 1998، مقابل رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، ودمج مصارف السودان في النظام المالي العالمي، وهو ما لم يحدث عمليًا. وقد حصدت الخرطوم خيبة أمل هائلة، وظلت إلى اليوم تحت رحمة العقوبات الأميركية، وهي في الحقيقة إستراتيجية كولونيالية ثابتة تقوم على سياسة الجزرة والعصا، بينما في الحقيقة لا توجد جزرة، والبيت الأبيض -أيًا كان قاطنه- ظلّ يتعامل بنفس الأسلوب مع السودان، ما يعزز فرضية أن الحملة ضد السودان تنشط فيها مراكز نفوذ أميركية لا تتأثر بطبيعة النظام الحاكم. الخارجية السودانية في تفنيدها تلك المزاعم أبدت استغرابها كيف أن الإدارة الأميركية تجنّبت تمامًا طرح اتهاماتها عبر الآلية الدولية المختصة والمفوضة بهذا الأمر؛ المنظمة الدولية لحظر الأسلحة الكيميائية بلاهاي، والتي تضم كلا البلدين في عضويتها، لا سيما أن السودان يتمتع بعضوية مجلسها التنفيذي، ورفضت تلك الإجراءات الأحادية، التي تخالف اتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية، خاصة من طرف "لديه تاريخ في توظيف المزاعم الباطلة لتهديد سيادة الدول وأمنها وسلامة أراضيها"، على حد تعبير بيان الخارجية السودانية التي تجاهلت كذلك حقيقة خطيرة وهي وجود أسلحة أميركية عثر عليها الجيش السوداني بطرف قوات الدعم السريع، دون أن تعرضها على أروقة الأمم المتحدة، أو تتقدم بشكوى بها في مجلس الأمن والمنظمات الدولية. من قام بتزويد الجنجويد بأسلحة أميركية؟ القوات المسلحة السودانية ضبطت مؤخرًا صواريخ جافلين في مخازن الدعم السريع بمنطقة صالحة غرب أم درمان، يبلغ سعر الصاروخ ومنصة الإطلاق، اللذين تصنعهما مجموعتا "رايثيون" و"لوكهيد مارتن" الأميركيتان، 178 ألف دولار بحسب ميزانية البنتاغون لعام 2021، علاوة على تسليح جنود المليشيا ببنادق آلية أميركية الصنع من طراز (إيه آر- 15) استخدمتها في استهداف مواقع مدنية بالعاصمة الخرطوم ومدينة الفاشر المحاصرة. فمن هي الجهة التي زودت الدعم السريع بتلك الأسلحة الأميركية، دون أن تأبه بقرار مجلس الأمن بحظر الأسلحة في دارفور، ولماذا صمتت الولايات المتحدة عن انتهاكات قوات الجنجويد وجرائمها الموثقة في السودان؟ على شاكلة تغطية فضيحة كلينتون سيناريو وجود أسلحة كيميائية في السودان ليس جديدًا، وقد انطلت الكذبة على الرأي العام الأميركي إبان فترة حكم الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون، في أعقاب فضيحة المتدربة مونيكا لوينسكي، ساعتها قام كلينتون بقصف مصنع الشفاء شمال الخرطوم في 20 أغسطس/ آب 1998؛ بسبب مزاعم ارتباطه بإنتاج أسلحة كيميائية، ليتضح لاحقًا أن المصنع يعمل في إنتاج الأدوية والعقاقير الطبية. لكن الولايات المتحدة لم تُقدِم على الاعتراف بخطأها أو تقديم اعتذار رسمي للسودان بشأن قصف مصنع الشفاء، رغم أن التحقيقات اللاحقة أثبتت أن المنشأة كانت مخصصة للأدوية وليس لها صلة بإنتاج الأسلحة الكيميائية. كما لم تُظهر إدارة الرئيس بيل كلينتون في حينها اهتمامًا يُذكر بالآثار الإنسانية والصحية المترتبة على هذا القصف، والذي اعتبره كثيرون محاولة لصرف الأنظار عن أزمات داخلية، في سياق سياسي دقيق وملتبس. لا شك أن اتهام الجيش السوداني باستخدام أسلحة كيميائية يمهّد لسيناريو التدخل العسكري الدولي في السودان، ومن غير المستبعد أن تغزو أميركا الأراضي السودانية بهذه الفرية المضحكة، كما فعلت مع العراق من قبل، والهدف من وراء ذلك إيقاف انتصارات الجيش السوداني، والسيطرة على الموارد الطبيعية والمعدنية وساحل البحر الأحمر، فأميركا لديها مطامع قديمة في هذه المنطقة، أو بالأحرى لدى إسرائيل أحلام توسعية في النيل والبحر الأحمر. وهو عين ما أشار إليه السفير التركي لدى السودان فاتح يلدز في تدوينة على منصة "إكس" عندما سخر من الادعاءات الأميركية باستخدام الجيش السوداني أسلحة كيميائية، وقال: "إنهم فقدوا مصداقيتهم منذ سنوات عندما شنوا حربًا بناءً على ادعاءات كاذبة بوجود أسلحة دمار شامل في العراق". وهذا بالضرورة يتطلب الحذر واليقظة، وتكوين فريق سوداني مُتمرّس من الشخصيات الدبلوماسية والعسكرية للتعامل مع هذه المزاعم الأميركية الخطيرة، وما يمكن أن تفضي إليه.

ما وراء ادعاء أميركا استخدام الجيش في السودان أسلحة كيميائية
ما وراء ادعاء أميركا استخدام الجيش في السودان أسلحة كيميائية

الجزيرة

timeمنذ 2 ساعات

  • الجزيرة

ما وراء ادعاء أميركا استخدام الجيش في السودان أسلحة كيميائية

أثار الإعلان الأميركي عن استخدام الجيش السوداني أسلحة كيميائية في العام 2024 موجة من الغضب الرسمي والشعبي في السودان، ليس بسبب نيّة واشنطن فرض عقوبات على السودان -فقد تعوّدنا على عقوباتهم ودعايتهم السوداء- ولكن لعدم وجود أدلة أو منطق يدعم تلك المزاعم، واستسهال إطلاق الاتهامات والأكاذيب، وبناء إستراتيجية حولها تقوم على قهر الشعوب، وسلبها الحقّ في الحياة والاستقرار. سلق الاتهامات وتسويقها الجيش السوداني ليس بحاجة لاستخدام أسلحة كيميائية في حربه ضد مليشيا الدعم السريع، التي انهارت مؤخرًا، وفقدت الحماس والقدرة على القتال، ولم يعد بمقدورها تعويض خساراتها أو استعادة المناطق التي فقدتها. أما واشنطن فهي لا تمتلك دليلًا واحدًا على استخدام الجيش السوداني تلك الأسلحة المحرمة، ولا نعرف عنها سوى رواية غير مسنودة نشرتها صحيفة نيويورك تايمز منتصف يناير/ كانون الثاني 2025، عن مسؤولين أميركيين، لم تسمِّهم الصحيفة، زعموا أن الجيش السوداني استخدم الأسلحة الكيميائية في مناسبتين على الأقل، ضد قوات الدعم السريع. وفيما تم سلق تلك الاتهامات بمنطق الفتوة والخباثة، لا توجد روايات متطابقة تعزز ذلك، ما دفع المسؤولين الأميركيين للتهرب بالقول إن استخدام الأسلحة الكيميائية كان محدود النطاق، ووقع في مناطق نائية، ولم يُحقق أي فاعلية تُذكر، لتجنّب الأسئلة المحرجة، على شاكلة أين وكيف حدث ذلك، وما هي البيّنة المادية على ذلك الادّعاء الأجوف؟ فلا يعقل أن يستخدم الجيش السوداني موادّ سامة بلا فاعلية، ثم لماذا لم تظهر آثار تلك الأسلحة على أجساد قوّات التمرّد، إذ إنّه يصعب بالمَرّة التخلّص من تبعات تلك الأسلحة على الطبيعة. والمثير للدهشة أن الرواية اليتيمة مصدرها صحيفة غربية ليس لها مراسل على الأرض، ولم تسعَ للقيام بعمل استقصائي يسند ظهر اتهامات على ذلك النحو الخطير، والتي للغرابة أيضًا لم تتفوّه بها منصات مليشيا الدعم السريع، وهي تنفث كل ماهو مدسوس ومُختلق في حق الجيش السوداني! موت منبر جدة بهذا الموقف العدائي الأميركي تجاه السودان، تكون قد حكمت على منبر جدة بالموت، وهي واحدة من أطراف الوساطة فيه مع السعودية، إذ إنها بالتلويح بسيف العقوبات تكون قد تخلّت عن حياديتها، ووضعت نفسها في موضع الخصم، وأسفرت عن وجهها المنحاز للمليشيا، وأصبحت غير مؤهلة لإنجاح التفاوض، ولا يمكن الوثوق بها بعد اليوم. فقد تعثّرت تلك المفاوضات أكثر من مرّة، وعجزت الوساطة عن حمل قوات الدعم السريع على الالتزام بإعلان جدة في مايو/ أيار 2023 والذي قضى بخروج الدعم السريع من بيوت المواطنين والمرافق الحكومية، والدخول في هدنة مؤقتة، لكن شيئًا من ذلك لم يحدث، ما دفع الجيش السوداني إلى مواصلة القتال، وإخراج قوات التمرد من القرى والمدن بالقوة. وعلى ما يبدو، ثمة قرائن كثيرة تشير إلى أن مليشيا الدعم السريع مجرد بندقية مؤجرة، وأن أميركا ليست بعيدة عن توجيه نيران الحرب، واستئناف حلقات المشروع الاستعماري القديم بتدمير السودان، وخنقه بالعقوبات، حتى يخضع لها، ودعم حركات التمرّد وحفز الهويات القاتلة، واستباحة كل ما هو موروث ووطني، عبر شعارات خادعة تتغنى بالديمقراطية وحقوق الإنسان، لكن النزعة الكولونيالية هي الغالبة على سياساتهم تجاه كل بلد حباه الله بالموارد، أو كما عبّر عن ذلك ليوناردو دي كابريو في فيلم الألماس الدموي: "نحنُ لا نتبنى الحروب، ولكن نخلق الظروف التي تجعلها تستمرّ". وهنا قد تعهّدوا بذلك لوكيلهم في الشرق الأوسط، إسرائيل، ومن يقوم بخدمة مصالحهم، ومن بين ذلك دولة معروفة تناصب السودان العداء، هي التي تقف حاليًا وراء استعداء حكومة دونالد ترامب ضد السودان، وتريد أن تستنصر بها لإنقاذ فصيلها العسكري -الدعم السريع-المهزوم على الأرض. خيبة أمل هائلة بالعودة للعقوبات الأميركية- التي سوف تدخل حيز التنفيذ بعد فترة إخطار مدتها 15 يومًا للكونغرس، على أن تشمل قيودًا على الصادرات الأميركية إلى السودان، وحرمان المصارف الحكومية السودانية من الوصول إلى خطوط الائتمان الحكومية الأميركية- هي بالمناسبة ليست جديدة. فقد ظلت العقوبات الأميركية على السودان باقية بالرغم من قيام السودان بتسديد مبلغ 335 مليون دولار؛ تعويضًا لعائلات أميركية من ضحايا هجمات شنها تنظيم "القاعدة" على سفارتَي واشنطن في كينيا وتنزانيا عام 1998، مقابل رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، ودمج مصارف السودان في النظام المالي العالمي، وهو ما لم يحدث عمليًا. وقد حصدت الخرطوم خيبة أمل هائلة، وظلت إلى اليوم تحت رحمة العقوبات الأميركية، وهي في الحقيقة إستراتيجية كولونيالية ثابتة تقوم على سياسة الجزرة والعصا، بينما في الحقيقة لا توجد جزرة، والبيت الأبيض -أيًا كان قاطنه- ظلّ يتعامل بنفس الأسلوب مع السودان، ما يعزز فرضية أن الحملة ضد السودان تنشط فيها مراكز نفوذ أميركية لا تتأثر بطبيعة النظام الحاكم. الخارجية السودانية في تفنيدها تلك المزاعم أبدت استغرابها كيف أن الإدارة الأميركية تجنّبت تمامًا طرح اتهاماتها عبر الآلية الدولية المختصة والمفوضة بهذا الأمر؛ المنظمة الدولية لحظر الأسلحة الكيميائية بلاهاي، والتي تضم كلا البلدين في عضويتها، لا سيما أن السودان يتمتع بعضوية مجلسها التنفيذي، ورفضت تلك الإجراءات الأحادية، التي تخالف اتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية، خاصة من طرف "لديه تاريخ في توظيف المزاعم الباطلة لتهديد سيادة الدول وأمنها وسلامة أراضيها"، على حد تعبير بيان الخارجية السودانية التي تجاهلت كذلك حقيقة خطيرة وهي وجود أسلحة أميركية عثر عليها الجيش السوداني بطرف قوات الدعم السريع، دون أن تعرضها على أروقة الأمم المتحدة، أو تتقدم بشكوى بها في مجلس الأمن والمنظمات الدولية. من قام بتزويد الجنجويد بأسلحة أميركية؟ القوات المسلحة السودانية ضبطت مؤخرًا صواريخ جافلين في مخازن الدعم السريع بمنطقة صالحة غرب أم درمان، يبلغ سعر الصاروخ ومنصة الإطلاق، اللذين تصنعهما مجموعتا "رايثيون" و"لوكهيد مارتن" الأميركيتان، 178 ألف دولار بحسب ميزانية البنتاغون لعام 2021، علاوة على تسليح جنود المليشيا ببنادق آلية أميركية الصنع من طراز (إيه آر- 15) استخدمتها في استهداف مواقع مدنية بالعاصمة الخرطوم ومدينة الفاشر المحاصرة. فمن هي الجهة التي زودت الدعم السريع بتلك الأسلحة الأميركية، دون أن تأبه بقرار مجلس الأمن بحظر الأسلحة في دارفور، ولماذا صمتت الولايات المتحدة عن انتهاكات قوات الجنجويد وجرائمها الموثقة في السودان؟ على شاكلة تغطية فضيحة كلينتون سيناريو وجود أسلحة كيميائية في السودان ليس جديدًا، وقد انطلت الكذبة على الرأي العام الأميركي إبان فترة حكم الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون، في أعقاب فضيحة المتدربة مونيكا لوينسكي، ساعتها قام كلينتون بقصف مصنع الشفاء شمال الخرطوم في 20 أغسطس/ آب 1998؛ بسبب مزاعم ارتباطه بإنتاج أسلحة كيميائية، ليتضح لاحقًا أن المصنع يعمل في إنتاج الأدوية والعقاقير الطبية. لكن الولايات المتحدة لم تُقدِم على الاعتراف بخطأها أو تقديم اعتذار رسمي للسودان بشأن قصف مصنع الشفاء، رغم أن التحقيقات اللاحقة أثبتت أن المنشأة كانت مخصصة للأدوية وليس لها صلة بإنتاج الأسلحة الكيميائية. كما لم تُظهر إدارة الرئيس بيل كلينتون في حينها اهتمامًا يُذكر بالآثار الإنسانية والصحية المترتبة على هذا القصف، والذي اعتبره كثيرون محاولة لصرف الأنظار عن أزمات داخلية، في سياق سياسي دقيق وملتبس. لا شك أن اتهام الجيش السوداني باستخدام أسلحة كيميائية يمهّد لسيناريو التدخل العسكري الدولي في السودان، ومن غير المستبعد أن تغزو أميركا الأراضي السودانية بهذه الفرية المضحكة، كما فعلت مع العراق من قبل، والهدف من وراء ذلك إيقاف انتصارات الجيش السوداني، والسيطرة على الموارد الطبيعية والمعدنية وساحل البحر الأحمر، فأميركا لديها مطامع قديمة في هذه المنطقة، أو بالأحرى لدى إسرائيل أحلام توسعية في النيل والبحر الأحمر. وهو عين ما أشار إليه السفير التركي لدى السودان فاتح يلدز في تدوينة على منصة "إكس" عندما سخر من الادعاءات الأميركية باستخدام الجيش السوداني أسلحة كيميائية، وقال: "إنهم فقدوا مصداقيتهم منذ سنوات عندما شنوا حربًا بناءً على ادعاءات كاذبة بوجود أسلحة دمار شامل في العراق". وهذا بالضرورة يتطلب الحذر واليقظة، وتكوين فريق سوداني مُتمرّس من الشخصيات الدبلوماسية والعسكرية للتعامل مع هذه المزاعم الأميركية الخطيرة، وما يمكن أن تفضي إليه.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store