logo
المغرب بعيون إسكندرانية.. من فاس للقاهرة في رحلة عبر مراكش

المغرب بعيون إسكندرانية.. من فاس للقاهرة في رحلة عبر مراكش

الجزيرةمنذ 2 أيام

كنت قد سمعت الكثير عن فاس قبل مجيئي إلى المغرب، فهي ليست مجرد مدينة قديمة، بل تعد من أهم الحواضر الإسلامية عبر التاريخ وثاني أكبر مدن المملكة المغربية سكانا. تحتضن أقدم جامع يحمل عبق العلم والعبادة منذ قرون، جامع القرويين. أسواقها الشعبية الضيقة والمتعرجة، كما تخيلتها، تذكرني بأسواق القاهرة القديمة، بزحامها، وصخبها، وروائحها التي تملأ المكان حياة.
ولا عجب في هذا التشابه، فالقاهرة كانت في زمن ما عاصمة الخلافة الفاطمية، بينما كانت فاس حاضرة المغرب.
انطلقت الحافلة المتجهة إلى فاس، تشق طريقها عبر أكثر من 5 ساعات في مسار ضيق تحفّه الجبال والأشجار، كأن الطبيعة نفسها ترافق المسافر في رحلته. لم أستطع أن أمنع نفسي من التعجب مرة أخرى حين اضطررت لدفع تذكرة إضافية لنقل الحقائب، تماما كما حدث في رحلتي إلى شفشاون، بدا لي أن للحقائب في المغرب شأنها الخاص.
وصلت إلى فاس مع غروب الشمس، واخترت الإقامة هذه المرة في المدينة الحديثة، علّي أن أستكشف جانبا آخر لا تكشفه الصور القديمة ولا الحكايات المروية.
تجربة غريبة
بعد قليل من الراحة، خرجت ليلا أتجول في شوارع المدينة الواسعة، وكانت هذه أول مرة أزور فيها مركزا تجاريا (مول) في المغرب، تجربة بدت لي غريبة بعد كل ما عشته في الأزقة القديمة والمدن العتيقة.
وبعد جولة سريعة، جلست لأحتسي برادا من الشاي المغربي بالنعناع، وكأنني أختتم اليوم الطويل بطقوس مغربية هادئة، تُعيدني مرة أخرى إلى روح فاس العتيقة.
في الصباح، استيقظت وقد امتلأت بالطاقة والشغف ليومي الأول بحق في فاس. بناء على نصيحة من صاحب النُزل الذي أقمت فيه، ركبت واحدة من وسائل النقل المحلية وتوجهت إلى قلب فاس القديمة. كنت على يقين أن ما ينتظرني هناك مختلف عن أي تجربة سابقة في المغرب، ففاس ليست مدينة عادية بل متاهة من التاريخ، وسحر من نوع خاص أعددت نفسي لأشاهده.
يوجد بفاس معالم أثرية تدل على حضارتها المتراكمة عبر العصور الإسلامية، ولعل أبرز ما يشهد على هذا التاريخ الحي هو سور المدينة وبواباته الثمانية. منها ما بقي قائما على حاله، ومنها ما لم يتبق منه سوى باب واحد، كأنما يقف هناك حارسًا لذاكرة مضت.
تلك الأبواب والأسوار، بزخارفها الأندلسية ونقوشها العربية وخطوطها الدقيقة المحفورة في الحجر، أعادتني على الفور إلى أسوار القاهرة الفاطمية، ولكن بطابع مغربي صرف، يدمج بين الفن المغربي والأندلسي والروح الإسلامية.
بين فاس والقاهرة
لم أكن أعلم أن التشابه بين القاهرة وفاس يصل إلى هذا الحد. العمائر القديمة، وإن اختلفت تفاصيل زخارفها، تتحدث نفس اللغة البصرية: طُرز معمارية إسلامية، وسمات مشتركة في بناء المساجد والمدارس والأسواق. الشوارع المزدحمة بالبضائع المحلية والهدايا التذكارية من كل صنف، والمقاهي القديمة التي ينبعث منها صوت القرآن الكريم، كل ذلك جعل من فاس مفاجأة سارة، هادئة، دافئة، وقريبة على نحو لم أتوقعه.
أهم ما زرته من المعالم التاريخية في فاس كانت المدرسة البوعنانية، التي أدهشتني بزخارفها المتقنة وروعة فنها الإسلامي. كل ركن فيها يصلح لأن يكون مشهدا من بطاقة بريدية، أو خلفية لصورة لا تُنسى، بدءا من النقوش الخشبية الدقيقة، إلى الفسيفساء التي تزين الجدران، وانتهاء بالفناء الداخلي الذي يضجّ بالجمال والسكينة في آن.
زرت جوهرة فاس المعمارية، جامع القرويين، أقدم جامعة في العالم الإسلامي. في وقت صلاة الظهر، لم يكن مسموحًا لي بالتجول داخل المسجد، فاكتفيت بالتأمل من مصلى النساء. لفتني جمال الخط المغربي المستخدم في المصاحف هناك، وهو خط مائل ذو طابع فني خاص، أضفى على تجربتي في المغرب دهشة إضافية.
دار الدبغ
خرجت من المسجد وأكملت طريقي عبر الأزقة التي تعج بالزوار، حتى وصلت إلى منطقة دباغة الجلود، أو ما يُعرف بدار الدبغ، وهي من أبرز معالم فاس وأكثرها شهرة. فهذه المدينة العريقة ما زالت تحتفظ، حتى اليوم، بطرقها التقليدية في صباغة ودباغة الجلود، كما كانت منذ قرون.
كانت لحظة دخولي لذلك العالم بمثابة قفزة زمنية إلى العصور الوسطى، بكل ما تحمله من صخب وروائح ونشاط بشري حقيقي.
زرت دار الدبغ، أحد أبرز معالم فاس، حيث ما زالت تُمارس الحرف التقليدية كما كانت في العصور الوسطى. الرائحة النفاذة استقبلتني بقوة، لكن أوراق النعناع خففتها، ووقفت أراقب من شرفة مرتفعة المراحل اليدوية لدباغة الجلود. مشهد حيّ بكل تفاصيله، لا يشبه ما قد نراه في الصور.
بعد ذلك، كانت الجولة بين محال المنتجات الجلدية من الحقائب والأحذية إلى الكراسي والسترات، وكل شيء تقريبا مصنوع يدويا من الجلد الطبيعي. تختلف الأسعار حسب جودة الجلد وتفاصيل التصنيع، لكن ما تعلمته هناك أن التفاوض فن أساسي لا بد من إتقانه. وبعد شد وجذب، اقتنصت لنفسي حقيبة جلدية مميزة، لا تزال رائحتها، بكل ما تحمله من ذكريات، ترافقني حتى بعد عودتي إلى مصر بشهور طويلة.
طعام الشارع
بعدما انتهت تلك الرحلة الطويلة والمتعبة بين أرجاء معالم المدينة القديمة لفاس، لم يكن هناك ما أحتاجه أكثر من طعام دافئ في مساءات ديسمبر الباردة. اتجهت إلى منطقة تنتشر فيها عربات الأكل الشعبية، حيث تصطف الأكشاك في شارع يعج بأهل المدينة، يتبادلون الأحاديث ويُقبلون على أطباقهم المفضلة.
هذا هو تمامًا ما أحبّه في السفر، أن أستكشف مذاق البلد من قلب شوارعه، وأسأل الناس أنفسهم عن طعامهم اليومي، لا طعام الأماكن السياحية. وهناك، التقيت بإلهام، سيدة مغربية طيبة الملامح، اقترحت علي أن أبدأ بشوربة "الحريرة" الساخنة، وشرحت لي مكوناتها بتفصيل محب، مرق بلحم، وخضراوات مطهية، وتوابل تعبق في الأنف قبل أن تصل إلى الفم.
كانت تلك أول مرة أتذوق فيها الحريرة، لكنها كانت كفيلة بأن تترك في ذاكرتي دفئا لا يزال يتسلل إلى قلبي كلما تذكرت تلك الليلة، وتلك المحادثة العفوية التي أنقذتني من السفر إلى مكناس التي حين سألت أحلام عن معالمها أخبرتني أنها تحت الترميم!.
كان المساء قد حل، وبدأت أستشعر التعب يتسلل إلى قدمي بعد يوم طويل ومليء بالاكتشافات. اشتريت مجموعة متنوعة من الحلوى المغربية بناء على توصية رفيقتي الجديدة في فاس، أحلام، وقررت أن أعود إلى مقر إقامتي. لكن في الطريق، اشتدّ البرد فجأة فاستوقفني مشهد مألوف لم أره إلا في الصور من قبل، عربة شوربة الحلزون، أو كما يُطلق عليها في المغرب "الببوش".
كان الناس متجمعين حول العربة، يتناولون الحلزون المطهي ويتفننون في إخراج الحلزون من قوقعته، بينما يكتفي البعض الآخر بتناول المرق الساخن المحمّل بالأعشاب والبهارات. الفضول غلبني، حاولت أن أتشجع وأجربه… لكن في اللحظة الأخيرة، تراجعت واكتفيت بتذوق المرق كان كافيا ليختصر يوما كاملا من عجائب المغرب في كوب صغير.
مراكش أرض العجائب
في مساء ذلك اليوم، قررت التحرك فجرا نحو مراكش، الوجهة البعيدة التي تستلزم المرور أولا بالدار البيضاء، ثم استقلال قطار آخر منها. خرجت مع أول ضوء للنهار نحو محطة المسافرين، وبدأت الرحلة، وقطعت الطريق إلى الدار البيضاء، التي مكثت فيها عدة ساعات لأول مرة، بسبب تأخر موعد القطار المغادر إلى مراكش.
لم أجد الكثير لأفعله سوى زيارة مركز للتعريف بتراث الدار البيضاء وتاريخها، ثم جلست أراقب الشوارع وهي تمتلئ شيئا فشيئا بالمصلين الذين افترشوا المساجد والساحات استعدادًا لصلاة الجمعة، فتذكّرت مشهد مصر بكل تفاصيله صباح ذلك اليوم المبارك.
بعد الصلاة، تناولت وجبة شهية تليق بمسافرة أنهكها الترحال: طاجين دجاج مغربي بالزيتون، في مطعم أنيق مطل على الميناء، كانت الأسعار مرتفعة لكن الأجواء وجودة الطعام جعلت التجربة تستحق.
تحرك القطار أخيرا في منتصف النهار، ووصل إلى مراكش بعد غروب الشمس؛ محطتي التي قررت فيها أن أودع عاما مضى وأستقبل عاما جديدا. لم تخذلني هذه المدينة، واخترت من جديد الإقامة في رياض مغربي تقليدي، يقع في قلب المدينة القديمة وداخل أزقتها الضيقة التي تشبه المتاهة.
وصلت إلى هناك لأجد المكان وكأنه قطعة من "ألف ليلة وليلة"، يعج بالسائحين الأجانب. عند خروجي لنزهة ليلية وصلت إلى ساحة المدينة الرئيسية، لاحظت أن أغلب النُزل والفنادق علّقت لافتات مكتوبا عليها "عامر"، أي "ممتلئ" باللهجة المغربية. وبالفعل، بدا أن كثيرا من الزوار اختاروا، مثلي، أن ينهوا عامهم في مراكش، تلك المدينة التي لا تخفت أضواؤها.
تجربة الحمام المغربي
أنهيت جولتي الليلية السريعة لاكتشاف شوارع مراكش، وقررت أن أستيقظ مبكرا ليوم جديد مليء بالحركة في هذه المدينة الساحرة. ومنذ لحظة وصولي إلى المغرب، كان في ذهني حلم صغير مؤجل: أن أجرب "الحمام المغربي" الذي طالما سمعت عنه كثيرا، وكنت أنوي أن أعيشه في موطنه الأصلي، مراكش.
رغم بعض التردد، قررت أن أقدم على هذه التجربة في صباح اليوم التالي داخل حمام تقليدي قريب من مقر إقامتي في قلب المدينة القديمة. الحمامات المغربية عادة ما تُقسم إلى قسمين: مدخل للرجال وآخر للنساء، وتكون التكلفة بسيطة، تشمل استخدام الحمام وخزانة لحفظ الأغراض وخدمة المدلكة، مع ضرورة إحضار الزائرة لأدواتها الخاصة: الصابون البلدي الأسود، والليفة المغربية، ومنشفة، وملابس للحمام.
فكّرت: ما من يوم أنسب من نهاية العام لأخوض تجربة قد لا تتكرر مرة أخرى في حياتي.
كانت تجربة الحمام المغربي غامرة بحق، وجديدة على جسدي وروحي في آن معا. ما إن دخلت حتى أحاط بي البخار الكثيف، كأنني دخلت عالما آخر، بعيدا عن ضوضاء الشوارع وعن صخب العام كله.
في الزاوية جلست تنتظرني سيدة طاعنة في السن، كانت المدلكة، وعلى وجهها ارتسمت ملامح الطيبة والخبرة الطويلة. تبادلت معي أطراف الحديث بود واضح ولهجة مغربية دافئة، وبعدما انتهت من عملها قدمت لي كوبا من القهوة الدافئة المنكهة بالهيل والقرفة والينسون فشعرت بالطاقة في جسدي داخليا وخارجيا.
في تلك اللحظات، شعرت أني أتحرر فعلا، ليس فقط من الإرهاق الجسدي، بل من تراكم عام كامل من التوتر والتفكير والترحال. كان الحمام المغربي بمثابة طقس جديد للجسد الذي يودع عاما ويستعد لآخر، أكثر تفاؤلا وخفة.
ساحة جامع الفنا
كانت مراكش بحق خيارا مثاليا مع اقتراب نهاية رحلتي في المغرب، وخاصة ساحة جامع الفنا، قلب المدينة النابض ومركز ترفيهها الرئيسي، يقصدها السكان المحليون والسياح على حد سواء، وتمثل خلاصة التجربة المراكشية الأصيلة. هناك، وسط الزحام والصخب، تتقاطع العروض الترفيهية لمروّضي القرود والأفاعي ورواة الأحاجي والقصص، وعازفي الموسيقى إلى غير ذلك من مظاهر الفرجة الشعبية، مع الأسواق العامرة بأشهى المأكولات الشعبية والفواكه الطازجة.
عالم مكتمل من التفاصيل، لا يعرف السكون على مدار النهار والليل، وكأن الساحة لا تنام.
تجولت بين من يعرضون التقاط الصور التذكارية المطبوعة، ومن يمرون ببضائعهم بحثا عن مشترٍ، ومن يفترشون الأرض لنقش الحناء على أيدي النساء. كان كل شيء حولي ينبض بالحياة، ولم يعكر صفوه سوى برودة الجو الشديدة.
في نهاية ساحة جامع الفنا، كانت مئذنة جامع الكتبية تقف شامخة، تُرشد الزائرين وكأنها بوصلة المدينة. هو أكبر مساجد مراكش، وتعود تسميته إلى "الكتبيين"، نسبة إلى سوق الكتب والمخطوطات الذي كان ملاصقا للمسجد يوما ما. وقفتُ هناك طويلا أنظر إلى المئذنة بعمارتها البسيطة والمهيبة في آن، تأملت البقايا الأثرية المحيطة، والحمام المحلق في السماء، في مشهد بديع ومثالي لالتقاط صور جميلة.
الأسواق ومتعة الحواس
على الجانب الآخر من المدينة القديمة، كانت تنتظرني أسواق كأنها خرجت من حكاية شعبية قديمة. متاجر التحف التقليدية تصطف إلى جانب المتاجر المخصصة للملابس التراثية، من الجلابيب المطرزة بدقة، إلى الجلابيات المُلونة التي تُجسد أناقة المغرب المتأصلة.
مررت بسوق الذهب، ثم سوق التوابل الذي بدا لي كمشهد سينمائي مدهش. أكوام البهارات مكدسة بعناية كأنها لوحات تتدرج ألوانها، وتملأ المكان برائحة تغرق الحواس. وبين الرائحة واللون، كان هناك صوت الشواء المتصاعد من زوايا السوق، حيث تتناثر طاولات صغيرة يقدم فيها الباعة المحليون أطباقًا من اللحوم الطازجة بأسعار مناسبة.
لكنني كنت أبحث عن كنز من نوع خاص. تلك القهوة المنكهة التي سكنت ذاكرتي منذ تذوقتها في شفشاون، ثم تكررت في الحمام المغربي. سألت عنها هنا وهناك، حتى أرشدني أحدهم إلى مطحنة بن قديمة في زقاق ضيق. اشتريت منها كمية تكفيني لعدة شهور، لأحمل معي نكهة المغرب إلى الإسكندرية. كان ذلك من أجمل التذكارات التي اقتنيتها، رائحة وطعما وذكرى.
الدار البيضاء.. آخر محطة
بعد يوم حافل بين أسواق مراكش وساحة جامع الفنا، وقبل أن تغيب الشمس تماما، بدأت رحلتي نحو وجهتي الأخيرة في المغرب: الدار البيضاء.
كان لا بد أن أكون هناك قبل عودتي إلى مصر. كان الوقت يقترب من التاسعة مساء، وكانت مراكش تنبض بالحياة. الليلة رأس السنة الميلادية، والشوارع مزدحمة إلى حد غير معهود، والكل في حركة مستمرة. حاولت مرارا أن أستوقف سيارة أجرة، ولكن دون جدوى… وكل دقيقة تمر كانت تتسبب في توتري.
لم يتبق الكثير على موعد القطار، وكنت على وشك أن أصدق أنني سأفوت الرحلة. لكن معجزة صغيرة حدثت. سيارة توقفت أخيرا، وصلت إلى المحطة في اللحظة الأخيرة، وكان هناك وقت إضافي لشراء بعض المأكولات السريعة. رغم التوتر، كانت الأجواء مبهجة، الأعلام المغربية ترفرف، والزينة تُنير المتاجر، والشوارع مزدحمة بالناس.
وصلتُ إلى الدار البيضاء قبل دقائق من انتصاف الليل، بينما كانت عقارب الساعة تتهيأ لاستقبال عام جديد. توقعت أن أجد المدينة تعج بالاحتفالات كما في مراكش، لكن المفاجأة أن كل شيء بدا هادئا تمامًا، لا أصوات، لا أضواء، لا ازدحام… فقط هدوء لافت، بدا لي في تلك اللحظة كأنه ما كنت أحتاجه تماما بعد رحلة طويلة هو الراحة في الفندق الصغير في قلب المدينة القديمة بالدار البيضاء.
في صباح اليوم التالي، كنت أعلم أن الوقت ليس في صفي، فموعد الطائرة كان في المساء. كانت خطتي بسيطة وواضحة: أودع المغرب من أحد أبرز معالمه، جامع الحسن الثاني، وأستمتع بالمشي قرب البحر في الممشى المجاور للجامع.
أكبر مساجد المغرب
خرجت من الفندق مبكرا، وسرت في شوارع المدينة التي بدأت تستيقظ على مهل. ووصلت قبل صلاة الظهر إلى جامع الحسن الثاني، تحفة معمارية إسلامية تجسد الطابع المعماري المغربي الأندلسي، بني نصفه فوق مياه المحيط الأطلسي على الشاطئ الغربي لمدينة الدار البيضاء، ونصفه الآخر على اليابسة، شعرت أنني أقف أمام معجزة مشيدة من الحجر تطل على المحيط الأطلسي حجمه مباشرة، وحده كفيل بأن يسلب الأنفاس، فهو أكبر مسجد في المغرب ومن بين أكبر المساجد في العالم وأجملها.
تفاصيل المسجد المعمارية تجسد الحرفية المغربية: الزليج الملوّن، الأرابيسك، النقوش الدقيقة التي لا تترك شبرا دون أن تزينه، والمئذنة الشامخة التي ترتفع بطول يتجاوز 200 متر، لكن أكثر ما علِق في وجداني، كان صوت القرآن الكريم في صلاة الظهر، مقروءًا برواية "ورش عن نافع" التي كنت أسمعها لأول مرة.
للأسف، لم يتح لي أن أمضي وقتا طويلا داخل المسجد، إذ يُغلق أبوابه مباشرة بعد أداء الصلاة. شعرت بخيبة أمل صغيرة، كنت أودّ لو أتمشى في أروقته بهدوء، لكنني، رغم قصر الوقت، اقتنصت لحظات ثمينة لالتقاط بعض الصور التي لا تُنسى.
وداع دافئ من البحر
خرجت من المسجد وقد تبقى لي بعض الوقت قبل التوجّه إلى المطار، فقررت أن أمضيه بجوار كورنيش الدار البيضاء، ذاك الممشى الطويل الذي يمتد بمحاذاة البحر وكان الجو مشمسا على الرغم من أنه كان اليوم الأول من يناير. قطعته مشيًا ذهابًا وإيابًا، أتنفس نسيم هواء المحيط الأطلسي، وأراقب الناس من حولي… هناك من يمارس الرياضة، وآخرون يجلسون في هدوء، أو يتجمعون حول أكشاك صغيرة تبيع الحلويات والعصائر والمرطبات. بدا لي الكورنيش وكأنه وداع دافئ من البحر بالنيابة عن المغرب.
عدتُ من جديد إلى الفندق، ولملمتُ حقائبي… ومعها كل الذكريات، كل الوجوه التي قابلتها، والنكهات التي تذوّقتها. اتجهت إلى مطار محمد الخامس، وجلستُ أنتظر رحلتي إلى القاهرة التي وصلت صباح اليوم التالي.
هكذا انتهت رحلتي في المغرب، التي بدأت بخيال قديم تشكل من الكتب والصور، وانتهت بواقع وذكريات أعمق وأغنى مما تخيّلت. كل مدينة زرتها منحتني شيئا مختلفا، وشيئا مشتركا أيضا… كرم أهلها، تنوع طبيعتها وثقافتها، وتفرد تفاصيلها.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

المغرب بعيون إسكندرانية.. من فاس للقاهرة في رحلة عبر مراكش
المغرب بعيون إسكندرانية.. من فاس للقاهرة في رحلة عبر مراكش

الجزيرة

timeمنذ 2 أيام

  • الجزيرة

المغرب بعيون إسكندرانية.. من فاس للقاهرة في رحلة عبر مراكش

كنت قد سمعت الكثير عن فاس قبل مجيئي إلى المغرب، فهي ليست مجرد مدينة قديمة، بل تعد من أهم الحواضر الإسلامية عبر التاريخ وثاني أكبر مدن المملكة المغربية سكانا. تحتضن أقدم جامع يحمل عبق العلم والعبادة منذ قرون، جامع القرويين. أسواقها الشعبية الضيقة والمتعرجة، كما تخيلتها، تذكرني بأسواق القاهرة القديمة، بزحامها، وصخبها، وروائحها التي تملأ المكان حياة. ولا عجب في هذا التشابه، فالقاهرة كانت في زمن ما عاصمة الخلافة الفاطمية، بينما كانت فاس حاضرة المغرب. انطلقت الحافلة المتجهة إلى فاس، تشق طريقها عبر أكثر من 5 ساعات في مسار ضيق تحفّه الجبال والأشجار، كأن الطبيعة نفسها ترافق المسافر في رحلته. لم أستطع أن أمنع نفسي من التعجب مرة أخرى حين اضطررت لدفع تذكرة إضافية لنقل الحقائب، تماما كما حدث في رحلتي إلى شفشاون، بدا لي أن للحقائب في المغرب شأنها الخاص. وصلت إلى فاس مع غروب الشمس، واخترت الإقامة هذه المرة في المدينة الحديثة، علّي أن أستكشف جانبا آخر لا تكشفه الصور القديمة ولا الحكايات المروية. تجربة غريبة بعد قليل من الراحة، خرجت ليلا أتجول في شوارع المدينة الواسعة، وكانت هذه أول مرة أزور فيها مركزا تجاريا (مول) في المغرب، تجربة بدت لي غريبة بعد كل ما عشته في الأزقة القديمة والمدن العتيقة. وبعد جولة سريعة، جلست لأحتسي برادا من الشاي المغربي بالنعناع، وكأنني أختتم اليوم الطويل بطقوس مغربية هادئة، تُعيدني مرة أخرى إلى روح فاس العتيقة. في الصباح، استيقظت وقد امتلأت بالطاقة والشغف ليومي الأول بحق في فاس. بناء على نصيحة من صاحب النُزل الذي أقمت فيه، ركبت واحدة من وسائل النقل المحلية وتوجهت إلى قلب فاس القديمة. كنت على يقين أن ما ينتظرني هناك مختلف عن أي تجربة سابقة في المغرب، ففاس ليست مدينة عادية بل متاهة من التاريخ، وسحر من نوع خاص أعددت نفسي لأشاهده. يوجد بفاس معالم أثرية تدل على حضارتها المتراكمة عبر العصور الإسلامية، ولعل أبرز ما يشهد على هذا التاريخ الحي هو سور المدينة وبواباته الثمانية. منها ما بقي قائما على حاله، ومنها ما لم يتبق منه سوى باب واحد، كأنما يقف هناك حارسًا لذاكرة مضت. تلك الأبواب والأسوار، بزخارفها الأندلسية ونقوشها العربية وخطوطها الدقيقة المحفورة في الحجر، أعادتني على الفور إلى أسوار القاهرة الفاطمية، ولكن بطابع مغربي صرف، يدمج بين الفن المغربي والأندلسي والروح الإسلامية. بين فاس والقاهرة لم أكن أعلم أن التشابه بين القاهرة وفاس يصل إلى هذا الحد. العمائر القديمة، وإن اختلفت تفاصيل زخارفها، تتحدث نفس اللغة البصرية: طُرز معمارية إسلامية، وسمات مشتركة في بناء المساجد والمدارس والأسواق. الشوارع المزدحمة بالبضائع المحلية والهدايا التذكارية من كل صنف، والمقاهي القديمة التي ينبعث منها صوت القرآن الكريم، كل ذلك جعل من فاس مفاجأة سارة، هادئة، دافئة، وقريبة على نحو لم أتوقعه. أهم ما زرته من المعالم التاريخية في فاس كانت المدرسة البوعنانية، التي أدهشتني بزخارفها المتقنة وروعة فنها الإسلامي. كل ركن فيها يصلح لأن يكون مشهدا من بطاقة بريدية، أو خلفية لصورة لا تُنسى، بدءا من النقوش الخشبية الدقيقة، إلى الفسيفساء التي تزين الجدران، وانتهاء بالفناء الداخلي الذي يضجّ بالجمال والسكينة في آن. زرت جوهرة فاس المعمارية، جامع القرويين، أقدم جامعة في العالم الإسلامي. في وقت صلاة الظهر، لم يكن مسموحًا لي بالتجول داخل المسجد، فاكتفيت بالتأمل من مصلى النساء. لفتني جمال الخط المغربي المستخدم في المصاحف هناك، وهو خط مائل ذو طابع فني خاص، أضفى على تجربتي في المغرب دهشة إضافية. دار الدبغ خرجت من المسجد وأكملت طريقي عبر الأزقة التي تعج بالزوار، حتى وصلت إلى منطقة دباغة الجلود، أو ما يُعرف بدار الدبغ، وهي من أبرز معالم فاس وأكثرها شهرة. فهذه المدينة العريقة ما زالت تحتفظ، حتى اليوم، بطرقها التقليدية في صباغة ودباغة الجلود، كما كانت منذ قرون. كانت لحظة دخولي لذلك العالم بمثابة قفزة زمنية إلى العصور الوسطى، بكل ما تحمله من صخب وروائح ونشاط بشري حقيقي. زرت دار الدبغ، أحد أبرز معالم فاس، حيث ما زالت تُمارس الحرف التقليدية كما كانت في العصور الوسطى. الرائحة النفاذة استقبلتني بقوة، لكن أوراق النعناع خففتها، ووقفت أراقب من شرفة مرتفعة المراحل اليدوية لدباغة الجلود. مشهد حيّ بكل تفاصيله، لا يشبه ما قد نراه في الصور. بعد ذلك، كانت الجولة بين محال المنتجات الجلدية من الحقائب والأحذية إلى الكراسي والسترات، وكل شيء تقريبا مصنوع يدويا من الجلد الطبيعي. تختلف الأسعار حسب جودة الجلد وتفاصيل التصنيع، لكن ما تعلمته هناك أن التفاوض فن أساسي لا بد من إتقانه. وبعد شد وجذب، اقتنصت لنفسي حقيبة جلدية مميزة، لا تزال رائحتها، بكل ما تحمله من ذكريات، ترافقني حتى بعد عودتي إلى مصر بشهور طويلة. طعام الشارع بعدما انتهت تلك الرحلة الطويلة والمتعبة بين أرجاء معالم المدينة القديمة لفاس، لم يكن هناك ما أحتاجه أكثر من طعام دافئ في مساءات ديسمبر الباردة. اتجهت إلى منطقة تنتشر فيها عربات الأكل الشعبية، حيث تصطف الأكشاك في شارع يعج بأهل المدينة، يتبادلون الأحاديث ويُقبلون على أطباقهم المفضلة. هذا هو تمامًا ما أحبّه في السفر، أن أستكشف مذاق البلد من قلب شوارعه، وأسأل الناس أنفسهم عن طعامهم اليومي، لا طعام الأماكن السياحية. وهناك، التقيت بإلهام، سيدة مغربية طيبة الملامح، اقترحت علي أن أبدأ بشوربة "الحريرة" الساخنة، وشرحت لي مكوناتها بتفصيل محب، مرق بلحم، وخضراوات مطهية، وتوابل تعبق في الأنف قبل أن تصل إلى الفم. كانت تلك أول مرة أتذوق فيها الحريرة، لكنها كانت كفيلة بأن تترك في ذاكرتي دفئا لا يزال يتسلل إلى قلبي كلما تذكرت تلك الليلة، وتلك المحادثة العفوية التي أنقذتني من السفر إلى مكناس التي حين سألت أحلام عن معالمها أخبرتني أنها تحت الترميم!. كان المساء قد حل، وبدأت أستشعر التعب يتسلل إلى قدمي بعد يوم طويل ومليء بالاكتشافات. اشتريت مجموعة متنوعة من الحلوى المغربية بناء على توصية رفيقتي الجديدة في فاس، أحلام، وقررت أن أعود إلى مقر إقامتي. لكن في الطريق، اشتدّ البرد فجأة فاستوقفني مشهد مألوف لم أره إلا في الصور من قبل، عربة شوربة الحلزون، أو كما يُطلق عليها في المغرب "الببوش". كان الناس متجمعين حول العربة، يتناولون الحلزون المطهي ويتفننون في إخراج الحلزون من قوقعته، بينما يكتفي البعض الآخر بتناول المرق الساخن المحمّل بالأعشاب والبهارات. الفضول غلبني، حاولت أن أتشجع وأجربه… لكن في اللحظة الأخيرة، تراجعت واكتفيت بتذوق المرق كان كافيا ليختصر يوما كاملا من عجائب المغرب في كوب صغير. مراكش أرض العجائب في مساء ذلك اليوم، قررت التحرك فجرا نحو مراكش، الوجهة البعيدة التي تستلزم المرور أولا بالدار البيضاء، ثم استقلال قطار آخر منها. خرجت مع أول ضوء للنهار نحو محطة المسافرين، وبدأت الرحلة، وقطعت الطريق إلى الدار البيضاء، التي مكثت فيها عدة ساعات لأول مرة، بسبب تأخر موعد القطار المغادر إلى مراكش. لم أجد الكثير لأفعله سوى زيارة مركز للتعريف بتراث الدار البيضاء وتاريخها، ثم جلست أراقب الشوارع وهي تمتلئ شيئا فشيئا بالمصلين الذين افترشوا المساجد والساحات استعدادًا لصلاة الجمعة، فتذكّرت مشهد مصر بكل تفاصيله صباح ذلك اليوم المبارك. بعد الصلاة، تناولت وجبة شهية تليق بمسافرة أنهكها الترحال: طاجين دجاج مغربي بالزيتون، في مطعم أنيق مطل على الميناء، كانت الأسعار مرتفعة لكن الأجواء وجودة الطعام جعلت التجربة تستحق. تحرك القطار أخيرا في منتصف النهار، ووصل إلى مراكش بعد غروب الشمس؛ محطتي التي قررت فيها أن أودع عاما مضى وأستقبل عاما جديدا. لم تخذلني هذه المدينة، واخترت من جديد الإقامة في رياض مغربي تقليدي، يقع في قلب المدينة القديمة وداخل أزقتها الضيقة التي تشبه المتاهة. وصلت إلى هناك لأجد المكان وكأنه قطعة من "ألف ليلة وليلة"، يعج بالسائحين الأجانب. عند خروجي لنزهة ليلية وصلت إلى ساحة المدينة الرئيسية، لاحظت أن أغلب النُزل والفنادق علّقت لافتات مكتوبا عليها "عامر"، أي "ممتلئ" باللهجة المغربية. وبالفعل، بدا أن كثيرا من الزوار اختاروا، مثلي، أن ينهوا عامهم في مراكش، تلك المدينة التي لا تخفت أضواؤها. تجربة الحمام المغربي أنهيت جولتي الليلية السريعة لاكتشاف شوارع مراكش، وقررت أن أستيقظ مبكرا ليوم جديد مليء بالحركة في هذه المدينة الساحرة. ومنذ لحظة وصولي إلى المغرب، كان في ذهني حلم صغير مؤجل: أن أجرب "الحمام المغربي" الذي طالما سمعت عنه كثيرا، وكنت أنوي أن أعيشه في موطنه الأصلي، مراكش. رغم بعض التردد، قررت أن أقدم على هذه التجربة في صباح اليوم التالي داخل حمام تقليدي قريب من مقر إقامتي في قلب المدينة القديمة. الحمامات المغربية عادة ما تُقسم إلى قسمين: مدخل للرجال وآخر للنساء، وتكون التكلفة بسيطة، تشمل استخدام الحمام وخزانة لحفظ الأغراض وخدمة المدلكة، مع ضرورة إحضار الزائرة لأدواتها الخاصة: الصابون البلدي الأسود، والليفة المغربية، ومنشفة، وملابس للحمام. فكّرت: ما من يوم أنسب من نهاية العام لأخوض تجربة قد لا تتكرر مرة أخرى في حياتي. كانت تجربة الحمام المغربي غامرة بحق، وجديدة على جسدي وروحي في آن معا. ما إن دخلت حتى أحاط بي البخار الكثيف، كأنني دخلت عالما آخر، بعيدا عن ضوضاء الشوارع وعن صخب العام كله. في الزاوية جلست تنتظرني سيدة طاعنة في السن، كانت المدلكة، وعلى وجهها ارتسمت ملامح الطيبة والخبرة الطويلة. تبادلت معي أطراف الحديث بود واضح ولهجة مغربية دافئة، وبعدما انتهت من عملها قدمت لي كوبا من القهوة الدافئة المنكهة بالهيل والقرفة والينسون فشعرت بالطاقة في جسدي داخليا وخارجيا. في تلك اللحظات، شعرت أني أتحرر فعلا، ليس فقط من الإرهاق الجسدي، بل من تراكم عام كامل من التوتر والتفكير والترحال. كان الحمام المغربي بمثابة طقس جديد للجسد الذي يودع عاما ويستعد لآخر، أكثر تفاؤلا وخفة. ساحة جامع الفنا كانت مراكش بحق خيارا مثاليا مع اقتراب نهاية رحلتي في المغرب، وخاصة ساحة جامع الفنا، قلب المدينة النابض ومركز ترفيهها الرئيسي، يقصدها السكان المحليون والسياح على حد سواء، وتمثل خلاصة التجربة المراكشية الأصيلة. هناك، وسط الزحام والصخب، تتقاطع العروض الترفيهية لمروّضي القرود والأفاعي ورواة الأحاجي والقصص، وعازفي الموسيقى إلى غير ذلك من مظاهر الفرجة الشعبية، مع الأسواق العامرة بأشهى المأكولات الشعبية والفواكه الطازجة. عالم مكتمل من التفاصيل، لا يعرف السكون على مدار النهار والليل، وكأن الساحة لا تنام. تجولت بين من يعرضون التقاط الصور التذكارية المطبوعة، ومن يمرون ببضائعهم بحثا عن مشترٍ، ومن يفترشون الأرض لنقش الحناء على أيدي النساء. كان كل شيء حولي ينبض بالحياة، ولم يعكر صفوه سوى برودة الجو الشديدة. في نهاية ساحة جامع الفنا، كانت مئذنة جامع الكتبية تقف شامخة، تُرشد الزائرين وكأنها بوصلة المدينة. هو أكبر مساجد مراكش، وتعود تسميته إلى "الكتبيين"، نسبة إلى سوق الكتب والمخطوطات الذي كان ملاصقا للمسجد يوما ما. وقفتُ هناك طويلا أنظر إلى المئذنة بعمارتها البسيطة والمهيبة في آن، تأملت البقايا الأثرية المحيطة، والحمام المحلق في السماء، في مشهد بديع ومثالي لالتقاط صور جميلة. الأسواق ومتعة الحواس على الجانب الآخر من المدينة القديمة، كانت تنتظرني أسواق كأنها خرجت من حكاية شعبية قديمة. متاجر التحف التقليدية تصطف إلى جانب المتاجر المخصصة للملابس التراثية، من الجلابيب المطرزة بدقة، إلى الجلابيات المُلونة التي تُجسد أناقة المغرب المتأصلة. مررت بسوق الذهب، ثم سوق التوابل الذي بدا لي كمشهد سينمائي مدهش. أكوام البهارات مكدسة بعناية كأنها لوحات تتدرج ألوانها، وتملأ المكان برائحة تغرق الحواس. وبين الرائحة واللون، كان هناك صوت الشواء المتصاعد من زوايا السوق، حيث تتناثر طاولات صغيرة يقدم فيها الباعة المحليون أطباقًا من اللحوم الطازجة بأسعار مناسبة. لكنني كنت أبحث عن كنز من نوع خاص. تلك القهوة المنكهة التي سكنت ذاكرتي منذ تذوقتها في شفشاون، ثم تكررت في الحمام المغربي. سألت عنها هنا وهناك، حتى أرشدني أحدهم إلى مطحنة بن قديمة في زقاق ضيق. اشتريت منها كمية تكفيني لعدة شهور، لأحمل معي نكهة المغرب إلى الإسكندرية. كان ذلك من أجمل التذكارات التي اقتنيتها، رائحة وطعما وذكرى. الدار البيضاء.. آخر محطة بعد يوم حافل بين أسواق مراكش وساحة جامع الفنا، وقبل أن تغيب الشمس تماما، بدأت رحلتي نحو وجهتي الأخيرة في المغرب: الدار البيضاء. كان لا بد أن أكون هناك قبل عودتي إلى مصر. كان الوقت يقترب من التاسعة مساء، وكانت مراكش تنبض بالحياة. الليلة رأس السنة الميلادية، والشوارع مزدحمة إلى حد غير معهود، والكل في حركة مستمرة. حاولت مرارا أن أستوقف سيارة أجرة، ولكن دون جدوى… وكل دقيقة تمر كانت تتسبب في توتري. لم يتبق الكثير على موعد القطار، وكنت على وشك أن أصدق أنني سأفوت الرحلة. لكن معجزة صغيرة حدثت. سيارة توقفت أخيرا، وصلت إلى المحطة في اللحظة الأخيرة، وكان هناك وقت إضافي لشراء بعض المأكولات السريعة. رغم التوتر، كانت الأجواء مبهجة، الأعلام المغربية ترفرف، والزينة تُنير المتاجر، والشوارع مزدحمة بالناس. وصلتُ إلى الدار البيضاء قبل دقائق من انتصاف الليل، بينما كانت عقارب الساعة تتهيأ لاستقبال عام جديد. توقعت أن أجد المدينة تعج بالاحتفالات كما في مراكش، لكن المفاجأة أن كل شيء بدا هادئا تمامًا، لا أصوات، لا أضواء، لا ازدحام… فقط هدوء لافت، بدا لي في تلك اللحظة كأنه ما كنت أحتاجه تماما بعد رحلة طويلة هو الراحة في الفندق الصغير في قلب المدينة القديمة بالدار البيضاء. في صباح اليوم التالي، كنت أعلم أن الوقت ليس في صفي، فموعد الطائرة كان في المساء. كانت خطتي بسيطة وواضحة: أودع المغرب من أحد أبرز معالمه، جامع الحسن الثاني، وأستمتع بالمشي قرب البحر في الممشى المجاور للجامع. أكبر مساجد المغرب خرجت من الفندق مبكرا، وسرت في شوارع المدينة التي بدأت تستيقظ على مهل. ووصلت قبل صلاة الظهر إلى جامع الحسن الثاني، تحفة معمارية إسلامية تجسد الطابع المعماري المغربي الأندلسي، بني نصفه فوق مياه المحيط الأطلسي على الشاطئ الغربي لمدينة الدار البيضاء، ونصفه الآخر على اليابسة، شعرت أنني أقف أمام معجزة مشيدة من الحجر تطل على المحيط الأطلسي حجمه مباشرة، وحده كفيل بأن يسلب الأنفاس، فهو أكبر مسجد في المغرب ومن بين أكبر المساجد في العالم وأجملها. تفاصيل المسجد المعمارية تجسد الحرفية المغربية: الزليج الملوّن، الأرابيسك، النقوش الدقيقة التي لا تترك شبرا دون أن تزينه، والمئذنة الشامخة التي ترتفع بطول يتجاوز 200 متر، لكن أكثر ما علِق في وجداني، كان صوت القرآن الكريم في صلاة الظهر، مقروءًا برواية "ورش عن نافع" التي كنت أسمعها لأول مرة. للأسف، لم يتح لي أن أمضي وقتا طويلا داخل المسجد، إذ يُغلق أبوابه مباشرة بعد أداء الصلاة. شعرت بخيبة أمل صغيرة، كنت أودّ لو أتمشى في أروقته بهدوء، لكنني، رغم قصر الوقت، اقتنصت لحظات ثمينة لالتقاط بعض الصور التي لا تُنسى. وداع دافئ من البحر خرجت من المسجد وقد تبقى لي بعض الوقت قبل التوجّه إلى المطار، فقررت أن أمضيه بجوار كورنيش الدار البيضاء، ذاك الممشى الطويل الذي يمتد بمحاذاة البحر وكان الجو مشمسا على الرغم من أنه كان اليوم الأول من يناير. قطعته مشيًا ذهابًا وإيابًا، أتنفس نسيم هواء المحيط الأطلسي، وأراقب الناس من حولي… هناك من يمارس الرياضة، وآخرون يجلسون في هدوء، أو يتجمعون حول أكشاك صغيرة تبيع الحلويات والعصائر والمرطبات. بدا لي الكورنيش وكأنه وداع دافئ من البحر بالنيابة عن المغرب. عدتُ من جديد إلى الفندق، ولملمتُ حقائبي… ومعها كل الذكريات، كل الوجوه التي قابلتها، والنكهات التي تذوّقتها. اتجهت إلى مطار محمد الخامس، وجلستُ أنتظر رحلتي إلى القاهرة التي وصلت صباح اليوم التالي. هكذا انتهت رحلتي في المغرب، التي بدأت بخيال قديم تشكل من الكتب والصور، وانتهت بواقع وذكريات أعمق وأغنى مما تخيّلت. كل مدينة زرتها منحتني شيئا مختلفا، وشيئا مشتركا أيضا… كرم أهلها، تنوع طبيعتها وثقافتها، وتفرد تفاصيلها.

المغرب بعيون إسكندرانية.. رحلتي في بلد عرفته قبل أن أراه
المغرب بعيون إسكندرانية.. رحلتي في بلد عرفته قبل أن أراه

الجزيرة

timeمنذ 6 أيام

  • الجزيرة

المغرب بعيون إسكندرانية.. رحلتي في بلد عرفته قبل أن أراه

لم تكن زيارتي للمغرب مجرد حلم سياحي راودني كفتاة شغوفة بالسفر، ولم يكن في نظري مجرد بلد يحتضن تنوعا مذهلا في ثقافته وطبيعته، أو مقصدا سياحيا جديدا سأسعد بزيارته؛ كان الأمر أعمق من ذلك بكثير. فقد نشأت في الإسكندرية على حكايات عن أولياء وتجار مغاربة استقروا قرب بحرنا، وأطلق اسمهم على حي وسوق لا يزالان ينبضان بالحياة حتى اليوم. سنوات مرت، تمنيت فيها أن أمشي في شوارع المغرب، التي اقترنت في مخيلتي بالدفء والدهشة، وحين تحقق الحلم شعرت أنني في مكان أعرفه قبل أن أراه. من الفكرة إلى التخطيط كانت الخطوة الأولى في تخطيط رحلة المغرب هي الحصول على التأشيرة، وقد أتممت ذلك إلكترونيا خلال فترة قصيرة. بعدها بدأت بحجز تذاكر السفر في نهاية ديسمبر/كانون الأول، لأودّع عاما واستقبل آخر في بلد جديد. في الوقت نفسه كنت أبحث عن المدن التي أرغب في زيارتها؛ فمدة الرحلة عشرة أيام فقط، والخيارات كثيرة. لذا، كان لا بد من وضع خطة دقيقة تتيح لي حجز الفنادق مسبقا، والاستفادة القصوى من الوقت في استكشاف المدن المغربية. بعد استشارة عدد من الأصدقاء، قررت أن أبدأ رحلتي من الرباط، عاصمة المغرب، وأن أختمها في مراكش، المدينة التي طالما سمعت عنها. ولما كانت متعة السفر تبدأ بلحظات التخطيط، حجزت أماكن الإقامة خلال تخفيضات الجمعة البيضاء في نوفمبر/تشرين الثاني، مما أتاح لي أسعارا جيدة. كما اخترت السفر على الخطوط الجوية المغربية لتكون التجربة مغربية من البداية. في صباح 23 ديسمبر/كانون الأول، انطلقت من مطار القاهرة لمطار الدار البيضاء، كانت إجراءات الوصول سهلة وسلسة؛ صرفت مبلغا من الدراهم في صرافة المطار، واشتريت خط هاتف محلي، ثم تسلّمت حقائبي وتوجّهت مباشرة إلى محطة القطار داخل المطار، متجهة للرباط. اليوم الأول بالمغرب هبطت الطائرة بسلام في مطار الدار البيضاء، أو "كازا" كما يسميها المغاربة، وهناك بدأت أولى تجاربي مع اللهجة المحلية. كنت قد حاولت قبل السفر تعلم بعض الكلمات الدارجة، لكنني وجدت نفسي كثيرا ما أتوقف عند كلمات جديدة، أسأل عن معناها، وأقارنها بما يعادلها باللهجة المصرية، وكان ذلك جزءًا من متعة السفر التي انتظرها بشغف، إذ أحرص في كل بلد عربي أزوره على تعلم كلمات من لهجته المحلية وتبادلها مع أهله. وصلت أخيرا إلى منزل صديقتي المغربية التي استقبلتني بالأتاي، وهو شاي مغربي تقليدي بالنعناع، لا يُقدَّم فقط كمشروب بل كرمز للضيافة. وفي صباح اليوم التالي تناولت "المسمن"، وهي فطيرة شهية من الدقيق والسميد تقدم غالبا مع العسل أو الجبن، وكان هذا أول لقاء لي بالطعام المغربي… لقاء لم ينتهِ، إذ صار المسمن رفيق إفطاري اليومي طيلة الرحلة. نصحتني صديقتي بزيارة المدينة القديمة في الرباط، خاصة في يوم الأحد حيث يُقام السوق الشعبي. حملت معي نصائحها، خصوصا بشأن سيارات الأجرة، أو كما تُعرف محليا بـ "الطاكسي": الصغير منها مخصص للتنقل داخل المدينة ويعمل بالعداد، وأما "الطاكسي الكبير" فيتسع لعدد أكبر ويُستخدم عادة بين المدن، وغالبا ما يُتفق على أجرته مسبقًا. ما تزال المدينة القديمة للرباط تحتفظ بروح زمن آخر، بمعالمها التاريخية مثل قصبة الأوداية، وشالة، والسور الموحدي، وصومعة حسان. بين أزقتها الضيقة وبيوتها العتيقة شعرت وكأنني أسير في متحف مفتوح للفن المغربي؛ من الزخارف الخضراء إلى الخط الكوفي المغاربي، إلى النقوش المنحوتة بعناية على واجهات البيوت وسقايات المياه العتيقة (الأسبلة). في الأسواق، كانت المحلات تعجّ بالمنتجات المحلية: الجلود، الأحذية، والهدايا التذكارية. وأما الحلويات فكانت فصلًا خاصًا في كتاب النكهات المغربية، فقد جربت الشباكية وكعب الغزال والمقروط والمخروطية مقابل 5 دراهم فقط (نصف دولار). إعلان كانت خيارات الطعام أيضا تجربة مبهجة، إذ يشتهر المطبخ المغربي بتنوع أطباقه ونكهاته الغنية. أينما توجهت تجد الطاجين والكسكسي والمشويات، والأسماك التي يسمونها "الحوت". في ذلك اليوم اخترت تناول "الصوصيص"، وهي نقانق مشوية على الفحم تُقدَّم في شطائر مع الطماطم والخس والفلفل، هي أكلة خفيفة لكنها شهية وحاضرة بقوة في المطبخ المغربي. بعد ذلك اشتريت هدايا تذكارية، وحذاء مغربيا من الجلد، وانتهى يومي الأول في المغرب محمّلا بالنكهات والانطباعات. إلى طنجة عبر البراق في اليوم الثاني من رحلتي، اتجهت إلى محطة القطار لأستقل واحدة من أبرز معالم المغرب الحديثة والفريدة في العالم العربي: قطار "البراق"، الذي سمي بهذا الاسم تيمنا بسرعته الخاطفة كالبَرق. يُعد البراق أول قطار فائق السرعة في أفريقيا والعالم العربي، وتصل سرعته إلى 375 كلم في الساعة، ما يجعله من بين الأسرع في العالم. يربط بين الدار البيضاء وطنجة، مرورا بمحطات رئيسية مثل الرباط والقنيطرة، ويقلّص بشكل كبير مدة السفر بين هذه المدن. ورغم أن كلفته أعلى من القطارات التقليدية في المغرب، إلا أنه يُعد وسيلة نقل مريحة وفعالة. أنصح بحجز التذكرة مسبقا عبر الموقع الإلكتروني للمكتب الوطني للسكك الحديدية، خاصة خلال عطلات نهاية الأسبوع والمواسم الرسمية، حيث ترتفع الأسعار ويصعب العثور على مقعد خال. كانت الرحلة على متن البراق هادئة ومريحة، واستغرقت ساعة وعشرين دقيقة فقط بدلا من خمس ساعات بالقطار العادي. لم تفارق عيني زجاج النافذة، أتابع منه مشاهد الطبيعة وهي تتبدل بين الصحراء والأشجار والتلال الخضراء حتى وصلت إلى طنجة المدينة.. أحب مدن المغرب إلى قلبي. طنجة عروس الشمال تقع طنجة شمال المغرب على تقاطع البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي، وتُعرف بعروس الشمال وبسحرها التاريخي والجغرافي. منذ لحظة وصولي، شعرت بانتماء غريب؛ ربما لأنني، القادمة من الإسكندرية، وجدت في طنجة مدينة بحرية تشبهني. كانت تجربتي الأولى للإقامة في المغرب في دار ضيافة تقليدية يُطلق عليها محليا "الرياض" وذلك في قلب المدينة العتيقة لطنجة، وتمتاز هذه الدار بتصميم معماري مغربي من الأقواس وأنماط الفسيفساء والتفاصيل الزخرفية ونوافير المياه وأحيانا فناء واسه مزين بالنباتات. وفي بعض الأحيان يكون الرياض منزل مغربي قديم، وعادة ما تكون غرفه متجاورة إذا كان موجود في الأحياء القديمة، يوفّر للسائح مقرا يشعر فيه بالهدوء والسكينة. بعدما نلت قسط من الراحة، بدأت بالتجول في الأزقة القديمة المجاورة حتى الوصول إلى قصبة المدينة. وبالفعل كانت العشوائية هي خطة اليوم الأول في طنجة، تركت قدامي تقودني بين زنقة وزقاق، وبين متاجر الهدايا التقليدية والتذكارية والمنتجات الجلدية والمنسوجات بأنواعها. ضريح ابن بطوطة استمتع بالمشي على غير هدي وبتصوير كل شاردة وواردة توثيقا لرحلتي ورغبة للرجوع لتلك اللحظات الجميلة. فجأة بلا تخطيط إلى "زنقة ابن بطوطة"، حيث فوجئت بضريحه البسيط المزيّن بالزهور. لم أكن أعلم أنني سأزوره صدفة، أنا التي طالما قرأت عن رحلاته وتوقفت عند وصفه لمدينتي! إعلان كان الضريح بسيطًا للغاية يحيطه الزهور، ويعلوه لافتة تسجل رحلات ابن بطوطة حول العالم ويجاوره سبيل صغير لسقيا الماء، لم يكن ثمة حراسة أو سور يحول بيني وبينه… لا أظن أنني سأنسي هذا الحدث ما حييت! واصلت صعودي في أزقة طنجة البيضاء نحو القصبة، حيث تتعانق مياه البحر مع جدران المدينة القديمة، وتُطل القلاع والمباني الأندلسية من ربوة عالية تطل على مضيق جبل طارق. تعد قصبة طنجة رمزا لتراث المدينة الغني، حيث زرت متحف القصبة وبيت العود الذي سحرني بأجوائه؛ إذ يمتزج صوت العزف برائحة الشاي وسط صور وتحف كأنها جاءت من زمن بعيد. ما لفت انتباهي بشكل شخصي هو الجدران المطلية تجاه طريق القصبة باللون الأبيض حولك من كل مكان، وكأن الطريق لقصبة طنجة لؤلؤة باهية بيضاء اللون. ثم سرت على الممشى البحري حتى وصلت إلى "مارينا طنجة" أو ما يعرف بالمارينا-باي (Tanja Marina Bay)، حيث تتراصف اليخوت وتنتشر المطاعم البحرية بقرب البحر المتوسط. وهناك شاهدت العبارات التي تعبر إلى أوروبا من ميناء طريفة. وفي المساء، أخذتني ابنة صاحب الرياض الذي كنت أقيم به في طنجة في جولة داخل الأسواق التجارية في مركز المدينة. دلّتني على أماكن الشراء المناسبة وشجعتني على تذوق البسطيلة، وهي فطيرة تجمع بين الدجاج والقرفة، وهي إحدى روائع المطبخ المغربي التقليدي. وكانت هذه التجربة من أكثر ما استمتعت به في رحلتي.. فأن ترى المدينة بعين واحد من أهلها الذي يرشدك لخباياها هي تجربة تجعل السفر يحمل الكثير من الأنس والدفء. وهكذا انتهى يومي الأول بطنجة، وكنت على موعد في اليوم التالي مع أماكن جديدة في طنجة، بدأت رحلتي في الصباح الباكر أولاً بإفطار مغربي وهو صحن البيصارة والذي يختلف في طعمه وطريقة إعداده عن مصر، يُقدم صحن البيصارة مع التوابل مثل الفلفل الحار والكمون وزيت الزيتون، مع رغيف من الخبز الطازج. معالم بحرية انطلقت بعدها في جولة عبر الأتوبيس السياحي لمدينة طنجة، الذي ينطلق من الميناء نحو أهم معالم المدينة الطبيعية والتاريخية. كانت محطتي الأولى مغارة هرقل، الواقعة في منطقة رأس سبارطيل، حيث يلتقي المحيط الأطلسي بالبحر الأبيض المتوسط. رأس سبارطيل نفسه يُعد من أبرز النقاط الجغرافية في المغرب، وهو قمة صخرية شاهقة ترتفع أكثر من 300 متر، جنوب مضيق جبل طارق. وهناك، على هذا الرأس المطل على مياه مترامية لا نهاية لها، تقع مغارة هرقل التي تمتد 30 متراً داخل الجبل، وتُعد من أشهر المزارات الطبيعية في البلاد. إعلان ما يميز المغارة ليس فقط موقعها، بل تكوينها الصخري الفريد، وفتحتها المطلة على المحيط. ارتبطت هذه المغارة بعدة أساطير، أبرزها تلك التي تقول إن البطل الإغريقي هرقل اتخذها ملجأ له بعد إنجاز إحدى مغامراته، ومنها اكتسبت اسمها. وانتهت الرحلة بالعودة سريعا استعدادا للسفر إلى المدينة التالية البعيدة وهي شفشاون. شفشاون الجوهرة الزرقاء وصلت إلى شفشاون ليلا، بعد يوم مرهق من تبديل وسائل المواصلات، إذ فاتتني الحافلة واضطررت لركوب سيارة أجرة بين المدن. كانت السيارة قديمة والرحلة مزدحمة، تذكّرني بمشاهد من مصر أو بأسفار الطفولة. والغريب أن الحقائب تُحسب لها أجرة كأنها راكب مستقل! كنت الوحيدة المصرية في السيارة، وحين لاحظ أحد الشبان المغاربة تعثري في حمل الحقائب عرض مساعدته دون تردد. ثم دخل في نقاش خفيف مع السائق يوصيه بي، وأخبره أنني "برّانية"، كما يقولون هناك، أي غريبة عن البلد. سرعان ما بدأت أحاديث خفيفة عن مصر، وذُكر عادل إمام كرمز للفن الذي يُقرب بين الشعوب. حين وصلت، كانت المدينة تغط في سكون بارد. لم تكن البرودة تشبه طنجة، كانت قادمة من الجبال المرتفعة مباشرة، تخترق جسدك بلا رحمة. خرجتُ من السيارة وكنت قد هاتفت صاحب الرياض الجديد أو النُزل التقليدي الذي سأسكن فيه لليلة واحدة في شفشاون. وجدته بانتظاري وقادني إلى نُزل صغير وسط أزقة المدينة الزرقاء الضيقة، كنت قد تعودت على مثل هذه الشوارع في طنجة بالفعل. كنتُ متعبة، لكن شيئًا داخلي كان يعرف أنني وصلت إلى مدينة مختلفة، مدينة صغيرة لكنها لا تشبه غيرها. كان البرد قاسيا لكن فضولي ورغبتي في اقتناص ساعات وجودي في شفشاون كان أقوى، فقررت أن أخرج لتمشية قصيرة في قلب المدينة القديمة، التي لم تكن تبعد كثيرا عن مقر إقامتي. كنت أظن أنني سأجد شيئًا يشبه روح طنجة في المساء، لكن المدينة كانت ساكنة في هدوء لا يقطعه سوى صوت الهواء بين الجبال المحيطة بشفشاون. شعرت بشيء من الإحباط، لا من المدينة، بل من الوصول المتأخر، من لحظة لقاء كان يمكن أن تكون أكثر حيوية لولا تأخري. عدت إلى غرفتي وأنا أعد نفسي: غدا ستريني شفشاون وجهها الأزرق في وضح النهار. بدأت يومي بإفطار بسيط في ساحة هادئة قادتني إليها قدماي: مسمن مغربي بالجبن، وكوب من القهوة المغربية التي تذوقتها للمرة الأولى في حياتي. كان طعمها قويا ومختلفًا لم أنساه ولم أعرف سر مكوناته إلا في مدينة مراكش. شفشاون ومواقع التواصل في الصباح، خرجت متلهفة لاكتشاف المدينة الزرقاء التي طالما رأيتها في الصور مغمورة بظلال الأزرق الحالم على الجدران والأبواب والنوافذ. لكن مع كل خطوة شعرت بمفارقة: المدينة أصغر وأهدأ مما تخيلت. لم تكن شفشاون زائفة لكنها أكثر بساطة وأقل نشاطا مما ترسمه صفحات التواصل الاجتماعي، وتسببت تلك التوقعات المُسبقة في خيبة أمل لم أخفيها. لم أجد كل تلك الزوايا الساحرة، ولم يغمُرني الأزرق كما كنت أظن. بدا لي أن السكون هنا جزء من طبيعتها، لا مؤامرة على السائحين. وبعيدا عن الأزقة الضيقة المطلية بالأزرق، تحتفظ شفشاون ببعض من بقايا مدينتها العتيقة، حيث تقع القصبة الأثرية في قلب المدينة، وهي حصن قديم ذو أسوار مرتفعة يعود للقرن التاسع الهجري، شيده مؤسس شفشاون نفسه علي بن موسى بن راشد. وتنتشر حولها المحال الصغيرة التي تبيع الهدايا التذكارية والمشغولات التقليدية مثل الحقائب اليدوية والسلال والحُلي المحلية البديعة إلى الأقمشة المصبوغة يدويا. وبينما أخذت أتمشى في الطرقات جذبتني أصوات واضحة للمياه، فتتبعتها حتى وصلت إلى الطرف الآخر من المدينة، حيث بدأت أصعد درجات حجريّة تحفّها الأشجار الباسقة، بعضها محمّل بحبات البرتقال زاكي الرائحة، وبعضها نخيل يظلل طريق المارين. في نهاية الدرج وجدت نفسي أمام شلال صغير رائق، تنهمر مياهه في هدوء، كما لو أن المدينة كلّها تنبض في هذا المكان الصغير. في نظري، كانت هذه النقطة -المطلة على المدينة من أعلى- أجمل ما في شفشاون. قبل الظهيرة، قررت أن أغادر شفشاون مكتفية بإقامتي القصيرة التي لم تتجاوز اليوم الواحد. كانت زيارة خفيفة الظل، هادئة كطبيعة المدينة نفسها، لكن كنت أتوق لزيارة المحطة التالية.. مدينة التاريخ والعراقة: فاس. إعلان في الجزء الثاني، أتابع ترحالي في المغرب لأتعرف على فاس ومراكش والدار البيضاء.

"التسلح والسياحة" من المفارقات الليبية
"التسلح والسياحة" من المفارقات الليبية

الجزيرة

time٢٢-٠١-٢٠٢٥

  • الجزيرة

"التسلح والسياحة" من المفارقات الليبية

قد لا يختلف اثنان أن الحرب والسياحة لا يلتقيان، ولعل متابعي المسلسلات العربية يتذكرون قصة رجل المخابرات المصري وصاحب شركة السياحة في إسرائيل، رأفت الهجان، حين تعثرت أحوال شركته مع توتر الأوضاع في الشرق الأوسط بخمسينات القرن الماضي. قال مفسرا: كيف نحضر السياح إلى بلد يتسلح حتى ذقنه! غير بعيد زمانيا ومكانيا، تتسلح ليبيا منذ سبعينيات القرن الماضي، ولازالت تفعل، فكيف تسير أمور السياحة فيها؟ رغم امتلاكها كل عوامل الجذب الطبيعي، الشواطئ الطويلة والمساحة الشاسعة والطبيعة المتنوعة والتاريخ القديم، إلا أن ثقافة السياحة تأخرت في ليبيا. ولكن بداياتها في مطلع الستينات "كانت مشجعة" وفق رأي مدير مركز المعلومات بوزارة السياحة أسامة الخبولي. ولعل وجود جاليات أجنبية حينها ساعد في تقبل الأجانب وتوسيع آفاق الدعاية للقطاع السياحي. ويقول الخبولي لوكالة الأنباء الألمانية "كان هناك تنامي للطلب قابلته الدولة بتوفير العرض عبر الاهتمام بأناقة ونظافة المدن، وتشييد الفنادق والتركيز على الآثار والتنقيب، لكن الحال سرعان ما تدهور بتغيير النظام السياسي سنة 1969". الأسباب وراء ذلك تتنوع حسب الخبولي، فمنها الاقتصادي "بعد التحول للنظام الاشتراكي، وسيطرة القطاع العام، وتشبع خزائنه بعائدات النفط"، كما يوجد جانب أمني ناتج عن "رِيبة نظام معمر القذافي من الأجانب والمخاوف من تسلل من كان يصفهم بالجواسيس والعملاء والمخربين"، وأما الجاليات الأجنبية فقد أجبرت على المغادرة دون عودة. تعددت الأسباب، وكانت النتيجة واحدة: اتجه الليبيون للوظائف العمومية، وتوقفت البلاد عن استقبال السياح، وفرضت قيود على تأشيرات الأجانب، وعلى خروج الليبيين أيضاً، اختنقت المدن وخفت لمعانها رغم ما أنفق فيها على المباني والطرق. يقول أحد الليبيين، فتحي المرابط، إنه كانت تفرض على الليبيين تأشيرة خروج من البلاد في فترة السبعينيات والثمانينات، ويضيف "أذكر حينها أنني حصلت على تأشيرة الخروج بعد جهد، وبعدما تقدمت للتأشيرة البريطانية واستلمتها؛ كانت صلاحية التأشيرة المحلية على وشك الانتهاء، وتوجب علي إعادة الإجراءات من جديد". يبدو أن ثلاثة عقود من الانغلاق كانت كافية ليدرك قادة ليبيا ضرورة الانفتاح على العالم. وعلى وقع البدايات بعد الألفية نالت السياحة قسطا وافيا، حتى أن ليبيا "حققت عام 2009 المركز السادس عالميا في الاستثمار السياحي بـ 14 مليار دولار موزعة على 77 مرفق سياحي"، وفق مدير مركز المعلومات في وزارة السياحة الليبية. مؤهلات كبيرة ويضيف المتحدث نفسه "التحدي تمثل في عوامل الجذب، وقد حلت صحراؤنا هذا الإشكال بتنوعها الجيولوجي والبيئي، بعذرية رمالها وعلو جبالها ونقاء واحاتها. بأصالة مدنها مثل غدامس ثالث مدن العالم المأهولة قدما، ونقوش الليبيين التي تزيد عن 10 آلاف سنة وتعد أحد أقدم آثار البشر". ويستطرد الخبولي "العالم لا يعرف أننا سبقنا مصر في التحنيط، وصنعنا أول عربات تجرها الخيول، وعليه اكتشاف ذلك واقعاً وليس فقط قراءته في كتب هيرودوت". ووفق مركز المعلومات، فقد شكلت فترة ما بعد 2004 ذروة النشاط، بأرباح سنوية ناهزت مليار دولار، ومعدّل زيارات يفوق 150 ألف سائح، وفروا ربع مليون وظيفة ثابتة ومؤقتة، هذا فضلا عن تنشيط الأسواق عامة. وتبدأ رحلة السياح عادة من طرابلس ومدينتها القديمة وبعض معالمها وأسواقها وشواطئها، ثم المدن الفينيقية والإغريقية والرومانية في صبراتة (77 كلم غرب طرابلس) ولبدة (120 كلم شرق طرابلس) وشحَّات (1233 كلم شرق طرابلس)، وبعدها الصحراء حيث المغامرة والاستكشاف. ويرى المرشد السياحي السابق وصانع المحتوى طه الجواشي أن أهم ما يميز ليبيا "موقعها الجغرافي القريب لأوروبا والأسواق السياحية". ويقول الجواشي لوكالة الأنباء الألمانية "يبدو أن التاريخ المشترك جعل الإيطاليين الأكثر رغبة في زيارة ليبيا، هذا بخلاف الفرنسيين وكل دول حوض المتوسط". وتؤكد الشواهد أن العامل الأمني كان الأكثر جذبا للسياح، خاصة مع تصنيف ليبيا السابق في هذا الشأن من قبل اتحاد السفر الدولي ومنظمة السياحة العالمية بعلامة 4.5 على 5. المؤثر الأول كما كان الأمن الجاذب الأول للزوار الأجانب فقد صار لاحقا أكبر منفر لهم، فقد دخلت البلاد في نفق من التخبط والانقسام السياسي والتدهور الأمني والاقتصادي بعد أحداث فبراير 2011 وتغيير النظام بشكل مفاجئ مرة أخرى. ولم يحل عام 2014 حتى دخلت البلاد في أتون حرب أهلية أفزعت حتى السفارات ودفعتها للهروب، فما بالك بالسياح. لم تنته قصة السياحة هنا رغم كل التحديات، فيبدو أن الليبيين وجدوا مخرجا، ليس للترفيه عن الأجانب، بل للترفيه عن أنفسهم هذه المرة، بدل السفر للخارج وإنفاق المزيد. فيظهر أن تحرر رأس المال بعد 2011 دفع أصحاب الأموال للإنفاق دون خوف من السياسات الاشتراكية السابقة، ولهذا نشطت السياحة الداخلية بشكل متسارع، حتى أن "عدد القرى السياحية المسجلة بوزارة السياحة ارتفع من 18 إلى 114 في السنوات الثلاثة الأخيرة. ربما لم يعد الليبيون يأبهون، ولهذا تراهم يتنزهون على طول البلاد رغم بعض القلاقل الأمنية، مثلما حدث صيف العام 2024 مع نزلاء قرية "سمر لاند" قرب طرابلس. ويقول أحد النزلاء واسمه عصام العزابي "حدثت اشتباكات مسلَّحة بجانبنا وغادر بعض النزلاء، لكن الغالبية قرروا البقاء"، يضيف "مع غرابة القرار، لكن الاشتباكات سرعان ما انتهت واستمتعنا بالبحر في أجواء رائعة تنبع من خصوصيتنا الثقافية". طبيعة المجتمع وعن واقع المجتمع الليبي من النواحي الثقافية والعلمية واللغوية ومدى تلاؤمها مع الجذب السياحي، يوضح الحواشي قائلا "الوضع الحالي لا يشجع السياح علي المجيء، لكنه وضع غير دائم". ويتابع "الجميع يعلم بالظروف التي مر بها الليبيون في آخر 60 سنة. فترات العزلة دفعتنا لنوع من الانطواء، لكن التغيير التدريجي ممكن، فكلما زاد السياح زاد تقبل الناس لهم، إما بتقديم الخدمات والاستفادة المادية، أو بتجاهلهم وإعطائهم مساحة طبيعية أثناء الزيارة". ويتفق الكثيرون في ليبيا على أن السياحة الداخلية في الوقت الحالي هي المخرج والخطوة الأولية، ففي مؤشر مطمئن، نجحت نسخة 2024 من "رالي تي تي" في صحراء ودان (650 كلم جنوب شرق طرابلس) في جمع 50 ألف سائح لعدة أيام داخل مخيم صحراوي مؤقت. ويبقى أنه من أبرز معوقات جذب السياح أن ليبيا لم تنجح في توحيد السلطات بين الشرق والغرب، ولا إجراء انتخابات تأجلت لثلاثة سنوات حتى الآن، هذا فضلا عن استمرار التسلح والتحشيد من أطراف النزاع.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store