logo
الأطفال المدلَّلون

الأطفال المدلَّلون

أحمد المرزوقي نشر في 28 يوليو 2025 الساعة 8 و 33 دقيقة
إيطاليا تلغراف
أحمد المرزوقي
كاتب وناشط حقوقي مغربي
حبّ الوالدين أطفالهما من الغرائز الربّانية والمسلمات الكونية، التي نراها حتى في البهائم العجماء والحشرات الدقيقة، التي قد لا تُشاهَد إلا بالمجهر. فما من جنس خلقه الله على هذه البسيطة إلا يندفع تلقائياً إلى التناسل من أجل التكاثر والاستمرار عبر ضمان الخلف. هذا أمر عادي جدّاً من قبيل أن الشمس تشرق من المشرق وتغرب من المغرب. ولكنّ الشيء الذي أصبح اليوم يشكّل نوعاً من الشذوذ عن القاعدة، هو ذاك الحبّ الجارف الأعمى الذي لا يُبقي ولا يذر من بعض الوالدَين لفِلْذات أكبادهما. حبّ مستعر أهوج لا مدى له ولا حدود، فيصير الأب أو الأمّ عبدَين خانعَين مطيعَين لكلّ نزوات أبنائهما، حتى لو طلبوا منهما المستحيل لسعيا إلى محاولة تحقيقه لهم، ولو على حساب صحّتهما ومالهما ووقتهما.
وقد لا يقتصر الأمر على من رُزقوا بالذرّية بعد طول انتظار، أو من رزئوا في بضع أولادهم إثر مرضٍ عضال أو حادثة مؤلمة لم يسلم منها إلا واحد أو اثنين، كما لا يمكن أن يطاول هذا الحبّ الطاغي فئةً اجتماعيةً دون أخرى، بل قد نجده عند بعض الميسورين والمثقّفين كما قد نلاحظه لدى فقراء لا يملكون عشاء ليلة. وسبب هذا المقال ملاحظات عديدة وأمثال كثيرة لأطفال مدلّلين كانوا سبباً لقطع الرحم بين أُسرٍ وإخوةٍ وأصدقاء، فهذا طبيب جرّاح مشهود له بالكفاءة العالية في ميدانه، إن سمعته يتحدّث ويزجي النصائح للمواطنين في التلفاز، لأقسمت أنه أبرع مربٍّ على الإطلاق، ينبغي التأسّي به والاقتداء به. بينما هو في الحقيقة عبدٌ مملوك يرفع الراية البيضاء حيال طفل نزقٍ وقحٍ جسورٍ يفعل به الأفاعيل، إذ كلّما حقّق له رغبته في اقتناء لعبة نفيسة رماها بعد يوم أو يومين ليطالب بلعبة أخرى أغلى منها وأنفس، والطبيب الأسير لرغبات ابنه لا يمانع ولا يجادل، بل يسارع إلى شراء المطلوب منه من دون أدنى تردّد أو همهمة، وكأنّ تلك الطلبات الصبيانية التي لا تنتهي، أوامر عسكرية لا تجوز مناقشتها، أو حتى مجرّد التساؤل حول فائدتها.
أن يتمادى ضرر الطفل إلى الناس وإلى المُلك العمومي، فذلك ما لا يقبله عاقل
إلى هنا، يبقى هذا الأمر شخصياً لا يخصّ إلا الطبيب وابنه، ولكن أن يتمادى ضرر الطفل إلى الناس وإلى المُلك العمومي، فذلك ما لا يقبله عاقل. فقد حدث ذات مرّة، والجرّاح يتحدّث مع زملاء له عند عتبة باب جناح من الأجنحة، وهم يتأهّبون لمغادرة عملهم في المساء، أن خرج الطفل خارج المبنى وهو في حالة غضب من أبيه، الذي بدا له أنه أطال الحديث مع زملائه أكثر من اللازم، فتناول حجراً كبيراً وهوى به بكلّ قواه على باب في مدخل الجناح ليتشتّت الزجاج في فرقعة كبيرة إلى شظايا متطايرة أمام دهشة كلّ من كان موجوداً في المكان من أطباء وممرّضين ومرضى. وبطبيعة الحال، كنت أنتظر ردّة فعل فوري وصارم من الجرّاح، ولم أشكّ في أن زملاءه الذين ظهرت في محيّاهم علامات الاستنكار والذهول كانوا يتوقّعون الشيء نفسه، إلا أن الجرّاح ضحك ضحكة متكلّفةً وهزّ كتفيه في نوع من الانهزام، وقال متوجّهاً إلى الطفل المدلّل، معاتباً إيّاه بلهجة هي أقرب إلى الاسترضاء منها إلى العتاب: املك أعصابك يا بني، وقل لوالدتك التي تنتظرنا في الخارج أن تتريث لحظةً قصيرة. فتفرّق جمع الأطباء وهم في حالة من الغيظ الكظيم، إلا أن واحداً منهم لم يطق صبراً، فقال لزميله بنرفزة ظاهرة: مع كامل تقديري لك زميلي العزيز، ليست هذه هي المرّة الأولى التي يفعل فيها طفلك مثل هذه الصبيانيات. أعتقد أنه من باب أحرى ألا تدع أمّه تصحبه معها إلى المستشفى بعد اليوم. فاستشاط الجراح غضباً، وردّ على معاتبه بلهجة قاسية، لهجة من أهينت كرامته، وجرى بينهما جدال محتدم كاد أن يفضي إلى تشابك بالأيدي، لولا تدخّل بعض المحسنين. وكان المنظر في الحقيقة منظراً بئيساً يبعث على الاستهجان والامتعاض، ولا سيّما أن بطليه كانا محسوبَين على النُّخبة العالمة، لكن خصامهما كان خصام حمّالين في المرسى.
وهذه سيدة ميسورة كانت كلما جاءت لزيارة أقاربها أو صديقاتها، أعلنت عندهم حالة الطوارئ، فسارعوا إلى قفل الدواليب وإخفاء كلّ غال ونفيس بسبب رعونة طفليها، اللذين كانا متخصّصين في ممارسة لعبة الدمار الشامل حيال كلّ ما تطاوله أيديهما من نفائس ومقتنيات غالية، وذلك تحت أنظار أمهما اللامبالية. وقد كان الناس في أول الأمر يتساهلون مع السيدة وطفليها في نوع من المجاملة الزائفة، مردّدين بنفاق كبير كلّما أتلفا جهازاً أو كسرا آنيةً: دعيهما يلعبان. إنهما مجرّد طفلَين بريئَين. فكانت السيدة ترتاح لهذا الكلام المغشوش، وترسم في ملامحها غضباً مغشوشاً كذلك، حتى إذا ما ولّت الأدبار، انبرى أهل الدار إلى إحصاء الخسائر الفادحة في المال والعتاد، وهم يلعنون السيّدة وطفليها المدلَّلَين، محمّلاً بعضهم بعضاً مسؤولية قبول استضافتها مع مارديها. واتفق ذات مرة أن تجرّأت سيّدة، وهي في بيتها تستقبل مكرهة قريبتها البلهاء، فزجرت أحد الطفلين في الوقت المناسب، وكان يهم وهو على أعلى سلم طويل بفكّ سلك غليظ يشدّ ثريّا ثمينةً إلى سقف صالون مجاور للصالون الذي كانت فيه السيّدتان تتحادثان، بينما كان أخوه الصغير يوجّهه بعزم وحماس من تحت، ويمدّه بملقاط كلما احتاج إليه. فاغتاظت أم الطفلين غيظاً شديداً، ولم تجد من حرج في معاتبة مضيفتها قائلة: أهيب بك أن لا تنهرهما بعد اليوم.
ملاحظات عديدة وأمثال كثيرة لأطفال مدلّلين كانوا سبباً لقطع الرحم بين أُسرٍ وإخوةٍ وأصدقاء
إنهما مُرهفا الإحساس، ومن المحتمل أن يحدث لهما مكروه بهذا التعنيف القاسي منك. دعهما يلعبان، وإن أحدثا أضراراً فسوف أعوّضك بشيك سمين. ثمّ أخرجت من حافظة يدها دفتر شيكات وقالت لصاحبتها: خذي شيكاً واكتبي فيه قدر ما طاولك من أضرار. فابتسمت ربّة البيت بسمة ساخرة، وردّت بهدوء: طوّقي عنقك بهذا الشيك واجعلي منه قلادة، وخذي مارديك فوراً، واعفيني من صلة رحم تكلفني آلاف الدراهم.
والأمثال من هذا القبيل أمست لا تُحصى ولا تعدّ. وإني لأغبط بعض الأطفال على بحبوحة الدلال الذي يعيشون فيه، وذلك كلّما استعرضت طفولتي القاسية، وجدت أني كنت مثل كرة تنس يتقاذفها ثلاثة لاعبين قساة جناة. يوقظنا عمّ جبار قبل أذان الفجر بنصف ساعة كي نذهب إلى الكتّاب لحضور حصّة القرآن الكريم، وفقيه في الجامع، هو في حقيقة أمره جلّاد محترف يسوط الأطفال ذات اليمين وذات الشمال، وهو يحكّ لحيته الطويلة ويغالب النعاس، ومعلّم صارم عبوس يضربنا على رؤوس أصابعنا بالمسطرة بسبب وبغير سبب، ورغم ذلك لم يصبنا والحمد لله مكروه ولا هم يحزنون. ولكن مع ذلك، يبقى في النهاية بين البين هو الصحيح، والوسط كان وما زال دائماً هو أنجع الطرق لتربية النشء.
وحبّذا لو صار التجنيد العسكري عندنا إجبارياً على الفتيان كما على الفتيات، لا محصوراً على طبقة الفقراء دون أبناء الذوات، كنا ربحنا أجيالاً متجانسةً منظّمةً ومنضبطةً تعطي للمسؤولية حقّها وللحياة معناها.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لجريدة إيطاليا تلغراف
السابق
لا تصدقوا ما يقوله 'المراقبون'
التالي
اتفاق أميركي أوروبي يضع حداً لنزاع الرسوم الجمركية
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

من أجمل ما قرأت.. قيل في 'الحب'
من أجمل ما قرأت.. قيل في 'الحب'

النهار

timeمنذ 18 ساعات

  • النهار

من أجمل ما قرأت.. قيل في 'الحب'

يقولون: 'الحب لم يعد له وجود في هذا العصر، الناس لم يعد لديهم عواطف صادقة، وداعاً للحنان والرقة، فالحب المزيف يزدهر وإذا اختفى الحب ستسود العالم همجية، إننا نعاني من تعطل قلوبنا'. لكننا نقول: الحب سر الهي، الحب هو لذة الروح وروح الوجود وهو ماء الحياة بل هو سر الحياة. تقول إحداهن: المشاعر والأحاسيس ليست قاصرة على الإنسان وحده. وإنما نجدها أيضاً في قطعان الحيوانات وأسراب الطيور والنبات وحتى الجماد الذي نظن انه لا يشعر، يتحدث الله تعالى عنه فيقول: 'لو أنزلنا هذا القران على جبل لرايته خاشعاً متصدعاً من خشية الله'، فالجبل وهو أشد المخلوقات خشونة. وصلابة يشعر بالخوف والخشية بل ويحب أيضاً'. وقال صلى الله عليه وسلم لما نظر إلى جبل أحد: 'أحد جبل يحبنا ونحبه'. إلا أن مشاعر الحب في الإنسان تتميز تميزاً خاصاً وذلك لكونه سيد هذه الأرض بأمر الله ولكونه أيضاً كائناً مميزاً في تركيبه. فهو مركب من جانب أرضي وهو الطين وجانب سماوي رباني وهو الروح. والحب سر وضعه الله تعالى فينا لنبحث عنه، ترى أين منبعه؟ الحب سر لدى الرحمن منبعه، الحب قبس الخلاق جذوته، وهو اليقين وكم لاحت به عبرُ.

مصر.. مصرع شخص وإصابة آخرين بانفجار خلال حفل محمد رمضان - منوعات : البلاد
مصر.. مصرع شخص وإصابة آخرين بانفجار خلال حفل محمد رمضان - منوعات : البلاد

البلاد الجزائرية

timeمنذ يوم واحد

  • البلاد الجزائرية

مصر.. مصرع شخص وإصابة آخرين بانفجار خلال حفل محمد رمضان - منوعات : البلاد

شهد حفل الفنان المصري، محمد رمضان في الساحل الشمالي بمصر، مساء الخميس، حادثًا مأساويًا، لقي فيه أحد العاملين مصرعه وأُصيب عدد آخر بجروح، إثر انفجار خلال عرض للألعاب النارية المصاحب للحفل، بحسب صحف رسمية. وتسبب الحادث في حالة من الذعر والفوضى بين أفراد الجمهور الحاضرين، مما دفع بمحمد رمضان إلى إنهاء حفله بشكل سريع حفاظا على سلامة الحضور. من جهته، قال محمد رمضان في منشور عبر صفحته الرسمية على فيسبوك: "تصحيح غالبا هي انفجار أسطوانة غاز من الفاير وركس وليست قنبلة، وجاري تحريات أجهزة البحث". وأضاف رمضان: "تأكدت بنفسي من إدارة غولف مارينا أنه تم مسح المكان والمسرح بالكامل حرصا على سلامة الجمهور وسلامته، وغالبا حادث قضاء وقدر، أسأل الله أن يرحم حسام أحد أعضاء فريق الفاير ويتم شفاء المصابين". وبدوره، ذكر ياسر الحريري منظم حفل محمد رمضان أن "الخطأ الناتج عن وفاة شخص بسبب الألعاب النارية التي تم استخدامها بالحفل ناتج عن خطأ للشركة التي تم التعاقد معها بعد انفجار أحد المعدات المستخدمة"، بحسب ما نقل موقع بوابة "الأهرام" الحكومي اليومية. وقال ياسر الحريري في منشور على صفحته الرسمية عبر فيسبوك: "أنا منظم الحفلة وأتعاقد كل يوم مع شركات مختصة بالمسرح طول حياتي، الشركة التي تعاقدت معها جاءت بتصريح حكومي يعني كل حاجة ماشية صح للآخر". وأضاف: "بسبب خطأ منهم للأسف في معدة انفجرت فيهم، توفي شخص، وأصيب 2، الله يشفي المصابين، وأنا جاهز للمثول أمام الجهات المختصة لأي تحقيق، أنا موجود وجاهز لأي سؤال، وهذا ليس له علاقة بالفنان والمنظم".

حتى نفهم التديّن على حقيقته (2)
حتى نفهم التديّن على حقيقته (2)

الشروق

timeمنذ 4 أيام

  • الشروق

حتى نفهم التديّن على حقيقته (2)

التديّن ليس تعقّدا وتزمّتا، إنّما المشكلة فينا نحن الذين ابتلينا بقُرناء من الجنّ غايتهم الأسمى أن يأخذوا بأيدينا معهم إلى جهنّم، وابتلينا بأنفس أمّارة بالسّوء تحبّ العاجلة والإخلاد إلى الأرض والالتصاق بالتراب، وتريد لنا أن نعيش في هذه الدّنيا من غير قيود ولا حدود، كمثل البهائم، نعيش لنأكل ونأكل في كلّ وقت، وتسيطر الشهوات على قلوبنا وعقولنا فنستبيح ما تقع عليه أعيننا. المفارقة أنّك تجد العبد الذي أخلدت به نفسه إلى الأرض، يريد للنّاس أن يحترموا حدوده، لكنّه يحبّ أن يتعدّى حدود الآخرين. ويريد للنّاس أن يصونوا عرض زوجته وبناته، لكنّه يتحيّن الفرص لينقضّ على أعراض الآخرين؛ تزيغ عينه إلى عرض جاره ويتربّص بعرض صديقه، وشيئا فشيئا تنحدر به نفسه إلى درك يتساهل فيه في عرض بناته وحتى زوجته، فتجده لا يغار على بناته ولا على زوجته، ويريد لزوجته أن تكون متفتّحة مع الرجال، حتى لا تحاسبه على ما يفعله هو مع النّساء! من الأمثلة الواضحة التي تشي بسوء ظنّنا بديننا ونظرنا إليه على أنّه سببٌ لتقييد حياتنا! تعامل كثير منّا مع الأمر بالسّتر وتغطية العورات! فالله –سبحانه وتعالى- أمر المرأة بالحجاب، ورغّبها في أن تجعل عفافها عنوانا لحياتها وتاجا فوق رأسها؛ لا تطمع فيها النفوس المريضة، فقال –سبحانه-: ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا))، وأمر الرّجال بأن يجتهدوا في ستر ما يجب عليهم ستره، فقال نبيّه المصطفى –عليه السّلام- للرّجل المسلم: 'غطّ فخذك فإنّ الفخذ عورة'، وعلّمنا–عليه الصّلاة والسّلام- أن نحرص على تغطية عوراتنا كما نحرص على ستر الخبث الذي يخرج من بطوننا، فحين سئل–صلى الله عـليه وسلم-: عوراتُنا ما نأتي منها وما نذرُ؟ قال: 'احفظْ عورتَك إلا من زوجتِك أو ما ملكت يمينُكَ'، قيل: يا رسولَ اللهِ إذا كان القوم بعضُهم في بعضٍ؟ قال: 'إنِ استطعتَ أن لا يَرينَّها أحدٌ فلا يَرينَّها'، قيل: يا رسولَ اللهِ إذا كان أحدُنا خاليًا؟ قال: 'اللهُ أحقُّ أن يُستحيا منهُ منَ الناسِ'.. لماذا كلّ هذا الاهتمام بمواراة العورات؟ حتى لا تتطلّع النفوس إلى الأعراض، وحتى لا تشتهي النّفوس ما ليس لها ولا يحقّ لها. هذا هو الأمر، وهذا هو الغرض، لكنّنا لو أعدنا النّظر في واقعنا لرأينا كيف أصبحت حياة كثير من المسلمين متنكّرة لهذا الأمر، حينما تمرّدوا على شرع ربّ العالمين! وأصبح العفاف مطلبا ليس مهما عند كثير من النّساء والرّجال، بل وأضحى قرينا للتخلّف والرجعية عند بعضهم، وأصبحت بعض النساء يسهل الوصول إليهنّ كما يسهل الوصول إلى شربة ماء، وبعض الرّجال يرى في قضاء وطره هدفا تستباح لأجله كلّ السّبل! كان بدن المرأة جوهرة مكنونة ودرة مصونة لا يمكن أن يراه أحد غير زوجها، لكنّ المرأة التي أخلدت إلى الأرض واتّبعت هواها في هذا الزّمان، أصبحت تلبس من الألبسة ما يشفّ ويصف، وأضحت تلقي ثيابها على شاطئ البحر وفي صالات الأفراح وفي مواكب الأعراس لتعرض زينتها للناس جميعا.. وبعض النّساء أصبح الحجاب ثقيلا عليهنّ ثقيلا على قلوبهنّ قبل أبدانهنّ، كأنّهنّ حين يلبسنه يمتننّ على ربّهنّ ودينهنّ! لذلك يتربّصن به ويتحينّ كلّ فرصة ليتخفّفن منه، وربّما ليلقينه في الزوايا! انقلبت الآية عند كثير من النّساء في هذا الزّمان، وأصبحت بعضهنّ يرين أنّ الحجاب وقتُه حينما تكبر المرأة ولا تنفعها الزّينة، فعندئذ تلبس الحجاب، أمّا وقت الشّباب فهو وقت التفنّن في أشكال وألوان الألبسة! بينما الحقيقة أنّ وقت الحجاب هو وقت الشّباب، حينما تكون النفوس متطلّعة إلى المرأة طامعة فيها، أمّا حينما تكبر فلا جناح عليها أن تخفف من حجابها: قال تعالى: ((وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)).. امرأة عجوز من نساء السلف كانت تلبس حجابها الكامل حين يدخل عليها الرجال، فقيل لها: ألم يقل الله: ((وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ))؟! فقالت: لكنّه قال بعدها: ((وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيم)). مثال آخر: الله –سبحانه- أمرنا ألا نأكل إلا حلالا، ورغّبنا في أن يتعب كلّ واحد منّا على اللقمة التي يجعلها في فم أهله وأفواه أبنائه، حتّى تكون هنيئة مريئة، لم يظلم في كسبها أحدا ولم يأخذ بها حقّ أحد. قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ))، لكنّ بعض المسلمين في زماننا هذا يريد أن يظفر برزقه من دون تعب، ويريد أن يأخذ كلّ ما ترغب فيه نفسه ولو كان فيه حقّ لغيره! المشكلة الأكبر والأعوص، أنّنا لا نريد أن نعترف بالخلل في أنفسنا، ولا نريد أن نرقى بها إلى شرع ربّنا لتستقيم وتعلو إلى السّماء وتعيش السعادة الحقيقية، ولكنّنا نريد أن ننزل بالدّين إلى أهوائنا ورغباتنا وشهواتنا المنفلتة وإلى أنانيتنا! تجد الواحد منّا إذا قيل له إنّ هذا حرام يقول: 'أنا أظنّ كذا وكذا'، و'أنا جابلي ربّي'…! فعودا على بدء: إذا كنّا نريد لأنفسنا الخير، ونريد لها سعادة الدّنيا والآخرة، فلنجاهدها على أن تحبّ الدّين وتتعلّق به، وتتعب لترقى إليه.. ديننا حقّه أن نرضى به ونحبّه ونجعله قرة لأعيننا، وليس أن نتعامل معه كأنّه قوانين متعبة، وأوامر ونواهي نلتزمها بتثاقل: يقول مولانا سبحانه: ((فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)). ديننا العظيم حقّه أن نخصّص له من أوقاتنا الغالية على قلوبنا؛ أوقاتا ينشغل فيها كثير من النّاس بدنياهم وأوقاتا تثقل فيها الطّاعة على أكثر عباد الله، مثل الصلاة في ثلث الليل الأخير، والصيام في أيام الحرّ، والصّدقة من المال العزيز على القلب الذي يحتاجه العبد لدنياه، وقول كلمة الحقّ عند من يغضبه الحقّ، والنّهي عن المنكر في زمان ومكان فشوه وانتشاره، يقول النبيّ –صلّى الله عليه وسلّم-: 'أيُّها الناسُ أفشوا السلامَ، وأطعِموا الطعامَ، وصِلُوا الأرحامَ وصَلُّوا بالليلِ والناسُ نيامٌ تدخلوا الجنةَ بسلام'. ديننا العظيم يستحقّ أن نجتهد ونجهد أنفسنا في زيادة وقته.. وكلّما زاد الوقت الذي نخصصه لديننا وآخرتنا كلّما زادت البركة في أعمارنا وأوقاتنا وزادت السعادة والطمأنينة في قلوبنا.. ولنا أن نتأمّل هذا الحديث الذي يحفظه كثير منّا: أنَّ رجلًا قال: يا رسول الله، أجعلُ ثلثَ صلاتي عليك؟ قال: نعم إن شئتَ. قال: الثّلثين؟ قال: نعم. قال: فصلاتي كلَّها؟ قال رسول الله: 'إذا يَكْفيكَ اللهُ ما أَهَمَّكَ من أَمْرِ دُنْياكَ وآخِرَتِك'. هذا الحديث لا يخصّ الصّلاة على النبيّ –صلّى الله عليه وآله وسلّم- فقط، إنّما يعمّ الانشغال بالآخرة والدّين، فكلّما زاد الوقت الذي يخصّصه العبد لآخرته، كلّما زادت البركة في وقته وحياته.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store