
قصة مدينة الفاشر من الازدهار في عصر سلطنة الفور وحتى اليوم
قصر السلطان علي دينار في الفاشر
في تطور للأوضاع في مدينة الفاشر، قال الجيش السوداني إن قواته تستعيد السيطرة على مواقع رئيسية في عاصمة إقليم شمال دارفور، كانت قد سيطرت عليها قوات الدعم السريع شبه العسكرية.
وفي غضون ذلك، دعت المفوضية القومية لحقوق الإنسان في السودان المجتمع الدولي والمنظمات الدولية إلى ضرورة الضغط لفك الحصار عن مدينة الفاشر، وإيصال المساعدات الإنسانية للمحاصرين.
وقالت المفوضية في بيان إن الوضع أصبح حرجاً للغاية، حيث يودي الجوع والمرض يومياً بحياة الأطفال والنساء الحوامل والمُرضعات، وسط نقص شديد في مياه الشرب، وخدمات الصرف الصحي، والرعاية الطبية.
وحذّرت المفوضية من أن تفشي الكوليرا يُشكّل تهديداً كبيراً لمئات الآلاف من النازحين، خاصة في ظل موسم الأمطار والبيئة الصحية الهشة.
ولكن ما قصة مدينة الفاشر التي تُسلط عليها الأضواء حالياً؟
التأسيس والغزو المصري
تقع مدينة الفاشر غرب السودان، وهي عاصمة ولاية شمال دارفور، على ارتفاع حوالي 700 متر فوق سطح البحر، وتبعد نحو 802 كيلومتر غرب العاصمة الخرطوم و195 كيلومتراً شمال شرق مدينة نيالا.
وحول سكان المنطقة، تقول دائرة المعارف البريطانية إن العرب يشكلون منذ فترة طويلة أغلبية السكان في الجزء الشمالي من دارفور، بينما يهيمن العرب والفور على الجزء الجنوبي، ومن بين المجموعات العرقية الأخرى في الإقليم شعوب البجا والزغاوة والنوبة والداجو.
وفي عصور ما قبل التاريخ، كان سكان دارفور الشماليون مرتبطين بشعوب ما قبل الأسرات في وادي نهر النيل. ومنذ عام 2500 قبل الميلاد تقريباً، كانت دارفور ضمن نطاق القوافل المصرية التي كانت تتاجر جنوباً من أسوان، حيث كان أول حكامها التقليديين من الداجو مرتبطين بالشعوب القديمة.
ولا شك أن التجارة كانت تُجرى من دارفور مع مصر أثناء المملكة الحديثة، ومع مدينتي نبتة ومروي في مملكة كوش (الواقعة الآن في شمال السودان). وفي نهاية المطاف، أعقب حكم الداجو في دارفور حكم التانجور.
وانتهت الفترة المسيحية، التي دامت على الأرجح من عام 900 إلى عام 1200 في دارفور، بتقدم الإسلام شرقاً من إمبراطورية كانم-برنو (تتمركز حول بحيرة تشاد).
وبحلول عام 1240، كان ملك كانم يسيطر على الطريق التجاري مع مصر، ومن المحتمل أن يكون هذا هو التاريخ الذي نشأ فيه نفوذ كانم على دارفور.
وحكمت قبيلة كيرا، وهي عشيرة رئيسية تابعة للفور، دارفور من عام 1640 إلى عام 1916 تقريباً. وكان أول ذكر تاريخي لكلمة فور في عام 1664. وخلال تلك الفترة، استخدم ملوك سلطنة كيرا في دارفور مصطلح "فور" للإشارة إلى سكان المنطقة ذوي البشرة الداكنة الذين قبلوا الدين الإسلامي.
ومع زواج سلالة كيرا نفسها من سكان المنطقة، أصبح أفرادها معروفين أيضاً باسم فور. وقد اعتنق سكان دارفور الإسلام تحت حكم سلاطين كيرا الذين خاضوا معارك متقطعة مع مملكة وداي في تشاد، وحاولوا أيضاً إخضاع القبائل العربية شبه المستقلة التي سكنت البلاد.
وأما مدينة الفاشر فتقول عنها دائرة المعارف البريطانية إنها تُعد واحدة من أقدم الحواضر التاريخية في إقليم دارفور، ويعود تأسيسها إلى أواخر القرن الثامن عشر، حين اختار السلطان عبد الرحمن الرشيد، من سلاطين الفور، موقعها ليكون مقراً دائماً لحكمه، وذلك بعد أن كانت السلطنة متنقلة.
وقد اختار السلطان عبد الرحمن الرشيد منطقة وادي رهد تندلتي في السهول الشرقية من دارفور لبناء عاصمته، بسبب خصوبة الأرض وملاءمتها للزراعة وتربية الماشية، حيث بدأ السلطان بتشييد قصره على الضفة الشمالية للوادي، ثم تبعه بناء منازل الحاشية والحرس، مما جذب السكان للتوافد إلى المنطقة، فتحولت إلى مدينة مأهولة.
ومع استقرار الحكم في هذا الموقع، تحوّلت الفاشر إلى عاصمة للسلطنة، ومركز إداري وثقافي واقتصادي مهم في المنطقة، مما أتاح لها النمو والازدهار السياسي والاجتماعي.
Getty Images
قام الجيش المصري بغزو دارفور في عهد محمد علي باشا
وقد أصبح اسم المدينة مرتبطاً بكلمة "فاشر السلطان"، أي مكان اجتماع السلطان ومجلسه، وهذا يعطي دلالة على مركزيتها في هيكل السلطة التقليدية لسلاطين الفور.
وهناك رواية أخرى تقول إن الاسم مشتق من ثور يُدعى "فاشر" كان يشرب من بركة ماء في المنطقة، وعندما تتبعه السكان اكتشفوا مصدر المياه، فأطلقوا اسم "الفاشر" على المنطقة، فيما تُشير روايات أخرى إلى أن الاسم قد يكون مشتقاً من كلمة "الفاخر" بمعنى المكان المتميز، نظراً لأهمية المدينة الإدارية والتجارية.
وأخذت الفاشر تنمو بسرعة بعد أن أصبحت عاصمة السلطنة، فبدأت القوافل التجارية تتجه إليها من مناطق مختلفة في إفريقيا، خاصة من ليبيا وتشاد وكردفان، لتصبح محطة تجارية مهمة على طريق القوافل في السودان.
وكان يُباع فيها الصمغ العربي، والعاج، والذهب، والجلود، والملح، والحبوب، مما أسهم في تعزيز الاقتصاد المحلي، وربطها بالشبكات التجارية الإقليمية. وقد أسهم هذا التطور في جذب مجموعات سكانية من مختلف القبائل، مثل الزغاوة والفور والتاما والميدوب، مما زاد من التنوع الإثني والثقافي للمدينة.
وتقول دائرة المعارف البريطانية إنه في يوليو/تموز من عام 1820، أرسل محمد علي والي مصر في عهد الإمبراطورية العثمانية جيشاً بقيادة ابنه إسماعيل لغزو السودان. وبحلول عام 1821 استسلم الفونج وسلطان دارفور، وأصبح السودان النيلي من النوبة إلى التلال الأثيوبية ومن نهر عطبرة إلى دارفور جزءاً من إمبراطورية محمد علي.
ويقول التاريخ إن جيوش سلطان دارفور إبراهيم قرض دخلت في مواجهات مع قوات الزبير باشا رحمة، التابع لمحمد علي باشا، في معركة منواشي، لكن الجيش المصري تمكن من دخول الفاشر من الشرق عبر كردفان.
ولاحقاً، في عام 1884، وخلال الثورة المهدية، احتلت قوات المهدي المدينة بعد حصار استمر أسبوعاً واحداً.
وبعد الإطاحة بخليفة المهدي، الخليفة عبد الله التعايشي في عام 1898، اعترفت الحكومة الجديدة (الأنجلو-مصرية) في السودان بعلي دينار سلطاناً على دارفور في عام 1899.
السلطان علي دينار والحكم الثنائي
وقد شهدت الفاشر تطوراً كبيراً في عهد السلطان علي دينار، آخر سلاطين الفور، الذي حكم السلطنة بين عامي 1898 و1916، وكان شخصية محورية في تاريخ المدينة والمنطقة.
وُلد علي دينار في الفاشر وتلقّى تعليمه فيها، قبل أن يصعد إلى سدة الحكم ويعيد بناء السلطنة بعد فترة من الاضطراب السياسي.
وقد رمّم علي دينار الأبنية الرسمية، وبنى قصر السلطان الذي ما يزال قائماً في المدينة حتى اليوم كمتحف وطني، إلى جانب تقوية الجيش المحلي، وتوسيع العلاقات الدبلوماسية مع الدولة العثمانية.
ومن أبرز ما عُرف عنه إرساله كسوة الكعبة إلى مكة المكرمة في مواسم الحج، تأكيداً على انتمائه الإسلامي وشرعيته السياسية. وقد جعل من الفاشر مركزاً إدارياً وعسكرياً متقدماً، وأعاد إليها مكانتها السياسية، إلى أن انتهى حكمه بمقتله على يد القوات البريطانية في عام 1916.
Getty Images
سيوف وبندقية معروضة في قصر السلطان علي دينار في الفاشر
وقد انتهت سلطنة دارفور وخرجت الفاشر من عباءة الحكم المستقل، بعد تدخل القوات البريطانية المصرية في عام 1916 خلال الحرب العالمية الأولى، حيث أدى التمرد الذي قاده علي دينار في عام 1915 إلى استفزاز البريطانيين لشنّ حملة عقابية قُتل فيها دينار في جبال مرة في نوفمبر/تشرين الثاني من عام 1916، وبعد ذلك أصبحت دارفور مقاطعة (ثم ثلاث مقاطعات لاحقاً) في السودان تحت الحكم الثنائي.
وبعد ذلك، أصبحت الفاشر مركزًا إدارياً محلياً يتبع للسلطات الاستعمارية، وتم تعيين مفتشين بريطانيين لإدارة المدينة وشؤونها، مما أدى إلى إدخال نمط جديد من الحكم المركزي المبني على القوانين البريطانية والبنية البيروقراطية الحديثة، إلا أن هذا التحول أدّى أيضاً إلى تقويض السلطة التقليدية المحلية، والحد من نفوذ زعماء القبائل والسلاطين.
ورغم تراجع مكانتها كعاصمة سياسية بعد سقوط السلطنة، فقد احتفظت الفاشر بأهميتها كمركز ثقافي وتجاري، حيث استمرت القوافل في التوافد عليها، كما تطورت كمركز إداري لحكومة السودان البريطانية المصرية، وتم إنشاء مدارس ابتدائية وثانوية فيها، بالإضافة إلى بعض المراكز الصحية والبنى التحتية.
وقد أسهم الاستقرار النسبي خلال الحقبة الاستعمارية في نمو المدينة عمرانياً، إذ بدأت تظهر فيها طرق مرصوفة، وساحات عامة، ومبانٍ حكومية. كما شهدت المدينة تدفقاً سكانياً ملحوظاً، حيث استقرت فيها قبائل عديدة من أنحاء دارفور، مما زاد من تنوعها الإثني والثقافي.
بعد الاستقلال
مع استقلال السودان عام 1956، أصبحت الفاشر جزءاً من الجمهورية السودانية، وتطورت بنيتها التحتية نسبياً، حيث تم إنشاء مطار الفاشر، وتوسيع الطرق، وتأسيس بعض المؤسسات التعليمية مثل جامعة الفاشر، التي أدّت دوراً مهماً في تأهيل الكوادر المحلية.
ومع ذلك، فقد ظلت المدينة تعاني من ضعف في التنمية مقارنة بالعاصمة والمدن الكبرى الأخرى، وهو ما أسهم في تزايد الشعور بالتهميش بين سكانها وسكان الإقليم عامة.
ورغم أنها كانت مقراً لحاكم إقليم دارفور في بعض الفترات، إلا أن ضعف البنية التحتية واستمرار أنماط الحكم التقليدية جعل من التنمية الاقتصادية والتعليمية تحدياً مستمراً.
وفي سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، استمرت الفاشر في النمو العمراني ببطء، مع ازدياد سكاني ناتج عن نزوح قبائل من مناطق أخرى بسبب الجفاف والتصحر.
ومنذ مطلع الألفية الجديدة، أصبحت الفاشر إحدى أبرز ساحات النزاع في السودان، خصوصاً بعد اندلاع الصراع في دارفور عام 2003 بين القوات الحكومية وحركات التمرد، وعلى رأسها حركة تحرير السودان.
وقد تعرضت المدينة إلى ضغوط هائلة نتيجة للنزوح الجماعي من القرى والبلدات المحيطة، مما أدى إلى إنشاء عدد كبير من معسكرات النازحين حول المدينة، مثل معسكر أبوشوك وزمزم، حيث يعيش مئات الآلاف من السكان في ظروف إنسانية صعبة.
وعلى الرغم من أن الفاشر لم تكن هدفاً مباشراً للقصف أو المعارك في مراحل الحرب الأولى، فإن التوترات الأمنية والاشتباكات المتفرقة جعلت منها منطقة غير مستقرة، وكان الوجود العسكري والأمني كثيفاً فيها.
في عام 2004، اختارت الأمم المتحدة مدينة الفاشر لتكون أول مقر لبعثة الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي المختلطة لحفظ السلام في دارفور (يوناميد)، ما منح المدينة أهمية دبلوماسية وإنسانية جديدة.
BBC
هجمات قوات الدعم السريع أخرجت مستشفى الفاشر عن الخدمة وتسببت في موجة نزوح عارمة
وقد أدى ذلك إلى توافد منظمات الإغاثة والعاملين الدوليين إلى المدينة، مما أسهم ولو بشكل مؤقت في انتعاش بعض جوانب الاقتصاد المحلي، وخلق فرص عمل جديدة. ومع ذلك، فقد ظلت الأوضاع هشّة، وتفاقمت مع فشل اتفاقيات السلام المتكررة، واستمرار موجات العنف، وازدياد تعقيد المشهد السياسي والعسكري في دارفور.
وفي السنوات الأخيرة، ومع اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في أبريل/ نيسان من عام 2023، عادت الفاشر إلى واجهة الأحداث من جديد، حيث أصبحت ساحة قتال بين الطرفين، الأمر الذي أدى إلى دمار كبير في البنية التحتية، وسقوط عدد كبير من الضحايا المدنيين، وازدياد أوضاع النزوح والمعاناة الإنسانية.
وبرزت تقارير دولية تشير إلى وقوع انتهاكات خطيرة في المدينة، من نهب، وتهجير قسري، وجرائم حرب، مما دفع بالعديد من الجهات الدولية إلى التحذير من كارثة إنسانية في الفاشر، باعتبارها من آخر المناطق الكبرى في دارفور التي ما زالت تحت سيطرة الجيش السوداني.
وهكذا، مرت المدينة في تاريخها بالعديد من المراحل من كونها عاصمة سلطنة تقليدية مزدهرة إلى مركز للسلطة الاستعمارية، ثم إلى هامش منسي في الدولة الحديثة، وصولاً إلى قلب النزاعات المسلحة، وفي كل مرحلة، حملت المدينة عبء التحولات الكبرى، لكنها أيضاً عبّرت عن مرونة مجتمعها في مواجهة التحديات.
واليوم، تقف الفاشر على مفترق طرق تاريخي، فهي إما أن تتحول إلى مدينة منكوبة لا يُذكر منها سوى المآسي، أو أن تصبح رمزاً للسلام والمصالحة وبناء الدولة السودانية على أسس عادلة ومتوازنة.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الوسط
منذ 4 ساعات
- الوسط
ما تأثير الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب على عشرات الدول؟
Getty Images فرض ترامب تعريفات جمركية هائلة على حوالي 70 دولة بعد الفشل في التوصل إلى اتفاق تجاري معها بعد الوصول إلى الموعد النهائي الذي حدده الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لتقدم عشرات الدول بعروض لاتفاقات تجارية مع الولايات المتحدة، وهو الأول من أغسطس/آب الجاري، لم تستجب جميع الدول لما طلبته واشنطن لتخضع لتعريفة جمركية مرتفعة بداية من هذا الشهر. في هذا الصدد نحاول التوصل إلى إجابات على الكثير من الأسئلة التي يطرحها الموقف الراهن لسياسات ترامب التجارية وما قد تخلفه من آثار على الاقتصاد الأمريكي والعالمي واقتصادات المنطقة العربية. وأعلن ترامب في الثاني من إبريل/نيسان الماضي ما يُعرف "بالتعريفة الجمركية المتبادلة" التي تطال عدداً كبيراً من دول العالم برسوم غير مسبوقة تُفرض على صادرات هذه الدول إلى الولايات المتحدة. لكن الرئيس ترامب عاد في الثامن من نفس الشهر وأمر بتعليق العمل بهذه التعريفة لمدة تسعين يوماً تنتهي في التاسع من يوليو/تموز الماضي، وهو الموعد الذي تم تمديده إلى الأول من أغسطس/آب الجاري. واعتبر كثيرون الموعد النهائي مهلة للشركاء التجاريين للولايات المتحدة للتقدم بعروض لاتفاقات تجارية والعمل على التفاوض بشأنها وإلا تعرضوا للعودة إلى تفعيل التعريفة الجمركية. وجاء قرار التمديد ليلقي الضوء على احتمالات أن تكون الإدارة الأمريكية تستخدم التفاوض في الاتفاقات التجارية كورقة ضغط من أجل تحقيق مكاسب تجارية. ما هي الدول التي توصلت إلى اتفاقات؟ توصلت الإدارة الأمريكية إلى اتفاقات تجارية مع عدد من شركائها التجاريين، أهمهم المملكة المتحدة، والاتحاد الأوروبي، واليابان، وفيتنام وغيرها من دول الاقتصادات الرئيسية والناشئة على مستوى العالم. على الجانب الآخر، هناك دول هامة على الصعيد التجاري لم تتمكن من التوصل إلى اتفاقات تجارية مع واشنطن، أبرزها كندا، والمكسيك، وتايوان، والهند، وهو ما أدى إلى فرض تعريفة جمركية مرتفعة على صادراتها إلى الولايات المتحدة. وتوصل الجانبان الأمريكي والصيني لما وُصف بالهدنة التجارية التي تتضمن تعليق العمل ببعض التعريفات الجمركية في بعض القطاعات، علاوة على تأجيل تفعيل بعض الرسوم مع سريان بعضها، والذي كان مفروضًا من قبل. "مصالح واشنطن أولاً" Getty Images من المتوقع أن يعاني المستهلك الأمريكي نفسه من ارتفاع الأسعار الذي قد ينتج عن تعريفة ترامب الجمركية قال مدحت نافع، أستاذ الاقتصاد والتمويل، لبي بي سي: "بعد انتهاء المهلة التي حددها ترامب لعقد اتفاقات تجارية جديدة مع الشركاء التجاريين لبلاده، يبدو المشهد العالمي مهيئاً لتغييرات عميقة في قواعد اللعبة التجارية، تتجاوز ما اعتدناه منذ تأسيس النظام التجاري متعدد الأطراف بعد الحرب العالمية الثانية". وأضاف: "الوضع الحالي يعكس تصعيداً مُمنهجاً للضغوط الأمريكية على الشركاء التجاريين، من أجل إعادة صياغة الاتفاقات بما يحقق مصالح واشنطن أولاً". وأشار إلى أن الرئيس ترامب استطاع بالفعل في فترة ولايته الأولى أن يفرض إيقاعاً تفاوضياً جديداً، تُرجم إلى اتفاقيات محدثة مثل اتفاق الولايات المتحدة والمكسيك وكندا (USMCA) بدلاً من نافتا. لكن نافع أكد أن هذه النجاحات جاءت بثمنٍ باهظ يتمثل في توتر الأسواق، وازدياد انعدام اليقين، وتقويض الثقة في منظمة التجارة العالمية، وهو ما جعل مناخ الاستثمار العالمي أكثر هشاشة. وأعلن ترامب وضع تعريفة جمركية مرتفعة، كانت معلقة لأكثر من 90 يوماً، حيز التنفيذ على 69 شريكاً تجارياً للولايات المتحدة تتراوح بين 10 في المئة و41 في المئة. ويبدأ تطبيق هذه النسب على أرض الواقع خلال سبعة أيام من هذا الإعلان. وقال الرئيس الأمريكي إنه سوف يتخذ القرار في وقتٍ لاحقٍ بشأن تمديد الهدنة التجارية مع الصين من عدمه، وما إذا كانت الهدنة سوف تستمر من أجل المزيد من التفاوض أو البدء في العمل بالتعريفة الجمركية الأمريكية الهائلة المفروضة على الصين بمجرد انتهاء الهدنة في 12 أغسطس/آب الجاري. وقبل الدخول في مفاوضات تجارية مع الصين، كان الرئيس الأمريكي قد فرض تعريفة جمركية على واردات بلاده من الصين بقيمة 145 في المئة. وقال محمد حسن زيدان، كبير المحللين الاستراتيجيين لأسواق المال لدى شركة كافيو للوساطة المالية لبي بي سي: "أرى أن الوضع الحالي لسياسات الرئيس ترامب التجارية يعكس نهجاً متشدداً يهدف إلى إعادة تشكيل العلاقات التجارية العالمية تحت شعار 'أمريكا أولاً'". وأضاف: "نجح ترامب إلى حدٍ ما في فرض هيمنة تجارية عبر اتفاقات ثنائية مع كيانات مثل الاتحاد الأوروبي (تعريفة جمركية بقيمة 15 في المئة)، وبريطانيا، واليابان، لكنه لم يحقق هدفه الطموح بـ '90 صفقة في 90 يوماً'". "أداة تفاوض وعقاب" وقال نافع: "أما التأثيرات الاقتصادية المترتبة على النسب الجديدة للتعريفات والاتفاقات، فهي لا تقتصر على الجوانب التجارية المباشرة، بل تمتد إلى آليات التسعير والتضخم". وأضاف: "رفع التعريفات يُترجم إلى زيادة في تكلفة الاستيراد، مما يؤدي إلى ارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية والوسيطة، وبالتالي الضغط على المستهلك الأمريكي نفسه". وأكد أن هذا المسار "يُربك البنوك المركزية ويقيد قدرتها على التوفيق بين استهداف التضخم ودعم النمو، وهو ما قد يدفع ببعض الاقتصادات المتقدمة إلى حافة الركود التقني". كيف يتأثر الاقتصاد العالمي؟ Getty Images اليابان من أهم الشركاء التجاريين الذين توصلوا إلى اتفاقات تجارية مع الولايات المتحدة قال زيدان: "التعريفات الجديدة، التي تتراوح بين 10 في المئة و145 في المئة (كما على الصين)، قد تؤجج التضخم عالمياً بسبب ارتفاع تكاليف الواردات، مع تباطؤ محتمل في النمو الاقتصادي نتيجة اضطراب سلاسل التوريد". وأشار أيضاً إلى إمكانية تفاقم التوترات التجارية بين الولايات المتحدة وشركاء تجاريين مهمين، وهو ما يتضح في حالة الاتحاد الأوروبي الذي لا يزال المشهد على صعيد اتفاقه التجاري مع واشنطن مغلفاً بالكثير من انعدام اليقين. فشروط الاتفاق بين الجانبين الأمريكي والأوروبي لا تزال قيد التفاوض. كما لا نعرف ما الذي يمكن أن تنتهي إليه الهدنة التجارية بين واشنطن وبكين. وحذر نافع من آثار أخرى للتعريفة الجمركية على الاقتصاد العالمي؛ وهي محدودية الخيارات أمام الدول التي لم توقع اتفاقات تجارية مع واشنطن، إذ أن هذه الدول: "إما أن تخضع للشروط الأمريكية والدخول في اتفاقات غير متكافئة، أو الدخول في مواجهات تجارية قد تُفضي إلى اضطراب أكبر في سلاسل التوريد العالمية". المنطقة العربية Getty Images قد تتأثر الاقتصادات العربية بالتعريفة الجمركية لترامب بشكل مباشر وغير مباشر المنطقة العربية، ومصر على وجه الخصوص، ليست في منأى عن تلك التبعات، حتى وإن لم تكن طرفاً مباشراً في هذه الاتفاقات أو الخلافات، وفقًا لنافع. وقال، في تصريحات لبي بي سي: "فمع تعطل سلاسل التوريد وارتفاع تكلفة النقل، تتأثر اقتصادات المنطقة من خلال قنوات عدة: أبرزها تقلب أسعار السلع الأساسية، وتراجع الطلب العالمي على صادراتها، فضلاً عن احتمالات انكماش تحويلات العاملين بالخارج إذا تباطأ النشاط الاقتصادي في الدول المضيفة، وعلى رأسها الولايات المتحدة ودول الخليج". كما حذر من أن إعادة رسم خريطة الاستثمارات العالمية قد تؤدي إلى تقليص تدفقات رؤوس الأموال نحو الأسواق الناشئة، بما في ذلك مصر، التي تعتمد على استثمارات قصيرة ومتوسطة الأجل لتعزيز احتياطي النقد الأجنبي وتمويل العجز المالي. وفي السياق ذاته، قد لا تكون اتفاقية المناطق الصناعية المؤهلة (الكويز) بمنأى عن هذه التداعيات، إذ من المحتمل أن تعيد الإدارة الأمريكية النظر في بعض بنودها، مثل نسبة المكوّن الإسرائيلي أو قواعد المنشأ، مما قد يضر بالصادرات المصرية، وفقاً لنافع. وفرضت الإدارة الأمريكية رسوماً جمركية على 69 دولة من الشركاء التجاريين للولايات المتحدة تتراوح بين 10 في المئة و41 في المئة بعد انتهاء المهلة التي أعطاها الرئيس الأمريكي لتلك الدول من أجل التقدم بعروض للدخول في اتفاقات تجارية مع واشنطن. وفرض ترامب تعريفة جمركية على كندا بقيمة 35 في المئة، وتعريفة جمركية على واردات بلاده من سويسرا بقيمة 39 في المئة، مع فرض تعريفة على الواردات الأمريكية من الهند بقيمة 25 في المئة. ورأى زيدان أن تأثير سياسات ترامب التجارية على الشرق الأوسط لن يكون بسبب التعريفات الجمركية في حد ذاتها، بل بسبب النتائج السلبية الناتجة عنها اذا خرجت الأمور عن السيطرة، فدخول الاقتصاد العالمي في أي مأزق من شانه أن يضر بمصر ودول الشرق الأوسط بشكل مباشر". وأشار إلى أن الأمر يتطلب من الدول العربية "تنويع الأسواق ومصادر الاستثمارات، وتعزيز التكامل الإقليمي لتخفيف الصدمات في حال أرادت هذه الدول الخروج من المأزق المُحتمل". وفرضت إدارة ترامب تعريفة جمركية على دول عربية تتضمن 15 في المئة على الأردن، و25 في المئة على تونس، و30 في المئة على الجزائر وليبيا، و35 في المئة على العراق، و41 في المئة على سوريا. "أداة سياسية بامتياز" Getty Images ربط ترامب القضايا التجارية بقضايا سياسية أخرى مثل أمن الحدود، كما حدث أثناء المفاوضات التجارية مع كندا وقالت رانيا وجدي، كبيرة استراتيجيي الأسواق في شركة "أو دبليو ماركتس"، لبي بي سي إن "ربط ترامب الملفات التجارية بقضايا سيادية، مثل الأمن الحدودي وتهريب المخدرات مع كندا، يمثل سابقة خطيرة في التجارة الدولية. هذا التوسع في نطاق النزاع التجاري إلى ساحات سياسية يعقد التوصل إلى حلول ويرفع احتمال استمرار التوتر لفترة أطول". وأضافت أن "وجود تعريفات عالية على دول مثل كندا والهند، حتى مع استمرار المفاوضات، يؤكد أن إدارة ترامب تستخدم التعريفات كأداة ضغط مستمرة وليست مجرد تهديد مؤقت". ويرى نافع أن "السياسة التجارية الأمريكية باتت أداة سياسية بامتياز، تتجاوز مقتضيات الاقتصاد الكلي إلى حسابات انتخابية وجيوسياسية". وأضاف أنه "على الدول النامية، ومنها مصر، أن تُحسن قراءة هذا التحول، لا عبر التكيّف معه فقط، بل من خلال تنويع شراكاتها التجارية، وتعزيز إنتاجها المحلي، وبناء قدرة تفاوضية جماعية إقليمية تقيها التقلبات القادمة". وأكدت وجدي أنه على الرغم من نجاح الإدارة الأمريكية في عقد اتفاقيات مع بعض الشركاء كالاتحاد الأوروبي واليابان وكوريا الجنوبية، إلا أن هذه الاتفاقات جاءت مشروطة ومبنية على تنازلات قاسية من الطرف الآخر.


الوسط
منذ 16 ساعات
- الوسط
قانون أوروبا الأخضر في مهبّ الغاز القطري
Getty Images برز الأسبوع الماضي خبر لافت أشار إلى توتّر بين الدوحة وبروكسل. التوتّر يعود إلى تحذير قطري من احتمال إعادة توجيه الصادرات القطرية من الغاز الطبيعي المسال إلى أسواق بديلة، إذا لم يُعدّل الاتحاد الأوروبي قانون "العناية الواجبة في الاستدامة المؤسسية" (CSDDD)، الذي أُقرّ رسميا في يونيو/ حزيران 2024. ويطرح هذا التحذير، الذي حمل نبرة تصعيدية، أسئلة جوهرية حول مستقبل العلاقات الاقتصادية بين الطرفين، لا سيما في ملف الطاقة الذي يُشكلّ أحد الأعمدة الاستراتيجية لأمن القارة الأوروبية. التلويح ببدائل: رسالة رسمية وتحذير صريح Getty Images سعد بن شريدة الكعبي، وزير الطاقة القطري والرئيس التنفيذي لشركة قطر للطاقة في رسالة موجّهة إلى الحكومة البلجيكية بتاريخ 21 مايو/ أيار، ردت قطر على لسان وزير الطاقة فيها سعد الكعبي، على توجيه الاتحاد الأوروبي بشأن العناية الواجبة، والذي يُلزم الشركات الكبرى بالكشف عن مشكلات حقوق الإنسان والبيئة، في سلاسل الإمداد ومعالجتها. وجاء في الرسالة التي نقلتها وكالة رويترز: "ببساطة، إذا لم تُجرَ تعديلات إضافية على توجيه CSDDD، فلن يكون أمام دولة قطر وشركة قطر للطاقة خيار سوى النظر بجدية في أسواق بديلة خارج الاتحاد الأوروبي، لبيع الغاز الطبيعي المسال ومنتجات أخرى، في بيئة أعمال أكثر استقرارا وترحيبا." ويبدو أنها ليست المرة الأولى التي تبعث فيها قطر رسالة مماثلة، فقد أكّد متحدث باسم المفوضية الأوروبية لوكالة رويترز، بأن المفوضية تلقّت رسالة أخرى من قطر بتاريخ 13 مايو/ أيار، موضحا أن الأمر متروك الآن للدول الأعضاء والمشرّعين "للتفاوض واعتماد التعديلات الجوهرية للتبسيط التي اقترحتها المفوضية". وكانت بروكسل قد اقترحت بالفعل تأجيل بدء تنفيذ القانون، حتى منتصف 2028 وتخفيف بعض متطلباته. ما هو قانون "العناية الواجبة" ولماذا تعارضه قطر؟ قانون "العناية الواجبة" الذي أقرّه الاتحاد الأوروبي رسميا في يونيو/ حزيران 2024، يُلزم الشركات الكبرى، لا سيما العاملة في قطاعات حيوية كقطاع الطاقة، بالتحقّق من امتثال سلاسل التوريد التابعة لها، لمعايير صارمة تتعلّق بحقوق الإنسان، وظروف العمل، وحماية البيئة. Getty Images ويلزم القانون هذه الشركات باتخاذ تدابير عملية لمنع الانتهاكات البيئية والاجتماعية عبر شبكاتها العالمية، تحت طائلة غرامات قد تصل إلى 5% من إجمالي إيراداتها السنوية على مستوى العالم. ومن المرتقب أن يدخل القانون حيّز التنفيذ تدريجيا بدءا من عام 2027، وهو ما تعتبره دول مصدّرة للغاز، مثل قطر، عبئا قانونيا وماليا يهدّد استدامة علاقاتها مع السوق الأوروبية. إلى ماذا يستند التهديد القطري؟ اعتبر عبد العزيز الدليمي، الخبير القطري في شؤون الطاقة، أن القانون الأوروبي الجديد المعروف بـ"قانون العناية الواجبة"، يشكّل تحديا كبيرا لصادرات الغاز الطبيعي المسال من قطر إلى أوروبا، وقد يدفع الدوحة إلى إعادة النظر في استمرار الإمدادات إلى أوروبا. وأوضح الدليمي في مقابلة مع بي بي سي نيوز عربي، أن هذا القانون سيفرض أعباء مالية كبيرة على قطر، ليس فقط على مستوى شركة "قطر للطاقة"، بل أيضا على كل من شارك في تطوير البنية التحتية لإنتاج الغاز، بمن في ذلك المقاولون، وكذلك شركات التشغيل. وأضاف: "في حال تم تطبيق القانون بصيغته الحالية، قد تصبح صادرات الغاز إلى أوروبا غير مجدية اقتصاديا، بل قد تُكبّد الدوحة خسائر مباشرة، وهو أمر غير مقبول من منظور تجاري واستراتيجي". واعتبر أن المنطق التجاري لا يسمح لقطر بتصدير الغاز إلى أوروبا إذا كانت النتائج المالية سلبية بسبب الغرامات، مضيفا: "هذا واقع غير عقلاني". وفي معرض رده على سؤال حول ما إذا كانت تهديدات قطر مجرّد ورقة ضغط، أكد الدليمي أن الدوحة قد تلجأ فعليا إلى وقف الإمدادات، في حال أصرّ الاتحاد الأوروبي على تطبيق القانون بصيغته الحالية، مشيرا إلى أن قطر لا تمانع الدخول في مفاوضات لتحسين فعالية سبل تقليل الانبعاثات الكربونية، لكنها ترفض العقوبات المالية المشروطة. وتوقّع أن تُسفر المفاوضات عن التوصل إلى تسويات تقنية أو بيئية، لكنها تحتاج إلى إرادة سياسية متبادلة، بحسب تعبيره. هل يمكن أن يؤدي هذا الخلاف إلى أزمة طاقة في أوروبا؟ التهديد القطري بإعادة توجيه صادرات الغاز لا يعني بالضرورة انقطاعا فوريا في الإمدادات المتجهة لأوروبا، لكنه يكشف عن هشاشة الاعتماد الأوروبي على شركاء خارجيين، في لحظة مفصلية من عملية التحوّل في سياسات الطاقة. فمنذ اندلاع الحرب في أوكرانيا وتراجع الإمدادات الروسية، تحوّلت أوروبا إلى الغاز القطري كمصدر بديل استراتيجي يصعب التخلي عنه بسهولة. ولكن التحذيرات الأخيرة الصادرة من الدوحة، تذكّر مجدّدا بأن أمن الطاقة الأوروبي، لا يزال خاضعا لحسابات جيوسياسية متقلّبة. في هذا السياق، يربط الخبير القطري في شؤون الطاقة عبد العزيز الدليمي احتمالات حدوث أزمة طاقة أوروبية، بقرار الدوحة النهائي بشأن التصدير، مشيرا إلى أن البدائل الأمريكية أو الكندية ليست كافية أو مضمونة، خصوصا مع استمرار الحرب الروسية الأوكرانية. ويتساءل: "هل سيجرؤ الاتحاد الأوروبي على تطبيق القانون على الولايات المتحدة، وهي التي سبق أن انسحبت من اتفاقية باريس للمناخ؟" ويجيب: "لا أعتقد ذلك"، داعياً في المقابل إلى إعادة النظر في القانون، مؤكداً أن قطر تتخذ خطوات جدّية، نحو خفض الانبعاثات، وتستثمر في مشاريع صديقة للبيئة. بدورها، ترى لوري هايتيان، الخبيرة اللبنانية في شؤون الطاقة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أن قانون "العناية الواجبة" يمثل مصدر قلق كبير لقطر، نظرا لأن الدوحة تعتبر أن القانون ينطوي على تدخل مباشر في سيادتها وفرض لأعباء تنظيمية ومالية تفوق قدراتها. وتوضح هايتيان في مقابلة مع بي بي سي نيوز عربي أن التزامات القانون لا تقتصر على شركة قطر للطاقة، بل تمتد لتشمل سلسلة الإمداد بأكملها، من الموردين الكبار إلى الشركات الصغيرة، بل حتى "شركات القهوة" المتعاملة مع "قطر للطاقة"، بحسب تعبيرها. وتضيف أن تطبيق هذا القانون يتطلّب موارد ضخمة، فيما قد تصل الغرامات في حال عدم الامتثال لما ورد فيه من التزامات إلى 5٪ من الإيرادات العالمية، وهو ما ترفضه الدوحة تماما. وتشير هايتيان إلى أن قطر قد تجد في الانسحاب من بعض عقود تصدير الغاز مع أوروبا، خيارا أقل تكلفة من الالتزام بمنظومة بيروقراطية معقّدة. وتُحذّر هايتيان من أن تنفيذ الاتحاد الأوروبي لخطة وقف استيراد الغاز الروسي بنهاية 2027، سيجعل أوروبا أكثر اعتمادا على خيارات بديلة في التوريد، وعلى رأسها قطر. وفي حال نفّذت الدوحة تهديدها، فإن القارة الأوروبية ستواجه أزمة طاقة حقيقية، قد تدفعها مجدّدا للاعتماد على الولايات المتحدة كمصدر بديل. وتتفق هايتيان مع الدليمي في التشكيك في إمكانية التزام واشنطن الصارم ببنود القانون الأوروبي الجديد، ما يثير تساؤلات حول مدى تطبيق الاتحاد لمعاييره بشكل متوازن على جميع الشركاء. وتلفت هايتيان إلى أن التشريع الجديد لا يواجه رفضا من الموردين فقط، بل يثير تحفظات لدى عدد من الشركات الأوروبية التي تعتبره صعب التطبيق، ما يعزّز فرص تعديل شروطه أو تخفيفها في المرحلة المقبلة. ما هي الأسواق البديلة؟ هل تتجه قطر أكثر نحو آسيا؟ يرى الخبير القطري عبد العزيز الدليمي، أن القانون لا يُهدّد قطاع الطاقة القطري، بل يقتصر تأثيره على السوق الأوروبية فقط، إذ تستمر صادرات الغاز القطري إلى آسيا والأسواق الأخرى بشكل طبيعي. وأضاف: " تملك قطر هامشا واسعا للمناورة، بفضل علاقاتها المتينة مع الدول الآسيوية، وعلى رأسها الصين، كوريا الجنوبية، اليابان، الهند وباكستان، وهي تملك أكبر أسطول في العالم لنقل الغاز المسال، ما يمنحها مرونة عالية في إعادة توجيه صادراتها". Getty Images أما بشأن الخيارات البديلة أمام قطر، فتشير لوري هايتيان، إلى أن أسواقا في آسيا وأفريقيا، وعلى رأسها الصين، تمثل بديلا استراتيجيا محتملا، في حال تعثّرت العلاقات مع أوروبا. وتستند في ذلك، إلى أحدث البيانات الرسمية التي تُظهر أن الصين تحتل المرتبة الأولى في استيراد الغاز القطري، مع توقيع اتفاقيات توريد تمتد حتى 27 عاما، مع شركات صينية كبرى. ووفق آخر الأرقام الرسمية، تأتي بعد الصين، كوريا الجنوبية، الهند، واليابان، إذ تُمثّل آسيا الوجهة الأهم لصادرات الغاز القطري، بحصة تفوق 70 % من إجمالي الصادرات. اختبار توازن بين البيئة والمصالح المستشار النفطي الكويتي والخبير في شؤون الطاقة د. مبارك الهاجري، اعتبر أن التصعيد القطري تجاه قانون "العناية الواجبة" الأوروبي، لا يتعدّى حتى الآن إطار المناورة التفاوضية المدروسة، لا سيما أن الدوحة تدرك تبعات الخروج عن العقود الطويلة الأمد التي تربطها بدول الاتحاد الأوروبي، سواء على المستوى القانوني أو على صعيد السمعة كمصدّر موثوق للطاقة. ويشرح الهاجري في مقابلة مع بي بي سي نيوز عربي: " لدى قطر عقود طويلة الأجل مع معظم الدول الأوروبية وبالتالي الانسحاب منها أو ممارسة أي أمور تخلّ بهذه الاتفاقيات، يمكن أن يعرّضها لمخاطر قانونية وأيضا لغرامات تجارية". ويضيف: " أتوقع أن تحافظ قطر على سمعتها كمصدر موثوق لبيع الغاز المسال، لأنه برأيي، في حال هدّدت بفسخ العقود الآجلة، فإن ذلك سيؤدّي إلى امتناع كثيرين عن توقيع عقود آجلة معها في المستقبل". Getty Images ويرى الهاجري، أنه إذا كانت قطر تملك من أدوات التحرّك ما يمكّنها من إعادة توجيه صادراتها نحو أسواق آسيوية أو التحالف مع شركاء جدد، فإن هذه البدائل تبقى، حتى اللحظة، ورقة ضغط أكثر منها خيارا استراتيجيا فعليا. فكما أنه لا يمكن لأوروبا التفريط بمورد حيوي مثل الغاز القطري في مرحلة انتقال حسّاسة بالنسبة للطاقة، تدرك الدوحة بدورها أن الحفاظ على موقعها في السوق الأوروبية يوازي، وربما يفوق، أهمية تنويع الزبائن، بحسب الهاجري. من هنا، يعتقد الخبير الكويتي في شؤون الطاقة أن المسار المرجّح، هو محاولة الطرفين التوصّل إلى تسوية تقنية وربما سياسية، تتيح تخفيف حدّة التزامات القانون الأوروبي من دون المساس بجوهر أهدافه البيئية والحقوقية. في الختام، يبدو أن موقف قطر يمثّل اختبارا حقيقيا لقدرة الاتحاد الأوروبي على الموازنة بين أولوياته البيئية ومسؤولياته الاقتصادية. أما فيما يخص التهديد القطري، سواء تحقّق أو لم يتحقق، فهو يُشكّل رسالة سياسية واضحة: لا يمكن بناء نظام استدامة عالمي يقوم على معايير أحادية، بل يجب أن يكون – بحسب الدوحة - ثمرة شراكة متوازنة تحترم السيادة وتراعي الاختلافات الاقتصادية والتنموية بين الدول على اختلافها، وأنه بينما تؤكد قطر استعدادها للتعاون البيئي وتطوير تقنيات خفض الانبعاثات، فإنها ترفض أن تُحمّل الكلفة القانونية والمالية للقانون الجديد. وبالتالي، فإن الرسالة القطرية تبدو جليّة الحفاظ على أمن الطاقة في أوروبا يمرّ عبر توازن المصالح، وليس عبر فرض المعايير الأحادية، وفقا لرؤية الدوحة.


الوسط
منذ 2 أيام
- الوسط
قرية الناشط عودة الهذالين تنتظر جثمانه لدفنه وإدانة قاتله
Getty Images صورة أرشيفية لعودة الهذالين في منتصف مجموعة من النشطاء في خربة أم الخير، إحدى القرى الصغيرة في جنوب الضفة الغربية، يسود صمت قاتل منذ أن سُمع صوت الرصاصة التي وضعت حداً لحياة الشاب الفلسطيني عودة الهذالين، 31 عاما، أحد أبرز النشطاء ضد الاستيطان. مرّت أربعة أيام على مقتله، لكن جثمانه ما يزال محتجزاً لدى السلطات الإسرائيلية، بينما أفرجت الشرطة الإسرائيلية عن المشتبه بقتله وهو المستوطن يونن ليفي، بقرار من محكمة الصلح في مدينة القدس، وتم تحويله للحبس المنزلي. "عودة لم يكن شخصا عاديا في محيطه، بل كان معلمًا للغة الإنجليزية، وأباً لثلاثة أطفال، وناشطًا ملتزما عن منطقة مسافر يطا،" هذا ما يقوله ابن عمه علاء الهذالين الذي يقول إنه كان شاهدا على واقعة مقتله. في ذلك اليوم، كما يروي علاء، حاول أهالي القرية التصدي سلمياً لجرافة يقودها المستوطن ليفي، كانت تعمل على تجريف أراضيهم. "كنا نعرفه، نعرف عنفه وتاريخه"، يقول علاء بصوت مثقل بالحزن متحدثا عن المستوطن الإسرائيلي، "لكنه لم يتردد، ترجل من الجرافة وسحب سلاحه. أطلق النار مرتين، واحدة لم تصب أحدًا، والثانية أصابت قلب عودة مباشرة". ويضيف علاء في حديث لبي بي سي: "الرصاصة أصابت قلب عودة وهو في ساحة المركز المجتمعي التابع للخربة، كان في الطريق لمساندتنا". Getty Images حين حاولت العائلة إقامة بيت عزاء، داهم الجيش الإسرائيلي خربة أم الخير مجددا، وأجبرهم على إزالة خيمة العزاء، وطرد النشطاء والمعزين والصحفيين وقع عودة أرضاً والدماء تغطي صدره، حاولنا إنقاذه لكن الرصاصة كانت قاتلة، حسب علاء. وأضاف بعد وقت قصير، اقتحمت القوات الإسرائيلية الخربة، احتجزت جثمان عودة، واعتقلت خمسة شبّان، بينهم طبيب حاول إسعافه. وشوهد المستوطن ليفي يقف بجانب الجنود، ويعتقد أنه لم يعتقل فورا. وفي اليوم التالي، حين حاولت العائلة إقامة بيت عزاء، داهم الجيش الإسرائيلي خربة أم الخير مجددًا، وأجبرهم على إزالة خيمة العزاء، وطرد النشطاء والمعزين والصحفيين. تقول عائلة الهذالين إن الجيش الإسرائيلي فرض شروطاً "مهينة" لتسليم الجثمان: دفنه خارج قريته، وتحديد عدد المشيعين بـ 15 شخصاً فقط، ومنع إقامة خيمة عزاء قرب المنزل. "حتى بعد الموت، يلاحقوننا"، يضيف علاء. حملة اعتقالات في أم الخير EPA وعلى مدى الأيام الأربعة الماضية، داهمت القوات الإسرائيلية خربة أم الخير عدة مرات، ونفّذت حملة اعتقالات واسعة طالت نحو 17 فلسطينيًا، من عائلة هذالين٬ بينهم شقيقا عودة، أحمد وعزيز، إضافة إلى خمسة نشطاء أجانب وإسرائيليين، أُفرج عنهم لاحقًا، وفقًا لنشطاء في مسافر يطا. وبحسب المصادر ذاتها، أُفرج عن اثنين من المعتقلين الفلسطينيين، فيما عُرض تسعة آخرون على المحكمة، بعد أن اعتُقلوا مساء الثلاثاء. وأمرت المحكمة بالإفراج عن بعضهم، من بينهم أحمد الهذالين، شقيق عودة، بشروط مقيّدة تقضي بمنع الالتقاء لستين يومًا وعدم الاقتراب من مستوطة "كرمئيل" التي تقع بالقرب من ام الخير٬ ودفع غرامة مالية. تقدر بـ 150 دولارا (500 شيكل). في المقابل، لا يزال الجيش الإسرائيلي يحتجز ستة فلسطينيين، يواجهون تهمًا تتعلق بـ"رشق مركبات لمستوطنين بالحجارة"، في اتهامات وصفها النشطاء بأنها محاولة لتجريم الاحتجاج السلمي على مقتل الهذالين، وطمس المطالبة بالعدالة له. فيلم "لا أرض أخرى" Getty Images أقارب الشاب الفلسطيني عودة محمد الهذالين كان يؤمن بالكاميرا كما بالكلمة، وشارك في إنتاج الفيلم الوثائقي "لا أرض أخرى" الذي حصد جائزة الأوسكار العام الماضي، مؤمنًا بأن الصورة يمكن أن تنقل للعالم ما يعجز عنه الصوت المحاصر في هذه الأرض، حسبما يقول مخرج الفيلم باسل عدرة لبي بي سي. عودة لم يُقتل فقط برصاص مستوطن. يقول لبي بي سي الصحفي الإسرائيلي وناشط حقوق الإنسان أندريه كراسنوفسكي الذي كان صديقًا مقربًا له: "عوده قُتل نتيجة مشروع كامل، مستمر منذ عقود، لتفريغ هذه الأرض من سكانها". وأضاف: "ليفي لم يأتِ فقط ليقتل، بل جاء ليهدم الأشجار وأنابيب المياه، كانت الرصاصة مجرد فصل أخير في تدمير الخربة". ويونن ليفي المشتبه به بقتل الهذالين مستوطن إسرائيلي يقيم في بؤرة استيطانية غير قانونية تُدعى "ميترِيم"، أسسها بنفسه عام 2021 في جنوب محافظة الخليل. يعيش في هذه البؤرة مع أسرته وقطيع من الماشية، ويُعرف باتخاذه تدابير أمنية مشددة تشمل كاميرات مراقبة وأنظمة حماية ذاتية. Getty Images أحد أقارب الشاب الفلسطيني في عام 2024، فرضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وبريطانيا عقوبات على ليفي بسبب تورطه في شن اعتداءات عنيفة على فلسطينيين في جنوب الخليل، شملت "انتهاكات جسيمة" لحقوق الإنسان. وبحسب نادي الأسير الفلسطيني فقد اعتقلت الشرطة الإسرائيلية ليفي للتحقيق، لكنها أطلقت سراحه بعد يوم واحد، وفرضت عليه إقامة جبرية، ووجهت له تهمًا مخففة، منها "التسبب بالموت نتيجة الإهمال فيما قال محاميه للمحكمة إنه استخدام الرصاص للدفاع عن نفسه ضد إلقاء الحجارة من الفلسطينيين. ولم يُقدم أي استئناف ضد القرار. وبحسب رئيس هيئة مقاومة الجدار والاستيطان مؤيد شعبان، فقد شن المستوطنون أكثر من 2150 اعتداء منذ بداية العام، بينها 448 اعتداء في مسافر يطا وحدها. كما قُتل 30 فلسطينيًا في اعتداءات المستوطنين منذ أكتوبر 2023، بينهم ثمانية منذ مطلع العام الحالي. خربة أم الخير، التي يسكنها 210 أفراد موزعين على 32 عائلة، تواجه خطر الهدم الكامل. القرية محاطة بمستوطنة "كرمل" التي أُقيمت على أراضيها عام 1980، وقد تعرضت خلال العقدين الأخيرين لعمليات هدم متكررة طالت المنازل والبنية التحتية والمواشي. وفي عام 2022، أصدرت المحكمة الإسرائيلية العليا قرارًا يسمح بتهجير سكان مسافر يطا تحت ذريعة تحويلها إلى منطقة تدريب عسكري، ما يهدد بإخلاء نحو 1200 فلسطيني من قراهم.