
الكوت تحترق.. والدولة تبتسم للصورة الجماعية
ليست الكوت مدينة تحترق فحسب، بل وطنٌ يُحرق على جرعات. لم يكن الحريق في مجمعٍ تجاريّ جديد، بل في بنية دولة هرِمة، فاسدة، لا تُفرّق بين الإنسان والحطام. مئة وعشرون جسدًا احترقوا في الكوت، وبعضهم لم يبقَ منه ما يُعزّى به. أرواحٌ نقيّة، بسطاء كانوا يبحثون عن لقمةٍ في سوق أو لحظة فرحٍ في مطعم، احترقوا لأن الفساد لا يخجل من التواقيع، ولا يخاف من الدم. فاجعة الكوت ليست حادثًا عابرًا، بل شهادة وفاة أخرى لوطنٍ لم يعد يستحق أن يُسمّى دولة.
لا ينبغي النظر إلى الفاجعة بوصفها 'حادثًا عرضيًا'. فالدولة حين تسمح بافتتاح مجمعٍ تجاريّ من خمسة طوابق بلا أدنى مقومات السلامة، ولا إشرافٍ حقيقي من الجهات الفنية، إنما تعيد إنتاج الجريمة باسم القانون. ومن المؤسف أن مؤسسات الدولة لم تُعدّ للحريق مجرّد استعدادٍ طارئ، بل كانت مشارِكة، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، في صناعته: بمَنح التراخيص العشوائية، بتعطيل سلطة الرقابة، بتقنين الفساد ضمن شبكة من المصالح المتبادلة.
لم تعد الكارثة في عدد الضحايا، بل في تَحوُّل الإنسان العراقي إلى رقمٍ باهت في نهاية بيان صحفي. تُذكر أعداد الموتى دائمًا بنبرة بيروقراطية باردة، تعقبها جُمَلٌ نمطية عن 'اللجان العليا' و'التحقيقات الشفافة'. لكن التجربة العراقية أثبتت أن اللجان لا تُنجز إلا النسيان، وأن 'الشفافية' ليست سوى طقس لغوي يُستدعى عند الكوارث، ثم يُطوى مع انتهاء العاصفة الإعلامية.
في المقابل، كيف تعاملت دولٌ أخرى مع مآسيها؟ حين شبَّ حريق بسيط في كندا أسفر عن مقتل شخصين، اعتُبر ذلك 'فشلاً وطنياً' استدعى اعتذارات علنية، واستقالات طوعية، وإعادة هيكلة لأنظمة الطوارئ. في اليابان، حين انزلقت عجلة قطارٍ وراح ضحيتها شخصٌ واحد، أوقف المدير التنفيذي عمله، وتقدّم باعتذاره باكيًا أمام كاميرات العالم. في فرنسا، حين اختنق طفلٌ في لعبة ترفيهية، اعتُقلت الإدارة، واستقال الوزير. في النرويج، حين فشل حارس في إنقاذ طفلٍ غرق في مسبح عام، أُغلقت المدينة الترفيهية حتى إشعار آخر.
أما في العراق، فعدد الضحايا لا يحدد حجم رد الفعل، بل حجم الكتمان. حين يموت مئة وعشرون إنسانًا محترقين، يتصدر السياسيون بيانات التعزية، ويتناوبون على نشر صورهم بالحبر الأسود، ويتفقون بصمتٍ مريب: 'الحريق سببه تماس كهربائي'. كأن الدم صار عادياً، وكأن الأجساد التي تفحمت لا علاقة لها بالأرض التي تنزف.
يقول المفكر الفرنسي ألبير كامو: 'أسوأ ما في الدولة الفاسدة أنها تُحمل الضحية مسؤولية موته'. هكذا تُعزينا الحكومة، وكأننا شعب يهوى الحريق، ويصنع الموت بيديه. الكوت اليوم ليست مدينة منكوبة، بل شاهد عدل. نُكبتها تُدين سكوتنا، تُدين نظام الحكم، تُدين الكراهية المتبادلة بين السلطة والشعب، تُدين من اختار 'قريبه' بدل المختص، و'ابن طائفته' بدل الأمين، تُدين العقلية التي ترى في الوظيفة غنيمة، وفي المال العام سبيًا، وفي الرقابة خيانة.
في العراق، لا تُبنى الدولة بقانون، بل بشفاعة، لا تُدار المؤسسات بالكفاءة، بل بالمحسوبية. فكيف لا تحترق المدن؟ أيها العراقي الذي تحترق حولك المدن: منذ متى أصبحنا نعدّ شهداءنا كما تُعدّ درجات الحرارة؟ منذ متى أصبحنا نبحث عن اسمٍ بين قوائم الضحايا ولا نرفع صرخة؟ منذ متى مات الحياء في عيون رجال الدولة، حتى صاروا يعزوننا بنبرة القاتل لا بنبرة الإنسان؟
قال الإمام علي عليه السلام: «ما جاع فقير إلا بما مُتّع به غني». واليوم نقول: ما احترق بريء إلا بما بناه فاسد. وما تأخرت سيارات الدفاع المدني إلا بما سُرقت به ميزانياتها، وما صمتت الدولة إلا لأن الصمت صار شعارها الرسمي منذ سنين.
نعـــم ، يواجه العراق اليوم أزمة عميقة في العلاقة بين السلطة والمجتمع. فمن الناحية الفلسفية، السلطة الحديثة هي التي تتأسس على الاعتراف، أي على إدراك متبادل بين الحاكم والمحكوم، تُنظّمه القيم والمساءلة. لكن في الحالة العراقية، باتت السلطة تمثّل قطيعة أخلاقية مع المجتمع؛ لا ترى فيه مواطنًا، بل عائقًا، أو كيانًا هامشيًا قابلاً للاحتراق، حرفيًا.
وهنا يمكن استدعاء مفهوم 'عنف الإهمال' الذي تحدث عنه باحثو علم الاجتماع السياسي: حين يتحوّل الإهمال المؤسساتي إلى أداة سلطوية، يصبح الصمت عن الخطر فعلًا مُتعمّدًا، وتتحوّل الكارثة إلى وظيفة غير معلنة من وظائف الدولة.
عند هذا المفترق، لم يعد السؤال هو: من أشعل الحريق؟ بل: من جعل الحريق ممكنًا؟ من صمتَ حين انتهكت القوانين؟ من بارك ثقافة 'الواسطة' على حساب الكفاءة؟ من روّج لخطاب الطائفة بدل خطاب المواطنة؟ من عطّل رقابة الدولة لتصبح أداةً بيد الأحزاب؟ من جعل المؤسسات مجرد امتداد لعلاقات القرابة والنفوذ لا للضمير الوطني؟
إن المسؤولية هنا ليست جنائية فحسب، بل أخلاقية وتاريخية. فكما يقول إيمانويل ليفيناس: 'الآخر هو اختبار ضميرك'. وإن لم نهتز لحريق الكوت، فقد فشلنا في اختبار الإنسانية.
إن الغضب وحده لا يكفي. ما بعد الحريق يجب أن يكون بداية جديدة لمساءلة الذات الجمعيّة. يجب أن نخرج من طور الحزن السلبي إلى طور الفعل المدني: عبر المطالبة بلجنة مستقلة دولية للتحقيق، تشريع قانون للمساءلة عن الكوارث العامة، محاكمة المسؤولين عن الفساد الإداري، ومراجعة شاملة لآليات الإنذار والسلامة في كل منشأة.
لكن قبل ذلك كله، علينا أن نعترف أننا كمجتمع لم نعد نُجيد الغضب النبيل، ولا الحزن العادل. نسينا كيف نرثي موتانا ونحن ندفنهم جماعيًا، بلا صرخات كافية.
// هلسنكي 18.7.2025
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


موقع كتابات
منذ 6 ساعات
- موقع كتابات
الاقلام الشريفة لا تنحني للمغريات
القلم أداة أساسية في حياة الإنسان وحافظ للأسرار ، مؤتمن على ما يستودع ، وخازن للعلم ، وجامع للتجارب عبر القرون والأعصار المختلفة ، في معترك الكلمات الصادقة، تتصارع الرؤى وتتلاقى الأفكار، يبرز صنفان من الأقلام ، قلم حرّ، ينطق بصدق قناعات صاحبه، يدفعه نبض ضميره، ويسعى جاهدًا لكشف الحقائق ونصرة القيم النبيلة، غير عابئ بمغريات المال أو سطوة النفوذ ولا ينحني للمغريات ، والقلم الفاسد لا يهمه سوى ما يكسب من جاه ومكانة في الوقت الراهن رخيصة تبحث عن كل الوسائل المبتذلة الرخيصة باستعمال كل شي مشين كأسلوب حياة من أجل الكفاف و أصبحت شراء الذمم الصحفية و الإعلامية هدف رئيس لتوجيه الرأي العام باتجاه تغيير مفاهيم كانت إلى الأمس القريب من العقائد الاخلاقية الثابتة و من الهوية الراسخة لكل شخص أو إنسان 'الصحافة سلطة رابعة 'لم تكن يوما الصحافة شغف ، هي مهنة المتاعب وريد الحياة الفعلي ، والقلم الوسخ لا يهمه سوى التطبيل والتزمير لمن اعطى المزيد وسوف ترفضهم القلوب ويبصق في وجوههم التاريخ ويرميهم في مزبلة القمامة ، واصحاب الاقلام الشريفة لا ينحنون لغير الحق وهم كثر والحمد لله و سوف يخلدون بلا شك في صفحات الكتب البيضاء ،عليهم ان لا ينغروا بالمال السحت و ألا يستجيبوا لمن يحـاول شراء ضمائرهم قبل أقلامهم مهما بلغ الثمن· فبالأقلام المسمومة تضلل الجماهير و تواجد بعض المنصات الاعلامية غير المنضبطة تثير غبار التناحر و تستفز جهات معينة يجب ايقافها ويجب التعامل معها كمنظمة ارهابية ومقاضاتها لانها تسلط الضوء على الخطاب المتطرف و اثارة التفرقة تحت مسميات مختلفة ولا أدلّ على خطورة مثل اصحاب هذه الكلمة وإذا كان القرآن قد أقسم بالقلم فلهذا السبب ، ،ويقول الشاعر.. إذا أقسم الأبطال يوما بسيفهم * وعدوه مما يجلب المجد والكرم فى قلم الكتاب فخرا ورفعة * مدى الدهر إن الله أقسم بالقلم القسم غالبا لا يكون إلا بأمر عظيم وذي قيمة وشأن، فهو ليس مجرد أداة للكتابة، بل هو وسيلة لنقل الأفكار والمعرفة، وتدوين التاريخ، وصناعة الحضارات. يلعب القلم دوراً حيوياً في التعليم، والتواصل، والإبداع، والتوثيق، ويساهم في حفظ التراث ونقله للأجيال القادمة ،أن كل ما قيل في شأن القلم، يتعلق بالذي يلتزم جانب الحق والعدل ، ويهدي إلى صراط مستقيم ، أما الأقلام المأجورة و المسمومة والمضلة التي تُدمر العقول وتُزيّف الحقيقة، ، إنها تعتبر أعظم بلاء وأكبر خطر على المجتمعات الإنسانية ،والاقلام الصادقة هي بارومتر الكرامة و منبر الفقراء و المساكين والضعفاء و من لا حول ولا قوة لهم ، و هناك من يعتبرها وسيلة استراتيجية للكشف عن الحقيقة و استقصاء الواقع للجماهير و الذي يتولى نيابة عن المجتمع كل ما يجري من خلال التنبيه من الاخطار التي يواجهها بالاضافة إلى الإشارة لما يجب أن يتمتع به المواطن من وفاء للمبادئ الفضلى و حماية قيم الحرية فهو الآلية التي تشير للتجاوزات و تشم رائحة الفساد في اجهزة الدولة وتفضح الفاعلين


وكالة أنباء براثا
منذ 6 ساعات
- وكالة أنباء براثا
الرئيس الفرنسي: سأعلن قرار الاعتراف رسميا بدولة فلسطين
أعلن الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، اليوم الجمعة، (2 تموز 2025)، ان قرار الاعتراف الفرنسي رسميا بدولة فلسطين أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/ أيلول المقبل. وقال ماكرون في منشور على منصة (إكس)،: "وفاءً منها بالتزامها التاريخي بتحقيق سلام عادل ودائم في الشرق الأوسط، قررتُ أن تعترف فرنسا بدولة فلسطين، سأعلن ذلك رسميًا في الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر المقبل". من جهته، أعلن رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، اليوم الخميس، عن محادثات "طارئة" بين باريس ولندن وبرلين، غدا الجمعة، لمناقشة الوضع في قطاع غزة حيث "المعاناة والمجاعة... لا يمكن وصفهما ولا الدفاع عنهما"، وفق قوله. وحوّلت الحرب المستمرة منذ 21 شهراً في غزة، حيث بلغت نسبة المباني المدمّرة أو المتضرّرة 70 في المائة، القطاع إلى كتلة ركام زنتها ملايين الأطنان وأغرقته في الظلام.


وكالة أنباء براثا
منذ 6 ساعات
- وكالة أنباء براثا
الجنائية الدولية تنتقد هنغاريا بعدم اعتقالها نتنياهو
أقرت الجنائية الدولية أن هنغاريا لم تمتثل لالتزاماتها الدولية بعدم تنفيذ طلب المحكمة بالاعتقال المؤقت لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أثناء وجوده على أراضيها في أبريل. وقالت الدائرة التمهيدية للمحكمة الجنائية الدولية في مذكرة اليوم الخميس: "ترى الدائرة أن هنغاريا قد أخلت بالتزاماتها الدولية بموجب النظام الأساسي بعدم تنفيذها طلب المحكمة نتنياهو مؤقتا أثناء وجوده على الأراضي الهنغارية بين 3 و6 أبريل 2025". وأضافت الدائرة أن "عدم امتثال هنغاريا قد منع المحكمة من ممارسة سلطة مهمة ووظيفة أساسية، ألا وهي ضمان حضور المشتبه به أمام المحكمة". وأحالت الدائرة التمهيدية مسألة عدم امتثال هنغاريا إلى جمعية الدول الأطراف من خلال رئيس المحكمة، وفقا للوائح الجنائية الدولية. وكانت زيارة نتنياهو التي بدأت يوم 3 أبريل بدعوة من رئيس الوزراء فيكتور أوربان، قد أثارت موجة انتقادات دولية واسعة حيث اعتبرت تحديا صارخا لقرار المحكمة الجنائية الدولية. يذكر أنه في نوفمبر الماضي، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة اعتقال بحق نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت بتهمة ارتكاب جرائم حرب في قطاع غزة.