نظرة في مجموعة عصافير المساء تأتي سرا للقاص محمد مشه
هاني علي الهندي
تضم المجموعة إحدى وثلاثين قصة تقع في 96 صفحة من القطع المتوسط، ولا يوجد بين هذه القصص أية قصة قصيرة جدا(الومضة) كما يحلو لبعض النقاد تسميتها. يتراوح طول قصص المجموعة من صفحتين كما في قصة (الملوخية) إلى خمس صفحات كما في قصة (على باب المخيم).
وللوقوف على تجربة محمد مشه في هذه المجموعة قمنا بدراستها وخلصنا إلى ما يلي:
أولا: عتبة الغلاف:
أول ما يلفت انتباه المتلقي في أي مطبوعة هو الغلاف، وما يتمدد عليه من عناصر مساعدة مثل؛ اللوحة والعنوان والألوان والخطوط لما يحمله من دلالات وتأويلات، فهو عبارة عن الجرس أو المادة التحريضيّة التي تدفع المتلقي لاقتحام المجموعة.
وقد جاءت لوحة الغلاف في مجموعة مشه تحمل اللون الرمادي ولوحة للفنان الفلسطيني إسماعيل شموط بلون قاتم تظهر فيها فتاة تقبض على خيط ممدود يقف عليه طائران حبيبان. وبنظرة شمولية للوحة الغلاف نراها تفيض بمشاعر الحزن والوحدة والعزلة.
يتمدد على الغلاف العنوان الرئيسي للمجموعة الذي يساعد على استفزاز المتلقي وإثارته في الكشف عن دلالات هذا العنوان وهو (عصافير المساء تأتي سرا)، مفتتحا مجالا لعدة تأويلات يقف أمامها المتلقي؛ ما المقصود بالعصافير؟ وكيف تأتي سرا ولماذا؟ ما الفرق بين عصافير المساء وعصافير الصباح؟ إي عصافير قيدها القاص بين الغلاف والغلاف؟
وجاء العنوان باللون الأحمر معلنا البقاء في لحظة الخطر بينما كتب اسم القاص باللون الأسود مرتبطا بالوجع والحزن في أعلى الغلاف معلنا عن وجوده وصموده.
وبقراءة لعناوين القصص داخل المجموعة وجدنا أن القاص اختارها بعناية تتساوق مع المضمون وتفك مغاليق النص. جاء منها 22 عنوانا مركبا في كلمتين وتسع قصص في كلمة واحدة، خلت جميعها من الجملة الفعلية.
ثانيا: حضرت في هذه المجموعة القصة الاجتماعية كما في قصة (المطلقة) التي تحدث فيها عن اضطهاد المطلقة ونظرة المجتمع لها في ظل المجتمع الذكوري، «فيصيبها المقت والحزن والقهر والإحباط» ص57، وقصة (حين بكت أمي) التي صور فيها حالة الفقر ومبالاة المجتمع لهذه الحالة.
وجاءت القصة الأخلاقية تطرح قضية فساد القائمين على المؤسسات كما في قصة (زيت سمك). والقصة الدينية المذهبية كما في قصة (جدل) التي تحدث فيها عن الجدل بين المذهب السني والمذهب الشيعي الذي ظهر مؤخرا في الساحة السياسية الدينية. والقصة الإنسانية كما جاء في قصة (قنابل النابالم الإسرائيلية) التي يصور فيها معاناة الفلسطينيين أثناء عملية الطرد القسري عام 1948. والقصة القومية كما في قصة (الأسير) التي تتحدث عن المعتقلات الإسرائيلية والأسرى العرب فيها مثل سالم المحيسن الأردني من الطفيلة، وحنا المصري وكمال العراقي. والقصة التاريخية التراثية كما في قصة (شاهد عيان) حشد فيها القاص مجموعة من الشخصيات التاريخية التراثية مثل الزباء ملكة تدمر وملك قرطاج ونبوخذ نصر الذي اعتذر عن الاجتماع بسبب الاضطرابات في بلده ص45.
لكن الحقل الدلاليّ الذي لا تكاد تخلو منه قصة في المجموعة هو انحياز الكاتب للأطفال ولطبقات الكادحين مصوراً معاناتهم ومحاولاً تغيير واقعهم المرير، والواقع اليومي للفلسطيني المشرد داخل المجتمعات التي يعيش فيها سواء داخل المخيم أو خارجه، ولعل قصة (عذرا أيها السادة فأنا لا أكذب) التي قامت على الفنتازيا تؤكد حالة الضياع والتهميش للفلسطيني وتحييده أينما وجد، بل والأكثر من ذلك تحميله مسؤولية ما يجري حوله من أحداث، حتى ضربة الجزاء التي ينفذها اللاعب ترتطم بالعارضة وتنحرف، تخرج من الشاشة وترتطم برأسه كأنه المسؤول عن فشل اللاعب (السياسي) الذي يدير معركة المباراة.
وأثناء متابعته المسلسل/ أي مسلسل..؟؟! عندما شاهد انتصار الظلم على العدل (ص9) صرخ على الممثل مذعورا، خرج له المخرج من وراء الحاجز وأشهر سلاحه في وجهه وأمره أن يخرس ولا يتدخل في سير أحداث المسلسل.
ثالثا: اللغة
عندما تندمج اللغة الشعرية في لغة القص فإنها تمنح القصص جماليات السرد وتكثيفا في المعنى، من هنا كان التعامل الشعريّ مع اللغة من القاص في هذه المجموعة ففي قصة (ذاكرة المخيم) نجده يقول: (والغبار العالق بخيط الضوء المنبعث من النافذة الخشبيّة) ص5 و(الليل طويل والطريق يمتد كأفعى، هواء البحر لزج،) ص23 (عصافير المساء تأتي متأخرة ذكريات الطفولة تسير متعرجة كتعرج الشارع الممتد بين أضلعه وأضلعه) ص26
حتى بعض العناوين جاءت جُملاً هي في طبيعتها صور شعرية تقوم على توظيف المجاز مثل الاستعارات في العناوين الآتية: (امرأة في المرآة) (شكرا لهذا المساء) و(عصافير المساء تأتي سرا).
كما نجده استفادة من اللغة السينمائية وفنها في قصته (عصافير المساء تأتي سرا) ص92 موظفا التقطيع والزوم. وفي قصته (يوم دراسي) ص71 قسمها إلى ثلاثة مشاهد مستفيدا من فن المسرحية في توظيف الدراما ولغة الحوار.
كما جاء توظيف تكرار الحرف/ كلغة الصوتية/ للكشف عن الحالة النفسية عند الطالب أحمد في قصة (ذاكرة المخيم)، هذا الطفل الذي عانى القهر والحرمان كبقية أطفال المخيم جعله مهزوزا أمام المعلم عندما سأله عن اسمه فأجاب: أحمممممممممد، وفي نفس القصة يجيب طالب آخر على سؤال المعلم «لو لم يجد متسعا في بيت الجيران، فكيف يتصرف؟ يسكن في بيت آخرررررررررررر. ومد لسانه خارج فمه»، وفي نهاية القصة تأتي صرخات المعلم في التلاميذ أجب. أجبببببببببببب تعبر عن حالة اليأس التي وصل إليها. كما جاءت اللغة الصوتية تعبر عن حالة الوجع والوحدة التي يعانيها أبو صقر في قصة (وجع) «إإإإإإإيه، الله يستر عليك يا خديجة والله إنك أفضل من الأولاد» ص28.
تراوحت لغة الحوار لغة فصيحة بسيطة لا تعقيد ولا تقعير، تناسب مستوى الشخصيات التي تحركت في المجموعة
رابعا: الجملة القصيرة:
استعمل القاص في بعض قصصه الجملة القصيرة الموسومة بالحركة والتوتر مبتعدا عن أدوات الربط مما يجعل المتلقي وسط الحدث مشغولا بالحركة والتوتر كما في قصة (لا اسم لي) «سال دمه من إصبع قدمه، دسّ قدمه في الحذاء، واصل سيره، تجاوز الزقاق، وصل الشارع الترابي». ص17
وفي قصته (لست وحيدا) يقول: «اقتربت من الشجرة، سمعت صراخا، ابتسمت، فرحت، أشفقت عليه، ركضت نحو مصدر الصوت» ص22 يضع المتلقي في حالة ترقب والكشف عما في داخل الشجرة.
إذن محمد مشه عندما استعمل الجملة القصيرة لم يستعملها على سبيل التقشف في اللغة والابتعاد عن الإطناب فحسب، وإنما جاءت لتنسجم مع الفكرة والموضوع الذي يعالجه القاص في إبداعه.
خامسا: بدايات القصص ونهاياتها:
ما يؤخذ على القاص أن أغلب بدايات قصصه جاءت تقريرية خبرية باستثناء قصة يتيمة استخدم فيها القاص البداية الإنشائية في قصة (قنابل النابالم الإسرائيلية) ص74 مفتتحا نصه بجملة «هل أغلقت باب الدار يا صبحة؟» والتي فضحها العنوان المباشر، ولو جعل القاص عنوانا آخر لقصته لاحتار المتلقي حتى في موضوع القصة.
وفي الختام هذه المجموعة تستحق القراءة للوقوف على المزيد من الإيحاءات والدلالات.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة

الدستور
٠٣-٠٤-٢٠٢٥
- الدستور
نظرة في مجموعة عصافير المساء تأتي سرا للقاص محمد مشه
هاني علي الهندي تضم المجموعة إحدى وثلاثين قصة تقع في 96 صفحة من القطع المتوسط، ولا يوجد بين هذه القصص أية قصة قصيرة جدا(الومضة) كما يحلو لبعض النقاد تسميتها. يتراوح طول قصص المجموعة من صفحتين كما في قصة (الملوخية) إلى خمس صفحات كما في قصة (على باب المخيم). وللوقوف على تجربة محمد مشه في هذه المجموعة قمنا بدراستها وخلصنا إلى ما يلي: أولا: عتبة الغلاف: أول ما يلفت انتباه المتلقي في أي مطبوعة هو الغلاف، وما يتمدد عليه من عناصر مساعدة مثل؛ اللوحة والعنوان والألوان والخطوط لما يحمله من دلالات وتأويلات، فهو عبارة عن الجرس أو المادة التحريضيّة التي تدفع المتلقي لاقتحام المجموعة. وقد جاءت لوحة الغلاف في مجموعة مشه تحمل اللون الرمادي ولوحة للفنان الفلسطيني إسماعيل شموط بلون قاتم تظهر فيها فتاة تقبض على خيط ممدود يقف عليه طائران حبيبان. وبنظرة شمولية للوحة الغلاف نراها تفيض بمشاعر الحزن والوحدة والعزلة. يتمدد على الغلاف العنوان الرئيسي للمجموعة الذي يساعد على استفزاز المتلقي وإثارته في الكشف عن دلالات هذا العنوان وهو (عصافير المساء تأتي سرا)، مفتتحا مجالا لعدة تأويلات يقف أمامها المتلقي؛ ما المقصود بالعصافير؟ وكيف تأتي سرا ولماذا؟ ما الفرق بين عصافير المساء وعصافير الصباح؟ إي عصافير قيدها القاص بين الغلاف والغلاف؟ وجاء العنوان باللون الأحمر معلنا البقاء في لحظة الخطر بينما كتب اسم القاص باللون الأسود مرتبطا بالوجع والحزن في أعلى الغلاف معلنا عن وجوده وصموده. وبقراءة لعناوين القصص داخل المجموعة وجدنا أن القاص اختارها بعناية تتساوق مع المضمون وتفك مغاليق النص. جاء منها 22 عنوانا مركبا في كلمتين وتسع قصص في كلمة واحدة، خلت جميعها من الجملة الفعلية. ثانيا: حضرت في هذه المجموعة القصة الاجتماعية كما في قصة (المطلقة) التي تحدث فيها عن اضطهاد المطلقة ونظرة المجتمع لها في ظل المجتمع الذكوري، «فيصيبها المقت والحزن والقهر والإحباط» ص57، وقصة (حين بكت أمي) التي صور فيها حالة الفقر ومبالاة المجتمع لهذه الحالة. وجاءت القصة الأخلاقية تطرح قضية فساد القائمين على المؤسسات كما في قصة (زيت سمك). والقصة الدينية المذهبية كما في قصة (جدل) التي تحدث فيها عن الجدل بين المذهب السني والمذهب الشيعي الذي ظهر مؤخرا في الساحة السياسية الدينية. والقصة الإنسانية كما جاء في قصة (قنابل النابالم الإسرائيلية) التي يصور فيها معاناة الفلسطينيين أثناء عملية الطرد القسري عام 1948. والقصة القومية كما في قصة (الأسير) التي تتحدث عن المعتقلات الإسرائيلية والأسرى العرب فيها مثل سالم المحيسن الأردني من الطفيلة، وحنا المصري وكمال العراقي. والقصة التاريخية التراثية كما في قصة (شاهد عيان) حشد فيها القاص مجموعة من الشخصيات التاريخية التراثية مثل الزباء ملكة تدمر وملك قرطاج ونبوخذ نصر الذي اعتذر عن الاجتماع بسبب الاضطرابات في بلده ص45. لكن الحقل الدلاليّ الذي لا تكاد تخلو منه قصة في المجموعة هو انحياز الكاتب للأطفال ولطبقات الكادحين مصوراً معاناتهم ومحاولاً تغيير واقعهم المرير، والواقع اليومي للفلسطيني المشرد داخل المجتمعات التي يعيش فيها سواء داخل المخيم أو خارجه، ولعل قصة (عذرا أيها السادة فأنا لا أكذب) التي قامت على الفنتازيا تؤكد حالة الضياع والتهميش للفلسطيني وتحييده أينما وجد، بل والأكثر من ذلك تحميله مسؤولية ما يجري حوله من أحداث، حتى ضربة الجزاء التي ينفذها اللاعب ترتطم بالعارضة وتنحرف، تخرج من الشاشة وترتطم برأسه كأنه المسؤول عن فشل اللاعب (السياسي) الذي يدير معركة المباراة. وأثناء متابعته المسلسل/ أي مسلسل..؟؟! عندما شاهد انتصار الظلم على العدل (ص9) صرخ على الممثل مذعورا، خرج له المخرج من وراء الحاجز وأشهر سلاحه في وجهه وأمره أن يخرس ولا يتدخل في سير أحداث المسلسل. ثالثا: اللغة عندما تندمج اللغة الشعرية في لغة القص فإنها تمنح القصص جماليات السرد وتكثيفا في المعنى، من هنا كان التعامل الشعريّ مع اللغة من القاص في هذه المجموعة ففي قصة (ذاكرة المخيم) نجده يقول: (والغبار العالق بخيط الضوء المنبعث من النافذة الخشبيّة) ص5 و(الليل طويل والطريق يمتد كأفعى، هواء البحر لزج،) ص23 (عصافير المساء تأتي متأخرة ذكريات الطفولة تسير متعرجة كتعرج الشارع الممتد بين أضلعه وأضلعه) ص26 حتى بعض العناوين جاءت جُملاً هي في طبيعتها صور شعرية تقوم على توظيف المجاز مثل الاستعارات في العناوين الآتية: (امرأة في المرآة) (شكرا لهذا المساء) و(عصافير المساء تأتي سرا). كما نجده استفادة من اللغة السينمائية وفنها في قصته (عصافير المساء تأتي سرا) ص92 موظفا التقطيع والزوم. وفي قصته (يوم دراسي) ص71 قسمها إلى ثلاثة مشاهد مستفيدا من فن المسرحية في توظيف الدراما ولغة الحوار. كما جاء توظيف تكرار الحرف/ كلغة الصوتية/ للكشف عن الحالة النفسية عند الطالب أحمد في قصة (ذاكرة المخيم)، هذا الطفل الذي عانى القهر والحرمان كبقية أطفال المخيم جعله مهزوزا أمام المعلم عندما سأله عن اسمه فأجاب: أحمممممممممد، وفي نفس القصة يجيب طالب آخر على سؤال المعلم «لو لم يجد متسعا في بيت الجيران، فكيف يتصرف؟ يسكن في بيت آخرررررررررررر. ومد لسانه خارج فمه»، وفي نهاية القصة تأتي صرخات المعلم في التلاميذ أجب. أجبببببببببببب تعبر عن حالة اليأس التي وصل إليها. كما جاءت اللغة الصوتية تعبر عن حالة الوجع والوحدة التي يعانيها أبو صقر في قصة (وجع) «إإإإإإإيه، الله يستر عليك يا خديجة والله إنك أفضل من الأولاد» ص28. تراوحت لغة الحوار لغة فصيحة بسيطة لا تعقيد ولا تقعير، تناسب مستوى الشخصيات التي تحركت في المجموعة رابعا: الجملة القصيرة: استعمل القاص في بعض قصصه الجملة القصيرة الموسومة بالحركة والتوتر مبتعدا عن أدوات الربط مما يجعل المتلقي وسط الحدث مشغولا بالحركة والتوتر كما في قصة (لا اسم لي) «سال دمه من إصبع قدمه، دسّ قدمه في الحذاء، واصل سيره، تجاوز الزقاق، وصل الشارع الترابي». ص17 وفي قصته (لست وحيدا) يقول: «اقتربت من الشجرة، سمعت صراخا، ابتسمت، فرحت، أشفقت عليه، ركضت نحو مصدر الصوت» ص22 يضع المتلقي في حالة ترقب والكشف عما في داخل الشجرة. إذن محمد مشه عندما استعمل الجملة القصيرة لم يستعملها على سبيل التقشف في اللغة والابتعاد عن الإطناب فحسب، وإنما جاءت لتنسجم مع الفكرة والموضوع الذي يعالجه القاص في إبداعه. خامسا: بدايات القصص ونهاياتها: ما يؤخذ على القاص أن أغلب بدايات قصصه جاءت تقريرية خبرية باستثناء قصة يتيمة استخدم فيها القاص البداية الإنشائية في قصة (قنابل النابالم الإسرائيلية) ص74 مفتتحا نصه بجملة «هل أغلقت باب الدار يا صبحة؟» والتي فضحها العنوان المباشر، ولو جعل القاص عنوانا آخر لقصته لاحتار المتلقي حتى في موضوع القصة. وفي الختام هذه المجموعة تستحق القراءة للوقوف على المزيد من الإيحاءات والدلالات.

الدستور
١٨-٠٢-٢٠٢٥
- الدستور
جرائم أدبية كتاب جديد للأديب هارون الصبيحي
عمان عن دار الخليج للنشر والتوزيع صدرت المجموعة القصصية (جرائم أدبية) للأديب هارون الصبيحي، متضمنة 83 قصة تراوحت بين القصص القصيرة جداً والقصيرة. يقول الكاتب في مقدمة الكتاب: الكتابة الأدبية قضية عادلة وصادقة لا تلتقي أبداً مع الظلم والطغيان والقهر، لا تلتقي مع الذات التواقة للمال والشهرة، لا تتوافق مع قيود الخوف والرعب، أن تكتب عن الإنسان فهذا يعني عهداً ألا تصافح من يؤذيه أو يقتله. أنا تلميذ للإنسان الذي يعيش في داخلي، هو الذي يدفعني للتعلم والمعرفة والتطور حتى أصبح قوياً، لفرح الإنسان أفرح. ولحزنه ووجعه ومأساته أصرخ وأبكي وأكتب وأقاوم... قصص المجموعة تسلط الضوء على قضايا اجتماعية وسياسية وإنسانية تحدث في كل زمان ومكان، يسرد القاص في قصة (فرح مجنون): كان الخوف يقيّدهم ويسجنهم، كانت الكوابيس المرعبة تلاحقهم، كانوا يشعرون أن للجدران آذان تسمعهم! أكثر من نصف قرن وهم على هذا الحال، بعد سقوط الطاغية، تكلم الجميع عن الخوف والرعب بفرح لم يسبق له مثيل! وأصبح للجدران ألسنة لاذعة! وفي قصة (قيمة): ما أجمل هذا الكلب! هكذا قالت السيدة أمام أولادها، حدث ذلك بعد أن دخل من باب الحديقة شاب يقود كلباً أبيض اللون شعره طويل وناعم، بعد دقائق تجمع الكبار والصغار حوله، يريدون أن يلتقطوا الصور مع الكلب، على مقربة منهم كان ألبرت أينشتاين يجلس وحيداً! وفي قصة (المثقف): يمشي على الرصيف، ينظر إلى وجوه الناس، يسمع كلامهم ويراقب تصرفاتهم، يشعر بالدهشة، لا. ليست دهشة بل صدمة وذهول! يهمس لنفسه متسائلاً: كيف يشعرون أنهم بشر؟ لماذا يعتقدون أن لهم وجود وقيمة؟ من الذي أقنعهم بذلك؟ يتخيل لو أن هناك مرآة كبيرة يستطيعون من خلالها رؤية أنفسهم، أو تصوير فيديو وبعد ذلك جمعهم في صالة وعرض الفيلم. ماذا سيحدث لهم بعد رؤية أنفسهم؟ لا شيء، سيبتسمون ويضحكون ببلاهة، لا عقول في رؤوسهم ليدركوا الحقيقة، هم قطيع من الأغنام، يتابع المشي، يسمع صوت امرأة تتكلم مع رجل يمشي بجانبها وتقول: أريد شراء حذاء... استخدم الكاتب أسلوب السهل الممتنع في معظم القصص من خلال الإيحاءات والإسقاطات ولكن بشكل لا يصعب فهمه على القارئ، لم يبالغ في الإبهام والرمزية وكان عنصر التشويق حاضراً في الكثير من القصص.

الدستور
٢٥-٠١-٢٠٢٥
- الدستور
قراءة في مجموعة الأرض المشتعلة للقاصة سحر ملص
هاني علي الهندي قبل الدخول إلى عوالم مجموعة الأرض المشتعلة لا بد من الوقوف أمام العتبة الرئيسة، فلكل بناء عتبة تقود إلى داخل البيت، وبناء على هذا المعنى فإن عنوان المجموعة هو العتبة الأساسية لطرق النص والدخول في عالمه سواء الفني أو الاجتماعي. ربما يكون القول الشعبي القديم: «المكتوب بنقرا من عنوانه» الذي أرادته المبدعة سحر إيصاله إلينا عندما اختارت اسم (الأرض المشتعلة) إلى مجموعتها القصصية، فقد جاء العنوان معبِّرا عما في هذه المجموعة من قصص ومضامين. جاء بصيغة المعرفة مكون من صفة وموصوف وهذا يدل على الاتساع والشمولية، فالاشتعال والدمار ينتشر في كل مكان؛ في سوريا ولبنان وفلسطين واليمن وبغداد وليبيا... وغيرها. أما فيما يخص البناء النحوي، فقد جاءت الأرض خبر لمبتدأ محذوف تقديره هذه والمشتعلة صفة. المضامين: تمحورت مضامين المجموعة حول المرأة والموت والحرب والفقر، فقد نالت المرأة وقضاياها نصيب الأسد؛ فهي الأم والزوجة العاملة والمطلقة المظلومة والحبيبة الحزينة والأرملة والصبية، فهي المغموسة في جراحات الوطن والتسلط الذكوري، فنالت اهتمام القاصة في 47 قصة من أصل 109 قصص. ولا تخرج المجموعة عن الموت ورائحة الموت الناتج عن الحروب التي حصدت الأرواح البشرية، فاحتلت 53 قصة تصور بشاعة التقتيل العشوائي وإدانته. كما أدانت المجموعة الفقر في مجتمعات تزيده الحروب فقرا وظلما، فجاءت في 9 قصص. أغلب القصص تختلط فيها المضامين مجتمعة فعلى سبيل المثال تقول في قصة أرجوحة «الأرجوحة التي نصبتها الأم لطفلتها في فناء البيت كي تلهو بها، يتأرجح جسدها الصغير ما بين الأعلى والأسفل وسط ضحكاتها الطفولية بعدما غدت وحيدة مع أمها. فاجأها المسلحون الذين وجدو في حبالها مشنقة متينة لتلف حول عنق الأم التي قاومتهم لحظة أرادو اغتصابها فبصقت في وجوههم. وتركوا جسدها يتدلى متأرجحا وعلى وجهها بقايا ابتسامة ساخرة» ص25. ورغم الحرب والموت، إلا أن الأمل بالخلاص يظل حلما يراود الإنسان، هذا الأمل يتجدد مع بذار الفلاح «الذي خرج مع تباشير الفجر يحمل بذار القمح ليبذره في أرضه التي بقى فيها وحيد وسط جراح وخراب البيوت المهدمة. قبل أن يهاجمه المسلحون ببنادقهم المصوبة إلى رأسه، أمسك بحفنة قمح نثرها في الأرض علها تُنبت سنابل لأطفال قادمين بعد انطفاء شعلة الحرب» (بذار ص55) أنظر قصة (كوز الذرة ص26) كما أشارت إلى بعض المضامين الاجتماعية مثل: ظاهرة الطلاق والخيانة الزوجية وجرائم الشرف. وبالنظر في مضمون القصص القصيرة التي ضمتها المجموعة القصصية تتضح بعض السمات الفنية المميزة لأسلوب الكاتبة يمكن الإشارة إليها على النحو التالي: الحكائية: وهي ركن أساسي من أركان القصة القصيرة جدا وأهمها، فأي قصة لابد وأنها تطرح فكرة معينة من خلال أحداث تؤديها شخوص لتروي حكاية ما عبر منظور سردي ضمن قالب زمكاني متسلسل أو متقطع، وقد نجحت القاصة في المحافظة على هذا الركن الرئيس في قصة (وحشية وبراءة ص96) وهي تحكي جزء من مأساة أسرة تعرض بيتهم الآمن لقصف أدى إلى هدم البيت على من فيه باستثناء الطفلة ذات الأربع سنوات التي كانت تقف في فناء الدار التي لم تدرك معنى الموت، فخمنت أن أخاها سيستيقظ حتما من سباته بعد ما تغسل له أمه وجهه المعفر بالتراب وبالدماء. وحين لمحت طرف فستان دميتها يظهر أسفل حجر سقط من السقف المهدم بدأت تصيح على المنقذ أن يعطيها دميتها ... وحين لمحتها الطفلة احتضنتها بين يديها وأجهشت بالبكاء ثم قالت: حمدا لله على سلامتك. إذا كانت القصة قد حددت زمن الحدث دون التصريح به، فإنها كشفت عن وحشية الحرب وويلاته استطاعت ملص أن تجمعها في نص بصورة إيحائية مكثفة. لتأتي خاتمة القصة ساخرة. الشخصيات: ترتبط الأحداث بالشخصيات التي تشكل العمود الفقري للنص، فلا حدث دون شخصيات ولا شخصيات دون حدث، إلا إن ق.ق.ج تميل إلى تغييب أسماء الشخصيات وحجبها وراء ضمائر الغائب أو المخاطب، ربما يعود ذلك إلى تطابق الذات القصصية مع ذات المبدع المهمشة التائهة بين سراديب الحياة، مثلما نرى في مجموعة الأرض المشتعلة. حيث جاءت شخصيات القصص غير محددة بالأسماء أو الهوية، وعلى الرغم من غيابها إلا إنها ظلت حاضرة. على سبيل المثال: المرأة التي حيرها بائع الصبر ص41 الجندي الذي أضاع جثة صديقه. ص73 غلب على شخصيات المجموعة الشخصيات النسائية إضافة إلى بعض الشخصيات الذكورية والأطفال والحيوانات. المكان: يشكل المكان في القصة والرواية العمود الفقري الذي يحمل بقية عناصر السرد؛ كالزمن والشخوص والأحداث وباقي العناصر، ويرتبط ارتباطا وثيقا بالأدوات الفنية التي تحدد أبعاده لاسيما الأحداث. ومن خلال قراءتي لمجموعة سحر وجدت الأماكن عندها متعددة بلا تحديد أو ملامح، كشخصيات المجموعة بلا أسماء، تلونه حسب الأحداث وتمنحه الرمز في بعض الأحيان، كما حاولت أن يظهر المكان بأشكاله مختلفة؛ المغلقة والمفتوحة تبعا لاختلاف مضمون النصوص وأسلوبه في استخدام أدواته الفنية. ومن أبرز الأماكن التي وظفتها في أغلب قصص المجموعة البيت الذي يجب أن يمتاز بالهدوء وألفة واستقرار، إلا إنه جاء صاحب مهدم حزين تفوح من جنباته رائحة القتل والدم والدمار، كما ورد في قصة مواء» يعاود التجوال في غرف البيت الموحشة وهو يقفز عن الحجارة المختلطة بالأثاث والإسمنت» (مواء آخر ص12) وتقول: «الطفل الذي اشتاق لبيته المهدم في الحرب بعد ما أقصته الدروب بعيدا عنه، وقد شاهد مقتل أبيه أمام البيت ودفن جثته هناك ليظل حارسا للبيت» (حنين ص53) حتى الأرجوحة المكان الترفيهي للأطفال تحولت حبالها إلى مشانق. 0الأرجوحة ص25) وسرير الطفل يئن (سرير ص57). ومن الأماكن التي وظفتها: المدينة والقرية والشارع والساحة والمسجد والغرفة وغيرها، وكلها تفوح منها رائحة الموت والدماء الزمن: وحدة الزمان أيضا من العناصر الأساسية في القصة، وهو في القصة القصيرة محدود بفترة محددة لأن أحداثها محدودة، يؤدّي دورا مهمّا في بناء القصّة؛ فهو يكسبها الحيوية والتدفق والاستمرارية، كما يمنح الأحداث عنصر التشويق، وفي بعض الأحيان قد يلجأ القاص في بعض الأحيان إلى التقديم والتأخير في ترتيب الأحداث، وهذا ما يسمّى المفارقة الزمنية. فقد جاء الاسترجاع في المجموعة بأشكاله المختلفة، وسأذكر بعض الأمثلة لتديل على ذلك، في «بيت الذكرى» تصادفنا قصّة المرأة تعيش في بيتها تعيش على ذكرياتها وتذكِّرها خلال فترة زمنية، وهي تفتح النافذة لتدخلها أشعة الشمس وتمتزج ضحكات الصغار وثرثرتهم وسط سعال العجوز، .... تخلّلت هذه القصّة بعض الاسترجاعات الخارجية التي حاولت المرأة من خلالها أن تتذكر ماضيها والأيام الجميلة التي قضتها في هذا البيت. وفي نفس القصة وظفت القاصة تقنية حركة الزمن السردي بإسقاط فترة زمنية من القصة دون الالتفات لما يجري فيها من أحداث فقالت: «والصغار قد كبروا وغادرو البت والقط العجوز هرم ومات» (بيت الذكرى ص14. وفي قصة عيد الحب طلبت المرأة الأرملة من بائع الزهور أن يصنع لها إكليل ورد تتوسطه وردة حمراء، وأثناء انهماكه في عمله توقف السرد، وراحت الأرملة باسترجاع تتذكر كلام زوجها المفعم بالحب وأجمل هداياه التي كان يخصها وتصف لحظات السعادة التي كانت تغمرها، لتعود القاصة باستكمال السرد من النقطة التي توقف عندها لصالح الاسترجاع. (في عيد الحب ص81) التكثيف: وقد وظفت سحر التكثيف في قصصها توظيفا رائعا باعتمادها على استعمال أفعال الحركة والاعتماد على الجمل القصيرة بعيدا عن الحشو بالإضافة إلى اعتمادها على وسائل أسلوبية متعددة ساهمت في تحقيق التكثيف منها على سبيل المثال: « المرأة التي اعتادت أن تسرد جزءا من قصة حياتها في كل ليلة للقط الأسود الذي يعيش معها ويشاركها وحدتها، في الليلة الأخيرة التي سهرت مع القط وسردت له آخر جزء من حياتها، وقد كان موجعا جدا. استيقظت في الصباح لتجد القط وقد تحول لون شعره من الأسود للأبيض. (قط ص38) وفي قصة (طفلة) فقد شاعت فيها أفعال الحركة التي تقول فيها: «القط الذي كان يطارد الطفلة التي تركض خلف الفراشة الجميلة الملونة وهي تمد يديها في الفضاء تصفق تارتا وتضحك تارتا أخرى، لم يفطن القط إلى ما يجري إلا حين اصطدمت الطفلة بحجر كبير جرَّح جسدها الطري وأوقعها أرضا ليسمع صوت بكائها المرير أدرك أن الطفلة عمياء ... وكانت تطارد ظلال نور علها تهتدي لدربها، فالأفعال (يطارد، تركض، تمد، تصفق، تضحك، تفطن، اصطدمت، أوقعها، يسمع، أدرك، تطارد، تهتدي) هذه الأفعال ساهمت في حيوية النص وتكثيفه (طفلة ص43) المفارقة وكسر التوقع: تحضر المفارقة بصور متنوعة في قصص سحر مثلما نرى في قصة (مواء) التي تسرد فيها قصة المرأة التي سمعت مواء قطة داخل العربة، فتفقدت داخل السيارة وتحتها وبين العجلات، يزداد صوت المواء، كنت أتابع معها الأماكن التي يمكن للقطة أن تكون فيها، وبعد عناء من البحث تكتشف أن المواء يخرج من أعماق قلبها. ص10 وفي قصة «وقفة» يقف جميع من في الخيمة عندما دخل عليهم الجنرال باستثناء كبيرهم الذي ظل جالسا على الأرض فاتهمه العسس بالمحرض على الاجتماع، لكنه استدار إلى الخلف يبحث عن رجله الصناعية. ص18. وأخيرا فإن مجموعة (الأرض المشتعلة) للكاتبة المتميزة سحر ملص مجموعة جديرة بالاهتمام تستحق القراءة نظرا لقيمتها الفنية تستحق المزيد من الدراسات والخوض في جماليات القص.