
'روني فوتييه'.. فرنسي حارب ببندقية السينما في صفوف الثورة الجزائرية
في وثائقي بُث على قناة الجزيرة الوثائقية منذ سنوات، قال النقيب الفرنسي 'آلار'، وهو يسترجع الانطباع الذي تركه فيه الشهيد العربي بن مهيدي بعد اعتقاله: لقد آلمني فقد العربي بن مهيدي، كنت أعرف أنني لن أراه أبدا، سلمته إلى قيادة الأركان، جاء فريق خاص لاستلامه ليلا، فقدمت له التحية الشرفية، مع أن القانون يمنع ذلك، لكن يجب أن تعترف لخصمك بالشجاعة، فالعربي بن مهيدي كان رجلا عظيما.
ما من مهمة أصعب من أن تنتزع اعتراف العدو الذي حاربك واعتقلك، فشهادات جنرالات فرنسا أمثال 'بيجار' و'أوساريس' وغيرهم ممن امتثلوا لأوامر سلطاتهم تؤكد عظمة الثورة الجزائرية، وقوة الحكيم العربي بن مهيدي ورفاقه الذين خلطوا أوراق العدو.
شهادة للتاريخ كهذه تحيلنا أيضا إلى الأجانب، لا سيما الفرنسيين الذين تعاطفوا مع الثورة، فآمنوا بها ودافعوا عنها، وكانوا في مقدمة صفوف نصرة أصحاب الحق والقضية، صحيح أن الأرض ليست أرضهم، ولكن القضية الإنسانية المتبناة أصبحت قضيتهم، بعدما انحازوا للحق وآمنوا بحرية الشعب في استرجاع أرضه، وتقديم الروح لأجلها.
قصص النضال التي قدمتها الثورة الجزائرية تعود وتتجدد، ولا تموت بمرور الزمن، عدالتها جعلت النخب وعامة الشعوب المناهضة للاستعمار تتجنس لثورة التحرير، وتنتسب إليها بعيدا عن كل انتماء ديني وعرقي ولغوي.
الصورة المضادة تفضح دعاية المستعمر
لم تتخذ فرنسا السينما يوما وسيلة تثقيف أو ترفيه، بل جعلتها أداة دعائية لخدمة سياستها وتعزيز أهدافها الاستعمارية، ومنعت كل فيلم يعارض مصالحها تلك، كما تعمدت إظهار الفرد الجزائري مخربا متخلفا خارجا عن القانون، وحرصت على تمجيد مواطنيها، فقدمتهم للمتلقي في صورة المتحضرين، محاوِلة تبرير احتلالها للجزائر، وتلميع صورتها أمام العالم وتضليله أكثر.
استدعى ذلك الواقع أن يرد عليه بنفس الطريقة والأسلوب، فتبنى هذا التوجه مناضلون سينمائيون جزائريون وأجانب، ممن أعلنوا ولاءهم لثورة التحرير، وكان سلاحهم يومئذ الصورة المضادة التي تأتي بالحقيقة كما وردت، لا كما تُروج لها السينما الاستعمارية التي جعلت أصحاب الأرض غرباء، وأن الغرباء عمروا مدنها ومبانيها التي تعود أحقيتها وملكيتها للجزائريين أساسا.
لذلك فإن ثورة الشعب على الأرض دعمتها ثورة الصورة، التي استطاعت مع الوقت تجاوز الحدود الجغرافية إلى نطاق أوسع، وعززت سردية المدافعين عن أرضهم بكل السبل المتاحة.
لا تزال السينما الجزائرية مرتبطة إلى غاية يومنا هذا بثورة التحرير ووفية لها، فلا يمكن فصلها عن هذه الثورة التي شكلت روح ميلادها، وإن كان ما أُنجز عنها شحيحا مقارنة بسنوات النضال وعظم التضحيات، وحجم المعارك التي خاضها الشعب منذ الاحتلال سنة 1830، فهذه الثورة لم تلهم فقط الكتاب والسينمائيين، بل كل شعوب العالم التي تدرك أهمية النضال وقيمة التحرر، وصعوبة العيش تحت القمع والاضطهاد.
استطاعت السينما فضح ممارسات المستعمر بالصورة، وجذب أنظار العالم لحقيقة ما يحدث في الجزائر من خرق وتجاوزات واستغلال، فقد اعتُمد على بعض السينمائيين لتوثيق المعارك، وتصوير يوميات المجاهدين في الجبال، المكان الذي شهد ميلاد السينما الجزائرية، ومن أولئك السينمائيين الفرنسي 'روني فوتييه'، الذي التحق بجبهة التحرير الوطني، ولم يكن صوت المقاومة وضميرها فحسب، ولا مجرد مخرج أفلام، بل أبزر مؤسسي السينما الجزائرية.
كما أن عدسات المخرجين المناضلين أمثاله لم تقتصر على رصد المعارك والعمليات، وقصف الطيران للقرى والسكان، والكفاح المسلح في الجبال، بل شكلت أولى بدايات السينما الجزائرية، ومن هنا يُفهم سياق الميلاد والارتباط الوثيق بثورة التحرير.
'أفريقيا 50'.. فيلم كشف عورات فرنسا ومُنع من العرض
ولد 'روني فوتييه' (René Vautier) في 15 يناير/ كانون الثاني 1928، وكانت أمه معلمة وأبوه عاملا في مصنع، وقد أظهر شجاعة استثنائية منذ الصغر، فانخرط وهو ابن 15 في صفوف المقاومة الفرنسية الداخلية عام 1943، ثم قُلد وسام صليب الحرب ولم يتجاوز 16 عاما.
كانت تلك التجارب الأولى بمنزلة شرارة ألهبت وعيه، وشكلت شخصيته مقاوما عنيدا رافضا للظلم، وكان مساره المتمرد -لاحقا- على سلطات بلاده مليئا بالتضحيات والتهديدات والأخطار والمواقف، التي أحسن التاريخ التقاطها، فرصيده مثقل بإنجازات تلتقي فيها السينما الملتزمة بقضايا الشعوب المستضعفة الساعية لنيل الحرية والاستقلال.
كانت أفلامه تنطلق من قناعة، وتستند على رؤية سياسية وإنسانية واجتماعية، فالسينما لم تكن مرحلة أو تكوينا قاده إليه الشغف ذات يوم فقط، بل وسيلة فعالة لمساندة الشعوب المضطهدة المستعمرة، وأداة لتغيير واقعهم، والتعبير عن أوضاعهم بكل أمانة، حتى وإن كان المحتل هو البلد الذي ولد فيه وينتمي إليه.
وقد كان فيلم 'أفريقيا 50' (Afrigue 50) ومدته 17 دقيقة أول فيلم أنجزه بعد تخرجه من المعهد العالي للدراسات السينمائية عام 1948، ووفقا للعقد المبرم، كان يفترض أن يصور الفيلم في شهرين، ولكنه انتقل بين ساحل العاج ومالي والسنغال سنة كاملة، بين 1949-1950، وصور ما لم يُطلب منه.
كان ذلك أول إنتاج فرنسي مناهض للاستعمار، وقد مُنع من العرض 40 سنة، فقد كانت تنتظر فرنسا أن يمجدها في هذا العمل ويلمع صورتها، لتبرير وجودها في المستعمرات الأفريقية، لكن 'فوتييه' فاجأها -وهو ابن 21 عاما- بطرح واقع مغاير، غير الذي كانت تروج له الدعاية الفرنسية، فقد صور ما حل بمستعمراتها في أفريقيا من فقر وعنف واستغلال وتهميش، ومن محاولات لطمس هوية شعوب المنطقة.
لقد راوغها في هذا الوثائقي بنص كتبه وقرأه بنفسه، فقال على وقع الايقاعات الأفريقية للفنان الغيني 'فوديبا كايتا': بلا مدرسة، بلا طبيب في أفريقيانا نحن.. امرأة قُتلت باسم شعبنا.. منذ 1946 أُلغي العمل القسري في أفريقيا السوداء، ولكنه ضروري.. إن امتلاك المال هو الطريقة الوحيدة للعمل لشركة الاستعمار بأجر 50 فرنكا.. فرنسا ارتكبت جرائم باسم الحضارة، وهذه الإدارة الاستعمارية سوف تستجيب للأفارقة كما فعلت مع الفيتناميين.
لم يكن ليمر مرور الكرام عمل توثيقي كهذا، يجرم سلطات وجيش بلده بالصوت والصورة، أنتج بتكليف من رابطة التعليم الفرنسية، فلم تكتفِ فرنسا بمنعه من العرض، بل عرّضت مخرجه للمراقبة والمضايقات المستمرة، ووجهت إليه 13 تهمة جنائية.
كما زعمت أن فيلم 'أفريقيا 50' ينشر واقعا مغلوطا، من شأنه الإخلال بالنظام العام، ويتضمن تزييفا للحقائق، ويتعمد تشويه صورة فرنسا بوصفها قوة حضارية في أفريقيا، وأن هذا الفعل مساس بالأمن الداخلي للدولة.
وقد حكمت على 'روني فوتييه' بالسجن سنة، ثم ضاعفت مراقبتها لبقية أفلامه، لكنه لم يستسلم لتلك التهديدات، وانساق وراء السينما التي تمثل قناعاته، والقضايا التي يؤمن بها ويناضل لأجلها، ولعل أبرزها حرب الجزائر.
كان 'روني' يؤكد في كل مرة أنه لم يخش الموت، ولم يكن يظن أنه سينجو منه أيضا، وقد رفض الامتثال لأوامر السلطات وهي تبحث عن عمل يلمع صورتها، فلاحقته في باماكو، وحاولت أخذ الكاميرا التي كان يصور بها، ومصادرة المضامين والمواد التي بها، ولكنه فر من نافذة الفندق قبل أن تطرده الشرطة الفرنسية منه، وتبدأ في ملاحقته، وسار من باماكو إلى أبيدجان مسافة تزيد على 1000 كلم في عربة تجرها الخيول، وفي رحلته انتهز الفرصة لتصوير آثار القمع الذي خلفه الغزاة.
عُرض الفيلم في أكثر من 50 دولة، وتُوج سنة 1950 بجائزة أفضل وثائقي عالمي للمخرجين الشباب بمهرجان الشباب العالمي في وارسو، وظل محظورا في فرنسا، وعُرض عروضا سرية إلى غاية 1996، فعرض عرضا رسميا بإشراف السينماتيك الفرنسية، وسلمت ممثلة قسم السمعي البصري بوزارة الشؤون الخارجية نسخة 16 ملم منه.
وفي مطلع 2000، أعيدت برمجة عرض للفيلم، وقد أُنتجت منه نسخ جديدة سنة 2011، للحفاظ على وثيقة من الماضي، تجرم فرنسا التي حاولت عقودا من الزمن إنكار تلك الحقائق والممارسات الوحشية بحق شعوب القارة الأفريقية.
'في كل الأحوال ستستقل الجزائر'.. العبارة التي أغضبت فرنسا
يُشاع أن وثائقي 'الجزائر أمة' (Une nation, l'Algérie) المنجز عام 1954 قد مُنع من العرض أيضا، فنسخة منه أتلفت، والثانية اختفت، وتصفه مراجع ودراسات -على قلتها- بأنه مهم، وعلامة فارقة في تاريخ السينما الملتزمة، بسبب الطرح الجريء الذي قدمه 'روني فوتييه' في سرد حقيقة لا تريد فرنسا أن يطلع العالم عليها، لا سيما وقد أنجز في بدايات الثورة التحريرية.
لوحق 'فوتييه' بسبب ما تضمنه الفيلم من مناهضة لسياسة فرنسا وتنديد بتجاوزاتها، واتهم أيضا بأنه أزعج واستفز السلطات الفرنسية بعبارة 'في كل الأحوال ستستقل الجزائر'، وأن ذلك مساس بأمن الدولة مرة أخرى، وبات مصيره يتراوح بين ملاحقة ورقابة وتضييق، مثل مصير كثير من السينمائيين الذين يلتزمون بالحقيقة، ويقدمون مادة تجاوزت حدود الصورة إلى أبعاد أكثر عمقا وإنسانية.
فحتى الأفلام التي تدافع عن تجنيد الشباب الفرنسيين في حرب الجزائر، وتسليط الضوء على معاناتهم، والتمدد الفرنسي في أفريقيا، لم ترق لسلطات المستعمر، الذي يُفهم من خلال القوة التي كان يُعامل بها الرافضين لتعزيز سرديته، أنها لم تستسغ ما كان يقوم به 'بيبر كليمون'، و'روني فوتييه' بسلاح الصورة.
وقد دمرت الشرطة أيضا النسخة السلبية -التي في المختبر- من فيلم 'شعب يسير' (Peuple en marche)، ومنعته من تقديم فيلم 'الناقوس' (Le Glas) الذي يتطرق للتمييز العنصري في جنوب أفريقيا، ولم يسمح بعرضه إلا سنة 1965، وبذا يكون 'روني فوتييه' المخرج الفرنسي الأكثر مراقبة في التاريخ.
نجاح ثورة التحرير الجزائرية والوعي الذي وصلت إليه، اجتمعت فيه أسباب كثيرة لم تتوفر لها سابقا، فكل القطاعات والنخب وعامة الشعب تجندوا نصرة لوطنهم، ولم تعد الحرب تقتصر على حمل السلاح والالتحاق بالجبال، والمواجهة العسكرية والإيقاع بالعدو في المدن أو الأرياف، التي كانت تُقصف بالنابالم الحارق.
بل إنها امتدت لتأسيس الفرقة الفنية لجبهة التحرير الوطني، وتصوير وثائقيات ومواد إعلامية، تدعم شرعية المطلب وعدالة القضية، وتوجت بتعيين السينمائي المناضل جمال الدين شندرلي على رأس قطاع الإعلام سنة 1958.
كما تعززت بفتح أول مدرسة للتكوين السينمائي سنة 1957 بالولاية التاريخية الأولى (جبال الأوراس)، تحت إشراف السينمائي والمناضل الفرنسي 'روني فوتييه' الملقب ثوريا 'فريد'، وقد أذن له القائد الثوري عبان رمضان بتوثيق بطولات المجاهدين، وجعل كاميرته شاهدا عليها، ثم عين لاحقا مديرا لمركز الجزائر السمعي البصري من 1961 إلى 1965.
تكون أوائل السينمائيين في الجبال، وتخرج كبار المخرجين الجزائريين على يد 'فوتييه'، فمنهم محمد لخضر حمينة وأحمد راشدي، كما أن السينما الجزائرية منذ بدايتها استطاعت التعايش مع ظروف الحرب وقلة الإمكانيات، فاعتمدت في توثيقها لمحطات الثورة ومساراتها على الفيلم القصير، والوثائقي الذي صنع منه جمال الدين شندرلي، ومحمد لخضر حمينة، و'بيير كليمون' و'روني فوتييه' أرشيفا خالدا ودليلا يدين المستعمر.
إن المتتبع لمسارات مهمة في شخصية 'روني فوتييه' يلاحظ أن النضال لم يرتبط بقضايا الشعوب المضطهدة وحركات التحرر فحسب، بل امتد إلى كل ما يحيط بالسينما بوصفها أداة تعبير وتغيير، لا يمكن تقييدها بالأطر والتشريعات.
فبعد عودته إلى مسقط رأسه، وتأسيسه وحدة الإنتاج السينمائي في 'بريتاني'، ومنع بعض أفلامه دون عرض أسباب ذلك، أضرب عن الطعام في عام 1973، ووقف في وجه لجنة الرقابة السينمائية وحظر الأفلام، وانتصر عليها وحقق مكاسب أخرى تمنع اللجنة من حذف تأشيرة الفيلم أو رفضها لأسباب سياسية، وكان سببا في تعديل قوانين الرقابة في فرنسا.
'الجزائر الملتهبة'.. بندقية السينما في قلب معارك التحرير
اضطر 'روني فوتييه' للاختفاء أكثر من سنتين بسبب فيلم 'الجزائر الملتهبة' (L'Algérie en flammes) المنتج سنة 1958، فبينما كانت تعمل فرنسا على توجيه الرأي العام الفرنسي والعالمي بأفلام تدعم خططها الاستعمارية وتبيض صورتها، جاء 'روني فوتييه' بفيلم من قلب الجبال بما تشهده من معارك وقرارات، ليظهر جانبا مهما من المقاومة، التي تلاحم فيها الفدائيون والشعب البسيط الملتف حول ثورته وقادتها.
تشير بداية الوثائقي المرفقة بموسيقى نشيد 'قسما' إلى أن العمل صوّر في ظروف صعبة، وبكاميرات بسيطة وصغيرة الحجم، تغوص وتدقق في تفاصيل العمليات والاشتباكات، وصناعة أحد الجنود الجزائريين قنبلة يدوية، ويترصد تدريباتهم على استعمال الأسلحة، وتنفرد عدسته باللحظات الأولى من إسعاف الجرحى والمصابين، بأيدي ممرضات تحلين بالشجاعة، واخترن مرافقة الرجال في مهمة استعادة الوطن.
استطاع وثائقي 'الجزائر الملتهبة' إظهار قوة جيش التحرير العسكرية، وأحاط المكان بأهمية بالغة، ومنح حيزا هاما لملامح الجزائريين ولباسهم، والأغاني الثورية الحماسية التي كانت تدعمهم، وحاول تصوير أدق التفاصيل، وتوقف عند كثير منها، كحالة الترقب وتبادل أطراف الحديث، والابتسامة التي تكسر الأجواء الصعبة في الجبال.
كما صور حرص السكان على تحضير الطعام للمجاهدين، وتأهب بعضهم لمغادرة المكان والتوجه نحو المعارك، إلى غاية بداية الهجوم بالرشاشات والقنابل اليدوية، وربما كان 'فوتييه' سيصور أكثر لولا تأثر الكاميرا برصاصة في قلب المعركة التي غلب فيها الجزائريون الغزاة، وأوقعوا ضحايا وخسائر، وصادروا أسلحة كان العدو يريد بها إخماد صوت الشعب وصدى الثورة.
يصف 'فوتيه' في فيلم 'الجزائر الملتهبة' جيش التحرير الوطني بأنه مجتمع كبير، يساوي بين كل فئات المجتمع، ولا يفرق بين طالب وفلاح، ويتعامل فيه الجنود والضباط مثل العائلة الكبيرة في القتال، ويدافع عن فكرة أن الجزائري سيد في بيته، ويستلهم منه الانضباط والإرادة التي يتحلى بها لتحرير وطنه.
كان 'فوتييه' يذكّر بهذا الكلام في كل مرة، قبل أن ينتقل لتصوير الدمار الذي لحق بالممتلكات، والتهجير اليومي للجزائريين، وحرق أراضيهم باستعمال النابالم، انتهاء بقرية ساقية سيدي يوسف الواقعة على الحدود الجزائرية التونسية، التي شهدت مجزرة من أبشع المجازر، نفذتها 25 طائرة حربية فرنسية في صباح 8 فبراير/ شباط 1958، واختلطت فيها دماء المدنيين من الشعبين.
لقد أراد بكل ما صوره تنوير الرأي العام، والرد على ادعاء فرنسا أن ما يقع في الجزائر مجرد أحداث، وليست تجاوزات خطيرة أو انتهاكات وجرائم حرب، وقد وُفق في مسعاه، وبفضل السينما استطاع مع عدد من السينمائيين إيصال صورة الثورة الجزائرية إلى منابر مهمة، أبرزها الأمم المتحدة، فأكسبها ذلك تأييدا دوليا أكبر، وقدم قضيتها تقديما أوضح.
'أن تكون في العشرين بالأوراس'.. عودة إلى سنوات الثورة
لم تخضع كاميرا 'روني فوتييه' يوما لسلطة ولا إملاءات، ولم توجهها مصلحة، ولم ترعبها قوة، حتى أنه لم يشعر أنه قال كل شيء عن الثورة الجزائرية في أفلامه، بدليل أنه واصل الاشتغال بعد 10 سنوات من الاستقلال (عام 1972) على جمع وجهات نظر الجنود الفرنسيين الذين عاشوا الحرب وتقديمها.
وبناء على شهاداتهم استطاع كتابة سيناريو 'أن تكون في العشرين بالأوراس' (Avoir 20 ans dans les Aurès)، وهو عمل التفت فيه لأولئك الذين أجبروا على الحرب، فعارضوها ورفضوا المشاركة في قتل الجزائريين وتعذيبهم، وبذا يكون قد طرح الواقع من زاوية أخرى، تطابق وتكمل الحقائق التي تضمنتها أعماله الوثائقية السابقة.
تأسس الفيلم على أكثر من 500 ساعة من الشهادات الحية، وقد حاول فيه تعبئة الممثلين -الذين انتقاهم- بروح القصص الحقيقية، وأحاطهم بجوهرها، ولم يمكنهم من السيناريو حتى يكونوا أكثر عفوية.
وقد قال في حوار له إن عرض الفيلم في مهرجان كان السينمائي لم يكن سهلا، فقد اختير في البداية للمشاركة في المسابقة الرسمية للمهرجان، ولكنه أزيل ورُشح لاحقا في مسابقة النقاد، وفاز بجائزة النقاد الدوليين سنة 1972.
كان دعم ثورة التحرير بالصورة الإعلامية والسينمائية شكلا من أشكال النضال، جمع 'روني فوتييه' مع أحمد راشدي، ونصر الدين قنيفي، ومحمد بوعماري، وأسماء أخرى شاركها النضال، وتشارك معها تصوير عدد مهم من الوثائقيات عن حرب الجزائر.
فمنها وثائقي 'شعب يسير' الذي أنتجه المركز الوطني للسمعي البصري عام 1963، ويتشكل من مشاهد التقطها بالولاية التاريخية الأولى أوراس النمامشة، ومواد مهمة جمعها بعض المصورين الجزائريين المتربصين بمركز السمعي البصري بإشراف وإدارة شخصية من 'روني فوتييه'.
يسترجع العمل في 50 دقيقة مسيرة جيش التحرير الوطني، وجهود الشعب الجزائري في إعادة إعمار الوطن، منذ لحظات الاستقلال الأولى في 5 يوليو/ تموز 1962.
كما ركز الوثائقي على 'حياة الجزائريين الجديدة'، وفرحة النصر وخروج الشعب في مسيرات للاحتفال بالنضال الذي توج باسترجاع السيادة الوطنية، وكان يعود في كل مرة إلى مواد سابقة، ليذكر ما مر به الجزائريين في سبيل هذه اللحظة، وترسيخها في الذاكرة الجماعية، وهي محاولة أيضا لاستعادة الماضي وفهم سياقات كثيرة، منها ما يتعلق بالاستقلال، وضرورة تشييد البلاد والمؤسسات، لغد متاح للجزائريين وحدهم، ولمن ساندهم في نضالهم هذا.
'عن التفصيل الآخر'.. فيلم فضح الجلاد 'جان ماري لوبان'
تابع زعيم اليمين الفرنسي المتطرف 'جان ماري لوبان' المخرج 'روني فوتييه' قضائيا بسبب وثائقي 'عن التفصيل الآخر' (À propos de… l'autre détail) المنتج عام 1984، وقد تضمن شهادات عدد من المعذبين الجزائريين، وهو عمل يندرج في إطار السينما النضالية والملتزمة، التي عمل عليها حتى بعد استقلال الجزائر.
وقد قرر عرض الوثائقي سنة 1985، دعما لصحيفة 'البطة المقيدة' (Le canard enchaîné)، بعدما لاحقها 'لوبان' قضائيا، ولكن القوانين تحمي الذين خدموا فرنسا في حربها ضد الجزائر، بما فيهم 'جان ماري لوبان'، الذي قال في حوار لصحيفة 'كومبا' نُشر بتاريخ 9 نوفمبر/ تشرين الثاني 1962: مارسنا التعذيب في الجزائر، لأنه كان ضروريا.
كانت القوانين الفرنسية ولا تزال تحمي جلاديها ومسؤوليها، ولكن كثيرا من الأدلة والشهادات لا تزال تجرمهم إلى غاية يومنا هذا.
ففي وثائقي 'عن التفصيل الآخر' يستعيد أحد الشهود -واسمه علي روشاي- ألم التعذيب بالكهرباء وقسوته أثناء الاستنطاق، فيريه المخرج صورة وسأله هل الملازم الذي عذبه يظهر فيها.
وفي ثوان تعرف الضحية على الجلاد، وقد كان يجهل في البداية من يكون، ولكن قوله 'أُقسم أنك ستتحدث، وإلا فلن يكون اسمي لوبان' (Je te jure que tu vas parler, sinon je m'appelle pas Le Pen)، كشف هويته، وتبين له وقتها أن من أشرف على تعذيبه هو 'جان ماري لوبان'، وكان في قمة غضبه وهو يحقق معه ويعذبه.
رصيد وأثر ومواقف لا يلغيها الرحيل
يقدم حديث 'روني فوتييه' عن الجزائر، والأفلام التي أنجزها بضمير خلال حرب التحرير، صورة مشرفة للالتزام الإنساني، ومرآة لصدق المشاعر التي نسجها مع المجاهدين وتقاسمها مع المدنيين، والتجارب التي خاضها مع السينمائيين، فقد تحمل ما تحملوه، بعدما عايش معاناتهم عن قرب، وشاركهم أحلامهم وفرح بنيلهم الاستقلال، وتحدى كل القيود التي فرضتها عليه فرنسا، ووصْمها له بالخارج عن القانون.
هذا الرجل الذي أصابته إحدى رصاصاتهم لم يتراجع، بل احتفل مع الجزائريين بلحظات نيل الحرية، فبكى معهم وفرح لانتصار الحق، والتاريخ يذكر إلى يومنا هذا أنه كان ممن رفعوا راية الحقيقة والعدالة عاليا في وجه الظلم والاستبداد.
وقد بقي يذكر تلك القصص التي يحفظها جيدا، ويرددها بكل ثبات إلى أن توفي في 4 يناير/ كانون الثاني 2015 وقد بلغ 87 عاما، وعاد بعد سنوات من الاستقلال إلى فرنسا، فاستقر في كانكال، ولم يكن يفوت دعوة أو فرصة لزيارة الجزائر، وقد كرمته في عدة مناسبات، ولا تزال تكنّ له كل التقدير على المستوى الرسمي والشعبي.
وجدير بالذكر أنه حظي عن مجمل أعماله ومواقفه بعدة تكريمات، منها تكريم خاص من لجنة تحكيم مهرجان الفيلم المناهض للعنصرية سنة 1974، كما نال جوائز أخرى من أبرزها الجائزة الكبرى لجمعية المؤلفين متعددي الوسائط المدنية عام 1998، وتوج سنة 1970 فيلمه 'أبناء العم الثلاثة' (Les trois cousins) بجائزة أفضل فيلم عن حقوق الإنسان في ستراسبورغ.
أصدقاء الثورة.. فرنسيون كان ولاؤهم للجزائر
لم تتردد فرنسا في الملاحقة والإعدام لمواطنيها الذين واجهوها، وانتصروا للإنسانية وللضمير، معلنين بذلك تأييدهم لقضية لا ريب في عدالتها، فتجاوزوا حدود التعاطف والولاء إلى الرغبة في النصرة والانتصار.
مثال ذلك المناضل 'فرناند إيفتون' الذي انشق عن الجيش الفرنسي، وانضم للحزب الشيوعي الجزائري المناهض للاستعمار، وكان الفرنسي الوحيد أو أول فرنسي يُنفذ فيه حكم الإعدام بالمقصلة في 11 فبراير/ شباط 1957، بعد عمليات بارزة عُرف بها، منها معركة الجزائر الشهيرة.
كما لا يمكن أن تُنسى نخب فرنسا التي أسهمت في كتابة التاريخ بدماء توحدت مع دماء الجزائريين، ومنهم العسكري والصحفي 'هنري مايو'، الذي اغتاله الجيش الفرنسي سنة 1956، وعلق جثته في ساحة عامة بولاية الشلف غرب الجزائر.
وقد اعترف الرئيس الفرنسي 'إيمانويل ماكرون' سنة 2018 بمسؤولية فرنسا عن مقتل أستاذ الرياضيات المساند لثورة الجزائريين 'موريس أودان'، الذي أوقف عام 1957، واقتاده مظليون للاستنطاق، ثم اختفى وظل مصيره المجهول لغزا حير عائلته ورفقاء النضال أكثر من 60 سنة.
وكذلك انضم الفيلسوف الطبيب 'فرانس فانون' إلى جبهة التحرير الوطني سنة 1955، وتولى مهام دبلوماسية حساسة أسهمت في الثورة الجزائرية، ولم يختلف مسار الطبيب 'بيار شولي' كثيرا، فبرغم كل المضايقات تولى مهمات سرية، منها إخفاء قادة الثورة وتهريبهم والتنسيق بينهم، وترتيب اتصالاتهم مع شخصيات أوروبية، لدعم استقلال الجزائر.
وبرغم مرور أكثر من 60 سنة على استقلالها، لا تزال الجزائر في كل مرة تبدي امتنانها، وتفتخر بأولئك الذين آمنوا بقضيتها وتبنوا ثورتها، وأقروا بأحقية الشعب في استرجاع حريته وأرضه، وتثمينا لكل هذا أُعلن في يوليو/ تموز 2023 تأسيس الجمعية الدولية لأصدقاء الثورة الجزائرية.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 7 ساعات
- الجزيرة
تشديد الأمن حول سفارات إسرائيل عقب إطلاق النار بواشنطن
أعلنت الولايات المتحدة وإسرائيل اليوم الخميس تشديد إجراءات الأمن عقب مقتل موظفين اثنين في السفارة الإسرائيلية بواشنطن. وقالت وزيرة العدل الأميركية بام بوندي في تصريحات للصحفيين إن قوات الأمن عززت انتشارها حول المنشآت الدبلوماسية الإسرائيلية. وأظهرت صور انتشارا لقوات الأمن معززة بكلاب مدربة في محيط السفارة. كما أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أنه أصدر تعليمات بتعزيز الإجراءات الأمنية في السفارات الإسرائيلية حول العالم. وفي خطوة مماثلة، قررت فرنسا تشديد الإجراءات الأمنية حول المواقع المرتبطة باليهود في البلاد. وفي بريطانيا، قال متحدث باسم رئيس الوزراء كير ستارمر إن الحكومة عرضت دعمها الكامل للسفارة الإسرائيلية في لندن. وتأتي هذه الخطوات بعد ساعات من إطلاق شاب أميركي يدعى إلياس رودريغيز النار خارج المتحف اليهودي مما أسفر عن مقتل موظفين بالسفارة الإسرائيلية، قبل أن يسلم نفسه للشرطة. وقالت وزيرة العدل الأميركية إن المشتبه به في إطلاق النار تصرف بمفرده. وندد الرئيس الأميركي دونالد ترامب ووزير الخارجية ماركو روبيو وقادة الكونغرس بالحادثة واعتبروا أنها تندرج ضمن "معاداة السامية". كما ندد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وأعضاء في حكومته بالهجوم، واعتبروا أنه نتيجة "التحريض" ضد إسرائيل. وكانوا يشيرون بذلك إلى الانتقادات الدولية المتصاعدة لقتل المدنيين وتجويعهم في قطاع غزة. تفاصيل الهجوم ووقع إطلاق النار في وقت متأخر من مساء الأربعاء بالتوقيت المحلي في محيط المتحف اليهودي بواشنطن. وقالت شرطة العاصمة واشنطن إن مطلق النار يدعى إلياس رودريغيز (30 عاما) من مدينة شيكاغو في ولاية إلينوي، وأوضحت أن سجله يخلو من أي سوابق معروفة تجعله محل مراقبة من قبل أجهزة إنفاذ القانون. ووفقا لوسائل إعلام أميركية، استهدف منفذ الهجوم القتيلين من مسافة قريبة بنحو 10 طلقات ثم تجول في المتحف اليهودي وانتظر وصول الشرطة قرب بوابة المبنى. ونقلت شبكة "إيه بي سي" عن مصادر أمنية أن القتيلين كانا يشاركان في فعالية نظمتها اللجنة اليهودية الأميركية. وذكرت قائدة شرطة واشنطن باميلا سميث أن المشتبه به صرخ قائلا "الحرية لفلسطين" أثناء إلقاء القبض عليه. في الإطار نفسه، قال نائب مدير مكتب التحقيقات الفدرالي (إف بي آي) إن المشتبه به يخضع لتحقيق من شرطة العاصمة وفريق مكافحة الإرهاب الفدرالي. وتأتي عملية إطلاق النار في وقت تشهد فيه الولايات المتحدة احتجاجات مناهضة للحرب الإسرائيلية على غزة.


الجزيرة
منذ 7 ساعات
- الجزيرة
فرنسا تندد باتهام إسرائيل مسؤولين أوروبيين بالتحريض على السامية
سارعت فرنسا إلى إعلان رفضها التصريحات الإسرائيلية التي تتهم بعض المسؤولين الأوروبيين بالتحريض المعادي للسامية، ونددت بتلك التصريحات واعتبرتها "مشينة وغير مبررة". وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الفرنسية كريستوف ليموين للصحفيين اليوم الخميس في مؤتمره الصحفي الأسبوعي "إن فرنسا ترفض التصريحات الإسرائيلية التي تتهم بعض المسؤولين الأوروبيين بالتحريض على معاداة السامية"، مضيفا أن هذه التصريحات "غير مبررة ومثيرة للغضب". وتابع "فرنسا أدانت، وستواصل إدانتها، وستواصل إدانتها دائما ودون لبس جميع الأعمال المعادية للسامية". ويأتي الرفض الفرنسي بعد اتهام وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر اليوم مسؤولين أوروبيين -لم يسمهم- بـ"التحريض السام على معاداة السامية"، ملقيا باللوم فيه على "المناخ العدائي الذي شهد إطلاق النار المميت على اثنين من موظفي السفارة الإسرائيلية في واشنطن". أما وزير الشتات الإسرائيلي عميحاي شيكلي فحمّل قادة فرنسا وبريطانيا وكندا وكل المعارضين للحرب على قطاع غزة المسؤولية عن إطلاق النار في العاصمة الأميركية واشنطن. وواجهت إسرائيل موجة من الانتقادات من أوروبا في الآونة الأخيرة مع تكثيفها العدوان على غزة، حيث حذرت جماعات إنسانية من أن الحصار الإسرائيلي المستمر منذ 11 أسبوعا على إمدادات المساعدات قد ترك القطاع الفلسطيني على حافة الهاوية.


الجزيرة
منذ 9 ساعات
- الجزيرة
باحث فرنسي: التنديد بالإخوان المسلمين في البلاد هدفه إشاعة الذعر
قال الباحث فرانك فريغوسي إنه يشعر بالقلق من المناخ الصعب المتزايد الذي يعيشه المسلمون في فرنسا، وذلك بعد استجوابه حول التقرير الذي قدم أمس إلى مجلس الدفاع عن الإخوان المسلمين والإسلام السياسي". وأوضح فريغونسي، وهو مدير المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي -في مقابلة مع موقع ميديا بارت- أن الأمر يعود إلى طلب تقدم به وزير الداخلية جيرالد دارمانان قبل أكثر من عام؛ أنه يريد تقريرا عن جماعة الإخوان المسلمين، مشيرا إلى معرفته السابقة بما سيتضمنه هذا التقرير، وهو ما أزعج الباحثين الذين رفض بعضهم إجراء المقابلات. وقال فريغوسي -حسب التقرير الذي أعدّته لوسي ديلابورت عن المقابلة- إنه قبل المقابلة لأنه يرى من المشروع أن تقوم السلطات العامة بتوثيق الديناميكيات التي تؤثر على مجال الإسلام في فرنسا، ومن الجيد أنها لجأت إلى العالم الأكاديمي، بالإضافة إلى مصادر الاستخبارات. وذكر الباحث أن هناك اختلافات في التحليل بين الباحثين حول هذه المواضيع، مع تأكيد المقررين أنهم سوف يضعون هذا الاختلاف في الاعتبار، مشيرا إلى أنه لا يعلم إلى أي مدى تم تعديل التقرير المقدم، مع تفهمه لأن تتم إزالة المعلومات الحساسة. حديث مزعج وقال فريغوسي إن التقرير لا يقدم الكثير، فهو يتحدث عن تراجع جماعة الإخوان المسلمين في العالم وفي الشرق الأوسط، وذلك أمر صحيح تماما، إلا أنه يعود بشكل خاص إلى القمع السياسي للحركة. ويذكر التقرير أن جماعة الإخوان المسلمين بدأت في ترسيخ وجودها في أوروبا في الخمسينيات من القرن العشرين، وشاركت في عملية كاملة تهدف إلى إعادة ربط السكان المهاجرين بالمبادئ الأساسية للإسلام، وبرؤيتهم المحافظة. ورأى الباحث أنه من المهم أن يوضح أن ما نطلق عليه "الإخوان المسلمين" في ذلك الوقت ليسوا هم الذين يشار إليهم اليوم باعتبارهم ينتمون إلى الحركة، خاصة أنه لا وجود لمنظمة في فرنسا تدّعي ذلك صراحة. ومع أن هناك قدرا كبيرا من التعددية في هذه الحركة اليوم، وأن قدرتها على تعبئة الشباب تناقصت كثيرا، فإن وزير الداخلية برونو ريتايو يتحدث -استنادا إلى هذا التقرير- للرأي العام الذي يجهل غالبيته الحقيقة الدينية الإسلامية، عن حركة تريد فرض "الشريعة" في فرنسا و"إقامة الخلافة"، بصيغة صارخة للغاية ومزعجة تماما، مع أن التقرير لا يقول شيئا عن هذا ولا يتحدث عنه. ففي فرنسا، لم يتحدث أتباع فكر الإخوان المسلمين عن إنشاء قانون للأحوال الشخصية، وتخلّوا عن الخلافة في أوروبا منذ زمن بعيد، واستحضار هذا الأمر -حسب الباحث- من شأنه أن يثير نوعا من الذعر الأخلاقي، وهو لدى بعض الشخصيات العامة يعزز فكرة أن وجود المسلمين في الفضاء الأوروبي غير شرعي. وذكر الباحث أن تقديم هذا التقرير، مع التصريحات المدوية التي رافقته، جاء بعد أسابيع قليلة من اغتيال الشاب المالي أبو بكر سيسي في أحد المساجد، وتساءل: هل ذلك يؤكد الأطروحة المثيرة للجدل حول الربط المستمر بين الإسلام السياسي والجهادية؟ وخلص فريغوسي إلى أن الإخوان المسلمين، حتى عندما يعملون ضمن إطار قانوني ويرفضون العمل العنيف، يظلون خطيرين بالنسبة لبعض التحاليل التي تركز على النصوص التأسيسية التي يعود تاريخ بعضها إلى أكثر من قرن من الزمان، وليس على السياق الحالي الذي تتطور فيه الأمور.