
الأردن والعراق وسوريا.. تحالف جيولوجي يكشف خبايا "الصفيحة العربية"
الصفائح التكتونية هي قطع ضخمة من صخور القشرة الأرضية تطفو فوق طبقة منصهرة جزئيا تُسمى "الوشاح". تتحرك هذه الصفائح ببطء بسبب تيارات حرارية في باطن الأرض، وقد تصطدم أو تبتعد أو تنزلق بجانب بعضها، وتسبب حركتها الزلازل والبراكين وتُشكّل الجبال والمحيطات على مدى ملايين السنين.
ومن ضمن هذه الصفائح توجد "الصفيحة العربية"، ومن اسمها يتضح موضعها، فهي كتلة ضخمة من القشرة الأرضية تتحرك ببطء إلى الشمال الشرقي، وتشكل جزءا كبيرا من منطقة الشرق الأوسط، بما في ذلك شبه الجزيرة العربية والأردن وسوريا والعراق، ويؤدي تحركها وتفاعلها مع الصفائح المجاورة إلى نشوء ظواهر طبيعية مهمة مثل الزلازل، وتكون السلاسل الجبلية، كما تلعب دورا رئيسيا في تشكيل الموارد الطبيعية مثل النفط والغاز في المنطقة.
وخلال دراسة نشرت بدورية"مارين آند بيتروليوم جييولوجي"، اقتحم فريق بحثي دولي الصمت الظاهري لمناطق مهمة بتلك الصفيحة، وبتعاون بين علماء علوم السطح وباطن الأرض من السعودية والأردن وبريطانيا، قرأ العلماء لغة الطبقات والصخور والصدوع في باطن الأرض، ليتمكنوا من بناء نموذج زمني دقيق لطبقات الصخور الممتدة من أواخر العصر الطباشيري (أي منذ حوالي 100 إلى 66 مليون سنة) إلى الإيوسين (الذي بدأ قبل نحو 56 مليون سنة واستمر حتى حوالي 34 مليون سنة مضت).
4 أدوات تحليلية
واستعان الباحثون في دراستهم بـ4 أدوات تحليلية، هي بيانات بيوستراتيغرافية "أعمار الأحافير"، ونسب الكربون والأكسجين والسترونشيوم، إلى جانب بيانات زلزالية وسجلات آبار النفط، لبناء هذا النموذج الذي أعاد كتابة تاريخ الصفيحة العربية.
وتساعد البيانات البيوستراتيغرافية على دراسة توزع الأحافير وترتيبها داخل طبقات الصخور، حيث تستخدم أعمار الأحافير كدلائل زمنية تساعد العلماء على تحديد عمر الطبقات الصخرية ومقارنتها بين مناطق مختلفة، فالأحافير التي تعود إلى فترات زمنية معروفة تتيح معرفة متى تكونت كل طبقة صخرية، وهذا أمر مهم لبناء تسلسل زمني دقيق.
أما نظائر الكربون والأكسجين والسترونشيوم، فهي طريقة تعتمد على تحليل النسب المختلفة لهذه النظائر داخل المعادن والصخور، ويعكس ذلك ظروف المناخ والبيئة التي سادت في تلك الفترات، كما يساعد في تحديد الفترات الزمنية بدقة، لأنها تتغير وفقا لمراحل زمنية محددة في التاريخ الجيولوجي، وبالتالي فإن تحليل هذه النسب يمكن أن يوفر توقيتًا دقيقًا لتغيرات الصخور عبر الزمن.
وتتيح البيانات الزلزالية تسجيل الموجات الزلزالية التي تمر عبر الأرض بعد توليدها بواسطة مصادر اصطناعية أو طبيعية، ويساعد ذلك في تكوين صور ثلاثية الأبعاد لتركيب الأرض تحت السطح، وتحديد مواقع طبقات الصخور والصدوع والتجاويف، مما يساعد في فهم البنية الجيولوجية تحت سطح الأرض بشكل دقيق.
وأخيرا، فإن بيانات سجلات آبار النفط تُجمع من خلال أجهزة قياس توضع داخل آبار النفط والغاز، وتقيس خصائص الصخور مثل كثافتها وتركيبتها المعدنية وخصائصها الفيزيائية والكيميائية، وهذه المعلومات تساعد في تعميق فهم التكوينات الصخرية والطبقات الجيولوجية.
ماذا وجد الباحثون؟
وباستخدام هذه الأدوات التحليلية، توصل الباحثون إلى أن الأردن، قبل نحو 95 إلى 90 مليون سنة، وتحديدا خلال المرحلة الوسطى من العصر الطباشيري، شهد فترة من الهدوء التكتوني النسبي، وخلال تلك المرحلة بدأت طبقات الصخور الرسوبية تترسب بهدوء، وكانت سماكتها تزداد تدريجيا كلما اتجهنا شمالا وشمال غرب البلاد.
لكن هذا الاستقرار لم يدم طويلا، فمع نهاية تلك المرحلة الهادئة، وتحديدا في الفترة الواقعة بين نهاية المرحلة الوسطى وبداية المرحلة المتأخرة من العصر الطباشيري، أي قبل نحو 89 إلى 83 مليون سنة، تعير المشهد الجيولوجي بشكل جذري، حيث بدأت الأرض في التشقق والتمدد، وظهر ما يعرف اليوم بمنخفض "الأزرق-حمزة" في شرق الأردن، وهو صدع ضخم يمتد من شمال غربي البلاد حتى جنوب شرقها، ليصل إلى وادي السرحان داخل الأراضي السعودية.
وتقدر الإزاحة الرأسية للصخور داخل هذا المنخفض بحوالي 1800 متر، مما يعد رقما مذهلا يدل على قوة وشدة الحركات الأرضية التي شهدتها المنطقة في ذلك الزمن الجيولوجي العنيف.
ويوضح الباحثون في دراستهم أن "هذا المنخفض ليس فقط مفتاحا لفهم تاريخ الأردن التكتوني، بل هو جزء من منظومة متصلة تشمل منخفض الفرات في سوريا وسنجار في العراق، فهذه البُنى تمتد كأنها صدع طويل يروي قصة تشوه الصفيحة العربية من الأطراف إلى القلب".
تشابك المصاير التكتونية
وما حدث في الأردن وسوريا والعراق ليس بمعزل عن أماكن أبعد، كعُمان وإيران، وهذا ما كشفت عنه هذه الدراسة أيضا.
فبينما كانت منطقة الأزرق في شرق الأردن تشهد حركة تمدد للقشرة الأرضية، أي إن الصخور كانت تتباعد وتتشقق نتيجة لقوى داخلية، كانت المنطقة الواقعة إلى الشرق، وتحديدا إيران وعُمان، تمر بعكس ذلك تماما، وهو ضغط شديد أدى إلى تصادم صفائح قارية ضخمة.
ووفقا للدراسة، فإنه في تلك الفترة من العصر الطباشيري بدأت "الصفيحة العربية" تتحرك ببطء نحو الشمال الشرقي، حتى اصطدمت مع "الصفيحة الأوراسية" التي تحمل مناطق مثل إيران وأجزاء من آسيا.
وهذا التصادم العملاق أدى إلى ما يُعرف جيولوجيا بظاهرة "الطمر والانزلاق القاري"، وهي عملية تندفع فيها إحدى الصفائح تحت الأخرى، ونتيجة لهذا الاصطدام والانزلاق تشكلت سلاسل جبلية شاهقة مثل جبال زاغروس في إيران، كما تكونت أحواض رسوبية ضخمة، وهي مناطق انخفض فيها سطح الأرض وتجمعت فيها كميات هائلة من الطين والرواسب العضوية، فأدى ذلك لاحقا إلى تشكيل احتياطيات ضخمة من النفط والفوسفات.
من المعرفة إلى الوقاية
ويقول الدكتور شريف الهادي رئيس قسم الزلازل بالمعهد القومي للبحوث الفلكية والجيوفيزيقية بمصر -لم يشارك بالدراسة- للجزيرة نت: "نستطيع أن نقول باختصار إن ما حدث في الأردن من تمدد جيولوجي كان جزءا من لوحة تكتونية أوسع، فيها مناطق تتوسع وأخرى تنضغط في آن واحد، وكل ذلك نتيجة حركة الصفائح الأرضية الكبرى التي لا تزال تشكل ملامح كوكبنا حتى اليوم".
والدراسة بهذه النتيجة ليست مجرد بحث في الماضي، بل هي خريطة لفهم الحاضر واستشراف المستقبل، سواء من حيث استثمار الثروات، أو الحد من المخاطر الطبيعية، كما يوضح الدكتور الهادي.
ويضيف أن "فهم كيف وأين تشكلت أحواض الرسوبيات الغنية بالنفط والغاز والفوسفات، ومعرفة أن حركات الطمر والانزلاق أدت إلى تشكل هذه الأحواض، يمكّن فرق التنقيب من استخدام هذه المعرفة لتحديد المناطق الواعدة للاستخراج، ومن ثم يوفر الوقت والمال في أعمال الحفر والمسح الجيولوجي".
ويوضح "كما أن فهم كيف تكونت الصدوع مثل صدع (الأزرق-حمزة) يساعد العلماء والمهندسين على تحديد المناطق الأكثر عرضة للزلازل والهزات الأرضية، وهذا مهم لتخطيط المدن، وتصميم المباني والبنية التحتية لتكون أكثر أمانًا في المستقبل".
وتسجل تلك المنطقة زلازل ذات طاقة منخفضة نسبيا، إلا أن ازدياد وتيرتها في الفترة الأخيرة، حتى إن لم يشعر بها السكان، يعتبره العلماء "إنذارا صامتا" يشير إلى أن الصخور تُعيد ترتيب نفسها ببطء، وأن الطاقة التكتونية تتراكم، وقد تنفجر في زلزال ضخم مثل زلزال حلب عام 1138 أو زلزال البحر الميت عام 1927.
ولأن الهزات الكبرى قد تسبقها زلازل خفيفة، بدأت مراكز الرصد الجيولوجي في الدول الثلاث بالعمل على نماذج تنبئية تعتمد على الذكاء الاصطناعي لتحليل أنماط الزلازل الصغيرة، واستشراف احتمالات وقوع زلازل أكبر في المستقبل، ومثل هذه الدراسات تساعد في بناء تلك النماذج، كما يؤكد الدكتور الهادي.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 11 ساعات
- الجزيرة
أكسيوس تجذب الجمهور بأسلوب تحريري فريد
ترى مؤسسة أكسيوس (Axios) الإعلامية أن أي وسيلة إعلامية لديها نصف دقيقة لتجذب انتباه القارئ، وعليها أن تستغل هذا الوقت القصير بذكاء. وقد ابتدعت المؤسسة الأميركية التي أنشئت عام 2017 والمتخصصة في الأخبار ما عرف في أوساط المؤسسات الإعلامية بصيغة الإيجاز الذكي. وهي صيغة تستهدف الجمهور الذي يعاني من ضيق الوقت من خلال أسلوب الكتابة السريع واستخدام النقاط الموجزة وتجنب الاقتباسات الطويلة. ويشار إلى أن أكسيوس أسسها صحفيو بوليتيكو السابقون جيم فانديهاي ومايك ألين وروي شوارتز بهدف "تزويد القراء بأخبار ذكية وفعالة، مع تجنب التفاهات والمصطلحات الغامضة". وتستخدم أكسيوس نهج "الإيجاز الذكي"، حيث تقدم المعلومات في مقالات قصيرة وموجزة، ونشرات إخبارية، وبودكاست. وقد نشر موقع "جورناليزم يو كي" البريطاني، المتخصص بمواكبة تطورات مهنة الصحافة، مؤخرا تقريرا عن الأسلوب الخاص في الكتابة الذي تستخدمه "أكسيوس". 26 ثانية وعلى طريقة أكسيوس في الإيجاز الذكي، أوضح الكاتب في الموقع، جاكوب جرانجر، أن "أكسيوس" اعتمدت هذه الآلية، بعد أن توصلت أبحاثه إلى أن القراء يقضون في المتوسط 26 ثانية على المقال الواحد، ويتلقون ما بين 70 إلى 400 إشعار يوميا. أكسيوس أسسها صحفيو بوليتيكو السابقون جيم فانديهاي ومايك ألين وروي شوارتز بهدف تزويد القراء بأخبار ذكية وفعالة، مع تجنب التفاهات والمصطلحات الغامضة. بواسطة تقرير جورناليزم يو كي وبيّن جرانجر أن "أكسيوس" باتت تعرض مقالاتها الإخبارية عبر استخدام جمل قوية، ونقاط محددة وبيانات واضحة، مما يجعل القراءة على الأجهزة المحمولة أسرع وأكثر قابلية للفهم. سبب نجاحها؟ وتتميز إستراتيجية "الوحدات الذرية"، التي تتبعها "أكسيوس"، وهي أسلوب تحريري يعتمد على تقسيم المحتوى الإخباري إلى وحدات صغيرة مستقلة، بعنوان رئيسي وصورة وفقرتين تحتويان على عناوين فرعية مكتوبة بخط عريض مثل "لماذا هذا مهم"، مما يعزز تفاعل القراء مع الخبر على الشاشة الأولى. ما يجب ملاحظته ويقول الكاتب إن هذا الأسلوب ينتشر بسرعة، حيث أشارت وسائل إعلامية إلى فوائده للأشخاص المصابين بالتوحد بفضل عرضه الواضح والمنطقي للمعلومات. ما بين السطور ويُظهر تقرير رويترز للأخبار الرقمية 2025 أن جمهور الأخبار العالمي يفضل النصوص (55%) للحصول على الأخبار، بسبب سرعتها وسهولة التحكم فيها، على الرغم من أن الكثيرين يفضلون المشاهدة (31%) أو الاستماع (15%) عبر الإنترنت. أرقام أكسيوس ويلفت جرانجر إلى أن "أكسيوس" لديها 22 نشرة إخبارية و6.7 ملايين مشترك ومعدل فتح للمواد يبلغ 46%، ويضيف أن 74% من مشتركي النشرة الإخبارية يتفاعلون يوميا، و63% ينقرون على الروابط، و53% يعيدون توجيه المحتوى إلى آخرين. الخلاصة تقول سارة كيهاولاني جو، رئيسة تحرير "أكسيوس" في بودكاست جورناليزم "نود جميعا أن نعتقد أن الناس سيقرؤون قصتنا المكونة من 2000 كلمة حتى النهاية، لكننا نعلم في الواقع أن هذا ليس صحيحا".


الجزيرة
منذ 13 ساعات
- الجزيرة
هواة الفلك.. كيف ترصد الكوازارات عبر تلسكوبك؟
يظن الكثيرون من هواة الفلك أن الكوازارات (أو النجوم الزائفة) هي أجرام عصية على الرصد بالنسبة لتلسكوباتهم المتوسطة، وأنها تمثل فقط أهدافا مهمة للعلماء في المراصد الكبرى فقط، لكن ذلك غير صحيح. لكن قبل الخوض في تلك النقطة، دعنا أولا نتعرف على " الكوازار"، وهو اختصار لاصطلاح "مصدر راديو شبه نجمي"، لأن علماء الفلك حينما اكتشفوا هذه الأجرام لأول مرة في عام 1963 كانت أجساما نقطية في التلسكوبات، تشبه النجوم وتصدر موجات راديوية. الآن نعرف أنها نوى مجرات بعيدة جدا (مليارات السنوات الضوئية في المتوسط). لا نرى بقية أجسام تلك المجرات بسبب المسافة، لكن تلك النوى ساطعة جدا بحيث يمكن لنا أن نراها. تستضيف كل مجرة كبيرة تقريبًا ثقبًا أسود بكتلة ملايين إلى مليارات كتلة الشمس في مركزها، والعديد من هذه الثقوب السوداء خاملة، تكمن في الظلام تقريبا مثل "الرامي أ*" في مركز مجرتنا، إلا أن المادة (من غاز وغبار) تزدحم بزخم شديد حول بعض تلك الثقوب السوداء فائقة الكتلة. تدور تلك السحب الكثيفة من الغاز والغبار حول الثقب الأسود بسرعات هائلة تتراوح من 10% إلى أكثر من 80% من سرعة الضوء، الاحتكاك بين مكونات تلك السحب سريعة الحركة يولد الحرارة، ويصبح القرص ساخنًا جدًا (ملايين الدرجات) لدرجة أنه يلمع بشدة، ويشع الضوء في نطاقات متنوعة من الطيف الكهرومغناطيسي. يأتي الضوء المرئي والأشعة فوق البنفسجية من القرص المتوهج من المواد المتساقطة في الثقب الأسود، بينما يتألق الغاز الأكثر سخونة فوق القرص في نطاق الأشعة السينية، وفي أثناء ذلك تنبعث نفاثات من المادة من أقطاب الثقب الأسود في نطاقات عدة من الموجات الراديوية إلى الأشعة السينية، أما بعيدًا عن الثقب الأسود، فيتوهج الغبار والغاز الغزير بأطوال موجية تحت الحمراء. في الواقع، يبلغ نصف قرص الكوازار الدوار بضعة أيام ضوئية في العادة، واليوم الضوئي هو المسافة التي يقطعها الضوء في يوم وتساوي 26 مليار كيلومتر. الكون المبكر وقد تسأل نفسك: لم لا توجد كوازارات في محيطنا، ونراها فقط على مسافات بعيدة جدا؟ يعتقد العلماء أن السبب في ذلك أنها ظاهرة مرتبطة بالمراحل المبكرة من تطور المجرات. كانت الكوازارات أكثر شيوعًا في الكون المبكر، مما يعني أننا نراها كما كانت موجودة منذ مليارات السنين، فعادة ما ترصد الكوازارات بين نحو 1 إلى 3 مليارات سنة بعد الانفجار العظيم في المتوسط، وتنخفض أعداده كلما اقتربنا من الأرض، حيث يتواجد أقرب كوازار نعرفه على بعد نحو 600 مليون سنة ضوئية. هذا مفهوم، ففي الكون المبكر كانت المجرات الصغيرة تحتوي على كميات وفيرة من الغاز يمكن أن تتدفق إلى مركز المجرة وتغذي الكوازار، كما شهدت هذه فترة تكوين المجرات عبر اصطدامات واندماجات متكررة، الأمر الذي يؤدي إلى تغذية الثقب الأسود المركزي بكميات هائلة من الغاز. مع مرور الزمن ونمو المجرات، استهلك الكثير من هذا الغاز أو أنه قد استقر في صورة نجوم ناشئة، مما ترك وقودًا غير كافٍ لدعم نشاط الكوازار، فتوقف نشاطه. ولذا يمثل الكوازار مرحلة نشطة وجيزة في تطور الثقب الأسود المركزي للمجرة، تستمر لمدة 10 إلى 100 مليون سنة فقط. بعد ذلك، تنتقل المجرة إلى حالة أكثر هدوءًا، ويصبح الثقب الأسود أقل نشاطًا بكثير، وينبعث منه إشعاع ضعيف فقط. في الواقع، هناك بعض الأدلة على أن الثقب الأسود المركزي لمجرة درب التبانة كان أكثر نشاطًا في الماضي، ولكن ليس إلى المستوى المتطرف الذي يصل إليه الكوازار. هل يمكن رصد الكوازارات في تلسكوب؟ من خلال التلسكوب المتوسط إلى الكبير بحسب تصنيفات الهواة (8 إلى 14 بوصة وأكبر)، سيبدو الكوازار شبيهًا بالنجم، لأنه فقط نواة مجرة بعيدة جدا لا نرى جسدها. ولتحديدها بصريًا، ستحتاج إلى معدات مناسبة وأطالس (مثل يورانوميتريا متعدد الأجزاء) أو برمجيات دقيقة (مثل ستلاريوم) لتحديد الكوازار بدقة، وتلك مهمة صعبة، لكنها ممكنة. يقع الكوازار "يو 0241+61" (U 0241+61) في برج الحوت عند لمعان ظاهري 12.2، وهو بذلك يصبح في متناول تلسكوب متوسط مع هذا اللمعان المتوسط. من ناحية أخرى، سيكون الكوازار "بي 1422+231" (B 1422+231) في برج العواء عند لمعان 16.1 تحديًا كبيرا لك كهاو، أما الكوازار "3 سي 273" (3C 273) فمن الأفضل مشاهدته في أواخر أبريل في نصف الكرة الشمالي، وهو كوازار سهل نسبيا في برج العذراء، مع لمعان ظاهري يساوي 12.8، وهو ليس بعيدًا عن نجمي جاما وإيتا العذراء وهي نجوم لامعة نسبيا. أما صديقنا "بي إتش إل 1811" (PHL 1811) في شمال شرق الجدي، فيقع تقريبا في منتصف المسافة بين نجمي ذنب الجدي وسعد مالك، وهو من الكوازارات السهلة نسبيا كذلك. تحديات إضافية في كل الأحوال، الكوازارات ضعيفة جدًا، لذا يجب عليك مراقبتها من موقع بعيد عن التلوث الضوئي. يفضل الذهاب إلى مواقع مخصصة للمراقبة السماوية أو أماكن بعيدة عن أضواء المدينة لتحسين فرصك في رؤيتها. كما أن حالة الجو لها تأثير كبير على قدرتك في رؤية هذه الأجرام البعيدة، حاول اختيار ليلة يكون فيها الهواء هادئًا، وتجنب المراقبة في الأوقات التي يكون فيها الجو غير مستقر (عندما تظهر النجوم وكأنها "تتألق" أكثر)، ستوفر لك السماء الصافية أفضل رؤية. تظهر الكوازارات كنقاط ضوء باهتة جدًا، لذا ستحتاج إلى استخدام تكبير أعلى لرؤيتها بوضوح. العدسات العينية بين 10 مم إلى 20 مم هي المثالية حسب بُعد التلسكوب البؤري. ومع ذلك، يجب تجنب استخدام تكبير زائد لأن ذلك قد يجعل الصورة مشوشة، لذا يجب التعديل للحصول على صورة حادة. في النهاية، كن مستعدًا للصعوبة، فمراقبة الكوازارات ليست مثل مراقبة الكواكب أو النجوم، وقد يستغرق الأمر وقتًا حتى تتمكن من تعديل التلسكوب والتركيز، الأمر يتطلب الكثير من المثابرة. إذا نجحت في تلك المهمة وتمكنت من رؤية أي من هذه الأجرام العجيبة، فقط تذكر أنك في حضرة واحدة من حفريات الكون، الصور النشطة البعيدة جدا في الزمن والمكان لأشرس المجرات.


الجزيرة
منذ 17 ساعات
- الجزيرة
هل تسقط فرضية العوالم المتوازية؟ الفيزياء تُعيد الحسابات
مقدمة الترجمة هل نحن وحدنا في هذا الكون؟ أم أن نسخًا أخرى منّا تعيش في عوالم موازية، تتفرّع في كل لحظة كما تتشعّب الطرق في غابة كثيفة؟ قد تبدو هذه الفكرة أقرب إلى الخيال العلمي، لكنها نابعة من قلب إحدى أعقد وأغرب النظريات في الفيزياء، وهي ميكانيكا الكم. حيّرت هذه النظرية العلماء والفلاسفة على حد سواء لأكثر من قرن، إذ تقدِّم لنا عالمًا يبدو غير منطقي: جسيمات توجد في مكانين في الوقت نفسه، قطط نصف حية ونصف ميتة، وواقع لا يُحسم إلا حين ننظر إليه. وفي خضم هذا الغموض، انبثقتْ تفسيرات كثيرة، من بينها "العوالم المتعددة"، التي تفترض أن كل احتمال كمومي يؤدي إلى انقسام الكون ذاته إلى نسخ جديدة. لكن، ماذا لو لم نكن بحاجة إلى هذه العوالم المتعددة أصلًا؟ ماذا لو كانت القوانين التي اعتقدنا أنها تنهار في عالم الكم، تعمل بهدوء ودقة خلف الستار؟ في هذا المقال المترجم من مجلة "نيو ساينتست"، نأخذك في رحلة إلى قلب هذا السؤال، رحلة تبدأ من تجربة ذهنية بسيطة وتنتهي عند مفاهيم ثورية حول الحفاظ على الزخم، والزمن، والعلاقات الخفية بين الأشياء. رحلة يقودها فيزيائيون لا يسعون إلى تفسير الكون فحسب، بل إلى فهمه بعمق جديد قد يغيّر كل شيء. نص الترجمة بين الحين والآخر، يجدر بنا أن نتوقف لحظة لنشكر النسخ الأخرى من أنفسنا، تلك التي تعيش في عوالم موازية وتُشبهنا إلى حد كبير ولكن مع اختلافات بسيطة. فوجود هذه النسخ هو ما يساعد على حفظ التوازن في هذه الأكوان. على الأقل، هذا ما يُقال إن كنت من أنصار نظرية العوالم المتعددة في ميكانيكا الكم، ذاك التصور الجريء الذي وُلد قبل أكثر من 65 عامًا، ويقوم على فكرة مفادها أن الواقع لا يسير في مسار واحد، بل يتفرّع بلا انقطاع إلى مسارات متوازية، بفعل تفاعلات خفية تدور في عوالم الجسيمات الكمومية. ورغم أن هذه الفكرة قد تبدو مربكة للعقل، فإنها تمهّد الطريق لحلّ بعض أعقد المعضلات الفيزيائية. ولهذا، لا عجب أن يؤمن بها عدد لا بأس به من الفيزيائيين الثاقبي البصيرة. لكن الآن، قد تواجه هذه الفكرة الغريبة (فكرة العوالم المتعددة*) تحدّيًا كبيرًا، وذلك بفضل عمل قام به عالما الفيزياء ساندو بوبيسكو ودانييل كولينز من جامعة بريستول في المملكة المتحدة. في البداية، لم يتمحور هدفهما حول مهاجمة فكرة الأكوان المتوازية، بل كانا يسعيان في الأصل إلى حل لغز في ميكانيكا الكم عمره 100 عام. لكن خلال بحثهما، توصّلا إلى نتائج تهدد الركائز الأساسية التي تقوم عليها فكرة العوالم المتعددة. وعن ذلك، يقول كولينز: "لقد نسفنا فعليًّا أحد أهم الحجج التي كانت تُستخدم للدفاع عنها". قد يبدو ما توصّل إليه الباحثان أمرًا يُزعزع الاستقرار أو يُربك النظريات القائمة، لكن المفارقة أن ما بدا تهديدًا، قد يتحوّل إلى دَفعة منعشة أو جرعة تنشيط لنظرية الكم نفسها. فالعمل الذي أنجزه بوبيسكو وكولينز بدأ بالفعل يُضيء زوايا أخرى في عالم الكم، ويُساعد في تفكيك مفارقات استعصت على الفهم لعقود. بالنسبة لبعض الباحثين في هذا المجال، تُمثّل نتائج هذا العمل نافذة نحو طريقة جديدة تمامًا في فهم الكون، لا باعتباره مجموعة أكوان متوازية، بل بوصفه واقعًا كموميًّا موحّدًا، يتشكّل من الداخل نحو الخارج. في السياق ذاته، يعلِّق نيكولا جيسين، الباحث في أساسيات نظرية الكم بجامعة جنيف بقوله: "إنه شيء يحمل بين طياته عمقًا جديدًا، وربما يكون الشرارة التي تُشعل طريقًا غير مطروق في فهم الكون". تبدأ قصة هذه النتائج الغريبة من مبدأ بسيط لطالما كان جزءًا أساسيًّا من الفيزياء حتى قبل أن تولد نظرية الكم نفسها، يُعرف بـ"مبدأ حفظ الطاقة". والمقصود به أن ثمة بعض الأشياء مثل الطاقة لا تَفنَى، بل تتحوّل من شكل إلى آخر. على سبيل المثال: عندما تضغط على مكابح سيارتك فجأة، لا تختفي الطاقة الحركية التي كانت تدفع السيارة، بل تتحوّل إلى حرارة وضجيج في أجزاء المكابح، كالأقراص، والعجلات، والإطارات. من حيث المبدأ، لا تقتصر قوانين الحفظ على الأجسام الكبيرة مثل السيارات، بل يُفترض أن تسري كذلك على أصغر مكونات الوجود التي تخضع لقوانين ميكانيكا الكم، مثل الذرّات والجسيمات المتناهية الصغر على غرار الفوتونات والكواركات. والمثير للانتباه أنه حتى ميكانيكا الكم -بكل غرابتها- يجب أن تخضع لهذه القوانين القديمة. لكن في قلب هذا الاتساق الظاهري، بقي هناك لغز لم يُحلّ بعد. فكِّر داخل الصندوق لكي نبدأ في فك خيوط هذه المعضلة، تخيّل أننا أعددنا تجربة نُطلِق فيها إلكترونًا نحو عشرة صناديق مصطفّة أمامه (بجوار بعضها البعض)، قد يستقر في أي واحد منها، ولا سبيل إلى الجزم بمكانه سلفًا. كل ما تمنحنا إياه ميكانيكا الكم هو خريطة احتمالات: في أي صندوق قد يظهر؟ وأيها أكثر ترجيحًا؟ لكن هذه الاحتمالات ليست ثابتة، فـمسار الإلكترون، والترتيب المكاني للصناديق، كلاهما يغيّر شكل الاحتمالات ويعيد توزيعها من جديد. في البداية، سنطلق الإلكترون، ونراقب أين يحطّ، ثم نكرر التجربة 99 مرة أخرى. بعد تكرار التجربة عدة مرات، سنكتشف أن عدد المرات التي ظهر فيها الإلكترون في كل صندوق يتوافق مع الاحتمالات التي تنبأت بها نظرية الكم. وهكذا، تنتصر ميكانيكا الكم. لكن دعنا نفترض أننا أجرينا التجربة مرة واحدة فقط، أي أطلقنا الإلكترون مرة واحدة فقط. في هذه الحالة، لا توجد أي وسيلة للتنبؤ بالنتيجة، لأن نظرية الكم لا تستطيع التنبؤ بالأحداث الفردية، بل بالمتوسطات الإحصائية فقط بعد تكرار التجربة مرات كثيرة. وهنا يطرح السؤال نفسه: ما معنى ذلك؟ وفقًا للفهم التقليدي لميكانيكا الكم كما طرحه نيلز بور، أحد مؤسسي النظرية، فإن النظام قبل أي قياس يكون في حالة تُسمى "التراكب الكمومي". بمعنى آخر: في تجربتنا الذهنية، الإلكترون لا يوجد في صندوق واحد فقط، بل في الصناديق العشرة معًا في الوقت نفسه، إلى أن نقيس أو نرصد مكانه، وعندها فقط "نُجبره" على اختيار موقع واحد. وهنا تبدأ المشكلة الحقيقية، خصوصًا إذا أخذنا هذه الفكرة إلى نهايتها المنطقية، كما فعل الفيزيائي إروين شرودنغر في تجربته الذهنية الشهيرة المعروفة بـ"قطة شرودنغر". في هذه التجربة، توضع قطة داخل صندوق مغلق، ويعتمد مصيرها (الحياة أو الموت) على حدث كمومي غير محسوم. وفقًا للتراكب، تظل القطة في حالتين في الوقت ذاته: حية وميتة، إلى أن يفتح أحدهم الصندوق ويرى حالتها، وعندها تختفي إحدى النسختين، وتبقى الأخرى. ما سبق كان غريبًا بما يكفي، لكن إذا عدّلنا قليلًا سيناريو التجربة، فستتكشف أمامنا مشكلة أعمق بكثير. فلنقل إننا قررنا هذه المرة ألا نقيس مكان الإلكترون، بل نقيس زخمه، أي كمية حركته. هنا تظهر معضلة جديدة، لأن الزخم يخضع لقوانين الحفظ الصارمة التي تمنع ظهوره فجأة من العدم، أو فقدانه بلا أثر. لكن قبل القياس، يكون الإلكترون في حالة تراكب كمّي، حالة غائمة لا تمنحنا رقمًا واحدًا، بل طيفًا من القيم المحتملة. وعندما نقيس الزخم، نحصل على قيمة نهائية واحدة تبدو مختلفة كليًّا عن الحالة السابقة. وهنا تحدث المفارقة: يبدو أن بعض الزخم قد ظهر من العدم، أو تبخّر في الهواء، وهذا يُعدُّ خرقا صارخا لقانون حفظ الزخم. وعن ذلك يقول كولينز: "بما أننا لا نستطيع أن نعرف بدقة ما كانت عليه قيمة الزخم في البداية، بدا الأمر وكأن هذه القيمة قفزت فجأة، ولم يكن هناك مفرّ من هذا الاستنتاج". بعبارة أخرى، تبدو ميكانيكا الكم وكأنها تستهزئ بقوانين الحفظ. وقد ظلّ الفيزيائيون يتصارعون مع هذه المفارقة قرنًا من الزمان. حاول بعضهم تجاوز هذه المعضلة بتفسير مبسّط: "ربما تكون الظروف في العالم الكمومي مختلفة تمامًا، ولذلك ليس منطقيا أن نتوقع من نظرية الكم أن تلتزم بنفس القوانين الكلاسيكية للحفظ". لكن كولينز يرى في هذا التبرير نوعًا من الاستسلام إذ يقول: "نظرًا إلى أن ميكانيكا الكم غريبة بطبيعتها، وغير منطقية في كثير من الأحيان، بدا أن الكثيرين مستعدّون لقبول أي سلوك شاذ يصدر عنها". على الجانب الآخر يُصرّ بعض العلماء على أن هذه المفارقة مهمة فعلًا ولا يمكن تجاهلها، وهنا تحديدًا يظهر دور "العوالم المتعددة". إذ لا يقدِّم هذا التفسير شرحًا لمعضلة القطة الحية والميتة في آنٍ واحد فحسب، بل يقول إن كلا النسختين تستمرّان في الوجود، لكن كل واحدة منهما في كونٍ مختلف. القطة الميتة تواصل وجودها في عالم، والحية في عالم آخر. ليس هذا فحسب، بل تبدو نظرية العوالم المتعددة كأنها تقدّم حلًّا لمشكلة انتهاك قوانين الحفظ. فإذا أخذنا في الاعتبار جميع العوالم أو الأكوان مجتمعة، فسنكتشف أن الزخم لم يُخلق من عدم، ولم يُفقد، وأن كل شيء لا يزال محفوظًا، لكنه موزّع على عوالم متعددة. لم يكن كولينز وبوبسكو مرتاحَين كغيرهما من الفيزيائيين أمام ما بدا خرقًا صريحًا لقوانين الحفظ. فبينما اختار البعض تجاهل التناقض باعتباره من غرائب ميكانيكا الكم، قرّر الاثنان أن يغوصا في أعماق المشكلة، وأن يواجها السؤال الذي تحاشاه كثيرون. وفي تجربة ذهنية نُشرت في أبريل/ نيسان الماضي، وهي جزء من سلسلة أبحاث قدّماها على مدى السنوات الأخيرة، أثبت العالِمان أن الزخم لا يُنتهك كما ظننا، بل يظل محفوظًا حتى في تجربة كمّية واحدة، وذلك لأسباب مفاجئة ومثيرة للدهشة. وعن ذلك، يقول بوبسكو: "لقد خضنا غمار التجربة حتى وصلنا إلى درجة من العمق لم يتوقعها أحد". يبدأ العالِمان بتحليل حالة بسيطة: جسيم يتحرّك في دائرة، ثم يتخيلان قياس الزخم الزاوي لهذا الجسيم، وهو نوع من الزخم مرتبط بالحركة الدائرية، ويُعَدُّ أيضًا كمية يجب أن تُحفَظ وفقًا لقوانين الفيزياء. عند إجراء القياس، نحصل على قيمة مُحدَّدة وواضحة للزخم الزاوي. لكن قبل القياس، كان الجسيم في حالة تراكب كمومي (أي لم تكن له قيمة واحدة محددة، بل مجموعة من الاحتمالات*). وهنا تظهر المشكلة: بما أن شيئًا قد تغير بعد القياس، أي انتقل من حالة تراكب إلى نتيجة واحدة واضحة، فالسؤال هو: من أين أتى هذا التغير في الزخم الزاوي؟ في البداية، توجّه تفكيرهما نحو جهاز القياس. فالمنطق البسيط يقول: إذا كان الجهاز يَقيس، فلا بد أنه يتفاعل مع الجسيم، لا بد أن شيئًا ما يمرّ بين الاثنين، وهو نوع من التبادل الخفي. وعن ذلك، يقول كولينز: "من الواضح أن هناك تفاعلًا، لذا يبدو بديهيًّا أن شيئًا ما ينتقل بين جهاز القياس والنظام". لكن عندما دخلا إلى عمق المعادلات، كشفت الحسابات شيئًا مغايرًا تمامًا. بعد أن استبعدا جهاز القياس باعتباره مصدرا للتغير في الزخم الزاوي، انتقل العالمان للتفكير في الجهاز الذي يضع الجسيم في حالة تراكب كمومي، وهو ما يُعرف بـ"المحضِّر". ومن خلال دراسة هذا الجهاز، كشفا عما يشبه نسخة كمومية لحلّ مشكلة ما على حساب خلق مشكلة أخرى، بمعنى أن ما يُفقَد من طرف يُعوّض في طرف آخر، بحيث تبقى الحصيلة النهائية محفوظة. بعد إجراء القياس، اكتشف العالمان أنهما إذا جمعا الزخم الزاوي للجسيم مع الزخم الزاوي للمحضِّر، سيجدان أن المجموع الكلي لم يتغير منذ اللحظة الأولى التي تفاعل فيها الجسيم مع المحضِّر. بمعنى آخر، يُعدُّ المحضّر نفسه جزءًا من حالة التراكب الكمومي، وهو الذي يحافظ على توازن كل شيء بدقة تامة. في التجارب الحقيقية، لا يكون "المحضِّر" جهازًا غامضًا، بل مجموعة من فوتونات الليزر تُستخدم لإحداث حالة التراكب الكمومي في جسيم، مثل أيون محاصر قبل إجراء القياس عليه. ما وجده كولينز وبوبسكو هو أن مجال الليزر والأيون لا ينفصلان بعد هذا التفاعل، بل يبقيان في حالة تُعرف بـ"الترابط الكمومي الباقي". بمعنى آخر، حتى بعد أن يدخل الأيون في حالة تراكب، فهو لا يصبح مستقلًّا تمامًا عن فوتونات الليزر، بل يظل مرتبطًا بها داخل تلك الحالة الكمومية المشتركة، التي لم تُحسم نتيجتها بعد. والأهم من ذلك، أن أي تغيّر في زخم الأيون الزاوي يقابله دومًا تغيّر معاكس ومكمّل في زخم فوتونات الليزر. يمنحنا هذا التقدّم الجديد في فهم قوانين الحفظ رؤية غير مسبوقة لآلية العمليات الكمومية. فلم يحدث من قبل أن استطعنا الحديث بمعنى حقيقي عن الأرقام الكامنة خلف حدث كمومي واحد. ويعلّق بوبسكو على ذلك قائلًا: "إننا أمام تغيير يمسّ واحدة من الركائز الأساسية التي قامت عليها ميكانيكا الكم". ويرتبط أحد الآثار المباشرة لهذا الاكتشاف بنظرية العوالم المتعددة. فإذا خضعتْ قوانين الحفظ لهذا الكون وحده، فما الحاجة إذن إلى اختراع أكوان موازية لتبرير ما يحدث؟ في هذه الحالة، يبدو أن العمل الجديد قد فكّك المفارقة التي طالما استندت إليها نظرية العوالم المتعددة للدفاع عن وجودها. في السياق ذاته، يقول بوبسكو: "ما أثبتناه هو أن قوانين الحفظ تنطبق في كل فرع من فروع التراكب الكمومي، حتى على مستوى الحالات الفردية. لذا، فالإشارة إلى أن العوالم المتعددة ضرورية لحفظ التوازن لم تعد مقنعة". ويُؤيّد هذا الرأي رِناتو رينر، العالم في نظرية الكم من المعهد الفدرالي السويسري للتكنولوجيا في زيورخ، قائلًا: "هذا العمل يفتح الباب لإمكانية وجود تفسير متّسق دون الحاجة إلى نظرية الأكوان المتعددة. إنه سببٌ آخر يجعل الإيمان بها أقل إلحاحًا مما كنا نظن". أما كولينز، فيرى أن هذه القصة تشكِّل تحذيرًا ضد الوقوع في فخّ الانحياز الفكري حين يتعلّق الأمر بتأويلات ميكانيكا الكم، بقوله إن افتراض صحة نظرية العوالم المتعددة قد يُوقف التفكير في المشكلة أصلًا. ويتابع: لو كنتَ افترضتَ صحة هذا التأويل منذ البداية، لما خطر ببالك قط أن تتساءل عن دور المحضّر أو أن تفتح هذا الباب من الأساس. كنت ستظن ببساطة أن كل شيء على ما يرام". الآن، يبدو أن هذه الرؤى الجديدة حول قوانين الحفظ الكمومية قد تفتح الطريق نحو فهم أعمق لجوهر ميكانيكا الكم. فعلى سبيل المثال، تُبرز هذه النتائج أهمية مفهوم يُعرف "بالأطر المرجعية" أو "إطارات الإسناد" عند إجراء القياسات الكمومية. ويمكن التفكير في هذا المفهوم كنوع من وجهة النظر التي نرصد من خلالها ما يحدث فيزيائيًّا، فهو المرجع الذي تُقاس منه الظواهر. على الجانب الآخر، يوضح كولينز وبوبسكو أن الإطار المرجعي في القياسات الكمومية يتحدد عبر خصائص جهاز التحضير نفسه، وأن الوعي بهذا الإطار أمر جوهري لفهم كيف تبقى قوانين الحفظ قائمة حتى في أبسط التجارب الكمومية وأكثرها فرادة. ما تفتحه هذه النتائج من آفاق ليس بالأمر الهيّن، بل ربما يحمل في طياته دلالة عميقة، لأن الأطر المرجعية لا تقف وحدها، بل تتشابك مع مفهوم آخر أكثر رسوخًا في بنية الفيزياء، وهو التناظر. في عالم الفيزياء، يشير التناظر إلى قدرة النظام على الاحتفاظ بجوهره حتى لو خضع لتغييرات شكلية، كأن يُدار أو يُعكس دون أن يتبدّل في قوانينه شيء. وهنا يختصر كولينز الأمر بقوله: "الفيزياء كلّها تقوم على التناظر، ومن التناظر تنبثق قوانين الحفظ، ولهذا تكتسب هذه القوانين قيمتها الكبرى". ميل غريزي نحو التناظر في عام 1918، كانت عالمة الرياضيات إيمي نويثر أول من بيّن أن قوانين الحفظ تنبع من ميل الكون إلى التناظر في عملياته الفيزيائية. ومنذ ذلك الحين، أصبح اكتشاف التناظرات الجديدة، أو ملاحظة انتهاكها يشير إلى وجود ظواهر تستحق الدراسة والبحث. فبهذه الطريقة، ظهر التنبؤ بوجود العديد من الجسيمات في النموذج القياسي لفيزياء الجسيمات، مثل الكواركات وبوزون هيغز، قبل اكتشافها تجريبيًّا. وقد دفع هذا العلماء التجريبيين إلى بناء أجهزة ضخمة بتكاليف تُقدّر بالمليارات لاختبار تلك التنبؤات والتحقق من وجود تلك الجسيمات. في هذا العمل الجديد، تتشابك الأطر المرجعية، والتناظرات، وقوانين الحفظ في عالم الكم، تمامًا كما كانت مترابطة منذ زمن بعيد في الفيزياء الكلاسيكية. ومن جانبه، يعلّق الفيزيائي جيسين قائلًا: "الأمر لا يقتصر على حل معادلة معقدة عجز الآخرون عن حلها، بل يكمن في أنهم حققوا فهمًا عميقًا للفيزياء ذاتها". في السياق ذاته، يرى رينر أن الترابط الجديد بين الأطر المرجعية، والتناظرات، وقوانين الحفظ قد يحمل في طيّاته مفتاحًا لحل مفارقة كمومية استعصت على التفسير لعقود. في ستينيات القرن الماضي، طرح الفيزيائي يوجين فيغنر تجربة فكرية عُرفت لاحقًا باسم "صديق فيغنر"، فيها يُجري صديقه تجربة داخل مختبر مغلق، يُشبه السيناريو الشهير لقطة شرودنغر. يفتح صديقه الصندوق ويجد القطة حيّة. لكن فيغنر، الواقف خلف الباب المغلق، لم يطّلع بعد على النتيجة، ومن وجهة نظره لا تزال القطة في حالة تراكب كمومي، حية وميتة في آن واحد، ومتشابكة كموميا مع صديقه داخل المختبر. وهنا تتكشّف المفارقة: "واقعان لا ينسجمان، ومع ذلك، تقول ميكانيكا الكم إن كليهما صحيح". ومع ذلك، يرى رينر أن الفهم الأدق للأطر المرجعية قد يكون المفتاح الذي يُعيد ترتيب مشهد المفارقة. ففي السيناريو التقليدي، يُفتَرض أن صديق فيغنر يوجد داخل المختبر في حالة كمومية نقية، مستقلة تمامًا عن فيغنر الواقف خارجه. لكن ما توصّل إليه كولينز وبوبسكو يظهر استحالة هذا الافتراض: فالصديق ليس كيانًا منعزلًا، بل متشابكا كموميًّا مع المُحضِّر، وهو في هذه الحالة فيغنر نفسه. وهكذا، فإن تأثير المُحضّر، الذي كان يُهمَل عادةً باعتباره ضئيلًا، يأخذ الآن موقعه في صلب التجربة، ولا يمكن تجاهله بعد اليوم. وعن ذلك، يقول رينر: "ربما تُحلّ هذه المفارقات، إذا تعاملنا مع تجربة صديق فيغنر بمزيد من التأنّي والدقّة في نمذجتها". كل هذا يدفع رينر وآخرين إلى النظر إلى الواقع بصورة مختلفة كليًّا، صورة لا تمتّ بصلة إلى نظرية العوالم المتعددة. تتمثل الفكرة الجوهرية هنا في أن القياسات ليست مُطلَقة، وإنما يراها كل مراقب بصورة مختلفة، وهي فكرة متجذّرة في تأويلين بديلين لميكانيكا الكم: يُعرف الأول "بميكانيكا الكم العلائقية"، ويفترض أن الأشياء لا توجد منفصلة أو قائمة بذاتها، بل ينبثق الواقع فقط من شبكة العلاقات المتبادلة بينها. أما الثاني، فهو "الاحتمالية الكمومية البايزية"، ويرى هذا التأويل أن ميكانيكا الكم ليست وصفًا للعالم كما هو، بل أداة يستخدمها كل مراقب للتنبؤ بما سيشهده. وفي هذا العالم، لا تُبنى الحقيقة من حقائق موضوعية خارجية، بل من العلاقة بين المراقب والقياس الذي يجريه. وهكذا، بدلًا من واقع يتشظّى إلى عدد لا يُحصى من الأكوان، تقدّم هذه الرؤية كونًا واحدًا يتشكّل من الداخل، من خلال ربط أو حياكة العديد من الرؤى الذاتية معًا. ورغم ما تحمله نتائج كولينز وبوبسكو من وعود، فإن الطريق أمامها لا يزال محفوفًا بأسئلة تنتظر الإجابة. فحتى الآن، اقتصر إنجازهما على إثبات حفظ الزخم الزاوي من الناحية النظرية، ثم افترضا أن ما ينطبق عليه، يمكن أن يمتد إلى بقية قوانين الحفظ، كقانوني الطاقة والزمن. في حين يرى جونتي هانس من جامعة نيوكاسل بالمملكة المتحدة، أن هذا التوسّع قد لا يكون بهذه البساطة، خصوصًا حين يتعلّق الأمر بالزمن، ذلك المفهوم الغائم في قلب ميكانيكا الكم، الذي لم تنجلِ حقيقته بعد. في الجهة المقابلة، تُبدي فاليا ألوري، فيلسوفة الفيزياء بجامعة بيرغامو في إيطاليا، تحفظًا اتجاه النتائج التي توصّل إليها كولينز وبوبسكو. ففي رأيها، تنطوي الحجّة على قفزات دقيقة لكنها مقلقة، تكمُن في طبيعة التفاعل بين الجسيم وجهاز القياس، أو بين الجسيم والمحضِّر الذي يُعدّه للتجربة. وفي أروقة المختبرات، بدأ العلماء يطرحون سؤالًا جديدًا: كيف يمكن رؤية قوانين الحفظ الكمومية وهي تعمل في العالم الحقيقي؟ يرى الفيزيائي أفرايم ستاينبرغ من جامعة تورنتو أن هذه القوانين في صورتها الفردية، قد تُشكّل قيودًا خفية، تُحدّد بدقّة ما يمكن تحضيره من حالات كمومية، وما لا يمكن. وهكذا، تتحوّل هذه القيود إلى مُحفّزات لتجارب جديدة، تسعى إلى خلق تلك الحالات ورصدها. عندما اطّلع الفيزيائي ستاينبرغ على هذا البحث للمرة الأولى، أخبره حدسه بأنه غير صحيح. لكن بعد أن أمضى وقتًا في دراسة الورقة العلمية بتمعّن، بدأ يرى أن ما طرحه الباحثان يبدو مقنعًا بشكل مفاجئ، وعبّر عن حيرته قائلًا: "وجدت نفسي عالقًا في حالة تراكب غير مريحة، بين أن أوافقهما الرأي.. وألا أوافقهما". وبغضّ النظر عمّا ستؤول إليه الأمور، يأمل بوبسكو أن يُسهم بحثه مع كولينز في هدم الاقتناع الراسخ بأننا لن نتقدم أبدًا في فهم نظرية الكم. وفي النهاية، يختتم بوبسكو حديثه قائلا: "من الشائع أن يُقال إن ميكانيكا الكم عصيّة على الفهم، ولا يوجد من يفهمها. حسنًا! إننا هنا على الأقل نحاول أن نبني هذا الفهم خطوةً بخطوة".