
خطاب الملك أمام البرلمان الأوروبي: مرافعة دولة في وجه انحلال العالم
صراحة نيوز- النائب الكابتن زهير محمد الخشمان
حين يفقد العالم أدوات التمييز بين الجريمة والموقف، ويصبح الحق وجهة نظر، وتُستبدل القيم بالمصالح، لا يعود الحديث عن حياد أو توازن، بل عن عطبٍ عميق في النظام الدولي ذاته. في هذه اللحظة، وفي قلب أوروبا، وقف جلالة الملك عبدالله الثاني، لا ليجامل ولا ليهادن، بل ليواجه. لم يكن خطابه أمام البرلمان الأوروبي مجاملة دبلوماسية، بل مواجهة صريحة مع ما وصفه جلالته بأنه 'فقدان للبوصلة الأخلاقية' في نظام عالمي بات يتعايش مع المجازر كما يتعايش مع مؤشرات الأسواق. هذا ليس خطابًا تقليديًا لدولة صغيرة تُطالب بالتضامن، بل مرافعة استثنائية لقائدٍ يُعلن من موقعه أن انهيار القيم ليس أزمة خطاب، بل تهديد مباشر لبقاء العالم الذي نعرفه.
في لحظة انكشاف عجز المجتمع الدولي عن مواجهة آلة القتل في غزة، لم يتردد جلالة الملك في تسمية الأشياء بمسمياتها، وتوصيف حالة الانحطاط الأخلاقي الذي تشهده المنظومة الدولية. استدعى جلالته تسلسل الانهيارات التي عصفت بالعالم خلال السنوات الأخيرة، من جائحة كورونا إلى الحرب في أوكرانيا، ومن فوضى المعلومات المضللة إلى المجازر المفتوحة في غزة، وصولًا إلى التصعيد الإقليمي مع إيران. لكنه لم يتوقف عند حدود السرد، بل قفز إلى قلب المعادلة، ليقول إن هذا التراكم لم يُنتج فقط اضطرابًا سياسيًا، بل أزمة في القيم ذاتها. لقد أصبح العالم، كما قال جلالته، بلا بوصلة، حيث تتبدل الحقيقة كل ساعة، وتتآكل القواعد، ويزدهر التطرف تحت غطاء العجز الدولي.
وفي مشهد غير مسبوق في صدقه ومباشرته، وضع الملك الجميع أمام سؤال أخلاقي مُحرج: كيف أصبح ما كان يُعتبر وحشيًا قبل عشرين شهرًا أمرًا اعتياديًا بالكاد يُذكر؟ كيف أصبحت المجازر في غزة، واستهداف الأطفال، وتجويع السكان، وقصف المستشفيات، تفاصيل هامشية في نشرات الأخبار؟ لم يكن هذا تساؤلًا بل اتهامًا، لا لمجرم واحد، بل لمنظومة دولية كاملة قررت أن تتواطأ بالصمت، أو بالإنكار، أو بالتبرير. لقد قالها الملك بوضوح: ما يجري في غزة ليس مأساة محلية، بل فضيحة أخلاقية عالمية، واختبارٌ فشلت فيه الإنسانية مجتمعة.
لكن الخطاب لم يكتفِ بإدانة الواقع، بل قدم صياغة بديلة للقيادة السياسية الحديثة، حين أعاد جلالته تعريف مفاهيم الأمن والاستقرار والشرعية. قالها صراحة: السلام الحقيقي لا يُبنى على الخوف، والأمن لا يُصنع بالترسانات، بل بالقيم المشتركة. هذه ليست مثالية، بل استراتيجية سياسية تُعيد الاعتبار لمعنى الدولة، ومعنى النظام العالمي، بعد أن كادت تختطفه القوة الغاشمة والمصالح العارية. هذا النوع من الخطاب لا يصدر عن دولة تبحث عن التموضع، بل عن دولة تعرف موقعها، وتدرك وزنها، وتُدافع عن المعنى لا عن الدور فقط.
ومن هذه الرؤية العميقة، كانت عودة الملك إلى قضية القدس، لا من زاوية الانتماء الديني فقط، بل من منظور السيادة والشرعية القانونية والسياسية. حين تحدث جلالته عن الوصاية الهاشمية، لم يُقدّمها بوصفها إرثًا هاشميًا وحسب، بل تعهّدًا قانونيًا وأخلاقيًا مرتبطًا بالعهدة العمرية وباتفاقيات جنيف، وبحماية هوية مدينة تتعرض للطمس الممنهج. لقد كانت هذه الفقرة من الخطاب إعادة تثبيت علني لدور الأردن كحامٍ للقدس، لا بوصفه طرفًا في نزاع، بل بصفته دولة تحمل تكليفًا تاريخيًا لا تُفرّط به مهما تخلّى الآخرون.
ثم عاد الملك ليُواجه العالم، لا فقط بوصف الواقع، بل بتحديه: إن لم يتحرك العالم لإنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، فإن كل حديث عن القيم والقانون الدولي يصبح محض هراء. وإذا استمرت الجرافات الإسرائيلية بهدم المنازل والبساتين، فإنها لا تهدم الحجر فقط، بل تهدم 'الحدود الأخلاقية' ذاتها، وتُعيد تعريف الإنسانية بعبارات لا تشبه العدالة ولا تمتّ لها بصلة.
في الخاتمة، رسم جلالته ملامح الخيار الاستراتيجي المتاح: إمّا أن نُعيد بناء العالم على أساس القانون والتعاون والمبادئ، أو أن نواصل الانحدار نحو نظام دولي بلا مرجعية، وبلا كوابح، وبلا مستقبل. ولم يكن حديثه عن 'شراكة الأردن مع أوروبا' عرضًا للمساعدة، بل إعلانًا عن موقع سياسي لأردنٍ لا يزال يرفض أن يكون شاهد زور على سقوط المعنى، ولا يزال يؤمن أن القيادة في هذا العصر تبدأ بامتلاك الشجاعة لقول ما لا يجرؤ الآخرون على قوله.
هكذا، جاء خطاب جلالة الملك عبدالله الثاني في البرلمان الأوروبي مختلفًا عن كل ما قيل في تلك القاعة من قبل. لم يكن خطاب مناسبة، بل موقف دولة. لم يكن دعوة للسلام فقط، بل مواجهة صريحة مع نظام دولي بدأ يتعفن أخلاقيًا. وفي زمن تمتلئ فيه القاعات بالخطب، قلّما تجد قائدًا يملأ الفراغ بمعنى. الملك فعلها. باسم الأردن… وباسم الضمير الإنساني.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


خبرني
منذ 23 دقائق
- خبرني
الاتحاد الأوروبي يفعل آلية لإجلاء مواطنيه من منطقة الشرق الأوسط
خبرني - أعلن الاتحاد الأوروبي عن تفعيل آلية الحماية المدنية لمساعدة الدول الأعضاء على إجلاء مواطنيها من منطقة الشرق الأوسط، في ظل التصعيد العسكري المتزايد بين إسرائيل وإيران. وقالت الممثلة العليا للشؤون الخارجية والأمن في الاتحاد الأوروبي، كايا كالاس، عقب اجتماع طارئ لوزراء خارجية الاتحاد، إن الاتحاد يعمل على مساعدة مواطنيه الراغبين في المغادرة.


خبرني
منذ 24 دقائق
- خبرني
الأردن..ما مصير امتحان التوجيهي يوم عطلة رأس السنة الهجرية؟
خبرني - أعلنت وزارة التربية والتعليم، أنه لا تغيير على موعد امتحان الثانوية العامة المقرر في يوم 26 حزيران (العطلة الرسمية) وأن الامتحان سيبقى في موعده. وأضافت الوزارة، أنه صادف في الدورة الصيفية الماضية عطلة رأس السنة الهجرية في أحد أيام الامتحانات، ولم يجر عليه أي تغيير وبقي في موعده، كما أن الاختبارات المدرسية كانت تعقد أيام السبت وهي أيام عطل. وكان رئيس الوزراء جعفر حسَّان، قرر في بلاغ رسمي، تعطيل جميع الوزارات والدَّوائر الرسميَّة، والمؤسَّسات والهيئات العامَّة، والجامعات الرَّسميَّة، والبلديات ومجالس الخدمات المشتركة، وأمانة عمَّان الكبرى، والشركات المملوكة بالكامل للحكومة، يوم الخميس السَّادس والعشرين من حزيران الجاري، الموافق للأول من محرَّم لسنة 1447 هجريَّة؛ بمناسبة حلول رأس السنة الهجريَّة. واستثنى البلاغ الوزارات والدوائر الرسمية والمؤسسات التي تقتضي طبيعة عملها خلاف ذلك.


خبرني
منذ 24 دقائق
- خبرني
خطاب الملك عبدالله الثاني: الخطاب الأقوى من قلب الشرق الأوسط
خبرني - في الأردن، لا نسمع فقط صوت الصواريخ الإيرانية المتجهة نحو إسرائيل، بل نسمع أيضًا صوتًا خافتًا من بعيد يعلن عن تدخلات إقليمية ودولية لا تبشر بالخير. واليوم يخترق غبار الصراع خطاب ملك الأردن في البرلمان الأوروبي. لن أتحدث عن السياسة أو الحرب، وانما ما استحوذ على انتباهي هو جودة الخطاب وقوته. لم يكن خطابًا سياسيًا بحتًا، ولا شعبويًا، ولا دينيًا، ولا شعاراتيًا. ولهذا، وكمتخصص في التواصل، حاولت أن أضع جانبًا حبي لجلالته واعتزازي به كأردني، وأن أركز على مكونات الخطاب الناجح. المتغير الأول لنجاح الخطاب هو الافتتاح بالاتصال والهيبة، والبدء بتحية رسمية تحترم القيم والسياق الثقافي للجمهور. فبدأ جلالته خطابه بقوله: "بسم الله الرحمن الرحيم... السيد الرئيس، السادة الأعضاء المحترمون..." فأسس بذلك فورًا لعمق ثقافي ونبرة رسمية مؤثرة. المتغير الثاني هو استخدام السرد القصصي والقيم المشتركة. على سبيل المثال، استشهد جلالته بالعهدة العمرية، حيث أمر الخليفة عمر بن الخطاب المسلمين بحماية كنائس القدس وعدم إيذاء قسيس أو قتل طفل أو امرأة أو شيخ عند استلام إدارة المدينة. كما أشار إلى اتفاقيات جنيف، ليرسخ خطابه في مبادئ إنسانية تشترك فيها البشرية منذ قرون. المتغير الثالث هو بناء الإطار من خلال أسئلة "ماذا لو؟". ومن خطابه أقتبس: "ماذا لو بقيت القدس موضع نزاع؟ ماذا لو انهارت سوريا أو ليبيا؟ ماذا لو تُرك الشباب بلا أمل؟" وهي أسئلة تجبر المستمع على التفكير العميق واتخاذ موقف ذهني فعّال. المتغير الرابع هو العمق العاطفي والوضوح الأخلاقي، وكانت غزة المثال الأبرز، حيث قال: "خلافًا للقانون الدولي والمعايير الأخلاقية والقيم المشتركة..." ليقدم نداءً إنسانيًا صادقًا ومؤلمًا. المتغير الخامس هو تحقيق التوازن بين الواقعية والأمل. لم يتجنب جلالته الحديث عن اضطرابات المنطقة، لكنه أكد أن: "الأمن الحقيقي يكمن في القيم المشتركة، لا في الجيوش..." وأن: "هناك دائمًا نسخة أفضل وأكثر اتحادًا منّا في كل زاوية قادمة." المتغير السادس هو النداءات الموثوقة والتوقفات الاستراتيجية. تكرار عبارة "ماذا لو..." متبوعة بتصريحات حاسمة مثل: "الصبر صعب... لكن القيادة تتطلب..." جاء بها ليعكس عزيمة موزونة لا تعرف الانفعال. المتغير السابع والأخير هو الخاتمة بنداء للوحدة والعمل المشترك. فقد ختم جلالته خطابه مستشهدًا بحكمة والده الراحل الملك الحسين بن طلال: "صنع السلام هو الطريق الأصعب، لكنه الطريق الأسمى..." ثم وجّه دعوة للتعاون مع أوروبا قائلاً: "معًا، يمكننا أن نبلغ المستقبل الذي يستحقه شعوبنا." لقد كان خطاب جلالة الملك نداءً جريئًا للعدالة والسلام، وتنبيهًا حادًا بالمخاطر الإقليمية والعالمية، ورسالة قوية ضد كراهية الإسلام ودعوة للتعايش الإنساني. ومن منظور خبير في الاتصال، فإن هذا الخطاب هو الخطاب الأقوى من قلب الشرق الأوسط، لأنه جمع بين القيادة العاطفية والرسائل الاستراتيجية. حيث تميز أسلوب جلالته بالتالي بالأصالة ووزن أخلاقي راسخ، فطنة ثقافية تلتقي بمنطق عالمي، هيكلية تضع الجمهور في مركز الرسالة، ومزيج بين الإلحاح والأمل. لقد ألقى جلالة الملك عبدالله الثاني خطابًا قد يُعتبر بحق الأقوى في الشرق الأوسط المعاصر ودرسًا متكاملًا في فن الإلقاء والخطاب السياسي. رسّخ رسالته في الإرث والقيم الأخلاقية، واصطحب جمهوره في سردٍ مقنع انتقل بهم من القلق إلى اليقين، وتحدث بوضوح عن تعقيدات الجغرافيا السياسية بينما لامس مشاعر الإنسان بعمق. والأهم، أنه أنهى خطابه بنداء موحد، يتطلع إلى الأمام، يستند إلى الهوية، والاحترام المتبادل، والمسؤولية المشتركة. إنه خطاب يشكل نموذجًا حقيقيًا لكيف يمكن للكلمات عندما تتناغم مع السياق والهدف والأسلوب بأن تتجاوز البروتوكول، وتصبح أدوات للتغيير والإلهام