
سرديات مُتضاربة... وجمهور تائه!
والشاهد أن هذا التنظير لا يزال بارعاً وصالحاً لتفسير الواقع الاجتماعي والسياسي؛ فرغم مرور قرون كثيرة، وكثافة المراجعات والاختراقات العلمية والبحثية في مجال علم الاجتماع، فإنه يظل قادراً على النهوض مُفسراً ومُحفزاً لعمليات «الضبط الاجتماعي» في مختلف البلدان من جانب، ومرشداً للسلطة الاستراتيجية في كل مجتمع، إذا أرادت بلوغ الدرجة اللازمة للضبط، من أجل تحقيق الاستقرار والتطور، من جانب آخر.
ولكن علماء آخرين أتوا لاحقاً وحاولوا تطوير نظرية «الضبط الاجتماعي»، واستكشاف عناصره وآلياته؛ ومنهم عالم الاجتماع إدوارد روس، الذي حدد وسائل «الضبط الاجتماعي» في خمس عشرة وسيلة، وقد وضع على رأسها قاطبة «الرأي العام».
يرى روس أن «الضبط الاجتماعي» عبارة عن «نظام الأدوات التي تجعل المجتمع وأفراده متوافقين مع المعايير المقبولة للسلوك»، وقد عرفنا سابقاً أن كل مجتمع في حاجة ماسة إلى آليات واضحة لتحديد نظام الأدوات هذا، والتمكن من التأثير فيه واستخدامه، من أجل قيادة الجمهور، وسيكون «الرأي العام» في هذه الحالة وسيلة مُثلَى لتكريس مفاهيم معينة، وانتخاب مواقف وأنماط سلوك قادرة على مواكبتها والتوافق معها.
وهنا، سيضحى الإعلام رأس حربة في عملية تشكيل «الرأي العام»؛ حيث سيقوم بهذا الدور من خلال عدد من العمليات الرئيسة؛ مثل تشكيل إطار القضايا التي يجب أن يهتم بها المجتمع، ثم ترتيبها في أولويات، وصولاً إلى تأويلها على نحو يخدم أهداف السلطة الاستراتيجية ورؤيتها، وقبل هذا كله سيكون لزاماً عليه تدقيق ما هو نافع وما هو مُضر، وتحقيق ما هو إيجابي وما هو سلبي، وفرز ما هو صادق عما هو كاذب.
لقد كانت هذه المهمة سهلة وميسورة في العصور التي خَلَت؛ إذ كان من السهل جداً التحكم في فضاء «الرأي العام» الخاص بكل مجتمع من المجتمعات إلى درجة كبيرة، عبر تفعيل آليات السيادة على المجال الإعلامي، والتحكم في الرسائل التي تصل إلى أفراد الجمهور؛ بل وتأويلها على النحو الذي يخدم أهداف السلطة الرامية إلى إحداث عملية «الضبط الاجتماعي».
ولكن المجال الإعلامي تغيَّر تغيراً فارقاً مع فورة تكنولوجيا الاتصال، وظهور شبكة «الإنترنت» بتجلياتها المُذهلة، ومعها طوفان وسائل «التواصل الاجتماعي»، وممكنات الذكاء الاصطناعي المُستحدثة.
وأدت هذه التطورات المتسارعة، وغير القابلة للتحكم في معظم الأحيان، إلى تضعضع قدرة الدولة الوطنية على ضبط المجال الاتصالي، ومن ثمَّ فقدان القدر الأكبر من السيطرة على أداة «الضبط الاجتماعي» الأولى... أي «الرأي العام».
وقد انقسم العالم في هذا الصدد إلى قسمين رئيسين: أولهما رأى ضرورةً في عزل المجتمع عن المؤثرات غير القابلة للسيطرة، وهنا ظهرت فكرة «الإنترنت السيادي»، أو «العزلة الرقمية» التي تجسدت في جدران تكنولوجية وإجراءات قانونية استهدفت عزل المجال الوطني عن المؤثرات الخارجية اتصالياً؛ كما حدث في دول مثل: الصين وكوريا الشمالية بشكل كلي، وروسيا وإيران بشكل جزئي. أما القسم الثاني، فقد ضم الدول التي وجدت صعوبة بالغة في بناء «العزلة الرقمية» لاعتبارات سياسية وحقوقية واقتصادية مُهمة؛ وعوضاً عن ذلك فإنها لجأت إلى دخول المعترك بأدواته نفسها، فراحت تستخدم وسائط الإعلام المختلفة في محاولة تشكيل إطار القضايا المناسب لها، ثم ترتيب أولوياتها للجمهور، قبل العمل على تأويلها على النحو الذي يخدم أهدافها.
وفي هذا القسم الثاني، ستقع معظم دول العالم «الحُر» في أوروبا وأميركا الشمالية، ومعها أيضاً دول من مختلف قارات العالم؛ ومنها الدول العربية؛ حيث أظهرت السلطات في هذه المجتمعات كلها اهتماماً كبيراً بإحداث «الضبط الاجتماعي» المطلوب، عبر التفاعل «المُنفتح»، ومن خلال بث رسائلها المُختارة، والإلحاح عليها بشتى الوسائل.
ولما كانت أهداف تلك الدول مختلفة، ومصالحها مُتضاربة، ونطاق رسائلها مُتاحاً لكثير من الفاعلين، فقد تحول الوسط الاتصالي الذي تنشط فيه إلى مجال مفتوح للرسائل المُتناقضة، والتأويلات المُتنافسة.
وهنا، سيغرق الجمهور في سيل متدفق من السرديات المُتضاربة والمحتوى المُتباين، ولن يكون في وسعه الركون إلى معنى واضح، أو سردية مُتفق عليها، أو «حقيقة»؛ لأن أدوات التزييف، والتأويل المغرض، ستتكاتف لإغراقه في بحر من الأكاذيب والتضليل.
ولذلك، فإن أفراد الجمهور أضحوا غير قادرين، وسط طوفان السرديات المُتضاربة هذا، على التماس «حقيقة» واحدة، أو تحقق من صحة خبر مُفرد، أو توافق على معنى مُحدد للمصلحة العامة.
إنه عالم كامل من التزييف والسرديات المُتضاربة، تزداد المعلومات فيه، وتغيب الحقائق... ويبقى الجمهور تائهاً، من دون يقين، أو بصيرة.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الشرق الأوسط
منذ 10 ساعات
- الشرق الأوسط
الخارجية الفلسطينية تدين اعتداء مستوطنين على بلدة «الطيبة» قرب رام الله
أدانت وزارة الخارجية الفلسطينية واللجنة الرئاسية العليا لمتابعة شؤون الكنائس في فلسطين، يوم الاثنين، اعتداءً جديداً شنه مستوطنون على بلدة «الطيبة»، ذات الغالبية المسيحية والواقعة شمال شرقي مدينة رام الله بالضفة الغربية، التي شهدت هجمات سابقة. وكان مستوطنون قد هاجموا البلدة فجر الاثنين وأحرقوا مزروعات ومركبتين، وكتبوا شعارات عنصرية على جدران بعض المنازل، ويبدو أنهم خططوا لإحراق بيوت على ساكنيها كما يتضح من روايات بعض الشهود. وقالت وزارة الخارجية في بيان: «نعتبر الاعتداء استخفافاً بردود الفعل الدولية التي أعقبت هجماتهم السابقة على البلدة ومقابرها وكنيستها». ولفتت الوزارة إلى أنها «تتابع استباحة ميليشيات المستوطنين لعموم الضفة الغربية المحتلة، ونهب الأرض الفلسطينية، مع الدول ومكونات المجتمع الدولي وهيئاته القضائية». أبقار يملكها مستوطنون تسعى على مشارف بلدة «الطيبة» المسيحية شمال شرقي رام الله يوم الاثنين (أ.ف.ب) وقالت إن ردود الفعل الدولية على اعتداءات المستوطنين غير كافية «ولا ترتقي لمستوى ما يتعرض له الشعب الفلسطيني»، وطالبت باتخاذ «إجراءات دولية رادعة تجبر الحكومة الإسرائيلية على وضع حد لتلك الاعتداءات والجرائم، واعتقال ومحاسبة مرتكبيها». أصدرت أيضاً اللجنة الرئاسية لمتابعة شؤون الكنائس بياناً قالت فيه إن الاعتداء الأخير «ليس حدثاً معزولاً، بل يأتي ضمن سلسلة من الهجمات المتكررة التي تتعرض لها الطيبة، وترى فيها جزءاً من سياسة تهجير منهجية، تستهدف الوجود المسيحي في فلسطين، وتسعى إلى تغيير الطابع التاريخي والديني للبلدة». ودعت اللجنة كنائس العالم وممثلي الدول إلى الضغط على حكوماتهم من أجل التحرك العاجل ووقف هذه الانتهاكات، وضمان حماية المقدسات والسكان، وفقاً لما ينص عليه القانون الدولي ومواثيق حقوق الإنسان. وشهدت بلدة «الطيبة» سلسلة اعتداءات خلال الشهرين الأخيرين، بدأت في الرابع من يونيو (حزيران) الماضي، حيث أقام مستوطنون بؤرة استيطانية جديدة على أنقاض بيوت عائلة فلسطينية جرى تهجيرها قبل نحو عام، بعد سلسلة هجمات عنيفة. وفي السابع من يوليو (تموز) الحالي أضرم مستوطنون النار في موقع ملاصق لكنيسة القديس جاورجيوس (الخضر) التاريخية في البلدة والمقبرة التابعة لها. وعلى إثر الاعتداء الثاني، زار السفير الأميركي في إسرائيل، مايك هاكابي، البلدة تعبيراً عن تضامنه ورفضه أي اعتداء على أماكن العبادة، مسيحية كانت أو إسلامية أو يهودية. السفير الأميركي لدى إسرائيل مايك هاكابي خلال زيارته قرية الطيبة قرب رام الله - 19 يوليو 2025 (أ.ف.ب) وأثارت زيارته ردود فعل حادة في إسرائيل، إذ إنه معروف بتأييد المستوطنين ورفضه لفكرة إقامة دولة فلسطينية. وخشي المستوطنون أن يكون قد تراجع عن مواقفه. غير أن السفير الأميركي زار أيضاً مستوطنات، ليؤكد أنه على موقفه، وأن زيارته بلدة «الطيبة» لا تعني تراجعاً. ويشير الفلسطينيون إلى اعتداءات سابقة على بلدتين مسيحيتين قرب بيت لحم. وفي 17 من الشهر الحالي، أدان بطاركة ورؤساء الكنائس في القدس قصف كنيسة «العائلة المقدسة» الكاثوليكية في غزة، الذي ألحق أضراراً جسيمة بمبنى الكنيسة، وأسقط ثلاثة قتلى وعشرة مصابين، من بينهم كاهن الرعية الأب جبرائيل رومانيللي، وعدد من المواطنين المسلمين والمسيحيين الذين لجأوا إلى الكنيسة اتقاء للعمليات العسكرية. الأب جبرائيل رومانيللي يتلقى الرعاية الطبية بعد إصابته بجروح في ساقه جراء غارة إسرائيلية على كنيسة العائلة المقدسة بغزة (رويترز) ووفق معطيات هيئة مقاومة الجدار والاستيطان الفلسطينية، وهي هيئة حكومية، نفذ المستوطنون خلال النصف الأول من العام الحالي 2153 اعتداء، تسببت في مقتل 4 فلسطينيين. ومنذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، صعد الجيش الإسرائيلي والمستوطنون اعتداءاتهم بالضفة، بما فيها القدس الشرقية، ما أدى إلى مقتل 1008 فلسطينيين على الأقل، وإصابة نحو 7 آلاف آخرين، بالتزامن مع الحرب في غزة.


العربية
منذ 10 ساعات
- العربية
رئيس وزراء فلسطين: على حماس التخلي عن سيطرتها على غزة
أعلن رئيس الوزراء الفلسطيني محمد مصطفى الاثنين أنه يتعيّن على حماس إلقاء السلاح والتخلي عن سيطرتها على غزة للسلطة لاستعادة الأمن في القطاع الذي دمرته الحرب. وقال مصطفى، خلال مؤتمر في الأمم المتحدة حول إحياء مسار حل الدولتين لتسوية النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي: "يجب أن تنسحب إسرائيل بالكامل من قطاع غزة ويجب على حماس التخلي عن سيطرتها على القطاع وتسليم سلاحها للسلطة الفلسطينية"، وفق فرانس برس. كما أوضح أن السلطة الفلسطينية مستعدة لتولي المسؤولية الكاملة في غزة. كذلك أردف أن "حرب الإبادة يجب أن تتوقف فوراً". "نقطة تحول" ومضى مصطفى قائلاً إن "مؤتمر حل الدولتين يجب أن يشكل نقطة تحول تترجم المواقف إلى خطوات". كما أضاف: "نريد دولة فلسطينية حرة ومتطورة وذات سيادة يفخر بها الجميع". كذلك شدد على أن "الاعتراف بدولة فلسطين استثمار بالأمن والسلام والاستقرار".


الرياض
منذ 13 ساعات
- الرياض
"التحالف الإسلامي" يُدرّب كوادر القُمر على مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب
بحضور مدير مكتب رئيس جمهورية القمر المتحدة المكلف بالدفاع يوسف محمد علي، وعدد من أصحاب المعالي والسعادة من مدنيين وعسكريين، انطلقت اليوم الإثنين في العاصمة القُمريّة موروني أعمال الدورة التدريبية المتخصصة التي ينظمها التحالف الإسلامي العسكري لمحاربة الإرهاب، وتستمر على مدار خمسة أيام، تحت عنوان: "محاربة تمويل الإرهاب وغسل الأموال ـ المستوى التأسيسي"، وذلك ضمن مبادرة "بناء" الاستراتيجية، الهادفة إلى تعزيز القدرات المؤسسية والأمنية في مواجهة الجرائم المالية وغسل الأموال. وأكد مدير مكتب رئيس الجمهورية المكلف بالدفاع بجمهورية القمر المتحدة، في كلمته خلال حفل الافتتاح، أن مخططات غسل الأموال في تطور مستمر، مستغلةً الثغرات والغموض، مما يستدعي رداً جماعياً ومنظماً يعزز جهود التصدي لهذه الآفات. واعتبر أن انعقاد هذه الدورة التدريبية بتنظيم من التحالف الإسلامي، يشكل خطوة استراتيجية مهمة لتعزيز القدرات المؤسسية، مشدداً على أن محاربة غسل الأموال وتمويل الإرهاب مسؤولية جماعية والتزام وطني يسهم في بناء اقتصاد أكثر صحة ودولة أكثر أمناً. كما أشار إلى أهمية تمكين المشاركين من فهم الالتزامات القانونية والتنظيمية ذات الصلة، والعمل على ترسيخ قيم الشفافية وثقافة الامتثال في المؤسسات الوطنية. وتهدف الدورة إلى بناء معرفة شاملة لدى المشاركين حول الأطر القانونية الوطنية والدولية ذات الصلة بمحاربة تمويل الإرهاب وغسل الأموال، وتعزيز الكفاءة في استخدام الأدوات التقنية الحديثة لتحليل البيانات المالية والكشف عن الأنشطة المشبوهة. كما تسعى إلى رفع مستوى الوعي العام بمخاطر هذه الجرائم، وتطوير آليات فعالة للوقاية والتنسيق بين الجهات الرقابية والأمنية والمالية، على المستويين المحلي والدولي. ويشارك في الدورة عدد من الجهات الفاعلة، تشمل الجهات الرقابية والعدلية، ووزارة الداخلية ومؤسسات إنفاذ القانون، والمؤسسات المالية، والجهات العاملة في قطاع الأعمال والمهن غير المالية، إلى جانب المؤسسات الغير ربحية. وتُركز الدورة على عدد من المحاور الرئيسة، من أبرزها: الإطار القانوني لمحاربة تمويل الإرهاب وغسل الأموال، بما يشمل الاتفاقيات الدولية ذات الصلة، مثل اتفاقية الأمم المتحدة لقمع تمويل الإرهاب، والتشريعات الوطنية ذات العلاقة؛ إلى جانب استعراض مصادر وأدوات الجرائم المالية، مثل الحوالات البنكية، والعملات الرقمية، والتبرعات. كما تشمل محاور الدورة: تحليل الأنماط وتقنيات الكشف المالي من خلال تطبيقات عملية، والتعاون الدولي والإقليمي في تبادل المعلومات وملاحقة الجرائم عبر الحدود، واستراتيجيات الوقاية وبناء خطط وطنية للامتثال والإبلاغ، بالإضافة إلى برامج التوعية والتدريب، مع التركيز على دور الإعلام في نشر الثقافة المجتمعية حول مخاطر الجرائم المالية، وتصميم برامج تدريبية مستدامة تستهدف العاملين في القطاعين المالي وغير المالي. وتأتي هذه الدورة في سياق جهود التحالف الإسلامي العسكري لمحاربة الإرهاب لتعزيز التعاون الدولي وتطوير وتأهيل الكفاءات الوطنية المدنية منها والعسكرية لمجابهة الاحتيال المالي وعمليات غسل الأموال، و أيضاً توفير بيئة تدريبية احترافية تسهم في بناء منظومات متكاملة وفعّالة لمواجهة التهديدات المالية المرتبطة بالإرهاب.