
'سيرك' الإعلام المحلي: مهرّجون بأرقام مسؤولين
الغبزوري السكناوي. في مدينتي، حيث صار كل شيء قابلًا للتقسيط، حتى المبادئ، برز كائن هجين، نصفه 'صحفي' لا يعرف الكتابة، ونصفه 'جمعوي' بلا مشروع، جيل جديد من الكائنات الإعلامية لا شهادات لديها، ولا تكوين، ولا إلمام بقواعد اللغة أو أخلاقيات المهنة، لكنهم يملكون شيئًا أغلى من كل ذلك، حساب 'فيسبوك' وكلمة مرور إلى الفوضى غير الخلاقة في هذا الزمن السائل، خرجت من تحت أنقاض التواصل كائنات رقمية لا تفرّق بين العنوان والخبر، ولا بين النقل والتحريف. لكنها تجيد شيئًا واحدًا، الإبتزاز أو نحت الإنشاءات الحماسية في مواضيع لا تفهم منها سوى عدد 'الإعجابات'، لا يحمل بطاقة صحافة، لكنه يملك 'سكاي لاين' مع مسؤول يبحث عن 'سبق عاجل' لتصفية حساب إداري. هؤلاء صنفان لا ثالث لهما: مبتزّون يحلبون الشائعات كما تُحلب الأبقار الهزيلة في مواسم الجفاف، ومطيلون يكتبون في كل شيء ولا شيء، يوزّعون 'عواجلهم' كما تُوزع منشورات التخفيضات في نهاية الموسم، يكفي أن تكتب 'عاجل وخاص' حتى تتحوّل إشاعة مقهى إلى خبر رسمي يباركه صاحب الصفحة بنبرة يقين زائف. في مدينتي التي لا تنام، ليس لأنها حيوية ، بل لأنها محاصَرة بأصوات 'الخبر العاجل' المنبعثة من هواتف مشبوهة وصفحات أشبه بجلبة الحانات الرخيصة، المشكلة ليست في وجود هؤلاء، بل في رعايتهم، في تلميعهم، وفي دعوات رسمية إلى اللقاءات الإدارية، القضائية والأمنية العجب أن بعض المسؤولين والمنتخبين يتواصلون مع هؤلاء سرًا، يمدّونهم بـ 'خبر عاجل' كما يُسلَّم لغمًا موقوتًا، ويستخدمونهم لتصفية الحسابات كما تُصفى الكؤوس في جلسات المصالحة الفاشلة، شعارهم 'الخبر من مصدره'، والمصدر في الغالب رقم هاتفس مجهول أو قريب موظف يعرف كل شيء ولا يقول شيئًا. وحين يبلغ العبث ذروته، ترى بعض 'النافذين' يتفاخرون بتسليم المعطيات لهؤلاء، دون حرج أو تحقق، وكأنهم يمنحون وسام الشرف لمن يفرّغ المهنة من محتواها، فنقرأ شعارات مثل 'الخبر من مصدره… واليقين من عند الله'، بينما المصدر الحقيقي: 'ابن عمة الموظف'، أو 'جار صديق العضو'. لا يمكن أن نلوم هؤلاء كثيرًا؛ فهم نتاج تربية غير بريئة. من دلّلهم؟ من منحهم شرعية النشر وهم لا يفرّقون بين الرأي والخبر؟ إنه ببساطة ذلك المسؤول الذي لا يفتح بابه إلا لهاتفه الخاص، ويتعامل مع الإعلام كما يتعامل مع صنبور ماء: يفتحه عند الحاجة، ويتركه يفيض حين تخدمه الفوضى، ثم يدّعي الحياد وهو يطفو فوقها. الطامة الكبرى حين يجلس هؤلاء، وأغلبهم من أصحاب السوابق أو تجّار 'السمعة المستعملة'، في الصفوف الأولى للاجتماعات الرسمية، يُطلب منهم التقاط صور للمسؤولين وهم يبتسمون للكاميرا، فينشرونها مرفوقة بجمل باهتة مثل 'العامل في زيارة مفاجئة'، وكأنهم يغسلون بها أيديهم من فساد لغوي وأخلاقي. ثم يأتيك نفس المسؤول، الذي أرسل لهم الخبر وابتسم للصورة، ليرتدي عباءة النُصح القانوني ويحدثك عن 'الدخلاء' الذين غزوا الصحافة، ويكرر بأسى 'الصحافة لم تعد مهنة نبيلة، بل صارت وسيلة للابتزاز!' أحقًا؟ ومن أرضع هؤلاء من ثدي التسريبات الكاذية؟ من جلس معهم في مقاهٍ سرية يخطط ويوجّه ويموّل بالصمت؟ الخلاصة أن المشهد تحوّل إلى سيرك: المسؤول فيه مهرّج، والناشر بهلوان، والمواطن متفرج صامت في صالة انتظار الفرج، وفي عصر الرقمنة، لا عذر لأحد؛ فكل الإدارات تعرف، وكل المؤسسات تملك من أدوات الرصد ما يكفي لمعرفة من ينشر، وماذا، ولأي هدف، إلا إن كانت شريكة في الصمت أو الفوضى. فمن المسؤول؟ لا نحتاج إلى منجم أو خبير، لا نلوم أولئك المطبلين والمبتزّين بقدر ما نلوم من رعاهم، ربّاهم، وفتح لهم المجال، لم يأتوا من فراغ، بل من فراغ البعض. وحتى من يتباكى على المهنة قائلًا 'صارت الصحافة مهنة من لا مهنة له'، هو نفسه من ربّى هذه 'اللامهنة' في مكتبه، وسقاها من ميزانية المجاملة. وفي النهاية، نقولها كما هي:
من بنى عشه في فم التنين، لا يحق له أن يشكو من اللهيب.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


أخبارنا
منذ ساعة واحدة
- أخبارنا
حفل زفاف ينتهي بمأساة.. مصرع 40 شخصاً في تصادم حافلتين بتنزانيا
تسبب حادث تصادم عنيف بين حافلتين في تنزانيا بمصرع ما لا يقل عن 40 شخصاً وإصابة نحو 30 آخرين، في كارثة إنسانية هزّت البلاد. وقد اندلعت النيران في المركبتين فور وقوع الحادث، مما أدى إلى محاصرة عدد كبير من الركاب وسط ألسنة اللهب، وفق ما أوردته وسائل إعلام محلية. ووفقاً للتقارير الأولية، وقع الحادث مساء السبت في منطقة "ساباسابا" على الطريق السريع الذي يربط بين مدينتي "موشي" و"تانغا" في إقليم كليمنجارو شمال شرقي البلاد. وأشارت المصادر إلى أن إحدى الحافلتين كانت تقل ركاباً في طريقهم لحضور حفل زفاف، ما زاد من فداحة المأساة. في الأثناء، هرعت فرق الإطفاء والإنقاذ إلى مكان الحادث لمحاولة السيطرة على الحريق وانتشال الجثث، بينما نُقل المصابون بسرعة إلى مستشفيات المنطقة لتلقي العلاج. وأظهرت مشاهد مصورة سحب دخان كثيفة تتصاعد من مكان التصادم، وسط حالة من الهلع بين شهود العيان. وعقب الكارثة، عبّرت رئيسة تنزانيا سامية سولوهو حسن عن بالغ حزنها، مقدّمةً تعازيها الحارة لعائلات الضحايا، وداعيةً بالرحمة للموتى والشفاء العاجل للجرحى. وقالت في بيان رسمي: "أشارك أسر الضحايا آلامهم وأسأل الله أن يمنحهم الصبر والقوة لتجاوز هذا الظرف العصيب".


أكادير 24
منذ ساعة واحدة
- أكادير 24
آخر مقذوفات اليأس بمحيط مدينة سمارة المغربية
agadir24 – أكادير24 ما أثار الرأي العام وعموم المهتمّين بالشّأن المغاربي هو هذا الفضول لدى أغلبية ساكنة مدينة سمارة المغربية الذين سارعوا إلى خارج المدينة لأخذ صور سيلڨي مع ما يشبه مقذوفات انفجرت في الخلاء دون أن تحدث إلا ضجيجا عابراً عبور روائح العبير.. والحقيقة أنّ ماسمّي بالفضول هو تعبير عن المزاج العام المطمئن والآمن لساكنة مدينة على تمّاس مع أتباع شنقريحة العسكري.. لذلك سارعوا نحو مكان الانفجارات باعتبارها آخر مقذوفات لعصابة ذاهبة نحو الأفول والإندثار… هي الأجواء الإحتفالية بمدينتنا المجاهدة بالصوت والصورة وعلى مرمى حجر هناك في اتجاه تيندوف تجد شكل الإحتفال الوهمي عند ما يسمى الإذاعة الصحراوية عبر هذا البلاغ : ( بئر لحلو (الأراضي المحررة)، 27 يونيو 2025 (واص)- استهدفت وحدات جيش التحرير الشعبي الصحراوي قواعد العدو بقطاع السمارة ، مخلفة خسائر فادحة في الأرواح والمعدات ، حسب ما ورد في البلاغ العسكري الصادر عن المحافظة السياسية للجيش) ليتضح ان الخسائر الفادحة في الأرواح كانت بسبب الدرون المغربي بعد 25 دقيقة فقط من الإنفجارات مما يؤكد حسب الخبراء بأن فلول أفراد هذه العصابة كانت تحت المراقبة والترصد القبلي.. لكن الغير العادي هو ان تنقل التلفزية الجزائرية الرسمية هذا البلاغ مع ترجمته بالفرنسية ممّا يعدّ دليلا إضافيا على التورط الصريح للنظام الجزائري في زعزعة الأمن والاستقرار بالمنطقة، عبر رعاية وتسليح ميليشيات 'البوليساريو' الإنفصالية خاصة وأن كل المعطيات الميدانية تشير إلى أن العناصر الإرهابية انطلقت هذه المرّة من الأراضي الجزائرية بعد إغلاق نافذة موريتانيا بشكل صارم ونهائي.. وهي سابقة تدفع إلى التساؤل عن اختيار هذا الوقت بالضبط وسط رأي عام يسير في اتجاه تصنيف البوليزاريو منظمة إرهابية كما في القرار المشترك باسم الحزبين الجمهوري والديمقراطي المرفوع إلى مجلس الشيوخ الأمريكي إلى جانب تسريبات شبه رسمية تؤكد ان المملكة المغربية تكون قد رفعت في الأونة الأخيرة مشروع طلب طرد شبح الدولة بالاتحاد الإفريقي مع مؤشرات تليين موقف جنوب أفريقيا الذي احتضنت إحدى قاعاته الرسمية خريطة المغرب وبكامل حدوده الرسمية حد الگويرة.. هل من البلادة ان تطلق هذه المقذوفات في هذا التوقيت بالضبط…!؟ لا شكّ أن الجميع تابع سردية الجزائر بعد إيران والتي طغت مختلف المنصات الإعلامية هناك طيلة حرب 12 يوم الأخيرة..باعتبار الجزائر آخر قلاع الممانعة والصمود ضد الإستعمار والتوحش الإمبريالي الصهيوني المخزني.. والحقيقة أن أمنية الثنائي تبّون-شنقريحة ومن معه من أفراد العصابة هي ان يتحقّق شرف العدوان عليهم من طرف الصهيونية المخزنية بقيادة أمريكا لا لأنهم شرفاء العالم بل عصابة تبحث عن تبييض تاريخهم الإجرامي لا غير.. خاصة وقد مدّ الله في حياتهما إلى مرحلة تُسمى 'أرذل العمر' بأسوأ النهائيات لمشروعهم الإنفصالي لبلدنا.. ومن يعود إلى جرائد العصابة طيلة مدة ( حرب يوم12) سيعتقد ان المغرب قد شارك فيها إذ لا يخلو اي خبر عن الأحداث هناك دون ذكر اسم المغرب وبأسلوب التحايل والفبركة منها ان جنود مغاربة ماتوا باسرائيل جراء صاروخ إيراني.. و ان ملك البلاد ارسل مساعدات لوحييتيكية إلى نتانياهو.. 12يوم من مقذوفات إعلامية وبأكثر من ست عناوين على الاقل.. حتّى ان سقف الوقاحة بلغ بجريدة ( لوسوار دو لانجيري الفرنسية) بنشر مقال بعنوان الإرهاب عملة واحدة بوجهين تحت صورة ( نتانياهو – محمد السادس) هو سلوك عصابة تجاوزت مرحلة اليأس والإحباط نحو الانتحار بصفة مجرمي شعبهم أولا وشعوب المنطقة المغاربية ومحيطها القاري.. لذلك تجدهم يبحثون عن أي ذريعة لجر المنطقة نحو الحرب بإرسال هذه المقذوفات اليائسة نحو بلدنا هي العقلية السائدة في جزائر اليوم حيث لا يزال جميع مسؤولي الصف الأول تقريبا ينتظرون فرصة الإنتقام من المغرب باقتطاع الصحراء من تراب المملكة قبل أن يوضعوا في قبورهم لذلك لم يكن من الغريب ان نسمع زوجة الهواري بومدين ليلة امس بعد صمت طويل تؤكد في تصريح لإذاعة فرنسية على تقرير مصير الشعب الصحراوي بالصحراء الغربية نحن امام حالة انتحار نظام عصابة من الداخل عبر اللجوء إلى استيراد المسؤولين من الزمن السحيق، و بأوهام خارج السياق، بُنيت في زمن الحرب الباردة وما قبلها، وأصبحت الآن بالية عتيقة مُتجاوزة، لا تصلح إلا للمتاحف لاغير وهو يتابع بحسرة وألم كيف سارعت دول عديدة ومن مختلف القارات إلى أن المضي مع المغرب في اقتراحه لفك نزاع الصحراء تقتضي أولا الخروج من منطقة الراحة بخصوص هذا الملف الذي عمَّرَ لخمسين عاما.. بل هي الدينامية التى انخرطت فيها المحيط الجزائري نفسه مثل مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وحتى موريتانيا وما زالت العصابة تعيش على عقدة الماضي وغصة الإنتقام ورنين صوت 1963 ( حگرونا المغاربة) وما زال.. ( لأنكم شمايت… ماشي رجال) يوسف غريب كاتب صحفي


المغرب اليوم
منذ 2 ساعات
- المغرب اليوم
هل نتّجه إلى ما بعد السحر؟
يحقّ لكثيرين، كاتب هذه الأسطر واحدٌ منهم، أن يساورهم القلق بشأن الموقع المتضخّم الذي ستشغله إسرائيل – نتانياهو في المنطقة بعد تطوّراتها الإقليميّة الأخيرة، سيّما وقد تحطّمت أو انهارت بلدان المشرق العربيّ جميعاً. مع هذا، سوف يكون من الصعب، ومن الخطأ، عدم الانتباه إلى تحوّلات هائلة تحقّقت وفُرصٍ، لم تكن متوفّرة، توفّرت. فقبل السياسة وتوازناتها ونفوذ قواها الفاعلة، ربّما بات ممكناً نظريّاً انتقال المشرق، ذهنيّاً ونفسيّاً، إلى ما بعد السحر. وهذا ليس بالأمر البسيط منظوراً إليه بعين تاريخ المنطقة وتقاليدها. فقبل أن تنحسر العرافة والكهانة والتنجيم، زوّدنا العصر الحديث، خصوصاً من خلال جمال عبد الناصر، بطاقة سحريّة لا يُستهان بها، تنهزم لكنّها تنتصر، وتنكفىء لكنّها تعمّ وتسطع. ولم يتردّد شيوعيّو العراق، إبّان تحالفهم مع عبد الكريم قاسم، في رؤية صورته على وجه القمر، بينما أسبغ البعثيّون على صدّام حسين وحافظ الأسد مواصفات كان البدائيّون يطلقونها على آلهتهم. ومنذ أربعة عقود فُرض علينا أن نعيش مسحورين، أو أن نتصرّف كما لو أنّنا مسحورون من أجل أن نبدو «وطنيّين» و»طبيعيّين». وقد انطوى السحر هذا، بعدما عزّزه تعاظم العصبيّات الأهليّة والوعي الغيبيّ، وتراجع التعليم، وفَتك بعض القيادات الكاريزميّة بعقل جمهورها، على عناصر عدّة أهمّها صورتنا عن النفس وعن العالم. فقد عُزيت إلى النفس قوّةٌ خرافيّة قيل معها إنّ «زمن الهزائم ولّى»، بحسب عبارة شهيرة لحسن نصر الله. وبدل تطوير حسٍّ نقديّ حيال الذات بقصورها ونواقصها، غدت هذه الذات «أشرف الناس»، فيما لاح «العدوّ» «أوهن من بيت العنكبوت». وبدورها جُعلت الملاحم وثنائيّات الخير والشرّ المطلقين مضموناً للسياسة ووسيلة لتعقّلها. هكذا بات هتاف «الموت لـ...» أقرب إلى نشيد تنشده حنجرة جماعيّة لا تتعب. أمّا «العدوّ» فصارت عداوته من صنف الأفعال القَدَريّة، لا يغيّرها إلاّ فناؤه أو فناؤنا. كذلك أضحى فضاء المنطقة مكاناً تسرح فيه الشياطين والعفاريت، بالكبير منها والصغير، وتمرح. وكانت الأداة الفضلى لإمرار هذه الجرعة السحريّة وإجازتها تكذيب ما يقوله الواقع ونفي ما تقوله التجارب الحسيّة. وعلى هذا النحو، ومن غير انقطاع، غدت الهزيمة انتصاراً والانتصارُ هزيمة، وصارت الثقافةُ «ثقافةَ المقاومة» التي لا تنتج أدباً أو أفكاراً أو فنّاً أو مسرحاً أو موسيقى، وهذا بينما الحرّيّة والتقدّم تلازمهما عبادة طوطم أعلى منزّه. وإذ صُوّر الموت طريقاً إلى سعادة خالصة، أُطلقت على الحاضر البائس أوصاف مثلى: ذاك أنّ مجرّد وجود المقاومة في هذا الحاضر برهان على تفوّقه على كلّ ماضٍ. أمّا المنطق الضمنيّ لحسبة كهذه فمفاده أنّ المقاومة تلك تلغي كلّ حاجة إلى اقتصاد أفضل واستقرار أمتن وتعليم أحسن وحرّيّات أكثر... وبموجب ما تمليه «مطاردة الساحرات»، راحت تهم الخيانة والعمالة وما شاكلها تستهدف كلّ مَن تردعه مناعته عن الانسحار، مفضّلاً الاحتكام إلى العقل، أو الاستنجاد بالحقائق. ذاك أنّ السحر «الوطنيّ» يستدعي القول، مثلاً لا حصراً، إنّ عمليّة 7 أكتوبر ستحرّر فلسطين، أو التسليم بأنّ سلاح الحوثيّين سوف «يركّع إسرائيل وأميركا»... وهكذا غدا الكذب، بمعنييه البسيط والأيديولوجيّ، هو القاعدة، وغدا الوطنيّ المقبول مَن يقول إنّ 1 + 1 = 5، فيما التشهير يلاحق مَن يصرّون على أنّ 1 + 1 = 2. ولأنّ السحر غالباً ما يتطلّب المشهد والمشهديّة، حضرت الحشود في الساحات العامّة لدعمه ولتعزيزه. فالمطلوب لإحداث التأثير الأوسع استخدامُ التماثل في حركة الأجساد، وتلويحها بالقبضات، وهتافها الذي تصرخه الحناجر كلّها في اللحظة نفسها. فبهذا جميعاً يُغزَى الواقع بالمستحيل، ويُدمج فعل الإنسان في فعل الطبيعة الذي لا يُردّ، وهكذا تكون المعجزات. ونعرف كيف برعت النازيّة الألمانيّة في الهندسات الجماليّة التي انكبّ عليها مهندس عمارة كألبرت شبير أو سينمائيّة ومصوّرة كليني رِفنستال حيث دوماً ينتصر «الإيمان» وتنتصر «الإرادة». وكان جوزيف غوبلز شديد الاهتمام بـ «إظهار قوّة ألمانيا العضليّة للعالم» على النحو الذي يسحر هذا العالم ويفقده اتّزانه. وبدوره رأى الفيلسوف والناقد الألمانيّ فالتر بنجامين، الذي سكّ تعبير «جمْلَنة السياسة» (aestheticization of politics)، أنّ ما تفعله الفاشيّة هنا هو أنّها تُحلّ الصورة محلّ الإنجاز، وتُحلّ الشكل محلّ المضمون، مانحةً الناس تمكيناً وهميّاً يستعاض به عن الامّحاء أمام الديكتاتور وحزبه وأجهزة أمنه. ولأنّ السحر يرفع توقّعات المسحور إلى سويّة خرافيّة يأتي الهبوط الذي يُحدثه الواقع مؤلماً جدّاً، إذ يهوي بذاك المسحور من مكان شاهق الارتفاع. وهذا، للأسف، بعض ما نراه اليوم. فالأجدى، والحال هذه، أن نصارع كي نغادر السحر الذي لا يزول بمجرّد زوال السحرة. هكذا نروح نصدّق الحقائق ونكذّب الأكاذيب، ذاهبين إلى ما وراء الصورة والصوت المرتفع والعبارة الحماسيّة وتحريك الإصبع السبّابة. وإنّما بكَنْس السحر على هذا النحو نستعيد العقل، ونستعيد الحرّيّة أيضاً. وكلّما أسرعنا كان ذلك أفضل.