أنفاس مكتومة... جسد صغير وصرخة مؤجلة
في عالم القصة القصيرة، عالمٍ تتضارب فيه الصور وتتماهى فيه الحقائق مع الظلال، تتكثف الحياة ضمن لحظات، وتتجلى الشخصيات في لمحات، وتُرسم العوالم الداخلية من خلال أنفاس متقطعة وأصوات خافتة. تأتي مجموعة أنفاس مكتومة للقاص الدكتور زياد أبو لبن، كصرخة مكتومة في برية الأدب، كأنّها زفرة حارة تخرج من صدرٍ مثقلٍ بالتجربة، نابضٍ بالرؤية، ومشحونٍ بفهمٍ عميقٍ للطبيعة الإنسانية. ليست هذه المجموعة القصصية مجرّد لوحات سريعة للحياة اليومية، بل هي مشاهد ملتقطة بعينٍ فاحصة، وروحٍ تمتح من الفلسفة رموزها، ومن الشعر إيحاءاته، ومن الإنسان هشاشته ومجده. فيجد القارئ نفسه أمام باقة من القصص التي تستنطق المسكوت عنه، وتُصغي لهمس الذات في لحظات توترها أو انكسارها أو اكتشافها البطيء لذاتها. المجموعة مؤلفة من تسع عشرة قصة هي: أنفاس مكتومة، في السر، دينا، ليلى، سارة، سعاد، دلال، لبنى، بيسان، نوران، رنيم، نيدانة، فرح، حلم وردي، حبّة الكستناء، حلم، وطن، قنطرة، والشطرنج. وتمتدّ على 76 صفحة من التكثيف السردي والانسياب اللغوي، متنقّلة بين عوالم الطفولة، والعائلة، والوطن، والأنوثة، والوجع الوجودي، والاغتراب.
ما يلفت النظر ابتداءً، هو أن 11 قصة في هذه المجموعة تحمل عناوين بأسماء فتيات: دينا، ليلى، سارة، سعاد، دلال، لبنى، بيسان، نوران، رنيم، نيدانة، فرح، ابتسام، وسلوى، وهو ما يُحيل إلى أن التجربة الأنثوية هي جوهر هذه المجموعة. ومع أن بعض القصص تحضر فيها شخصيات ذكورية أو تنطلق من رؤية ذكورية، إلا أن القاص زياد أبو لبن اتخذ في معظم الأحيان صوتًا نسائيًا يعبّر عن مكبوت أو يُقاوم سلطة أو يكتشف الذات في ظل تقييد اجتماعي.
تعتمد الحبكة في هذه المجموعة غالبًا على لحظة اكتشاف أو وعي داخلي، لا تصعيد درامي تقليدي فيه عقدة وذروة وانفراج، بل لحظة تأمل أو صدمة أو قلق. في قصة نوران، مثلًا، تنكسر الطفولة حين تموت دميتها، لكنها تستعيد الحياة حين تعيد الأم الحياة للدُمية بتبديل البطاريات. هنا الحبكة ليست في الحدث بقدر ما هي في التحوّل الداخلي، فالموت والحياة لا يُقاسان بنبضات القلب فقط، بل بما يُلامس وجدان الطفلة.
الرمزية في المجموعة تحضر عبر الأشياء اليومية التي تحمل دلالة أعمق: الدمية في نوران، القط في دلال، السن المكسور في لبنى، المربع الخماسي في سارة، ورق اللعب في الشطرنج. كلها رموز لا توضع في مكانها عرضًا، بل تشير إلى أزمنة الطفولة، ومراحل التحوّل، ومكامن الرغبة أو الخوف.
كما تتسم الصور البلاغية بالنعومة والانزياح غير الصاخب. في قصة دينا مثلًا، حين «تذوب في ملابسها كشَمعةٍ لامسها الحياء»، يتحول الحياء من شعور إلى نار، في صورة شاعرية تمزج بين البراءة والاحتراق الداخلي. وفي أنفاس مكتومة، حين تقول: «كانت تنظر من خلف الباب، وتكتم ضحكتها بأنفاس الخوف»، يصبح الخوف كائنًا مجسّدًا، لا شعورًا داخليًا فقط، في لعبة بلاغية بسيطة لكنها دالة.
أما الإحالات الزمانية والمكانية في المجموعة ليست مركزية، بل عابرة، لكنها تخدم القصص بخفة. الزمان غالبًا داخلي، ممتد داخل وعي الشخصية، رغم وجود إشارات إلى «زمن المدرسة» أو «الحمّام» أو «عيد الفطر» أو «الحظر أثناء الكورونا»(( قصة بيسان). المكان أيضًا ضيق – غرفة، ممر، شارع، مطبخ – وهو ما يعكس الضيق النفسي الذي تعيشه الشخصيات، خاصة الإناث. في قصة نيدانة، البيت يصبح ملجأً للقطط كما هو ملجأ للفتاة، كلاهما يبحث عن دفء وأمان في عالم قاسٍ.
الشخصيات في المجموعة، كما ذُكر، يغلب عليها العنصر الأنثوي. النساء هنا طفلات أو فتيات في طور النمو أو أمهات حاضنات أو غائبات. حتى الذكور – حين يحضرون – فهم غالبًا أبناء، أو آباء متعبون، أو ذكور طفوليون. وهذا التركيز على الأنثى لا يأتي من باب التحيّز، بل لأن الأنثى – بوصفها موضوعًا للرقابة والسلطة والتربية – تعيش تعقيدًا سرديًا غنيًا يصلح للبناء القصصي. في قصة ليلى، مثلًا، يتداخل صوت الراوية الطفلة مع مشهد اكتشاف الأنوثة والبكارة والبلوغ، وسط بيت لا يحتمل الخصوصية، مما يجعل الشخصية تواجه صدمة النمو في غياب الإعداد النفسي.
في حين تتراوح نهايات القصص بين المفاجئ والتأملي والساخر أحيانًا، لكنها في معظمها نهايات مفتوحة، تُركت لتُسائل القارئ. في فرح، تنتهي القصة بوعي الطفلة أن الشيخوخة ليست ضعفًا فقط، بل امتداد للحب. وفي سعاد، تُختتم القصة بدعاء الطفلة لله أن لا ينسى «ملابس العيد» في رسالة وجهتها إلى والدها المتوفى، مشهد ينطوي على براءة جارحة وعمق فلسفي عن مفهوم العدالة والغياب.
ما يُميّز هذه المجموعة هو قدرتها على التقاط الأنفاس المكتومة فعلًا، ليس كعنوان فقط، بل كجوهرٍ لكل قصة فيها. تتبعثر الأنفاس بين قمع الأم، وخوف الفتاة، وكبت الصبي، وانكسار الرغبة، وهي كلها أنفاس لا تصل إلى التمام، كما لو أن كل شخصية هنا تعيش في عالم من الاختناق العاطفي والنفسي والاجتماعي.
اللغة السردية في القصص هادئة، متأنية، تخلو من الزخرفة الثقيلة، وتعتمد على حيوية الجملة القصيرة والصورة الحسية والعبارة الحانية أو الصادمة. ثمة نبرة حنينية في معظم النصوص، تجعل من كل قصة لوحة داخل ألبوم حياة؛ كل قصة فيها لحظة «أخذ نفس» من زمن الغرق.
إن «أنفاس مكتومة» ليست فقط توثيقًا للحظات هشاشة داخل الطفولة أو العائلة أو الذات، بل هي أيضًا تجربة فنية ناضجة، تثبت قدرة القاص على المزاوجة بين البساطة الظاهرة والتعقيد الداخلي، بين اللغة المتقشفة أحيانًا والانفجار المجازي حين يتطلب المعنى ذلك، بين الأنوثة كموضوع والأنثى كذات لها صوتها ووجعها وسؤالها الخاص.
إنها مجموعة لا تكتفي بالوقوف عند حدود القصة القصيرة التقليدية، بل تنبش في البنية النفسية للسرد، وتضع القارئ في مواجهة نفسه، وتدعوه لأن يصغي لأنفاسه التي كتمها ذات خيبة، أو قمعها في صغره، أو ضاعت منه في زحمة الحياة.
ختامًا، فإن مجموعة أنفاس مكتومة ليست مجرد قصص عن الفتيات، بل هي مرآة لمرحلة التحول، لوجع النمو، لأسئلة الطفولة البكر. هي نصوص تُصغي لما لا يُقال، وتمنح المهمّش صوتًا. لا شيء صارخ هنا، لكن كل شيء موجِع؛ كأن الكتابة نفسها تحاول أن تتنفس.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الدستور
منذ 5 أيام
- الدستور
«زياد أبو لبن.. على حافة الضوء» كتاب جديد للكاتب سمير اليوسف
نضال برقانعن دار الخليج للنشر والتوزيع في عمّان، صدر حديثًا كتاب جديد بعنوان «زياد أبو لبن.. على حافة الضوء»، من إعداد وتقديم الكاتب سمير اليوسف، ليكون الإصدار السادس ضمن سلسلة «بعض وفاء»، التي واصل من خلالها اليوسف مشروعه التوثيقي في الاحتفاء بالمبدعين الأردنيين والعرب ممن تركوا أثرًا نوعيًا في الحقل الثقافي والأدبي.وليس هذا العنوان، كما يوضح اليوسف، مجرّد استعارة شعرية تشدّ القارئ إلى النص، بل هو توصيف رمزي دقيق لتجربة الكاتب والناقد زياد أبو لبن، الذي اختار أن يحيا ويكتب من تخوم النور، لا من مركزه، حيث تبدو الرؤية أكثر صفاء، والكتابة أكثر مسؤولية. إنه المثقف الذي لم تغره الأضواء ولا التصفيق، بل ظلّ طوال تجربته الممتدة ممسكًا بخيط المعنى، ساعيًا وراء الضوء الداخلي، ذلك الذي لا يبهر، لكنه يرشد.يجمع هذا الكتاب بين التحليل النقدي، والشهادات الأدبية، والقراءات المعمقة التي تسبر عوالم زياد أبو لبن الفكرية والإبداعية، فتقدّمه لا بوصفه كاتبًا فحسب، بل باعتباره نموذجًا للمثقف الفاعل، الذي يجمع بين التأمل والإنجاز، بين التعليم والبحث، وبين الحضور المؤسساتي والتجذر في قضايا الوطن واللغة والانتماء. فمنذ ولادته في عين السلطان بأريحا عام 1962، وحتى اليوم، ظلّ أبو لبن وفيًا لفكرته الأولى: أن تكون الكلمة مسؤولية، وأن يكون النص حوارًا مع الجمال والعدالة والتاريخ.يُبرز الكتاب مسيرة زياد أبو لبن الممتدة، بدءًا من دراسته الأكاديمية، مرورًا بإسهاماته النقدية مثل كتابه عن «المونولوج الداخلي عند نجيب محفوظ»، و»اللسان المبلوع»، و»رؤية النص ودلالته»، إلى مجموعاته القصصية مثل «هذيان ميت» و»أبي والشيخ»، وصولًا إلى نشاطه الثقافي في وزارة الثقافة ورئاسة رابطة الكتاب الأردنيين، وتدريسه في عدد من الجامعات الأردنية. ويضيء كذلك على دوره في أدب الطفل، والحوار الثقافي، والتحقيق الأدبي، وتوثيق تجارب أدباء عرب وأردنيين شكلوا علامات بارزة في المشهد الأدبي.«زياد أبو لبن.. على حافة الضوء» ليس كتابًا عن سيرة، بل محاولة جادة لرسم بورتريه فكري وأدبي لكاتب عمل في الظل، وبنى تجربته بنَفَس تأملي بعيدًا عن الضوضاء. إنه كتاب يقرأ «المثقف» لا الشخص، ويستعيد صورة من اختار أن يكتب من الهامش النبيل، من تلك النقطة بين الضوء والظل، حيث تتشكل الرؤى وتتضح الملامح الحقيقية للكتابة.ويأتي هذا الإصدار ليكمل السلسلة التي بدأها اليوسف بـ»رؤيا النقد والإبداع: قراءات في أعمال عبد الله رضوان»، ثم «إبراهيم العجلوني: مرايا الحضور»، و»العجلوني وآفاق المعرفة والانتماء»، و»الصعود إلى النص» بجزأيه، حول تجربة الناقد إبراهيم خليل، وهو بذلك يواصل مشروعه في إنصاف المبدعين لا عبر التمجيد، بل من خلال تقديم قراءات نقدية وموضوعية لنتاجهم الأدبي، تحفظ حضورهم في الذاكرة الثقافية وتقدّمهم للأجيال بوصفهم حملة مشعل الكلمة في زمن عابر.وفي زمن يتسارع فيه النسيان، ويُغيَّب فيه المثقفون عن الواجهة، يشكّل هذا الكتاب لفتة وفاء فكرية ونقدية، تعيد الاعتبار إلى صوت من الأصوات التي صنعت ذائقة جيل، وأسهمت في صياغة خطاب ثقافي لا يهادن، ولا يستسلم لإغراء البريق.يتضمن الكتاب مقدمة معمقة كتبها سمير اليوسف، ثم ينفتح على عدد من المحاور الغنية والمتنوّعة، تتوزع بين دراسات نقدية، وشهادات، وقراءات معمّقة في مؤلفات زياد أبو لبن، ومقالات تتناول منجزه في النقد الأدبي، والقصة القصيرة، وأدب الطفل، إضافة إلى ملف واسع من الحوارات التي أجريت معه على مدى سنوات، وملحق خاص يوثق سيرته ومسيرته. وقد ساهم في هذه المواد نخبة من الكتّاب والنقاد العرب من الأردن، وفلسطين، والعراق، ومصر، وتونس، مما يمنح الكتاب بعدًا عربيًّا يتجاوز المحلي، ويُبرز مكانة أبو لبن في المشهد الثقافي الأوسع.

الدستور
منذ 5 أيام
- الدستور
"على حافة الضوء" كتاب تكريمي وتوثيقي لمسيرة الناقد والقاص زياد أبو لبن
عمان – الدستور – عمر أبو الهيجاء صدر عن دار الخليج للنشر والتوزيع كتاب بعنوان "زياد أبولبن على حافة الضوء" من إعداد وتقديم الكاتب سمير اليوسف، وهو عبارة عن كتاب تكريمي وتوثيقي لمسيرة زياد أبو لبن، تتوالى الفصول والأبواب كأنّها شهادات حية لا تؤرّخ لمسار فرد فقط، بل ترسم خارطة مثقفٍ كتب ذاته، وكتبنا معه. نبدأ بمقدّمة تُهيئ القارئ لاكتشاف شخصية تنتمي إلى طبقة نادرة من الأدباء الذين لا يفصلون بين الإبداع والمسؤولية، بين القصيدة والموقف، بين الجمال والواجب. ثم ننتقل إلى قراءات نقدية ومعاينات عميقة لكتاباته في القصة القصيرة والنقد الأدبي، نلمس فيها نبض التجريب، ورغبة التجدّد، واستناداً إلى مرجعية معرفية رصينة. تتوزع فصول الكتاب بين محطاتٍ مختلفة من حياة أبو لبن الأدبية والصحفية، بدءاً من حضوره المبكر في المشهد الثقافي، مروراً بإنتاجه القصصي، وكتاباته النقدية التي تناولت أعلاماً كـ نجيب محفوظ وغيرهم، وانتهاءً بإسهاماته في الحقل الثقافي من خلال مشاركاته الفاعلة في المؤسسات والهيئات الثقافية في الأردن وخارجه. نطالع في هذا الكتاب مقالات وشهادات تتنوع بين النقد والانطباع والتأمل، كأنّها محاولةٌ جماعيةٌ لإضاءة ما وراء النص، للكشف عن جوهر الرجل الذي اختار أن يكون على حافة الضوء لا في مركزه، ليبقى في حالة يقظة، لا تخدّره الأضواء ولا تستلبه الجماهير. ولا يخلو هذا العمل من بعد شخصيّ عميق، إذ ينقل بعض مقربيه وتلاميذه وأصدقائه آراءهم وتجاربهم معه، ليظهر زياد أبو لبن لا بوصفه كاتباً فحسب، بل إنساناً يكتب من نبض القلب، ويعيش أدبه كما يعيش صداقاته ومواقفه. فالفصول تنسج صورة مركبة لكاتب لم يرضَ أن يكون تابعاً لموجة، بل صانعاً لمساره الخاص. ويجيء هذا الكتاب – وهو السادس في سلسلة "بعض وفاء" التي أطلقها مؤلف هذا العمل – ليكمل مشروعاً توثيقياً بدأه الكاتب لتكريم أدبائنا وشعرائنا ومثقفينا، لا من باب المجاملة أو التسجيل التاريخي البارد، بل انطلاقاً من يقين بأن الوفاء فعلٌ ثقافي بامتياز. فمن خلال هذه السلسلة، يسعى المؤلف إلى بناء ذاكرة جماعية نزيهة، تلتقط التفاصيل الغائبة، وتُعيد الاعتبار لأصوات نذرت نفسها للإبداع بصمت وصدق. وكتاب "زياد أبو لبن.. على حافة الضوء" ليس إلا حلقة جديدة في هذا المشروع، لكنه يتميّز بما يتضمنه من تنوع في الأساليب والمقاربات، وبما يعكسه من محبة وتقدير لكاتب ظل واقفاً دائماً عند تخوم الحلم، ممسكاً قلمه كما لو أنه مصباح صغير في ليلٍ طويل.


جهينة نيوز
منذ 6 أيام
- جهينة نيوز
"حدث في الآستانة" مختارات من القصة التركية الحديثة
تاريخ النشر : 2025-07-12 - 12:31 pm د. زياد أبولبن من الضروري جداً أن يأتي الاستهلال في مقدمة مختارات من القصة التركية (حدث في الآستانة) التي ترجمها أُسيد الحوتري، فهذا الاستهلال قد وضع القارئ العربي في أجواء النصوص القصصية المختارة والتي تشكّل لوحة مكتملة عن الدولة العثمانية قبل إعلان الجمهورية التركية، بل أشبه ما تكون برواية مشتركة كتبها قاصون أتراك، أو كما جاء في الاستهلال (رواية قص ولصق) كتبها تسعة من القاصين الأتراك أو رواية (كُلاجيّة). وفي الاستهلال إضاءات تتصل بالحكم العثماني، وتلك الإضاءات ما هي إلا اشتباك النص مع خارجه، أي قراءة النص ضمن سياقه التاريخي والاجتماعي، وليس عزل النص عن مؤلفه أو "موت المؤلف" كما يرى رولان بارت. كما نجد في مقدمة كل قصة من هذه المختارات نبذة عن مؤلفها، كي يتعرّف القارئ العربي على سير هؤلاء القاصين، فما صنعه أسيد الحوترى في الاستهلال يدلّ دلالة واضحة على الجهد الكبير الذي بذله في ترجمة هذه النصوص من لغتها الأصلية اللغة التركية أو قد أُسمّيها اللغة العثمانية التي تختلف بشكل ملحوظ عن اللغة التركية المعاصرة، كما ألمح لذلك في الاستهلال، وليس هذا وذاك فقط بل إنّ أُسيداً المثقف يقدّم تاريخاً مختصراً ومشفوعاً بالحكم العثمانية وبالتغيّرات السياسية التي نهضت على أكتافها الجمهورية التركية. في الفصل الأول (الربيع الأول) يختار المترجم ستة نصوص قصصية، حيث تُطالعنا قصة "بون بون" للكاتب الساخر أحمد راسم، و"بون بون" معناها الحلوى، وأظنّ أنها شائعة بين أطفال هذا الزمن، ويحمل المنتج الاسم نفسه "bon bon"، وهي قصة اجتماعية تُبرز ذكاء الطفل وشقاوته، وهو يلحّ على أمّه في الحصول على الـ "بون بون"، وتحاول الأم محاصرته كي لا يمارس شقاوته، وهما يعتليان "عبّارة" ترسو في خليج حيدر باشا. تنشغل قصة "بون بون" بوصف دقيق لشخصية الأم وطفلها، وكأنّ الكاتب يرسم مشهداً (كاريكاتيرياً) لشخصيتين، من خلال السارد/ المؤلف، السارد المجازي والمؤلف الحقيقي، بحيث يغدو السارد هنا صوتاً فنياً للمؤلف، كما هو متعارف عليه في الدراسات النقدية. ويقطعُ السردَ حوارٌ مباشر بين الأم وطفلها، يكشف عن فيض الأمومة في لحظة فرض قيد على حركة الطفل في فضاء مكاني محدود ألا وهو "العبّارة". أدخلَ المترجم ألفاظاً تركية في لغة الحوار بين الشخصيتين، جاء تفسيرها في الحواشي، وقد خدمت جوّ النص، كما هي في باقي قصص المختارات، فلا يشعر القارئ بثقلها على النص، بل تكاد تكون جزءاً من لحمة النص نفسه، خاصة أن تجنيس النص قد يقترب من قصص الأطفال أكثر منه قصص الكبار، في حين نجد في القصة الثانية من المختارات "الإسكافيّ" للكاتب رفيق خالد كراي شخصية الطفل ذا الخمس سنوات تعي العالم المحيط به، فينتقل من إسطنبول إلى فلسطين، بعد وفاة والدته، فتستقبله عمّته ورفيقاتها من النسوة، كما استقبله عدد من الأطفال، هذا الاغتراب عن المكان الذي نشأ فيه دفعه للصمت أسابيع مضرباً عن الكلام، فهو لا يتكلم العربية، فوجد في الإسكافي، الذي حضر لبيت العمّة لرتق النعال المثقوبة والممزقة، طريقاً سهلاً للتحدث باللغة التركية، واستعادته لشيء فقده بعد فقد أُمّه. ينهج أسلوب المؤلف (كراي) في قصة "الإسكافيّ" الأسلوب نفسه في قصة (أحمد راسم)، من حيث اللغة وطريقة السرد والحوار، ولولا أن كل قصة حملت اسم المؤلف لظنّ القارئ أن كلا القصتين لكاتب واحد، وأيضاً قفلة القصتين تكاد أن تكون متشابه من ناحية لحظة الإدهاش أو لحظة المفاجأة. تدور قصة "تأثير الحزام" للكاتب عمر سيف الدين حول شخصية محمود الشركسي، هو يدّعي أنه شركسي وينتسب إليهم، برغم من أنه تركي الأصل، لكن "الحزام" الذي يطوّق خصره، وهو هدية من صديقه، يشي بأنه شركسي، وكان للحزام تأثير على محمود في انتسابه للشركس، هذا الأمر أثار فضول السارد/ المؤلف المشارك لشخصيات القصة، وهو يتحدث مع صديقه الضابط عن شخصية محمود، وكأنه أراد أن يكشف شخصية محمود المدّعي بالشركسية، ويفاخر بنسبه هذا، وأظن أن الكاتب عمر سيف الدين أراد أن يوصل رسالة للقارئ عن المدّعين بالنسب والمتخلين عن أصولهم. جاء السرد مباشراً وبلغة بسيطة، وهي لغة لا تختلف عن لغة القصتين السابقتين (بون بون) و(الإسكافي)، وكأن كتّاب القصة آنذاك ينهلون من معين واحد، وينتهجون نهجاً واحداً في البناء القصصي ولغتها وطرائق سردها، في حين تتجاوز قصة الكاتب سامي باشازاده سيزائي (التمثيل الصامت) القصص الثلاثة السابقة فنياً، فقد استطاع الكاتب أن يقدم وصفاً دقيقاً لشخصية الممثل اليوناني (باسكال)، وكأن السارد يتنقل بكاميرا سينمائية تسجّل الواقع بمشهدية عاليه للمكان وشخصيات القصة، كما أن قفلة القصة درامية متقنة، وتثير لدى القارئ لحظة المفاجأة أو لحظة الإدهاش. فباسكال "الذي أدّى في المسرحية دور العاشق الولهان، جعل الناس يضحكون كثيراً عندما أخرج لسانه من أجل إعلان حبّه لحبيبته، وعندما تشقلب رأساً على عقبٍ من أجل إظهار امتنانه لها."ص59، هو نفسه الذي أصابه الهم والغم عندما جاءت حبيبته (إفتاليا) بصحبة زوجها لحضور المسرحية، فعاد لمنزله وأغلق الباب على نفسه، ووجده أهل الحي مشنوقاً "وقد أخرج لسانه ببراعته المعهودة، متظاهراً بأنه رجل مشنوق!"ص62، فأدرك أهل الحي أن (باسكال) لم يقلد أحداً وإنما هي حقيقة الموت. تدور أحداث القصة الخامسة (الجَمَل) للكاتب عمر سيف الدين – صاحب القصة الثانلثة (تأثير الحزام) - حول شخصية (ميستان آغا) الغجري، الذي عقد العزم على الهجرة من مدينة (أدرنة)، منتحلاً شخصة رجل عربي قادم من مكة، وأطلق على نفسه اسم (عبد المنّان)، متمثلاً شخصية الزاهد التقي، وكان هدفه جمع المال، "وأن يتزوج من فتاة تركية بيضاء"ص66، ويتخلّص من حياة الغجر البائسة. يستقر (ميستان) في مدينة (جناق قلعة) وقد جمع مالاً كثيراً بطرق الاحتيال، وتنتهي القصة حين أدرك ما قاله الشيخ في خطبة الجمعة: إن الجَمَلَ مخلوق من مخلوقات الجنة، فإذا ركبه إنسان ولم يقصد الكعبة مسخه الله فوراً، هذا الإدراك جاء بعد أن امتطى (ميستان) جملاً، فانتفض الجمل وجرى به وداس سنابل القمح، وهو يقفز بجنون، وأخذ (ميستان) يصرخ من شدة الخوف. ركض المزارعون حاملين مناجلهم، وأوقفوا الجمل، وأشبعوا (ميستان) ضرباً حتى ظنوا أنه قد مات؛ لأن الجمل قد عاث فساداً في مزروعاتهم، فألقوه في حفرة بعيدة، فاستفاق (ميستان) وسلك طريقاً إلى إسطنبول وهو يردد "ما أجمل حياة الغجر!"ص71. هذه القصة ذات حبكة درامية، تتنامى فيها الأحداث بشكل متسارع، وفي تسلسل منطقي، في بنية سردية متماسكة، وفيها طرافة تثير الضحك والتسلية. في القصة السادسة "ما أجمل الحياة" للكاتب ممدوح شوكت أساندال نجد حافظ نوري أفندي الشخصية الرئيسة في القصة تعبر الحياة بنظرة تأملية أو فلسفية، فكل شيء يعود من حيث أتى، فعلى الإنسان أن يعيش عمره لأن العمر محدد، فالحياة جميلة أو كما جاء على لسان نوري "الحياة، يا لها من شيء جميل"ص82. فكلّما التقى نوري بأحد معارفه، مثل: شكري ابن الإسكافيّ وخليل بائع الفحم ولاعبا طاولة الزهر، يواصل السير في الطرقات، لكنه في النهاية يعود لبيته في مدينة (أدرنة) ويجلس أمام النافذة يراقب حركة الحيّ، ويبدو أنه حيّ شعبي فقير. على الرغم من بساطتها فنياً إلا أنها تحمل رؤية للعالم من خلال فعل إنساني في البحث عن السعادة، في فضاء مكاني يتسع لحكايات كثيرة. في الفصل الثاني من المختارات (الخريف) أربع قصص، فالقصة الأولى بعنوان: "الخبز أوّلاً" للكاتب أورخان كمال، وهي حكاية اجتماعية، تتوزع أدوار شخصياتها حول الأب المخمور والزوجة المسكينة وابنتهما الطفلة (آيتن) والجدة (هديّة)، ومحور أحداث الحكاية يدور حول شخصية (آيتن)، التي تحلم بأن تصبح طبيبة، لكنّ والدها يدفعها اتجاه ترك الدراسة والاتجاه لسوق العمل الذي يوفر المال ويخرجهم من خطّ الفقر، فيتغلّب الحلم على العمل، رغم أن (آيتن) تدرك أن الخبز أولاً. لجأ الكاتب إلى أساليب السرد المباشر في تصوير شخصيات القصة، فبساطة السرد القصصي قدّم للقارئ أحداثاً واقعية بعيداً عن الخيال، وقريباً من المتعة ونقل الأفكار، التي تسعى إلى القيم الأخلاقية أو التربوية في المجتمع. والقصة الثاني في هذا الفصل بعنوان "منديل الحرير" للكاتب سعيد فائق، وقد أسمّي القصة "منديل العاشق"، وقد ذكّرتني بحكاية الشاب السارق مع والي البصرة خالد القسري، ذاك الشاب الذي ألقى بحجر على دار حبيبته للقائها، فسمع أبوها وإخوتها صوت الحجر، فصعدوا إليه، فلمّا أحسّ بهم جمع قماش البيت كلّه (أي الغسيل المنشور على سطح بيتهم)، وجعله صرّة، فأخذوه إلى الوالي، فأمر الوالي بقطع يده، لكن حبيبته اعترفت أنه لم يكن سارقاً، وإنما اعترافه بسرقة الملابس كي لا يفضح سرّها، فأمر الوالي بعشرة آلاف درهم للشاب، وعشرة آلاف درهم للفتاة، وزوّجهما. هذا هو لص "منديل الحرير" الذي يحاول سرقة المنديل ليهديه لحبيبته. القصة طريفة وممتعة للقارئ، وفيها تصوير فني جميل، وسرد مباشر يحفّز ذهنية القارئ، حيث يقوم السرد على لحظة التشويق والإثارة. والقصة الثالثة من هذا الفصل للكاتب نفسه بعنوان "السّماور"، والسّماور أداة لتخمير الشاي، وتسرد القصة حكاية (عليّ)، الذي وجد أمّه ميتة، تلك أمّه التي اعتاد أن يقبّلها كل صباح قبل أن يذهب للعمل، وهي تعدّ له الشاي أو السحلب، بكى (عليّ) كثيراً لفراق أمّه، لكن حركة الحياة لم تتوقف بموت أمّه، هذا ما أدركه (عليّ). في الفصل الثالث من المختارات وعنوانه "الشتاء" قصتان، الصة الأولى بعنوان: "الربيع" للكاتب أحمد حكمت مفتو أوغلو، وهي قصة تكشف عن سرّ حزن الشاب، اسمه مظلوم، وكأن للاسم دلالة قد اختاره الكاتب للتعبير عن مأساته، تلك المأساة التي انتهب بموت زوجته وأطفلها في حريق بيتهم، ورغم أن السارد حاول بكلّ جهده أن يخفف أو يحوّل سوداوية حياته إلى أمل، في ربيع يرسم لوحة تشكيلية من الجمال في حي (سراي بُرنو)، وهو أحد أحياء إسطنبول، ويبدو أن السارد استسلم لقَدرِ الشاب، وهو يردد في نهاية القصة: "ربيع! ربيع! لا أرى ربيعي إلا في الأشواك التي ستتفتّح فوق قبري."ص133. في (استهلال) المختارات يربط المترجم أسيد الحوتري رمزية القصة بما آل إليه الربيع العثماني المنتظر من خراب البلاد بعد الإنقلاب العسكري المستبدّ على الحكم العثماني، وهذا الربط الدلالي يحيلنا إلى قراءة النص من الخارج، أي من خلال السياق التاريخي للقصة. لكن من يقرأ النص في أنساقه الداخلية يكتشف أن للدلالة منحى آخر في فهم صراع القيم في المجتمع التركي، وذلك بالإشارة إلى الأب وزوجته. اللذان لم يقدّرا منزلة زوجة الشاب وأطفالهما قبل لقاء حتفهم السوداوي، وهذا المشهد التصويري في القصة هو مشهد نمطي يؤلّف عنصر الوصف وفاعليته الأدبية لدى القارئ، ويرسم الكاتب لوحة كما يفعل الفنان التشكيلي، في تماثلات سردية متتابعة لغرض إدرامي. تقوم القصة الثانية "الحُبّ الأعمى" للكاتب نجدت صانتشار على حدوتة، أي على حكاية لها بداية ونهاية، تدور الحدوتة على أربعة أصدقاء على لسان السارد، وترتكز على خطاب وعظي مباشر حول "الحُبّ الأعمى"، فهؤلاء الأصدقاء يقعون تحت سطوة القيم الاجتماعية، فرياح التغيير في شخصية كل واحد منهم تدفع بقيم المجتمع السامية نحو النقيض، فتسقط القيم في لحظات الركض وراء شهوة الحياة، وينتصر الشر على الخير. أيضاً، يقدّم المترجم في "استهلال المختارات قراءة خارجية للنص، وتُحيل القارئ إلى أحداث تاريخية ترتبط برمزية الدلالة للحدوتة. في الختام، استطاع مترجم المختارات أسيد الحوتري، بحرفية عالية، أن يقدّم للقارئ العربي نماذج قصصية من الأدب التركي، ذات نسق واحد، وكُتبت في أزمنة مختلفة. تابعو جهينة نيوز على