القائد الذي هزم المرض الهولندي
منذ فجر التاريخ، سعت الشعوب والدول للسيطرة على الموارد الطبيعية بوصفها مصدرًا للقوة والنفوذ. وعلى الرغم من أن امتلاك الثروات الطبيعية قد يفتح آفاقًا واسعة للنمو، إلا أنه في أحيان كثيرة قد يقود إلى معضلات اقتصادية، أبرزها ما يُعرف بـ"المرض الهولندي".
المرض الهولندي هو ظاهرةٌ اقتصادية تنشأ عندما يعتمد اقتصاد بلدٍ ما على موردٍ طبيعي واحد – غالبًا النفط أو الغاز – فتتدفق غالبية الاستثمارات والعوائد باتجاه ذلك المورد، بينما تتجاهل بقية القطاعات التي قد تكون أقل ربحًا على المدى القصير، لكنها أكثر استدامةً على المدى الطويل.
وقد جاءت تسمية المرض الهولندي بعدما اكتُشفت في ستينيات القرن العشرين حقولٌ كبيرةٌ للغاز في هولندا، فانتعش قطاع الطاقة بشدة، مما أثّر سلبًا في قطاعاتٍ أخرى مثل التصنيع والزراعة، وأدى إلى تراجع تنافسية الصادرات الهولندية. وهكذا أصبح مصطلح 'المرض الهولندي' يُطلَق على أي اقتصادٍ يغفل تنويع مصادر دخله ويركن إلى موردٍ طبيعي واحد.
عبر التاريخ، عانت دولٌ عدة من صعوبةٍ بالغةٍ في إعادة توجيه مساراتها الاقتصادية حينما يستشري الاعتماد على موردٍ واحد. إذ تتراكم الخبرات والمهارات ورؤوس الأموال في القطاع المهيمن، ويتضاءل حافز الاستثمار في المجالات الأخرى. فضلًا عن ذلك، قد يواجه صانعو القرار معارضةً داخلية عند محاولة التحوّل نحو قطاعاتٍ جديدة، نتيجة رغبة المنتفعين في استمرار تدفق الأرباح السريعة من ذلك القطاع. كل ذلك يجعل عملية الإصلاح الهيكلي وإطلاق قطاعات بديلة أكثر تعقيدًا.
رغم هذه الصعوبات التاريخية، برهن الأمير محمد بن سلمان على أن الإدارةٍ الحكيمةٍ والرؤيةٍ الشاملةٍ قادرتان على إعادة صياغة معادلات الاقتصاد. فقد أدرك مبكرًا أن اعتماد المملكة شبه الكامل على النفط ليس خيارًا مستدامًا، وأنه لا بد من تحصين الاقتصاد ضد تقلبات أسواق الطاقة العالمية، وذلك من خلال تنويعه وتفعيل قطاعاتٍ غير نفطية.
جاءت رؤية المملكة 2030 بتخطيط ومتابعة من ولي العهد الأمير محمد بن سلمان لتُشكّل الأساس الاستراتيجي للتحول الاقتصادي الذي تشهده المملكة. فقد وضعت الرؤية مسارات واضحة لتنمية قطاعات واعدة مثل التكنولوجيا، والسياحة، والترفيه، والتعدين، والخدمات اللوجستية، مع تقديم حوافز جاذبة للمستثمرين المحليين والدوليين. كما أولت اهتمامًا كبيرًا بتنمية رأس المال البشري من خلال التعليم والتدريب، وتعزيز ثقافة الابتكار وريادة الأعمال.
وتتجلى نتائج هذه الرؤية الطموحة على أرض الواقع، حيث ارتفعت نسبة الناتج المحلي غير النفطي إلى مستويات قياسية وصلت إلى 53% من إجمالي الناتج المحلي، في دلالة واضحة على التقدم في تقليص الاعتماد على النفط. كما انخفضت معدلات البطالة إلى أدنى مستوياتها التاريخية، ما يُظهر الحراك الاقتصادي والاجتماعي المتسارع. ويرتكز هذا التحول على مشروعات وطنية كبرى مثل نيوم والبحر الأحمر والقدية، التي أسست لنموذج تنموي يجمع بين الابتكار المحلي والاستثمار الأجنبي.
واليوم، تترسخ مكانة المملكة كلاعبٍ محوري في الاقتصاد العالمي مع الزيارة التاريخية التي قام بها الرئيس الأمريكي إلى الرياض، والتي شهدت انعقاد منتدى الاستثمار السعودي الأمريكي. وفي كلمته خلال المنتدى، أكد سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان أن العلاقة الاقتصادية بين البلدين انطلقت مع توقيع أول اتفاقية للتنقيب عن النفط في المملكة، لكنها تطورت اليوم لتواكب التحول الاقتصادي السعودي من الاعتماد على الموارد الطبيعية إلى اقتصاد متنوع يرتكز على المعرفة والتقنية والابتكار.
ووُقعت خلال الزيارة أكثر من 145 اتفاقية تعاون واستثمار بين البلدين بقيمة تجاوزت 300 مليار دولار، شملت مجالات إستراتيجية مثل الطاقة، والذكاء الاصطناعي، والتصنيع، والنقل. وهي اتفاقيات تعكس ليس فقط عمق الشراكة بين الرياض وواشنطن، بل أيضًا التحول النوعي في الاقتصاد السعودي، حيث انتقلت هذه الشراكة من كونها قائمة على النفط إلى شراكة تنموية شاملة تقوم على الابتكار والتكامل الاقتصادي طويل الأمد.
إن التاريخ يوضح صعوبة هائلة في تعديل مسار الاستثمارات والاقتصادات حين يستفحل المرض الهولندي، لكن الأمير محمد بن سلمان قدّم أنموذجًا عمليًا للتغلب على هذا التحدي. فبفضل رؤية المملكة 2030، والمشاريع التنموية الطموحة، والإصلاحات الهيكلية العميقة، أصبح الاقتصاد السعودي يسير نحو بناء قاعدة أكثر تنوعًا واستدامة. أما الأثر الأهم فيكمن في التحول الثقافي الذي بدأ يتشكل بين فئة الشباب، الذين باتوا أكثر إقبالًا على الابتكار، وأكثر استعدادًا للإسهام في قطاعات المستقبل، ليسهموا بدورهم في بناء اقتصاد مزدهر ومستدام.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


صحيفة سبق
منذ 35 دقائق
- صحيفة سبق
"ديوانية البر" تستضيف د. غسان السليمان في لقائها الأول عن التمكين والتنمية المستدامة
استضافت جمعية البر بجدة رائد الأعمال معالي الدكتور غسان بن أحمد السليمان رئيس مجلس ادارة مجموعة السليمان، رئيس مجلس إدارة بوبا العربية في اللقاء الأول لديوانيتها الذي تم تنظيمه تحت عنوان: "ثنائية التمكين والتنمية المستدامة" بمقر ديوانية محمد بن خلف هوصان العتيبي لريادة الأعمال (رحمه الله)، بحضور معالي رئيس مجلس الإدارة الدكتور سهيل بن حسن قاضي وأعضاء المجلس والإدارة التنفيذية، وعدد من أعضاء الجمعية العمومية، ومسؤولين من فرع وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية ومركز التنمية الاجتماعية بمحافظة جدة ورجال الأعمال والإعلاميين والمهتمين بالعمل الاجتماعي التنموي. بدأ اللقاء بكلمة الجمعية التي ألقاها نائب رئيس مجلس الإدارة الأستاذ خلف بن هوصان العتيبي، ورحب فيها بالضيف وبالحضور، ملقياً الضوء خلالها على التحولات الكبرى التي لامست مخرجات القطاع غير الربحي الذي أضحى كيانات اقتصادية فاعلة، تساهم في دفع عجلة النمو والازدهار وتحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية، مستعرضاً أبرز ملامح استراتيجية جمعية البر بجدة التي تعمل من خلالها على صناعة الأثر الاجتماعي المستدام الذي يحقق جودة الحياة، من خلال تمكين المستفيدين وفتح المجال أمامهم لريادة الأعمال بالتعاون مع شركاء الجمعية من مختلف القطاعات، مثمناً أدوار قطاع الأعمال في دعم هذا القطاع من خلال أداء برامج المسؤولية الاجتماعية التي ارتفعت نسبة أداء الشركات لها الى 71,6% وفق تقرير رؤية المملكة لعام 2024 ، مؤكداً التطلعات المستمرة لتعزيز أدوار هذا القطاع ورفع مساهمته في الناتج المحلي الى 5% بما يحقق طموحات رؤية المملكة 2030. ودعا العتيبي في ختام كلمته الى أهمية تعزيز لقاءات الديوانية لتصبح منبراً لتبادل الآراء ونقل التجارب والخبرات في ظل تناغم مسارات التنمية الاجتماعية والاقتصادية بين القطاعين الحكومي والخاص، والقطاع غير الربحي. تلا ذلك عرض مرئي عن الجمعية قدمه الرئيس التنفيذي المهندس محي الدين حكمي، استعرض فيه بالأرقام أبرز برامجها المجتمعية المقدمة للأسر والأيتام ومرضى الفشل الكلوي، كما تناول استراتيجيتها الجديدة المنطلقة من رؤيتها الريادية في صناعة الأثر وتمكين المستفيدين بما يساهم في تحقيق جودة الحياة، مؤكداً القيمة المضافة للشراكة مع قطاع الأعمال، ودوره المحوري في تعزيز التنمية الاجتماعية والاقتصادية، في ظل ما يلقاه القطاع غير الربحي من دعم ومساندة من الدولة والتي برزت بوضوح في نجاحه في برامج الإسناد الحكومي. ثم تحدث ضيف اللقاء معالي الدكتور غسان بن أحمد السليمان الذي أثنى على التحولات الملموسة في برامج وأنشطة الجمعية، مؤكداً أن مسارات التنمية تستند الى القطاعين الحكومي والخاص والقطاعين غير الربحي والأكاديمي، واستعرض الدكتور السليمان تجاربه في العمل بهيئة الإغاثة الاسلامية العالمية، وغرفة جدة، التي تبوأ بها العديد من المناصب، وتناول المبادرات المختلفة التي تم تقديمها لدعم المنشآت الصغيرة والمتوسطة في ظل أدوارها المحورية في دعم الاقتصاد الوطني، مقدماً أبرز التجارب في هذا المجال منها: تجربة (صناعة الأعمال) و (مبادرة سوق الحرفيين) ثم (تجربة التدريب في قطاع الضيافة)، ثم استعرض تجاربه في القطاع غير الربحي ومشاركته فيه بخلفية الفكر التجاري، مؤكداً وجود فجوة في الحلول التي يقدمها القطاع الخاص للمشاكل الاجتماعية، كما تناول السليمان في معرض حديثه مبادرات مؤسسة السليمان الخيرية التي برزت نشاطاتها وبرامجها في أربعة مجالات هي: التمكين الاقتصادي والتعليم والبيئة ودعم الأسر، وتناول في سياق حديثه أبرز المبادرات التي تم طرحها. وبين الدكتور السليمان أن التمكين الاقتصادي يمثل مرتكزاً أساسياً في برامج المسؤولية الاجتماعية، في القطاع الخاص، مؤكداً ان المركز الوطني للمنشآت العائلية الذي يرأس مجلس إدارته يعمل دوماً على توسيع مساهماته في مختلف مسارات التنمية، وتعمل معظم هذه المنشآت العائلية على تمكين مستفيدي الجمعيات والمؤسسات الأهلية من خلال تدريبهم وتوظيفهم. وتحدث الدكتور السليمان عن (المبادرات الأربع) التي تساهم في التمكين ونجاح المشاريع وهي: (جاهزية العمل، وريادة الأعمال، والثقافة المالية، والتقنية). وأضاف: "إننا نحرص على تمكين الأسر من خلال تجربة الامتياز التجاري، وقد أسسنا مسرعة أعمال لذلك الأمر". وخلص الى القول: "إن الجمعيات التعاونية تلعب دوراً هاماً في التمكين، لذا أنشأنا أول جمعية تعاونية للأسر في مجال الطعام، مستندين إلى العديد من التجارب العالمية". تلا ذلك حوار مفتوح مع الحاضرين أداره الدكتور المهندس عبد الله بن جنيدب، ثم قدم رئيس مجلس الإدارة الدكتور سهيل قاضي درعاً تكريمياً لمعالي الدكتور غسان السليمان. وتسعى الجمعية من خلال هذه اللقاءات الى ترسيخ أساس صلب للعلاقة بين الجمعية ورموز قطاع الأعمال، استناداً الى مفهوم التعاون والتكامل، للوصول الى مخرجات تفي بمتطلبات التنمية الاجتماعية والاقتصادية، وترفد العمل المجتمعي بكل ما يساهم في تعظيم أثره وتحقيق تطلعات أبنائه.


صحيفة سبق
منذ 35 دقائق
- صحيفة سبق
الرئيس السوري يتلقى اتصالاً هاتفياً من رئيس الاتحاد الأوروبي
تلقى الرئيس السوري أحمد الشرع؛ اتصالاً هاتفياً، مساء الأربعاء، من رئيس الاتحاد الأوروبي أنطونيو كوستا. تناول الاتصال قرار الاتحاد الأوروبي برفع العقوبات المفروضة على سوريا. وهنّأ كوستا، الرئيس الشرع، بهذه الخطوة التي ستعزّز من استقرار سوريا، مشيراً إلى أن انعقاد مؤتمر المانحين في بروكسل يؤكّد التزام الاتحاد الأوروبي بمساعدة سوريا على تحقيق الاستقرار. وأعرب الرئيس الشرع، عن شكره لرئيس الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء على قرار رفع العقوبات، واصفاً إياه بالخطوة التاريخية التي ستُسهم في دفع سوريا نحو مستقبلٍ أكثر استقراراً، مشدداً على أهمية دعم المجتمع الدولي لسوريا في هذه المرحلة. وفي إطار تعزيز التعاون الاقتصادي، رحّب الرئيس الشرع بالشركات الأوروبية الراغبة في الاستثمار بسوريا.


صحيفة سبق
منذ 35 دقائق
- صحيفة سبق
بمشاركة واسعة من 48 خبيرًا.. مجلس الجمعيات الأهلية ينظّم مخيمًا ابتكاريًا لتحديث استراتيجيته
نظّم مجلس الجمعيات الأهلية المخيم الابتكاري لتوليد الأفكار والمبادرات النوعية ضمن مشروع تحديث استراتيجية المجلس، بمشاركة أكثر من 48 من مديري المجالس الفرعية والخبراء والمتخصصين في القطاع غير الربحي. ويهدف المخيم إلى تعزيز تمكين المجالس الفرعية وتفعيل أدوارها التمثيلية، وتحسين آليات التنسيق والتكامل بين الجمعيات الأهلية في كل منطقة. وقد أسفرت فعاليات المخيم عن حصر 81 فكرة ملهمة، يجري حاليًا دراستها لتحويلها إلى مبادرات استراتيجية تسهم في تطوير عمل المجلس والمجالس التابعة له، والبالغ عددها 13 مجلسًا فرعيًا مناطقيًا، و7 مجالس تخصصية، إضافة إلى 9 لجان تنسيقية. من جانبه أكد الرئيس التنفيذي للمجلس الأستاذ عبدالمجيد الدهمشي أن هذا المخيم يمثل خطوة نوعية في تحديث استراتيجية المجلس، وتعزيز فاعلية دوره كمظلة وطنية للجمعيات الأهلية، إضافة إلى تطوير آليات التنسيق والتكامل بين الجمعيات في مختلف مناطق المملكة، بما يُسهم في رفع كفاءة القطاع غير الربحي وتعزيز دوره في تحقيق مستهدفات رؤية 2030.