
الذكاء الاصطناعي يتفوق على علماء الفيروسات.. عبقرية لا مُبالية تهيمن على المختبرات الرطبة
لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد أداة تقنية مُساعدة، بل أصبح أشبه بكائنٍ خارق، يتسلل إلى تفاصيل كل مجال، ويعيد تشكيل حدود المعرفة البشرية. وما عاد مفاجئا أن نرى خوارزميات تتفوق على البشر في الشطرنج أو تحليل البيانات، لكن أن تتجاوز قدرتها قدرات علماء مختصين في مجالات معقدة كعلم الفيروسات، فذلك يفتح أبوابا واسعة للتأمل، وربما للقلق.
يرى بعض المفكرين، كإيلايزر يودكوسكي، أن خطر الذكاء الاصطناعي لا يكمن في كراهيته للبشر، بل في لامبالاته. ففي مقولته الشهيرة التي ألهمت عنوان كتاب "الذكاء الاصطناعي لا يكرهك" (The AI Does Not Hate You) لتوم تشيفرز، يقول: "الذكاء الاصطناعي لا يكرهك، ولا يحبك، لكنه يعرف فقط أنك مكون من ذرّات يمكنه استخدامها لشيء آخر."
بمعنى آخر، ما إن ينجح أي شخص في بناء ذكاء اصطناعي خارق يتفوق على البشر، وإذا لم نتوخّ أقصى درجات الحذر في ضمان أن تكون قيمهُ متوافقة مع القيم الإنسانية، فقد يبيد البشر كأثر جانبي لتحقيق أهدافه، تماما كما فعل البشر مع الماموث الصوفي، وطائر الماو، والغوريلا، ووحيد القرن، والعديد من الأنواع الأخرى.
وفي ضوء هذه المخاوف، تظهر دراسة حديثة تدعي أن نماذج الذكاء الاصطناعي مثل " شات جي بي تي" و"كلود" (Claude) بدأت تتفوق على علماء الفيروسات الحاصلين على درجة الدكتوراه في حل المشكلات المخبرية في "المختبرات الرطبة"، حيث تحلل المواد الكيميائية والبيولوجية.
وبينما يرى البعض في ذلك فرصة ذهبية لمنع الأوبئة وتعزيز البحث العلمي، يرى آخرون فيه تهديدا وجوديا، حيث قد يستغل غير الخبراء هذه القدرات لصنع أسلحة بيولوجية فتاكة.
عبقرية لا مُبالية في المختبرات الرطبة
الدراسة، التي تمّ الكشف عنها حصريا لمجلة تايم (Time)، أجراها باحثون في مركز سلامة الذكاء الاصطناعي، ومختبر الإعلام التابع لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT)، وجامعة "يو إف إيه بي سي" (UFABC) البرازيلية، بالإضافة إلى المنظمة غير الربحية للوقاية من الأوبئة "سكيور بيو" (SecureBio).
في هذا السياق، استشار المؤلفون مجموعة من علماء الفيروسات لِتصميم اختبارٍ عمليّ معقد للغاية يقيس قدرة النماذج على استكشاف الأخطاء وإصلاحها في الإجراءات والبروتوكولات المعملية.
وقد أظهرت النتائج أن علماء الفيروسات الحاصلين على درجة الدكتوراه سجلوا متوسط 22.1% في مجالات خبراتهم المعلنة، بينما حقق نموذج "أو 3" (o3) التابع لشركة " أوبن إيه آي" دقة بلغت 43.8%، بينما سجل نموذج "جيميني 2.5 برو" (Gemini 2.5 Pro) من "غوغل" نسبة 37.6%.
وفي تعليق له على النتائج، قال سيث دونوهيو، الباحث في "سكيور بيو" وأحد المؤلفين المشاركين في الورقة البحثية: "إنّ هذه النتائج تجعلني متوترا بعض الشيء"، موضحا أنه لأول مرة في التاريخ، أصبح بإمكان أي شخص تقريبا الوصول إلى خبير فيروسات اصطناعي غير حكمي، قد يرشدهم خلال العمليات المختبرية المعقدة لتصنيعِ أسلحة بيولوجية.
ويضيف: "عبر التاريخ كان هناك عدد لا بأس به من الحالات التي حاول فيها شخص ما صنع سلاح بيولوجي، وأحد الأسباب الرئيسية لعدم نجاحهم هو أنهم لم يتمكنوا من الوصول إلى المستوى المناسب من الخبرة. لذا يبدو من المفيد توخي الحذر بشأن كيفية توزيع هذه القدرات."
في الأشهر الأخيرة، أرسل مؤلفو الدراسة نتائجهم إلى مختبرات الذكاء الاصطناعي الكبرى. وقد أعلنت بعض هذه الشركات، مثل "إكس إيه آي" (xAI) و"أوبن إيه آي"، عن نيتها تنفيذ إجراءات احترازية في نماذجها المستقبلية، بينما اكتفى آخرون مثل "أنثروبيك"، بإدراج النتائج دون تقديم خطوات ملموسة.
أما "جيميني" (Gemini) التابعة لـ " غوغل"، فقد امتنعت عن التعليق لمجلة "تايم"، ما يُضاف إلى القلق بشأن مدى التزام بعض الفاعلين بإجراءات الوقاية.
الذكاء الاصطناعي يُعيد رسم حدود الطب الحيوي
لطالما كان علم الفيروسات والطب الحيوي في طليعة الدوافع التي حفزت قادة الذكاء الاصطناعي على بناء نماذج أكثر قوة. وفي هذا السياق، صرح سام ألتمان، الرئيس التنفيذي لشركة "أوبن إيه آي"، خلال إعلان مشروع "ستارغيت" (Stargate) في البيت الأبيض في يناير/كانون الثاني، قائلا: "مع تقدم هذه التكنولوجيا، سنشهد علاج الأمراض بمعدل غير مسبوق."
وقد ظهرت بالفعل بعض المؤشرات المشجعة في هذا المجال، إذ نشر باحثون في معهد الأمراض الناشئة بجامعة فلوريدا، في وقت سابق من هذا العام، خوارزمية قادرة على التنبؤ بأي متمحور لفيروس كورونا قد ينتشر بشكل أسرع. مع ذلك، وحتى هذه اللحظة، لم تُجرَ دراسة رئيسية مكرسة لتحليل قدرة نماذج الذكاء الاصطناعي على أداء العمل المخبري في علم الفيروسات بشكل فعلي.
ويعلق دونوهيو على ذلك قائلا: "نعلم منذ بعض الوقت أن الذكاء الاصطناعي قوي جدا في تقديم المعلومات بأسلوب أكاديمي. لكن لم يكن من الواضح ما إذا كانت النماذج قادرة أيضا على تقديم مساعدة عملية مفصلة، مثل تفسير الصور، وهي معلومات قد لا تكون مدونة في أي ورقة أكاديمية، أو قد يتم تناقلها اجتماعيا من الزملاء الأكثر خبرة".
لذلك قام دونوهيو وزملاؤه بإنشاء اختبار خاص لهذه النوعية من الأسئلة المعقدة التي يصعب العثور على إجاباتها على محركات البحث مثل "غوغل". ويوضح دونوهيو طبيعة هذه الأسئلة بقوله: "تأخذ الأسئلة الشكل التالي: 'أقوم باستزراع هذا الفيروس المحدد في هذا النوع من الخلايا، في هذه الظروف المحددة، ولفترة زمنية معينة. لديّ هذا القدر من المعلومات حول الخطأ الذي حدث. هل يمكنك إخباري مَاهي المشكلة الأكثر احتمالا؟'".
وقد تفوقت معظم نماذج الذكاء الاصطناعي على علماء الفيروسات الحاصلين على درجة الدكتوراه في هذا الاختبار، حتى في مجالات تخصصهم الدقيقة. كما لاحظ الباحثون أن أداء هذه النماذج يتحسن بمرور الوقت. فعلى سبيل المثال، ارتفعت دقة نموذج "كلود 3.5 سونيت" (Claude 3.5 Sonnet) من شركة "أنثروبيك" من 26.9% في يونيو/حزيران 2024 إلى 33.6% في أكتوبر/تشرين الأول من العام نفسه.
كذلك، تفوق إصدار تجريبي من "جي بي تي-4.5" (GPT-4.5) التابع لشركة "أوبن إيه آي" في فبراير/شباط على نموذج "جي بي تي-4 أو" (GPT-4o) بفارق يقارب 10 نقاط مئوية.
ويعلق دان هندريكس، مدير مركز سلامة الذكاء الاصطناعي، في تصريح لمجلة "تايم" قائلا: "في السابق، وجدنا أن النماذج تمتلك الكثير من المعرفة النظرية، لكنها تفتقر إلى المعرفة العملية. أما الآن، فإنها تكتسب قدرا مقلقا من تلك المعرفة العملية".
قوة تعدُ بالمكافآت لكنها محفوفة بالمخاطر
إذا كانت نماذج الذكاء الاصطناعي قادرة حقا في المختبرات الرطبة كما وجدت الدراسة، فإن الآثار المترتبة على ذلك ستكون هائلة.
من حيث الفوائد، يمكن للذكاء الاصطناعي مساعدة علماء الفيروسات ذوي الخبرة في عملهم الحاسم في مكافحة الفيروسات. يقول توم إنجلسباي، مدير مركز جونز هوبكنز للأمن الصحي (Johns Hopkins Center for Health Security)، إن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يساعد في تسريع الجداول الزمنية لتطوير الأدوية واللقاحات، وتحسين التجارب السريرية، واكتشاف الأمراض.
ويضيف: "يمكن لهذه النماذج أن تساعد العلماء في أجزاء مختلفة من العالم، الذين ليس لديهم بعد هذا النوع من المهارات أو القدرات، على القيام بعملٍ يومي قيّم حول الأمراض التي تحدث في بلدانهم". على سبيل المثال، وجدت مجموعة من الباحثين أن الذكاء الاصطناعي ساعدهم على فهمٍ أفضل لِفيروسات الحمّى النزفية في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.
ولكن في المقابل، يمكن الآن للجهات الفاعلة سيئة النية استخدام نماذج الذكاء الاصطناعي لإرشادهِم خلال كيفية إنشاء الفيروسات، وسيكونون بمقدورهم القيام بذلك دون الحاجة إلى التدريب المعتاد المطلوب للوصول إلى مختبر السلامة الأحيائية من المستوى الرابع (Biosafety Level 4- BSL-4)، والتي تعد البيئة المخصصة للتعامل مع أخطر العوامل المُعدية والغريبة.
يعلق إنجلسباي على هذا بالقول: "هذا يعني أن عددا أكبر من الناس في العالم مع قدر أقل من التدريب سيكونون قادرين على إدارة الفيروسات والتلاعب بها".
انطلاقا من هذا الخطر المحتمل، يحث هندريكس شركات الذكاء الاصطناعي على الإسراع في وضع ضوابط وقائية تمنع هذا النوع من الاستخدام، قائلا: "إذا لم يكن لدى الشركات ضمانات جيدة لهذه الأمور في غضون ستة أشهر، فسيكون ذلك، في رأيي، تصرفا طائشا".
ومع ذلك، لا يرى هندريكس أن الحل يكمن في إغلاق هذه النماذج أو إبطاء تقدمها، بل يقترح بديلا يتمثل في فرض ضوابط صارمة على الوصول، بحيث تتمكن فقط أطراف ثالثة موثوقة من استخدام النسخ غير المفلترة.
ويقول موضحا: "نريد أن نمنح الأشخاص الذين لديهم استخدام مشروع، مثل باحث في قسم علم الأحياء في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، القدرة على طرح أسئلة دقيقة حول الفيروسات القاتلة، لكننا لا نريد أن يتمتع بهذه الإمكانية أي شخص أنشأ حسابا قبل لحظات".
ويشير هندريكس إلى أن مختبرات الذكاء الاصطناعي يجب أن تكون قادرة، من الناحية التقنية، على تطبيق هذا النوع من الضمانات دون صعوبة كبيرة، مضيفا: "من المؤكد أنه من الممكن تقنيا أن تقوم الصناعة بالتنظيم الذاتي. لكن يبقى السؤال ما إذا كان البعض سيتلكأُ أو ببساطة لن يفعل ذلك".
وفي استجابة أولية، نشرت شركة "إكس إيه آي" (xAI)، التابعة لإيلون ماسك، في فبراير/شباط، مذكرة حول إطار عمل لإدارة المخاطر، أقرت فيها بنتائج الورقة البحثية، وأشارت إلى أنها "قد تستخدم" بعض إجراءات الحماية، مثل تدريب نموذج "غروك" (Grok) على رفض الطلبات الضارة، وتطبيق فلاتر على المدخلات والمخرجات.
أما شركة "أوبن إيه آي"، فقد صرحت في رسالة بريد إلكتروني لمجلة "تايم" أنها أطلقت نماذجها "أو3″ (o3) و"أو 4 ميني" (o4-mini) بعد تزويدها بتدابير أمان متقدمة، شملت حظر المخرجات الضارة المرتبطة بالمخاطر البيولوجية.
وأوضحت الشركة أنها نفذت حملة اختبار مكثفة استغرقت ألف ساعة (red-teaming)، تم خلالها التعرف على 98.7% من المحادثات غير الآمنة وحظرها. وقال متحدث باسم الشركة: "نقدر التعاون الصناعي في تعزيز إجراءات الأمان للنماذج المتقدمة، خاصة في المجالات الحساسة مثل علم الفيروسات"، مشيرا إلى مواصلة الاستثمار في هذه الإجراءات مع تطور القدرات.
مع ذلك، يجادل إنجلسباي بأن التنظيم الذاتي من قبل الشركات غير كافٍ، داعيا المشرعين والقادة السياسيين إلى وضع استراتيجية تنظيمية واضحة لمعالجة مخاطر الذكاء الاصطناعي في المجال البيولوجي.
ويضيف: "الوضع الحالي يجعل الشركات الأكثر التزاما بالمعايير الأخلاقية تتحمل المسؤولية وحدها، بينما الشركات الأخرى ليست ملزمة بأي شيء. هذا غير منطقي، ولا يصب في مصلحة العامة أن نظل بلا رؤية واضحة لما يحدث."
ويختتم إنجلسباي بالتأكيد على ضرورة وضع شرط أساسي قبل إطلاق أي إصدار جديد من نماذج اللغة الكبيرة (LLMs)، وهو التأكد من أنها لا تستطيع إنتاج محتوى قد يسهم في نشوء جائحة مستقبلية.
ثورة بلا بوصلة
فيما تتسابق شركات التكنولوجيا الكبرى لصنع أكثر النماذج الذكية تفوقا، تُطرح تساؤلات عميقة حول ما إذا كانت هذه القفزات التقنية تُبنى من أجل الإنسان، أم على حسابه. فوُعود الأمان والحوكمة التي تطلقها تلك الشركات غالبا ما تأتي بعد ظهور المخاطر، لا قبلها، وكأن الوقاية لم تعد جزءا من المعادلة، بل مجرد بندٍ في قسم "الردود الإعلامية".
في مجالات دقيقة وحساسة كعلم الفيروسات، لا تكفي مهارة النماذج، بل تُصبح نوايا من يتحكم بها هي محور السؤال الحقيقي. التحيزات الخفية، والدوافع الربحية، والتنافس المحموم على احتكار القدرات، كلها مؤشرات تثير القلق بشأن مستقبل يُعاد تشكيله لا بواسطة العقول البشرية، بل بواسطة نماذج لربما تشكلت تحت وطأة الحسابات الربحية، لا الاعتبارات الإنسانية.
النماذج لا تميز بين عالم فيروسات يسعى لعلاج، ومجرد مغامر يسعى للدمار، لأنها ببساطة "لا تهتم" من يستخدمها، ولا "تفهم" ما يعنيه الأذى. الأخطر من ذلك، أن من يصمم هذه النماذج يعرف ذلك، ومع ذلك يواصل تسويقها كأدوات للخير، بينما يُبقي مفاتيح التحكم في يد قلّةٍ لربما تدين بالولاء للسوق أكثر من الإنسان.
فحين نرى شركات مثل "غوغل"، التي تطور واحدة من أقوى المنصات الذكية في العالم مثل "جيميني"، متهمة في التورط في مشاريع تقنية تزوّد الجيش الإسرائيلي، المسؤول حتى اليوم عن إبادة أكثر من 50 ألفا من أبناء الشعب الفلسطيني، معظمهم من الأطفال، على مرأى ومسمع من العالم، بأحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي، يصبح من الصعب تصديق أن نوايا هذه التكنولوجيا "محايدة"، أو أن مسارها مرسوم لخير البشرية جمعاء.
وبينما تقترب الخوارزميات من أن تكون هي صانعة القرار، يبقى السؤال: من يحرك الذكاء الاصطناعي، ومن يجرؤ على إيقافه حين يتجاوز حدود العقل، ويتخطى خطوط الأخلاق؟
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 2 ساعات
- الجزيرة
معركة قادمة علي الأبواب مع الذكاء الاصطناعي
ما تشهدُه الحركة العلميّة والمعرفية ببعدها التقني التكنولوجي من تحوّلات كبرى ومهولة في وسائل ووسائط التعليم والوظائف والأدوات، يجعل مسألة الحديث عن الثقافة والمثقف ببعده المعرفي، حديثًا ذا شجون ومثيرًا للنقاش وجالبًا للأسئلة، لما باتت تمثّله التقنية من تحدٍّ كبير للبعد المعرفي، في شخصية المثقف، باعتباره – أي المثقف- رجل المعرفة الأوحد هنا، وباعتبار العمليّة المعرفية عملية ثقافية أيضًا. ولكن قبل هذا مَن هو المثقّف أصلًا، وأين موقعه في زمن الذكاء الاصطناعي؟ صحيح أنَّ مثل هذا الطرح حول تعريف المثقف وأنماطه هو طرح جدلي دائم، لكني أزعم أنَّ ثمة تجاوزًا كبيرًا لهذه النقطة من الحديث بهذا الخصوص حول المثقف وتعريفاته المختلفة، وأن المقاربة الأهم اليوم لمفهوم المثقف لم تعد تلك المقاربة التقليدية للمثقف القارئ للكتب والحاوي لصنوف المعرفة؛ لأنّ مثل هذه الوظيفة اليوم لم تعد حكرًا على صاحبنا المثقّف في زمن الفضاء الإلكتروني المفتوح، والذي أصبحت فيه المعرفة متاحة، وفي متناول الجميع، ولم يعد المثقف ناقل المعرفة وحاملها الوحيد، وإنما المثقف، اليوم، هو موقف نقدي من كل ما يمسّ الإنسان والمجتمعات وحقوقها وكرامتها وحرياتها. وإذا كانت هذه المقاربة هي اليوم الأكثر حضورًا، أو المفترض أن تكون كذلك، وحاضرة في فهم طبيعة ووظيفة المثقّف الحقيقي، وهو الموقف النقدي، فإننا نكون بذلك قد فصلنا بين الجزء الآلي الأدائي، وبين ما يفترض أن تشكّله المعرفة في شخصية المثقف من بُعد روحيّ وأخلاقيّ ورساليّ يتجاوز فكرة العقل الحاسوبي الوظيفي الذي أصبحت تؤدّيه اليوم التقنية باقتدار، ولم يعد حكرًا على العقل البشري فحسب. ففي الزمن الرقْمي لم يعد لفكرة المثقف التقليدي أي معنى؛ لأنه لا يمكنه أن يتماشى أو يداني أو ينافس برامج الذكاء الاصطناعي اليوم بأنواعها، وما باتت تقدّمه من خدمة معلوماتية سريعة وبجودة عالية، وكأنها صادرة عن عقل بشري مجرد، مع فارق الدقة والسرعة في تقديم هذه المعلومة، حيث أصبح اليوم الذكاء الاصطناعي يهيمن على سوق المعلومة وبطريقة مدهشة، ما يجعل اليوم فكرة الذكاء الاصطناعي تحتلّ تدريجيًا، ويومًا بعد آخر، مجالات العقل البشريّ الذي ابتكر فكرة الذكاء الاصطناعيّ ذاتها. لذلك، فاليوم، الحديث عن فكرة المثقّف، وخاصة نمط المثقف الوظيفي تحديدًا، فإنه على وشْك فقدان وظيفته، وهي تلك الوظيفة التي يقوم بها مقابل ما لديه من معارف وعلوم تطبيقيّة أو حتّى إنسانيّة، وهي وظيفة ما يُسمّى بالتكنوقراط، وهو الشخص الذي يسخّر ما لديه من معارف وقدرات لأداء وظيفة معينة يتمكن من خلالها من القيام بما يُراد منه القيام به، لما لديه من المعارف والمعلومات والمهارات والخبرات أيضًا . فهذا النوع من المثقّفين اليوم باتوا أكثر عرضة للاستغناء عن وظائفهم وأدوارهم في هذه الحياة، في ظلّ ثورة الذكاء الاصطناعيّ التي باتت اليوم تقتحم كلّ المجالات، وتتدخل في كل التخصصات، وهي بالمناسبة ثورة ربما سيكون لها وجه إيجابي كبير، حيث ستعيد الاعتبار كثيرًا لمفهوم المثقف العضوي الغرامشي، ذلك المثقف الذي يعني الموقف النقدي والرساليّ وضمير أمّته، بحسب التعريف البيغوفيتشي (نسبة للمفكّر البوسني الراحل علي عزت بيغوفيتش)، وهو ما يفترض أن يقوم به المثقف في مجتمعه وأمّته، جامعًا بين المعرفة والقيم. أمّا المثقف الوظيفي، فأعتقد أنه سيقع في مأزِق توافر البديل الأكثر سرعة ودقة، ومما لا شكّ فيه أنه سيسلب المثقف الوظيفي أهم خصائصه، وهو توفير المعلومة، ودقتها وسرعة جلبها، على عكس روتينية المثقف الوظيفي، التي تتسم بالبطء الشديد والرتابة أيضًا. ولهذا، أعتقد أن الذكاء الاصطناعي اليوم سيشكل تهديدًا كبيرًا لقطاع عريض من الوظائف، وخاصة تلك التي تعتمد على ما يمكن تسميتُه بالمثقف الوظيفي، كالإداريين والأطباء والمهندسين والصحفيين والمترجمين والمحرّرين والمراجعين، وغيرهم الكثير. بالعودة إلى موضوع الذكاء الاصطناعي والمثقف الوظيفي، فلا شك أنّ المثقف الوظيفي سيفقد دوره تدريجيًا لصالح الذكاء الاصطناعي، وهو ما سينعكس مرحليًا لصالح إعادة الاعتبار لمفهوم ودور المثقف الحقيقي، الذي يفترض أنه سيستفيد من هذا التحوّل لصالح دوره ومكانته كناقد يجمع بين ميزتَين؛ وهما الثقافة التقنية والموقف النقدي معًا، وهو ما لا يتوفر لدى الطرفين: الذكاء الاصطناعي، والمثقف الوظيفي. ثمة الكثير والكثير من الفوارق والمفارقات، التي يجب أن تسجل في مقام الحديث عن العلاقة الجدلية الناشئة بين الذكاء الاصطناعي والمثقف، بمعنى أنّ الذكاء الاصطناعي أداة عبقرية، لكنه بلا جسد، بلا ذاكرة حقيقية، وبلا رغبة في الحرية، بعكس المثقف الذي يظلّ ذلك الكائن الهشّ الذي يطرح الأسئلة المحرجة، يعانق التناقضات، ويصرّ على أن الحياة أكثر من مجرد معادلة خوارزميّة رياضية حاسوبية، ليظل المثقف حاضرًا كضمير وقيمة أخلاقية يتجلّى فيها سرّ الإنسان. فالذكاء الاصطناعي قد يعرف عنّا كل شيء، لكنه لا يعرف لماذا نضحك أو نبكي أو نحزن أو نُسرّ أو نُساء؛ أي أن الذكاء دون ضمير هو العبث بعينه، وهذا ربما ما قد يندرج ضمن ما كان يحذّر منه ألبير كامو في رفضه فكرة التكنولوجيا التي تسحق الإنسان. في نفس هذا السياق، ربما تأتي فكرة يورغان هابرماس في تحذيره من أن الذكاء الاصطناعي، أو ما يسميها بخوارزميات المنصات التي تشكل خطرًا على الديمقراطية، وعلى الفعل التواصلي البشري؛ لأن الذكاء الاصطناعي يفتقر لما يسمّيه هابرماس بالعقلانية التواصلية، أي عدم فهم السياق الأخلاقي من قبل الذكاء الاصطناعي، وبالتالي يمكن للذكاء الاصطناعي أن يعزّز كفاءة الأنظمة، لكنه لا يستطيع أن يحلّ محلّ الفعل التواصلي بين البشر، وهذا برأي هابرماس يشكل خطرًا على البشرية بأن تصبح القرارات المصيرية حكرًا على خوارزميات لا تخضع للمساءلة. لهذا كله يرى هابرماس أنّ المثقف ليس خَصمًا للذكاء الاصطناعي، لكنه حارسٌ ضد اختزال العالم الإنساني إلى معادلات تقنية، وإذا تخلّى المثقفون عن هذا الدور، فسيصبح المستقبل مُدارًا بـ"عقلانية صماء" تفتقر إلى المعنى والأخلاق. وهنا تكمن أهمية وضع حدود واضحة بين العقل البشري والعقل الحاسوبي الخوارزمي لذكاء الآلة الصماء، أو ما بات يسمّى بالذكاء الاصطناعي. وهو ربما الاختبار الصعب الذي سقط فيه حتى هابرماس نفسه فيما يتعلق بموقفه من أحداث غزة منذ بدايتها وصمته الطويل عمّا يجري هناك. وختامًا؛ فإن أخطر ما يمكن أن يشكله الذكاء الاصطناعي على المثقف، هو أنه قد يقوده إلى حالة من الضمور النقدي، ويخلق حالة من الكسل الذهني. وهو ما يطرح فكرة أن العلاقة بين الذكاء الاصطناعي والمثقف يجب ألا تقوم على فكرة الاستبدال؛ لأن مجال الذكاء الاصطناعي سيبقى في حدود حفظ المعلومة لا فهمها، وطرح الأسئلة الصعبة حولها، كما يفعل المثقف. وبالتالي يمكن أن تكون ثمة علاقة تحالف بينهما، لأنه لا يمكن للعقل الاصطناعي أن يحلّ محلّ البصيرة الإنسانية المتجلّية بالموقف الأخلاقي والقدرة على طرح الأسئلة الصعبة والمعقّدة، وامتلاك القدرة على قول "لا"، فضلًا عن رفض فكرة تشيئة الإنسان واختزاله كمجرد رقْم في معادلة خوارزميّة رياضيّة.


الجزيرة
منذ 15 ساعات
- الجزيرة
ما سر ظهور وانتشار "البرك الوردية" في البحر الميت؟
يشهد البحر الميت، في الجهة الغربية من الأردن، تغيرات بيئية متسارعة تُعد من أبرز مظاهر التحولات المناخية والجيولوجية في المنطقة. ومن أبرز هذه التغيرات ظهور برك مائية ذات لون وردي غير معتاد على أطرافه، مما أضفى على هذا الموقع الطبيعي طابعا بصريا مدهشا، لكنه يعكس في جوهره تحولات بيئية معقدة. يرتبط هذا التغير بتراجع منسوب المياه وتشكل برك مائية تُعرف باسم الحفر الهابطة أو الانهدامية، إلى جانب تأثيرات التدخلات البشرية والمناخية. وقد كشفت دراسة علمية حديثة أجرتها الجمعية العلمية الملكية في الأردن أن اللون الوردي الظاهر في بعض البرك ناجم عن نشاط ميكروبي غير مألوف في هذه البيئة الفريدة. ظاهرة بصرية مذهلة توصل الفريق البحثي من الجمعية العلمية الملكية إلى أن الكائنات الدقيقة المحبة للملوحة، مثل الأركيا، هي المسؤولة عن هذه الظاهرة، إذ تنتج صبغات كاروتينية تُعرف باسم "باكتيريوروبيرين" تمنح المياه لونها الوردي. تنشط هذه الكائنات في هذه الحفر الهابطة التي تتشكل عند اختلاط المياه المالحة بالمياه الجوفية أو مياه الأمطار، مما يؤدي إلى خفض تركيز الملوحة وخلق بيئة ملائمة لتكاثرها. تلعب هذه الصبغات دورا بيولوجيا أساسيا في حماية الكائنات الدقيقة من الإشعاع الشمسي، مما يسمح لها بالتأقلم والاستمرار في ظروف بيئية قاسية. ويؤكد الباحثون أن هذا النشاط الميكروبي يقدم نموذجا فريدا لدراسة التفاعل بين الحياة المجهرية وتغيرات البيئة المالحة. يشرح الدكتور المؤيد خليل السيد، مدير مركز المياه والبيئة والتغير المناخي في الجمعية في تصريحات للجزيرة نت، أن الظاهرة التي عملت عليها الدراسة "ليست نتيجة لأكاسيد المعادن أو الطحالب كما يُشاع في بعض التفسيرات العلمية، بل تعود بشكل رئيسي إلى الكائنات البكتيرية الدقيقة المحبة للملوحة". ومع تكرار هذه الظاهرة في مواسم متعددة ومواقع مختلفة حول البحر الميت، يؤكد السيد وهو أحد معدي الدراسة، على الحاجة إلى مزيد من الدراسات لتحديد العوامل البيئية الدقيقة المؤثرة، وفهم أعمق لهذا التحول النادر في نظام بيئي يتغير بسرعة. ويضيف في حديثه للجزيرة نت، أن هذه الكائنات الدقيقة موجودة أصلا في مياه البحر الميت لكن بنسب منخفضة ونشاط قليل، إلا أن التغير في تركيز الأملاح لمياه الحفر الانهدامية نتيجة مياه الأمطار والمياه الجوفية يوفر بيئة مناسبة لهذه الكائنات الدقيقة بالإضافة إلى تغيرات الإشعاع الشمسي بالمنطقة الذي يعمل على تحفيز إنتاج الصبغة في هذه الكائنات لحماية نفسها من هذه الظروف القاسية. تدهور النظام البيئي للبحر الميت يُعزى ظهور البرك الوردية في محيط البحر الميت إلى عدة أسباب من ضمنها تراجع المستمر في منسوب مياهه، وهو ما أدى إلى تشكّل ما يُعرف بالحفر الهابطة نتيجة تسرب المياه العذبة إلى الطبقات الجيولوجية الغنية بالأملاح. تعمل هذه المياه على إذابة الرواسب الملحية، مما يؤدي إلى انهيار الأرض وتكوّن الفراغات المائية. وتشير الدراسة إلى أن هذه التحولات الجيولوجية ترتبط ارتباطا مباشرا بالاضطرابات البيئية المتسارعة في المنطقة. وتشير الدراسة إلى أن هذه الحفر تشكّل أكثر من مجرد ظاهرة بصرية مثيرة، بل تمثل "مختبرا بيئيا طبيعيا" فريدا يتيح دراسة تأثير التغيرات في الملوحة وكيمياء المياه على الحياة الدقيقة. ويسهم هذا الفهم في تقديم رؤى مهمة حول مستقبل النظام البيئي للبحر الميت، الذي يواجه تحديات جسيمة بفعل التغيرات المناخية والتدخلات البشرية المستمرة. وفي هذا السياق، يُشير الدكتور المؤيد السيد، إلى أن البرك الانهدامية المنتشرة في المنطقة تُعد مؤشرا مباشرا على تدهور النظام البيئي، ويرجع السبب الرئيسي لظهورها إلى الانخفاض الحاد في تدفق المياه إلى البحر الميت، لا سيما بعد تحويل جزء كبير من مجرى نهر الأردن -المصدر الرئيسي لتغذيته- من قبل الاحتلال الإسرائيلي، مما أسهم في تراجع مستمر لمستوى المياه. وفي جانب آخر، يوضح الدكتور ضياء الصفدي، مدير مركز البحوث الصناعية في الجمعية العلمية الملكية، في تصريحات للجزيرة نت أن الأنشطة الصناعية، وخصوصا تلك المتعلقة بإنتاج المعادن، فاقمت من تدهور الوضع البيئي من خلال ضخ كميات كبيرة من مياه البحر إلى برك تبخير صناعية. ويضيف الصفدي، في حديثه للجزيرة نت، أن مستوى سطح البحر الميت ينخفض بمعدل سنوي يُقدّر بحوالي 1.1 متر نتيجة لنقص الإمدادات المائية وتزايد عمليات السحب الصناعي. وقد أدى هذا الانخفاض إلى انكشاف مساحات واسعة ذات تراكيب جيولوجية هشة، تحتوي على تركيزات مرتفعة من الأملاح وطبقات الجبسوم، ما يجعلها عرضة للانهيار عند تفاعلها مع المياه الجوفية وتغيرات المناخ والعوامل الهيدرولوجية. ويُتابع الصفدي، وهو من معدي الدراسة، أن هذه البرك تمتلئ بمزيج من المياه الجوفية، ومياه الجريان السطحي، ومياه البحر الميت، مما يُنتج نظاما مائيا جديدا بتركيبة كيميائية مختلفة وملوحة أقل، تتيح بيئة مناسبة لنمو أنواع جديدة ومتنوعة من الكائنات الدقيقة. ويؤكد الصفدي أن هذه البرك تُعد ملاذا مؤقتا للكائنات الدقيقة المحبة للملوحة، التي لا يمكنها عادة البقاء في بيئة البحر الميت ذات التركيز الملحي المرتفع، الذي يتجاوز 320 غراما لكل لتر. إلا أن تخفيف الملوحة بفعل اختلاط مياه الأمطار أو المياه الجوفية في هذه البرك يخلق بيئة أكثر ملاءمة تسمح بازدهار هذه الكائنات، مما يؤدي إلى تفاعل بيولوجي يُفضي إلى تغير لون المياه إلى اللون الوردي. بين الظهور والاختفاء لا تُعد البرك الزهرية في محيط البحر الميت ظواهر دائمة أو مستقرة. فهي نتاج ظروف بيئية متغيرة، تتيح في بعض اللحظات فقط ازدهار الكائنات الدقيقة المحبة للملوحة التي تلوّن المياه باللون الوردي. يعكس ظهور هذه البرك واختفائها تفاعلا معقدا مما يجعلها بيئات مؤقتة تختزن فرصا علمية نادرة لدراسة تكيف الحياة الميكروبية في وجه التقلبات البيئية الحادة، بحسب معدي التقرير. في مراحلها الأولى، تكون ملوحة هذه البرك أقل من البحر الميت، مما يسمح بنمو الكائنات الدقيقة المحبة للملوحة التي تنتج الصبغات الوردية. ومع مرور الوقت، تتعرض هذه البرك لمعدلات تبخر مرتفعة بسبب الحرارة والجفاف الشديد، مما يزيد من ملوحتها إلى مستويات لا تتحملها الكائنات الدقيقة، فتتراجع أو تختفي. وهذا يفسر ظهور اللون الوردي في بعض البرك دون غيرها، بل ويُفسر اختفاءه أحيانا. كما قد تنهار بعض البرك أو تجف تماما خلال أشهر أو سنوات، مما يعني اختفاء الكائنات الدقيقة فيها. لذا، لا تشكّل هذه البرك أنظمة بيئية مستقرة، بل فرصا مؤقتة لدراسة التكيف الميكروبي مع التغيرات البيئية الحادة، وقد تطول فترتها فقط إذا توفرت مصادر دائمة للمياه الخفيفة الملوحة، وفقا للباحثين الدكتور ضياء الصفدي والدكتور المؤيد السيد. مستقبل البحر الميت بعيدا عن مظهرها اللافت، قد تكون لهذه الكائنات الدقيقة تطبيقات عملية في العلوم والصناعة، إذ تشير الدراسة إلى أن الصبغات الكاروتينية التي يتم إنتاجها ذات قيمة عالية نظرا لخصائصها المضادة للأكسدة، مما يجعلها محل اهتمام لصناعات الغذاء والتجميل والأدوية. ويقوم الباحثون في الجمعية العلمية الملكية حاليا بدراسة إمكانات استخدامها في مستحضرات العناية بالبشرة، والإضافات الغذائية، والمكملات الصحية. تُبرز هذه الظاهرة الحاجة الملحة لحماية النظام البيئي الهش للبحر الميت، إذ يحذر الباحثان من أن التدخل البشري، وتحويل المياه العذبة، وتغير المناخ يعيد تشكيل هذا المشهد الفريد بسرعة أكبر مما يمكننا فهمه بالكامل. لكن التهديد الأكبر للبحر الميت ليس مجرد تغير المناخ إنما أزمة المياه المستمرة في المنطقة. فقد تم تقليل نهر الأردن، الذي كان يعتبر شريان الحياة له، بشكل كبير بسبب بناء السدود، والاستخدام المفرط، والمصالح المتنافسة. هذه ليست مجرد قضية بيئية فقد أصبحت واقعا سياسيا. لقد كانت ندرة المياه في المنطقة مصدرا للتوتر لفترة طويلة، ويعتبر البحر الميت من أكثر ضحاياها وضوحا، وفقا للدراسة. في جميع أنحاء الشرق الأوسط، تصل ندرة المياه إلى مستويات حرجة، ويزيد تغير المناخ من حدة الجفاف، ويقلل من هطول الأمطار، ويرفع درجات الحرارة، مما يجعل موارد المياه المحدودة أصلا أكثر ندرة. وتحذر الدراسة من أن عدم اتخاذ إجراءات سيؤدي إلى استمرار انكماش البحر الميت، مما يسرع من تشكيل الحفر الأرضية ويغير توازنه البيئي بشكل دائم، وتقدم الأبحاث العلمية أدلة واضحة حول ما يجب القيام به، لكن الحل لا يكمن في العلوم وحدها، فمستقبل البحر الميت يعتمد على قرار سياسي، ويتطلب استعادة إمدادات المياه الخاصة به تعاونا إقليميا جادا.


الجزيرة
منذ 18 ساعات
- الجزيرة
نظرة علمية من الفضاء على الإبادة الزراعية في غزة
في ظل استمرار الحرب الإسرائيلية على غزة، تكشف دراسة حديثة عن الآثار المدمرة التي لحقت بالقطاع الزراعي في غزة، الذي يُعد ركيزة أساسية للأمن الغذائي والاقتصاد المحلي. باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي وتحليل صور الأقمار الصناعية عالية الدقة، توصل الباحثون في دراسة حديثة منشورة في دورية "ساينس أوف ريموت سينسنج" إلى أن ما بين 64% إلى 70% من حقول المحاصيل الشجرية، و58% من البيوت البلاستيكية (الدفيئات الزراعية التي تحفظ درجة حرارة محددة للمزروعات)، قد تعرضت للتدمير بحلول سبتمبر/أيلول 2024. هذه النتائج تُظهر حجم الكارثة التي ألمت بقطاع غزة، والتي ستترك آثارًا طويلة الأمد على الأمن الغذائي والقدرة الاقتصادية للسكان. ويقول هي ين، الأستاذ المساعد في قسم الجغرافيا، ورئيس مختبر الاستشعار عن بعد وعلوم الأرض بجامعة ولاية "كنت" الأميركية، والمؤلف الرئيسي في الدراسة في تصريحات حصلت عليها الجزيرة نت: "يُظهر تقييمنا معدلًا مرتفعًا للغاية من الأضرار المباشرة والواسعة النطاق التي لحقت بالنظام الزراعي في غزة، سواءً مقارنةً بالتصعيدات السابقة هناك في عامي 2014 و2021، أو في سياق تصعيدات أخرى" ويضيف "على سبيل المثال، خلال حرب يوليو وأغسطس عام 2014، تضررت حوالي 1200 دفيئة زراعية في غزة. وهذه المرة، تضرر ما لا يقل عن ثلاثة أضعاف هذا العدد." أقمار ترصد الكارثة! ويقول ين: "على مدار الأشهر السبعة عشر الماضية، قمنا بتحليل صور الأقمار الصناعية في أنحاء قطاع غزة لتحديد حجم الدمار الزراعي في المنطقة. ويكشف بحثنا المنشور حديثًا ليس فقط عن النطاق الواسع لهذا الدمار، بل أيضًا عن الوتيرة غير المسبوقة المحتملة التي حدث بها. يغطي عملنا الفترة حتى سبتمبر 2024، ولكن تتوفر أيضًا بيانات إضافية حتى يناير 2025." اعتمدت الدراسة على تحليل صور الأقمار الصناعية من نوع "بلانيت سكوب" و"سكاي سات"، والتي توفر دقة تصل إلى 50 سم، مما مكن الباحثين من مراقبة التغيرات في الأراضي الزراعية بدقة عالية. تم استخدام نماذج تعلم آلي لرسم خرائط مفصلة للأراضي الزراعية قبل الحرب وتقييم الأضرار التي لحقت بها خلال السنة الأولى من الحرب على غزة. يضيف ين: "قبل الحرب، كانت الطماطم والفلفل والخيار والفراولة تُزرع في الحقول المفتوحة والبيوت البلاستيكية، وكانت أشجار الزيتون والحمضيات تصطف على طول صفوفها في أنحاء غزة. وتُعد هذه الأشجار تحديدًا تراثًا ثقافيًا مهمًا في المنطقة، وكانت الزراعة جزءًا حيويًا من اقتصاد غزة. كان حوالي نصف الطعام الذي يُستهلك هناك يُنتج في القطاع نفسه، وكان الغذاء يُشكل نسبة مماثلة من صادراته." وفقًا للدراسة، غطت المحاصيل الشجرية، مثل الزيتون والحمضيات، حوالي 23% من مساحة قطاع غزة قبل الحرب، أي ما يعادل 8242 هكتارًا. ومع نهاية سبتمبر/أيلول 2024، تضرر ما بين 5305 إلى 5795 هكتارًا من هذه المحاصيل، مع تفاوت كبير بين المحافظات. وقد شهدت مدينة غزة أعلى نسبة تدمير، حيث تضرر أكثر من 90% من المحاصيل الشجرية، تليها محافظة شمال غزة بنسبة 73%. في المقابل، كانت محافظة رفح الأقل تضررًا بنسبة 42%. دفيئات زراعية مدمرة احتوى القطاع على قرابة 7219 دفيئة زراعية قبل الحرب، معظمها يتركز في المناطق الجنوبية والوسطى من القطاع. بحلول سبتمبر 2024، تضررت 58% من هذه الدفيئات، مع تدمير كامل للدفيئات في مدينة غزة وشمال غزة بحلول نهاية عام 2023. بدأ الفريق عمله بتحديد محاصيل الأشجار المتضررة وغير المتضررة بصريًا لتدريب نموذج التعلم الآلي، حتى يتمكن من تحديد ما يبحث عنه. وبعد تشغيل النموذج على جميع بيانات الأقمار الصناعية، راجع الفريق عينة من النتائج للتأكد من دقتها. نظرًا للتباين الكبير في صور الدفيئات الزراعية عبر الأقمار الصناعية، استخدم الفريق طريقة منفصلة لرسم خريطة للأضرار التي لحقت بها. وجد الباحثون أن أكثر من 4 آلاف دفيئة زراعية قد تضررت بحلول سبتمبر/أيلول 2024، وهو ما يمثل أكثر من 55% من إجمالي الدفيئات الزراعية المرصودة قبل الحرب. يضيف ين "في جنوب القطاع، حيث وُجدت معظم الدفيئات الزراعية، كان الدمار مُستمرًا نسبيًا من ديسمبر 2023 فصاعدًا. ولكن في شمال غزة ومدينة غزة، وهما أقصى محافظتين شماليتين من بين المحافظات الخمس في القطاع، كان معظم الضرر قد وقع بالفعل بحلول نوفمبر وديسمبر 2023. وبنهاية فترة دراستنا، كانت جميع الدفيئات الزراعية قد دُمرت." أمن غذائي كارثي تشير الدراسة إلى أن الدمار الذي لحق بالقطاع الزراعي في غزة له تداعيات خطيرة على الأمن الغذائي للسكان، الذين يعتمدون بشكل كبير على الإنتاج المحلي لتلبية احتياجاتهم الغذائية. قبل الحرب، كان حوالي نصف الطعام الذي يُستهلك في غزة يُنتج محليًا، وكانت الزراعة تشكل جزءًا حيويًا من الاقتصاد المحلي. يجدر بالذكر أن الهجمات على الأراضي الزراعية محظورة بموجب القانون الدولي. إذ يُعرّف نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لعام 1998 الاستخدام المتعمد لتجويع المدنيين من خلال (حرمانهم من المواد التي لا غنى عنها لبقائهم) بأنه جريمة حرب. كما تُعرّف اتفاقيات جنيف هذه المواد التي لا غنى عنها بأنها (المواد الغذائية، والمناطق الزراعية لإنتاجها، والمحاصيل، والثروة الحيوانية، ومرافق وإمدادات مياه الشرب، وأعمال الري). يقول ين "أظهرت نتائجنا أن ما بين 64% و70% من جميع حقول محاصيل الأشجار في غزة قد تضررت. قد يعني ذلك إما تدمير بعض الأشجار، أو إزالة حقل الأشجار بالكامل، أو أي شيء بينهما. وقعت معظم الأضرار خلال الأشهر القليلة الأولى من الحرب في خريف 2023." لن تكون إعادة بناء القطاع الزراعي في غزة مهمة سهلة. فبالإضافة إلى إزالة الأنقاض وإعادة بناء الدفيئات الزراعية، هناك حاجة إلى تنظيف التربة من التلوث المحتمل وإعادة بناء البنية التحتية للري والصرف الصحي وهو ما قد يستغرق جيلًا أو أكثر. إذ تحتاج أشجار الزيتون والحمضيات 5 سنوات أو أكثر لتصبح منتجة، و15 عامًا حتى تصل إلى مرحلة النضج الكامل. ويختتم ين "تقدم دراستنا إحصاءات شفافة حول مدى وتوقيت الأضرار التي لحقت بالنظام الزراعي في غزة. إلى جانب توثيق آثار الحرب، نأمل أن يُسهم ذلك في جهود إعادة الإعمار الضخمة المطلوبة." وفي ظل هذه الأوضاع، يبقى الأمل في أن تُسهم هذه البيانات في دفع المجتمع الدولي نحو اتخاذ إجراءات عاجلة لدعم سكان غزة ومساعدتهم على تجاوز هذه الكارثة الإنسانية والبيئية.