logo
ما قبل قيم الأسرة المصرية

ما قبل قيم الأسرة المصرية

العربي الجديدمنذ 2 أيام
تخيّل غرفةً مظلمةً فيها شخصٌ يرتجف من البرد، وآخرُ يرتجف من الخوف، وثالثٌ ينزف تحت سرير. ثمّ يدخل أحدهم ويصرخ: "أغلقوا تيك توك... القيم في خطر". يقول بعض "الأشرار" إن سرّ القبض على صانعي المحتوى في "تيك توك" في مصر ليس الحفاظ على قيم الأسرة المصرية، وإنما تورّط "التيكتوكرز" في أنشطة قوادة، ودعارة، وغسل أموال، وتجارة أعضاء. وحين سألتُ عن سبب إخفاء الدولة هذه الوقائع، أجاب أحدهم بأن غسّالة الأموال، وثلاجة الأعضاء، مملوكتان لأحد "الكبار"، ولو سقط فلن يسقط وحده. وأجاب آخر بأن نشاطات الدعارة تعتمد على تسريح فتيات دون السنّ، وهذه أعراض. وأضاف ثالث: ثمّة روايات أخرى، وأسماء تتردّد، مثل وفاء عامر، وإيمان الطوخي، وابنة حسني مبارك التي تشاركه ملامحه أكثر من علاء ولي الدين (الأب، والأم، والابن، والحفيد) في فيلم "الناظر".
لا أحد يعرف الحقيقة سوى الدولة، ولا أحد يحقّ له التحدّث عنها سوى الدولة، ولا وسيلة للتحقّق من الروايات، حتى الروايات المسرّبة من الدولة نفسها. ومن ثمّ، "لا حقيقة". وحين يصل الأمر إلى أن "أحكام القضاء والقانون" فيها قولان أو أكثر، فنحن أمام "اللادولة"، فالدولة بلا قانون غابة، والقانون بلا حسم عبث. القانون بيت الدولة، وأحكامه عنوان الحقيقة. وما يجعل القانون "حاسماً" ثقة المواطن قبل قوة الدولة، وما يجعله "حقيقيّاً" ثقة المواطن قبل الكتائب الإلكترونية، أو بالأحرى: من دونها. هذا هو "أمّا قبل" (استهلال رفعت السعيد الشهير)، أي البديهي، والمشترك، وموضع "سنّ البرجل"، والأرض الصلبة التي يقف عليها المتحاورون، لكي يصبح لحوارهم هدفاً، ولوجودهم معنى. وإلا فكيف نحافظ على "قيم الأسرة المصرية" من راقصة في "تيك توك"، بينما لا نحمي أطفالنا من الاتجار بأجسادهم؟ كيف نحاسب مراهقة على فيديو، بينما نغضّ الطرف عن غسّالات أموال وثلاجات أعضاء؟
هل أدهشك انحياز بعض الليبراليين والحقوقيين إلى حملة اعتقالات صنّاع المحتوى؟ لا يتعلّق الأمر بأنهم مزيَّفون فحسب، بل يتعلّق ابتداءً بغياب "أمّا قبل"، نتيجة غياب الدولة، وهو ما أوجد البيئة التي تستوعب كونك ليبراليّاً وحقوقيّاً، ومع ذلك تعلن بأريحية أنك داعم لانتهاك الحقوق والحرّيات.
هل انزعجت من تعليقات بعض "البشر" على أخبار الاتّجار في الأعضاء، بوصفها مادّةً للسخرية، والتشفّي، و"ها ها ها"؟ رغم أن تفاصيل الجريمة تنطوي على استغلال فقراء ومرضى وأطفال؟ لا يتعلّق الأمر بانعدام إنسانية المعلّقين فحسب، بل بغياب الدولة، وتحوّلها mafia state، نجحت في إفقاد المجتمع فاعليته التي تحرّكه نحو حقوقه، التي تراها الطغمة الحاكمة خطراً عليها. كانت تلك هي النتيجة الحتمية لخطة مواجهة الثورة: حيونة المجتمع، وتحويله قطعاناً ينهش بعضها بعضاً.
هل أربكك غياب مصدر موثوق لـ"معلومة" في موضوع يتعلّق بالقبض على مراهقين؟ لا يتعلّق الأمر بأن الدولة محافظة فحسب، أو بتورّط أحد "الكبار" فحسب، أو بالخوف على المواطن من صدمة الحقيقة (إن صحّت الروايات)، بل بغياب الدولة. فالدولة التي تخشى الحقيقة، وتستبدل العدالة بالستر، والقانون بالشائعة، والمساواة بالمحاباة، ليست دولة. بل كائن هلامي لا يمكن مساءلته، أو فهمه.
أمّا "اللادولة"، فوجودها واستمرارها مشروطان بتحوّل المجتمع "لا مجتمع"، والقانون "لا قانون"، والدستور "لا دستور"، والحريات "لا يجوز"، والبشر حيواناتٍ.
لا تشكّل "قيم الأسرة المصرية" مشكلةً في ذاتها. أهلاً وسهلاً. لكن: ما هي؟ ما مصدرها؟ من يحدّدها؟ وأيّ أسرة؟ ومن أيّ طبقة؟ وأيّ مصر؟ العربية؟ أم "إيجيبت" التائهة؟ وكيف تتحوّل هذه القيم (حال الاتفاق عليها) قوانينِ واضحةً، وملزمةً، ومطبّقةً على الجميع؟ يتساوى فيها سائق "التوك توك" بابن سيادة اللواء، وصانعة المحتوى بنجمة السينما؟
أين الدولة؟ ومن انتهك حدودها (القانون والدستور)؟ ومن باع أرضها (السياسة)؟ ومن فرّط في مقدّراتها (الخبز، والحرية، والعدالة الاجتماعية، والكرامة الإنسانية)؟ من هنا نبدأ. أو، بالأحرى، من هنا يبدأ الأمل في بداية.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

تحقيقات موسعة في مصر مع 7 صنّاع محتوى بتهم غسل أموال تتجاوز مليوني دولار
تحقيقات موسعة في مصر مع 7 صنّاع محتوى بتهم غسل أموال تتجاوز مليوني دولار

العربي الجديد

timeمنذ 6 ساعات

  • العربي الجديد

تحقيقات موسعة في مصر مع 7 صنّاع محتوى بتهم غسل أموال تتجاوز مليوني دولار

بدأت النيابة العامة المصرية تحقيقات موسّعة مع سبعة صناع محتوى ومؤثرين على مواقع التواصل الاجتماعي على خلفية اتهامات بغسل أموال وتحقيق أرباح طائلة من مصادر غير مشروعة وإخفائها عبر حيل مالية مختلفة، بلغت في مجملها نحو 100 مليون جنيه مصري (مليوني دولار). وقال مصدر قضائي بارز في النيابة العامة لـ"العربي الجديد" إن وقائع التحقيق ترتبط بأنشطة متعددة للمتهمين الذين يشتبه في تحصيلهم مصادر دخل غير قانونية، وحاولوا إضفاء الشرعية عليها عبر ممارستهم استثمارات وهمية أو تحويلات متكررة أو شراء عقارات ومقتنيات باهظة الثمن. وأضاف المصدر الذي فضل عدم الإفصاح عن اسمه أن "ما رُصد من وقائع مالية وتحركات مصرفية وأصول مسجلة يدل على نمط من غسل الأموال المتعمد، والممنهج، لإخفاء العائدات الناتجة من نشاط إلكتروني مخالف للقانون والأعراف المجتمعية". وتشمل التحقيقات عدداً من الأسماء التي حظيت بمتابعة واسعة عبر منصات "تيك توك" و"فيسبوك" و" يوتيوب "، منهم: سوزي الأردنية (18 عاماً)، وعلياء قمرون، المعروفة بلقب "علياء مناديل"، والثنائي أم مكة وأم سجدة، وشاكر محظور، ومحمد عبد العاطي، ومحمد خالد، المعروف بلقب "مداهم". ووفقاً للنيابة العامة، تفاوتت التهم الموجهة لكل منهم ما بين غسل الأموال، والإضرار بالقيم الأسرية، ونشر محتوى يخدش الحياء العام، أو يروّج لأفكار وسلوكيات "لا تتسق مع المبادئ الأخلاقية للمجتمع المصري". غسل الأموال وتهم أخرى تصدّرت سوزي الأردنية المشهد بعد القبض عليها في منطقة القاهرة الجديدة شرق العاصمة أخيراً، في واقعة أثارت اهتماماً واسعاً لدى الرأي العام. ووفق ما أعلنته وزارة الداخلية، فإن القبض عليها جاء "تنفيذاً لبلاغات متعددة" وُجهت ضدها، تتعلق بمحتواها على منصات التواصل، الذي وُصف بأنه يتضمن "اعتداءً على القيم والمبادئ الأسرية، بقصد تحقيق مشاهدات عالية وأرباح مالية ضخمة بطرق غير مشروعة". وبحسب المصدر البارز، فإن سوزي أنشأت وأدارت صفحات عبر الإنترنت نشرت من خلالها محتوى "يتضمن إيحاءات وانتهاكاً لقيم المجتمع"، واستغلت تلك القنوات في جذب التفاعل وتحقيق دخل كبير من شركات الإعلانات والبث، واستُخدم الدخل لاحقاً في شراء عقارات وسيارات وأصول فاخرة، في ما اعتبرته السلطات "غسلاً واضحاً للأموال الناتجة من نشاط إلكتروني غير مشروع تجاوزت قيمته بمفردها 15 مليون جنيه". وشملت الحملة أيضاً صانعة المحتوى علياء قمرون، التي وُجهت إليها اتهامات مماثلة، أبرزها بث محتوى يخدش الحياء العام، والإضرار بسلامة البنية القيمية للمجتمع بخلاف تهمة غسل الأموال. وعُرفت علياء بلقب "علياء مناديل" بسبب استخدامها المستمر لهذا العنصر في مقاطعها الساخرة والمثيرة للجدل. أما الثنائي المعروف باسم "أم مكة" و"أم سجدة"، فقد أوقفتا بعد اتهامات تتعلق بـ"التحريض على الخروج على الآداب العامة"، رغم أن محتواهما لم يتضمن تجاوزات صريحة، واقتصر في الغالب على الحياة اليومية وتوثيق لحظات من حياتهما الأسرية، إلا أن الاتهامات شملت أيضاً غسل الأموال. وضمت قائمة المتهمين أيضاً محمد خالد، الشهير بـ"مداهم"، وهو رجل أعمال وصانع محتوى واسع الانتشار، وله جمهور كبير عبر قنواته الرقمية. وأكدت مصادر أمنية لـ"العربي الجديد" أن توقيفه جاء ضمن التنسيق الأمني الأخير بين قطاع مكافحة جرائم الأموال العامة، والجريمة المنظمة، مع أجهزة وزارة الداخلية المعنية، نظراً للاشتباه في ضلوعه أيضاً بوقائع مشابهة تتعلق بغسل الأموال عبر الاستثمار في إنتاج المحتوى الرقمي. إعلام وحريات التحديثات الحية "تطهير تيك توك" يثير انقساماً بين الصحافيين المصريين وتأتي التحركات الأمنية في سياق حملة موسعة شنّتها وزارة الداخلية خلال الأيام الماضية، لمواجهة ما تعتبره "تجاوزاً متنامياً" لبعض المؤثرين وصنّاع المحتوى في استخدام الفضاء الإلكتروني لنشر محتوى مخالف للقانون، سواء من حيث المضمون أو من حيث مصادر التمويل، خصوصاً مع تصاعد الأرباح الرقمية عبر البث المباشر والإعلانات والرعايات التجارية. ضوابط مصرية غير واضحة في سياق متصل، ذكر المصدر القضائي لـ"العربي الجديد" أن التحقيقات مع المتهمين السبعة لا تقتصر على الأبعاد الجنائية للمحتوى، بل تمتد أيضاً إلى تحليل الأوضاع المالية للمتهمين، ومراجعة التحركات البنكية والتحويلات الدولية، فضلاً عن تتبع ممتلكاتهم المسجلة بأسمائهم أو بأسماء أقارب من الدرجة الأولى. وأضاف أن بعض المتهمين أخفوا أرباحهم عبر شراء عقارات في مناطق مختلفة، وتسجيل سيارات فارهة باسم أفراد أسرهم. وكانت النيابة العامة قد تحفظت على المتهمين لمدة 15 يوماً على ذمة التحقيقات. غير أن مصادر قانونية توقعت أن تُحال الوقائع على المحكمة الاقتصادية خلال الأيام المقبلة، خصوصاً في ظل اكتمال تقارير التحريات المصرفية وتحليل مصادر الدخل. ووفقاً لخبراء، تعيد القضية إلى الأذهان جدلاً مستمراً في مصر بشأن الضوابط المنظمة لصناعة المحتوى على مواقع التواصل، ومدى الحاجة إلى تشريعات أكثر وضوحاً تحدد الخط الفاصل بين حرية التعبير والربح المشروع، وبين الانحراف عن المعايير الأخلاقية والقانونية، واستغلال المنصات الإلكترونية وسيلةً للتربح غير المشروع وغسل الأموال.

"واتساب" تستحدث أدوات لحماية مستخدميها من محاولات الاحتيال
"واتساب" تستحدث أدوات لحماية مستخدميها من محاولات الاحتيال

العربي الجديد

timeمنذ 8 ساعات

  • العربي الجديد

"واتساب" تستحدث أدوات لحماية مستخدميها من محاولات الاحتيال

أكدت خدمة المحادثة واتساب أنها رصدت وحظرت هذه السنة نحو سبعة ملايين حساب مُصممة للاحتيال على مستخدميها، وستستحدث أدوات حماية منها. وقالت المسؤولة في "واتساب" التابعة لمجموعة " ميتا " التي تضم أيضاً "فيسبوك" و"إنستغرام"، كلير ديفي، في إيجاز صحافي: "لقد رصد فريقنا الحسابات وأوقفها قبل أن تتمكن المنظمات الإجرامية التي أنشأتها من استخدامها". وأكدت أن هذه الحسابات البالغ عددها 6.8 ملايين والتي حُجبت خلال النصف الأول من السنة الجارية "لم تُرسل أي رسائل بعد". وتجتهد "ميتا" منذ سنوات لحماية مستخدميها من احتمالات تعرّضهم للتلاعب والاحتيال، وخصوصاً منذ فضيحة " كامبريدج أناليتكا ". وجمعت هذه الشركة الاستشارية البريطانية بيانات شخصية لعشرات الملايين من مستخدمي "فيسبوك" من دون علمهم ومن دون إذن، واستُخدمت لاحقاً للاستهداف السياسي خلال حملة الانتخابات الأميركية عام 2016. وأفادت "واتساب" بأن رسائل الاحتيال التي تتضمن وعوداً بكسب المال بسهولة من خلال استثمارات في العملات المشفرة أو وظائف وهمية ، تأتي غالباً من معسكرات العمل القسري التي تديرها جماعات إجرامية في جنوب شرق آسيا. وتُرصَد الحسابات المشبوهة من خلال التعاون خصوصاً مع جهات أخرى، إذ تظهر على تطبيقات وشبكات تواصل اجتماعي مختلفة في الوقت نفسه. تكنولوجيا التحديثات الحية "واتساب" يلخّص المحادثات السابقة بالذكاء الاصطناعي "تشات جي بي تي" يدعم احتيال "واتساب" أشارت ديفي على سبيل المثال إلى عملية نُفذت من كمبوديا، وأوقفتها "ميتا" و"أوبن إيه آي"، مبتكرة "تشات جي بي تي". يستخدم المحتالون "تشات جي بي تي" لإعداد رسالة أولية تحتوي على رابط لمحادثة "واتساب". ثم سرعان ما يُعاد توجيه الضحايا إلى خدمة الرسائل المشفرة "تلغرام"، حيث يُطلب منهم وضع علامة الإعجاب "لايك" على مقاطع فيديو على "تيك توك"، على ما شَرَحت. ويسعى المجرمون لبناء الثقة مع ضحاياهم قبل الانتقال إلى المهمة التالية، وهي إيداع الأموال في حسابات بالعملات المشفرة. ومكّن صعود الذكاء الاصطناعي فِرَق الأمن السيبراني من أتمتة الكشف عن التهديدات على نطاق واسع. لكنّ الأدوات المساعِدَة القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي مثل "تشات جي بي تي" وسواه، باتت تتيح للمحتالين شنّ عمليات احتيال أكثر إقناعاً وتعقيداً. هذا وأعلنت "ميتا" من جهة أخرى إضافة ميزة لتنبيه المستخدمين عند إضافتهم إلى مجموعة "واتساب" تضم أشخاصاً لا يعرفونهم، وقد تكون تالياً احتيالية. وأوضحت "ميتا" أن في استطاعة المستخدم المعنيّ "مغادرة المجموعة من دون حتى الاطلاع على المحادثة". (فرانس برس، العربي الجديد)

عبد السلام عامر: نابغة الموسيقى المغربية
عبد السلام عامر: نابغة الموسيقى المغربية

القدس العربي

timeمنذ يوم واحد

  • القدس العربي

عبد السلام عامر: نابغة الموسيقى المغربية

لكل أمة مميزات ودروب من الفن تبرع فيها وتبلغ ذراها، والموسيقى وألوان الغناء مما يمتاز به المغاربة، ولديهم من أنواعها ما يتفردون به ولا يوجد لدى سواهم، ويغلب على هذه الفنون الجمال والإتقان والنظام المنضبط، وبين كنوز المغرب الفنية يلمع اسم الموسيقار الراحل عبد السلام عامر، كجوهرة ثمينة نادرة، هو لحن خالد لا يزال يتردد في وجدان المغاربة، وحلم موسيقي جميل رحل مبكراً كالعديد من العباقرة في تاريخ الموسيقى. ولد عبد السلام عامر عام 1939 وتوفي عام 1979، وهو ابن مدينة القصر الكبير في شمال المغرب، فقد بصره وهو لا يزال في عامه الثاني، وفي المغرب يسمون من حرم نعمة البصر «بصيراً». مثل سيد درويش ومحمد عبد الوهاب والكثيرين من الأفذاذ في عالم الموسيقى والفن والأدب، كانت بداية عبد السلام عامر في كنف القرآن الكريم، وانتظم في الكُتاب منذ طفولته المبكرة، حيث يحظى الأطفال، بالإضافة إلى تنمية الجانب الديني والروحاني، بتذوق اللغة العربية وضبطها نطقاً وسماعاً، والتتبع السليم لإيقاع اللغة وميزانها، وإثراء المخيلة وتعميقها بشكل كبير. كان عامر الطفل يحفظ ويردد، وظهرت موهبته وقدرته على الحفظ السريع بمجرد السماع، تلك القدرة التي تفوق أقرانه من المبصرين، فقد أوتي الأذن الماهرة والذاكرة القوية. بعد ذلك تلقى تعليمه في المدارس والجامعات المغربية، وكان يجيد اللغة الإسبانية، وقد تربت أسماعه أيضاً منذ البداية على المدائح النبوية والأناشيد الصوفية، والتراث والفولكلور المغربي، وللشمال فنونه الخاصة، كما لكل منطقة من مناطق المغرب، التي كان يستمع إليها عامر بكل تأكيد، وأخذ يختزن موسيقى بلاده في وجدانه، إلى أن تفجرت موهبته الإبداعية وانطلقت موسيقى جديدة تضيء سماء المغرب، موهبة فطرية قل مثيلها، فذلك الجمال الساحر وتلك الإلهامات الفاتنة، إنما هي في الوقت ذاته بناء محكم ونسيج هارموني معقد دقيق ذو تفاصيل متشابكة. لكل عصر موسيقاه ويجب أن يجد الناس موسيقى وقتهم وألحان حاضرهم، وقد صنع عبد السلام عامر موسيقى عصره منذ بداية الستينيات، وعلى مدى سنوات عطائه الفني. أدرك عامر أن مرحلة جديدة من الموسيقى المغربية لا بد أن تبدأ، وأدرك كذلك أن وراءه تاريخ طويل من الموسيقى في بلاده يمتد على مساحة واسعة من التنوع والتأثير. انتبه إلى عصره ودفع بقوة نحو موسيقى مغربية جديدة، لم يقدم الأشكال التراثية أو يستلهمها بشكل مباشر، لا شك سنجد لمحة هنا أو هناك من الموسيقى المغربية في شمال المملكة أو جنوبها، أمازيغية أو أندلسية أو جبلية أو شعبية، كما لم يلق بنفسه في أحضان الأشكال والقوالب الغربية، وإن اعتمد في بعض أعماله على بعض التقنيات السيمفونية، أو الأوركسترالية. كذلك لا يمكن القول إنه اتبع النهج المشرقي في التلحين بشكل كامل، لكنه قدّم موسيقى مغربية جديدة عبّرت عن روح عصرها، ووجد النغمة التي تحمل مشاعر المغاربة، وهي امتداد جمالي للموسيقى المغربية، التي عرفت مراحل وفترات كثيرة قديمة ومتنوعة. تلك الموسيقى الخالدة التي ألفها، تحمل عناصر بقائها واستمراريتها وقابليتها للسماع في كل وقت، بل هي كنز لا تزال تكتشف جواهره، وتعد الآن وسوف تظل من كلاسيكيات الموسيقى المغربية رغم حداثتها النسبية في عمر الفن المغربي الطويل. الموهبة النادرة وحوادث الأقدار كان سوء الحظ يطارد عبد السلام عامر من حين إلى آخر، ولعل الضربة الكبرى التي تلقاها كانت في العاشر من شهر يوليو/تموز عام 1971، اليوم الذي يؤرخ لمحاولة الانقلاب العسكري الفاشلة في المغرب، المعروفة باسم انقلاب الصخيرات. في ذلك اليوم كان عامر مع عبد الحليم حافظ في إذاعة الرباط، عندما هاجم الانقلابيون الإذاعة، وأرهبوا جميع من فيها وبحثوا عمن يتلو بيان انقلابهم، ولا نعلم لماذا لم يقرأه أحد رجالهم. في البداية طلبوا من عبد الحليم حافظ أن يقوم هو بقراءة البيان، لكنه تملص منهم بالحيلة، وأقنعهم بأنه ليس من اللائق أن يقرأ مصري بيان انقلاب عسكري في المغرب، ولا تخفى علاقة عبد الحليم حافظ بالمغرب، وزياراته الدورية المتكررة التي كان يقوم بها إلى هناك، وكذلك علاقته بالحسن الثاني الذي قربه إليه وفتح له أبواب القصر الملكي، وأحاطه بالرعاية في أوقات كثيرة. ومن غرائب الأمور أن عبد الحليم حافظ استطاع أن يكون مقرباً من الناصرية والملكية في آن واحد، فكان في مصر رمزاً من أكبر رموز الناصرية، وصوتها الأول الذي يتغنى بأمجادها، ويبث أفكارها، ويعيدها على أسماع الشعب في كل حين ليرسخها في الأذهان ولا يدع مجالاً لسواها. بينما كان في المغرب يعيش في وئام تام مع الملكية، التي تسمى بالرجعية في القاموس الناصري، والتي ترفضها الناصرية، وربما تسعى لإسقاطها أو لا تشجع وجودها على أقل تقدير. كان عبد الحليم حافظ يغني للملكية وللملك الراحل الحسن الثاني في المغرب، كما يغني للناصرية والرئيس الراحل جمال عبد الناصر في مصر، وقد ترك عبد الحليم مجموعة كبيرة من الأغنيات الجميلة التي تمجد المغرب والحسن الثاني، منها على سبيل المثال «عشت يا الحسن»، «الماء والخضرة والوجه الحسن»، «آدي المغرب في عهد الحسن»، وغيرها من الأغنيات الجميلة. رفض عبد الحليم إذن أن يقرأ بيان الانقلاب العسكري بصوته الجميل على أسماع المغاربة، فأمسك الانقلابيون بعبد السلام عامر ولم يفلتوه، ولما كان كفيفاً لا يستطيع أن يطالع الأوراق، حفّظوه البيان وأجبروه على تلاوته. ولحسن حظ الشعب المغربي تم إحباط الانقلاب وإلقاء القبض على الانقلابيين، لكن لسوء حظ عبد السلام عامر أن الأمر كان جللاً، ولم يكن من السهل التسامح معه، حيث أحاطت الريبة بكل شيء وطالت الشكوك الجميع. يقال إنه تم حبس عامر لبعض الوقت، ثم تدخل شقيق الحسن الثاني الأمير مولاي عبد الله من أجل استصدار العفو عنه وإطلاق سراحه، وهو ما تم بالفعل لكن ربما مع بقايا غضب وقليل من الحظر أو الحذر، وربما لم يكن هناك شيئاً من ذلك، وإنما صار الاسم ذاته مصدراً لقلق وخوف وتوجس بعض المسؤولين، وربما اتفق الجميع دونما اتفاق على أن يسدلوا الستار مؤقتاً على هذا الاسم. لكن تتبع المسيرة الفنية للموسيقار الراحل، لا يدلنا على ما يقال من أنه انطفأ واختفى تماماً بعد حادثة بيان الانقلاب، أو أنه كان على الهامش، حيث نرى أنه كان في مركز وقلب الأحداث الوطنية تحديداً، يواكب خطوات الوطن بألحانه الحماسية الرائعة، ويخاطب وجدان المغاربة في لحظاتهم التاريخية، كألحانه للمسيرة الخضراء عام 1975 على سبيل المثال، ومن أعماله الوطنية أغنية «الله أكبر كبروا» وأغنية «الجهاد المقدس». ومن سوء حظ عبد السلام عامر أيضاً أنه كان في مصر عندما وقعت نكسة 1967، فتوقفت رحلته الفنية وغادر إلى المغرب عند أول فرصة أتيحت وسط أجواء بالغة الاضطراب. العلاقة بالشعر وتلحين القصائد لم تكن بداية عبد السلام عامر سهلة، وسط عالم فني يدخله جديداً، وكان في ذلك الوقت دون العشرين من عمره، فتعرض للرفض من بعض الإذاعات، وانتقل بين أكثر من مدينة من المدن المغربية، إلى أن انطلقت أولى أغنياته عبر الأثير، ويقال إنها كانت أغنية «ما بان خيال حبيبي» التي لحنها وكتب كلماتها وغناها بصوته، ثم بدأت أعماله تتوالى وتفرض موهبته نفسها على الجميع، كموهبة لا تنكر وعبقرية لا تجحد. وفي عصره الذي كان كريماً يجود بالمواهب الفذة، التقى عامر بالشاعر المغربي عبد الرفيع الجواهري، وبالقمم الثلاث الشاهقة في الغناء المغربي، عبد الهادي بلخياط ومحمد الحياني وعبد الوهاب الدكالي، وكان كل هؤلاء في بدايات العشرينيات من أعمارهم على الأرجح، وعلى الرغم من أن عبد الوهاب الدكالي يلحن الغالبية العظمى من أعماله بنفسه، إلا أنه غنى من ألحان عبد السلام عامر أغنية «حبيبتي»، وأغنية «آخر آه». وآنذاك كان المغرب بلد الملحون والتراث الهائل من القصائد وفنون الموسيقى والغناء، يكتب شعره الجديد ويؤلف موسيقاه المعاصرة ويشدو طرباً أصيلاً بروح العصر. في عام 1962 بزغ نور «القمر الأحمر»، تلك القطعة الفنية الخالدة التي اجتمع على إبداعها الثلاثي الباهر، الشاعر عبد الرفيع الجواهري والموسيقار عبد السلام عامر والمطرب عبد الهادي بلخياط، وكان عامر في الثالثة والعشرين من عمره، عندما قام بتلحين هذا العمل الجبار، الذي عندما استمع إليه محمد عبد الوهاب أبى أن يغادر مكتبته الموسيقية، وضمه إلى ما يحرص على الاحتفاظ به. القمر الأحمر لحظة إبداعية نادرة لا تتكرر كثيراً، اتفق فيها بلوغ ذروة التعبير الفني شعراً ولحناً وغناء، وفي هذه الأغنية أو القصيدة المغناة، تتجلى ملامح عبقرية عامر الموسيقية، وقدرته على الوصف بالنغم وتلحين قصيدة تتناول بعضاً من جمال الطبيعة في المغرب، ونهر أبي رقراق الذي يجري منساباً في الرباط. وصف الشاعر ما رآه وعبر بالكلمات عن رؤيته لهذا الجمال وانطباعاته الخاصة، وغنى المطرب بإحساسه الخاص بهذا الجمال الذي رآه أيضاً، أما عامر الذي لم ير نهر أبي رقراق في حياته، ولم ينظر إلى القمر في يوم من الأيام، نجد أن لحنه احتوى على عناصر بصرية إلى جانب العناصر السماعية الأساسية، فهناك إلى جانب تلحين المقاطع الشعرية، التأملات الموسيقية البحتة المتمثلة في الفواصل والمقدمة، هي من وحي القصيدة بطبيعة الحال، لكنها تنفرد بالتعبير الخاص والتحرر من موسيقى الكلمات وإيقاعاتها وكذلك أخيلتها. يمكن القول، إن القمر الأحمر نموذج للشكل المكتمل لما يجب أن يكون عليه تلحين القصيدة العربية، كما أنها من الأعمال التي تتحول إلى مشكلة فنية لمبدعها وللآخرين أيضاً، حيث وضع هذا اللحن بعيداً عالياً فوق القمر، وكان ولا يزال مثالاً سامياً من الصعب تجاوزه حتى من عبد السلام عامر نفسه، لكن هل نفى جمال لحن القمر الأحمر غيره من الألحان، بالطبع لا، لكنه احتفظ لنفسه بمكانة خاصة متفردة. كان عبد السلام عامر مغرماً بالشعر، يبحث عن القصيدة دائماً، ويسعى لاختيار ما يلحنه ويقدمه للسامع، وأراد أن تمتزج موسيقاه بالروائع المختارة من القصائد العربية، وكما التقت ألحان محمد عبد الوهاب بأشعار أحمد شوقي منذ العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي في مصر، التقت بعد ذلك بعقود ألحان عبد السلام عامر بأشعار عبد الرفيع الجواهري في المغرب. عندما يلتقي النغم بالشعر تكون الموسيقى مضاعفة حيث يضيفها كل منهما إلى الآخر، وقد كان عامر ضليعاً في تلحين القصيدة، يتفاعل مع النص الشعري بوعي راق وحساسية بالغة، يعبر عن أخيلتها وصورها البلاغية، وحالاتها الشعورية والوجدانية. لم يكن يلوي عنق القصيدة ويتصارع معها من أجل أن يلحنها، ولم يكن يعبث بأوزانها وإيقاعاتها، بل كان يحترم موسيقاها الداخلية ويبرزها، ويظهر جمالياتها على أفضل وجه، ويذهب بها نحو آفاق أرحب. لحّن عامر مجموعة كبيرة من قصائد عبد الرفيع الجواهري، كالقمر الأحمر وراحلة وميعاد، وقصة الأشواق، وغيرها من القصائد، كما لحن مجموعة من القصائد لشعراء مصريين، كالشاعر أحمد رامي الذي لحن من أعماله قصيدة «أرادوني» التي غناها محمد الحياني، ومن قصائد فاروق شوشة لحن قصيدة «واحة العمر» وقصيدة «سمعت عينيك» وقد غناهما عبد الهادي بلخياط. كان عامر يحترم الجمهور ويضعه في مكانة عالية، فلا يقدم إليه إلا ما هو رفيع وراق وممتع، ويساعد العامة على السمو الجمالي والتذوق العميق للألحان الرصينة، وعندما نستمع إليه في حواراته القليلة المتاحة، نجده يتحدث بلسان طلق وأسلوب أدبي جميل، ونجد أنفسنا أمام فنان مثقف، بل رفيع الثقافة شديد الرقي، يتكلم في وقار وجدية مع ابتسامة وبشاشة لا تنقص منهما، بل تزيده قرباً إلى الجمهور، وتكشف عن روحه الطيبة التي تنبع منها ألحانه. التعبير وخلق المعنى الموسيقي تميل موسيقى عبد السلام عامر إلى التعبير بدرجة كبيرة، وتعتني بالجماليات والزخارف والتنميق، لكنها تضع المعنى في المقام الأول، أو تسخّر كل ذلك من أجل وضوح الفكرة الموسيقية، والتعبير لديه قد يكون مطابقاً للكلمة الملحنة، وقد يكون مناقضاً لها عمداً من أجل خلق تأثير نفسي معين، كما في قصيدة «سمعت عينيك» عندما يغني بلخياط: «سمعت عينيك وما قالتاه.. سمعت كل الهمس خلف الجفون»، نجد تصاعداً موسيقياً عند «كل الهمس» على العكس من الهدوء المفترض والنغم الحالم المتوقع هنا، لكن جاء الارتفاع الموسيقي ليدل على عظم هذا الهمس وما في داخله من أسرار. وفي قصيدة «أرادوني» عندما يغني الحياني: «أرادوني على أني أبوح.. وهل يتكلم القلب الجريح.. وماذا يبتغون وفي فؤادي جوى.. أفضى به الدمع الفصيح»، بعدها تنطلق الموسيقى وتندفع لتبوح وتفرغ شحنات شعورية تسبق ما سيأتي من كلمات. تتميز موسيقى عبد السلام عامر بقوة التركيب النغمي وبالنبرة الموسيقية المتفردة والبلاغة الطاغية، ونجد عنده ذلك التوازن بين دور الموسيقى في تنغيم الكلمة والتعبير عنها، وصوت الموسيقى البحتة وتعبيرها الخاص، وقد تميزت مقدماته الموسيقية للأغنيات عامة وللقصائد بشكل خاص بالجمال الفائق، وكانت تمهيداً وجدانياً يدخل السامع في حالة شعورية تهيئه للسماع العميق. كما كان يوظف التكرار كجمالية من جماليات الموسيقى، لا لملء الوقت وتعويض النقص الإبداعي، وكان يوظف المقامات العربية والإيقاعات والموازين المغربية للتعبير عن أعمق الأحاسيس ولخلق جماليات مبتكرة، كما يلاحظ لديه انسيابية الفكرة اللحنية، والترجمة الموسيقية الدقيقة للمعاني والصور الشعرية، وبراعة التلوين وتكثيف النغم، وقدرته على أن ينتج فناً يتذوقه الجميع رغم رصانته وتعقيده الفني، لذلك ظل حياً في قلوب المغاربة يذكرونه بفخر وحنين، وظل كذلك حياً في ذاكرة الموسيقى العربية. كاتبة مصرية

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store