logo
نص الدرس الرابع لقائد الثورة من سلسلة دروس القصص القرآني

نص الدرس الرابع لقائد الثورة من سلسلة دروس القصص القرآني

صنعاء -سبأ:
نص الدرس الرابع من سلسلة دروس القصص القرآني، في شهر ذي الحجة المبارك، لقائد الثورة السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 6 ذو الحجة 1446هـ الموافق 2 يونيو 2025م.
أَعُـوْذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّداً عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.
الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، وَتُبْ عَلَيْنَا، إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ.
أيُّهَا الإِخْوَةُ وَالأَخَوَات:
السَّـلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
في الآيات المباركة، في قصة نبي الله إبراهيم 'عَلَيْهِ السَّلَامُ' في القرآن الكريم، تحدثنا على ضوء الآيات المباركة من (سورة الأنبياء) وبعض السور الأخرى، ووصلنا إلى موضوع: هجرته 'عَلَيْهِ السَّلَامُ' من (بابل) في العراق، فهو ما بعد ما حدث من محاولة إحراقه، وظهور المعجزة العظيمة، والآية الكبيرة، وعدم انتفاعهم بها- بالنسبة لقومه- في أن تكون آيةً دافعةً لهم إلى الإيمان، والاتِّباع لرسالة الله 'سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى'، فالله 'سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى' أذن له في الهجرة؛ لأن استمرار بقائه بين قومه في العراق، معناه: أن تبقى الرسالة مجمَّدة؛ بينما بالإمكان أن يفتح الله له آفاقاً واسعة، يترتب عليها نتائج كبيرة، وهذا ما حدث من خلال هجرته، ومن خلال نشاطه الواسع، ومن خلال نشره لدين الله 'سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى' في مواطن أخرى، وكذلك إسكانه لأسرته، بعضاً منهم في مكة، وبعضاً منهم في الشام، وما ترتب على ذلك من نتائج ممتدَّة، وتمتد إلى قيام الساعة.
فالله 'سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى' أذن له في الهجرة، فالهجرة- كما قلنا- ستفتح أمام هذه الرسالة الإلهية آفاقاً واسعة، وتفتح له هو 'عَلَيْهِ السَّلَامُ' آفاقاً واسعة من العمل المثمر، والنتائج المهمة، التي تتحقَّق بجهوده ومساعيه.
هو قد أكمل مهمته فيما يتعلَّق بقومه، وأقام الحُجَّة لله عليهم بشكلٍ كامل؛ ولـذلك أعلن نيته وقراره في الهجرة، بناءً على إذن الله له: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ}[الصافات:99]، وفي آيةٍ أخرى أخبر الله عنه أنه قال: {وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[العنكبوت:26]، عادةً ما تتحدث الآيات المباركة عن مقامات متعدِّدة، أو مناسبات متعدِّدة، أو أحياناً في المقام الواحد تكرَّر فيه التأكيد على موضوع معيَّن، بصيغ متعدِّدة وجوانب متعدِّدة، والقرآن هو ترجم مضمون ما عبَّر به في لغته، بالنسبة لنبي الله إبراهيم 'عَلَيْهِ السَّلَامُ'.
هو مُقَرِّرٌ أن يهاجر في سبيل الله تعالى، إلى حيث يختار الله له الموطن المناسب الذي يهاجر إليه، هذه مسألة تركها إلى هداية الله، {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ}[الصافات:99]، هو من سيختار لي حيث أذهب، وماذا أعمل، قد تكون بالنسبة للخيارات، في اختيار المنطقة المناسبة لأداء هذه المهمة الرسالية، مسألة صعبة، تحتاج إلى دِقَّة، فهو أوكل هذه المسألة إلى الله 'سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى'، وإلى هداية الله 'سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى'، وكذلك ما بعد ذلك من خطوات عملية، ومسيرة عملية… وغير ذلك من التفاصيل، هو معتمدٌ على هداية الله 'سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى'، وهذه النقطة تحدثنا عنها كثيراً، حتى في دروس شهر رمضان المبارك، في قصة نبي الله إبراهيم 'عَلَيْهِ السَّلَامُ'، كيف كان يعتمد كل الاعتماد على هداية الله في كل شيء.
في قوله: {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[العنكبوت:26]، يُعَبِّر عن ثقته بالله 'سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى' برعايته؛ لأنه الربَّ الذي يتولَّى رعاية عبده في كل شؤون حياته، ومتطلبات حياته، وضروريات حياته؛ فهو يُعَبِّر عن ثقته بالله 'سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى'، وبرعاية الله الواسعة، وأن الله لن يتركه، بعد أن وصل في مستوى الخلاف بينه وبين قومه إلى مستوى المباينة، والبراءة، والمتاركة، والمفارقة، وحتى مع محيطه الأسري، وهو واثقٌ بأن الله 'سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى' لن يتركه من رعايته ابداً.
الهجرة أيضاً لها اعتبارات متعدِّدة، فحينما قال هنا: {إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[العنكبوت:26]، الهجرة لها أيضاً صلة بالعِزَّة، والعِزَّة مسألة أساسية في الانتماء الإيماني؛ ولهـذا قال الله 'جَلَّ شَأنُهُ' في القرآن الكريم: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}[المنافقون:8]، فأن يبقى الإنسان الذي هو في الانتماء انتماؤه إيماني، أن يبقى- مثلاً- في بيئة هو في واقعه فيها مُستذل، مغلوبٌ على أمره، مقهور، لا يتمكَّن من أداء التزاماته الإيمانية، لا يستطيع ذلك؛ لأنه محارب، ومضطهد، وممنوع، ولا يمتلك مع رفاقٍ له ليكوِّنوا أُمَّةً مؤمنةً، تتمكَّن من القيام بالتزاماتها الإيمانية، وأداء مسؤولياتها الدينية؛ إنما هو في واقع الحال في حالة عجز، وحالة محاربة من جانب الآخرين من ذوي الكفر والباطل والشر، فهذه الحالة هي حالة غير مقبولة إيمانياً، يعني: ليس له أن يبقى في وضعية الإذلال، والعجز عن أداء مهامه والتزاماته الدينية والإيمانية في بيئةٍ كتلك، عليه أن يهاجر إلى حيث تتوفَّر بيئة وظروف يمكنه فيها أنيقوم بالتزاماته الإيمانية، وأن يستقيم على أساس انتمائه الإيماني.
عندما تكون البيئة التي هو فيها بيئة معاصي لله 'سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى'، معاصي، معاصي فيما يُرغم على فعله من العصيان، وفيما يرغم على تركه من الواجبات والالتزامات الإيمانية والدينية؛ فلا يَسُوْغ له البقاء في تلك البيئة، عليه أن يهاجر، طالما أمكنته الهجرة إلى بيئة تتوفَّر له فيها الظروف الملائمة، للقيام بالتزاماته الإيمانية، والاستقامة على دينه.
الواقع الإيماني قائمٌ على أساس أن يكون هناك تحرُّكٌ للمؤمنين ليكوِّنوا أُمَّةً مؤمنة، تتعاون فيما بينها على البر والتقوى؛ ولهـذا يذكر الله عن المؤمنين: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}[التوبة:71].
المسيرة الإيمانية هي مسيرة جماعية، تقوم على أساس أُمَّة، تتوحَّد كلمتها على أساس دين الله، وهدي الله، وتعاليم الله، تتآخى في الإيمان، تتحرَّك على أساس التعاون على البر والتقوى، تنهض بالمسؤوليات الجماعية، من أمرٍ بمعروف، ونهيٍ عن منكر… وغير ذلك، إذا لم يتوفَّر هذا النصاب، لتكوين أُمَّة تنهض بهذه المسؤولية في مجتمعٍ معيَّن، وكانت الحالة فيها حالة فردية، الإنسان بمفرده يتَّجه الاتَّجاه الإيماني، فيرى نفسه عاجزاً أمام الواقع الذي هو فيه؛ لأنــه:
إمَّا في مجتمعٍ سيء، اتِّجاهه اتِّجاه فاسد، اتِّجاه منحرف عن نهج الله، معادٍ للحق.
وإمَّا أيضاً قد يكون مع المجتمع سلطة ظالمة، فاسدة، مجرمة، والمجتمع خانعٌ لها.
والإنسان في الحالة الفردية يرى نفسه في حالة عجز، هذه الحالة الحل لها ما هو؟ الحل لها هو الهجرة، وتصبح الهجرة في مثل هذه الحالات التزاماً إيمانياً بنفسها، ومن ضمن المسؤوليات والواجبات التي على الإنسان، أن يتوكل على الله 'سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى' طالما هناك بيئة أخرى، أو منطقة أخرى، تتوفَّر فيها الظروف الملائمة أكثر للاستقامة، للالتزام الإيماني، للالتزام الديني… وهكذا.
أيضاً في مثل هذه الحالة، بالنسبة لنبي الله إبراهيم 'عَلَيْهِ السَّلَامُ'، أصبحت السلطة التي تحكم المجتمع الذي هو فيه، وعلى رأسها الطاغوت المستكبر، الملك الكافر، الذي يدَّعي الربوبية والألوهية، والذي ذكر الله مُحَاجَّة إبراهيم له، ومُحَاجَّتَه لإبراهيم، تحدثنا عنها بالأمس، ثم انحراف المجتمع بنفسه، بكهنته، بالوجاهات العشائرية والزعماء من العشائر، الحالة في ذلك المجتمع: أنهم يعادون نبي الله إبراهيم، ويعادون رسالته، إلى أقصى حد في العداء، وصل بهم الحال أن حاولوا إحراقه بالنار حَيّاً، وأرادوا أن يُلحِقُوا به هذا المستوى من المعاقبة، التي هي أشد عقوبة عندهم، فهو في بيئة معادية، وليس فقط بيئة لا تتقبَّل الرسالة الإلهية، حتى بعد أن وضحت لها الدلائل الكافية، والمعجزات والبراهين؛ إنما مع كثرها، وعدم استجابتها، هي بيئة معادية لأشد مستوى من العداء، وتستهدفه في حياته؛ استهدافاً للرسالة الإلهية بنفسها، من أجل هذه الرسالة التي أتى بها من عند الله 'سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى'؛ ولهـذا كان من الواضح أن استمراره بينهم معناه: أنه سيواجه المزيد من مكائدهم، من مؤامراتهم، من مساعيهم العدوانية لاستهدافه من جديد، فكانت الهجرة بالنسبة له- بإذنٍ من الله 'سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى' أيضاً، وفي اطار تدبير الله لشأنه- كانت أيضاً نجاةً له؛ ولـذلك يقول الله 'سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى': {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ}[الأنبياء:71]؛ لأن لوطاً أيضاً هو مُعَرَّض لنفس الخطر والتهديد على حياته، ومضطهد أيضاً، يعني: إذا بقي، يواجه نفس المشكلة من الاضطهاد، من المحاربة، من المؤامرة على حياته، فهو يعيش نفس الأجواء.
من الواضح أن لوطاً وقف مع نبي الله إبراهيم 'عَلَيْهِ السَّلَامُ' ما بعد قصة محاولة الإحراق، ليس فقط موقف المؤمن المُصَدِّق؛ وإنما موقف المؤيِّد والمعاون؛ ولهـذا أتى في التعبير القرآني: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ}[العنكبوت:26]، (آمَنَ لَهُ)، فهو وقف معه، هو مؤمنٌ به، ولكن ما بعد محاولة الإحراق وقف أيضاً في موقف مناصرة، ومعاونة، ومؤازرة، وكان في موقفٍ واضحٍ معه، فكان مهاجراً معه.
لوط هو من أقارب نبي الله إبراهيم 'عَلَيْهِ السَّلَامُ'، مع اختلاف كبير بين المؤرخين عن هذه القرابة ما هي؟ البعض قالوا أنه: [ابن أخيه]، البعض قالوا: [ابن أخته]، البعض قالوا: [ابن خالته]، البعض قالوا: [ابن عمه]، البعض… اختلافات كبيرة، لكن لا شك أنَّه كان من أقاربه، فهاجر معه.
الله 'سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى' اختار لنبيه إبراهيم 'عَلَيْهِ السَّلَامُ' أن تكون هجرته إلى الأرض التي- كما قال الله عنها: {بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ}[الأنبياء:71]– بارك الله فيها البركات الواسعة، وهي بلاد الشام، بلاد الشام، يتَّضح ذلك أيضاً من (سورة الإسراء)، ومن آيات أخرى أيضاً.
فالله 'سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى' بارك في بلاد الشام منذ زمنٍ مُبَكِّر، في تلك المراحل المتقدِّمة، وعلى مدى زمنٍ طويل، جعل فيها البركات الواسعة، في مقدِّمة هذه البركات، ومن أهمها، والدرجة الأولى أهميةً من هذه البركات هي: بركات الدين، بلاد الشام كانت موطناً لعددٍ لا بأس به من الرسل، والأنبياء، والمؤمنين، على مدى زمنٍ طويل، وهم ينشرون دين الله، ورسالة الله، ويعملون على هداية الناس بهدى الله 'سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى'، فلمَّا كانت موطناً للرسالة الإلهية، وعاش فيها الكثير من الرسل والأنبياء في حياتهم، وما في حياتهم من البركات، وما في وجودهم فيها، في إطار أدائهم لمهامهم العظيمة والمقدَّسة والمباركة، مع المؤمنين معهم، وبهم، ومع أنصارهم، ما كان مع ذلك من البركات الواسعة، فالبركات الدينية هي أهم البركات، وهي التي تتفرَّع عنها أيضاً بقية البركات في حياة الناس، في مختلف شؤون الحياة، في ظروفهم المعيشية، وسائر شؤون حياتهم.
وامتدَّت هذه البركات (في بلاد الشام) إلى ما جعل الله في تلك البلاد نفسها من بركات الدنيا، التي هي امتدادٌ لهذه البركات:
في صلاحيتها العالية للزراعة.
في ما فيها أيضاً في مجال الزراعة من النباتات المميَّزة، ومنها: شجرة الزيتون… وغيرها من النباتات المباركة.
وكذلك ما فيها من صلاحية عالية جدًّا لتربية الثروة الحيوانية: الماشية (المواشي)…
وغير ذلك: أجواؤها، بيئتها، ظروفها، مميَّزة في صلاحيتها العالية لحياة الناس، وتوفُّر متطلبات حياتهم فيها على نحوٍ واسعٍ وميسور.
فهذا كله من البركات التي جعلها الله فيها.
الهجرة أيضاً إلى بلاد الشام تهيَّأت فيها ظروف جديدة لنبي الله إبراهيم 'عَلَيْهِ السَّلَامُ'، مختلفة عمَّا عليه الحال في (بابل)؛ لأن بلاد العراق كان يحكمها (النمرود) طاغية، طاغوت، مستكبر، متكبر وظالم، ولكن لا يمتد حكمه وسلطته، وسيطرته لا تمتد إلى بلاد الشام، كانت متحرِّرة من سيطرته.
كما يظهر من المؤرِّخين، وفي كتب التاريخ، ومن بعض الآثار، أنَّ أبرز احتمال عن الوضع السياسي لبلاد الشام في تلك المرحلة: أنها كانت تخضع لسيطرة المصريين (ملوك مصر)، كانت تمتد سيطرتهم من مصر إلى الشام.
في تلك الآونة، الظروف، والأجواء، والبيئة المتاحة في بلاد الشام، قد لا تكون السيطرة المصرية عليها شديدة، أو لم تكن قد استحكمت عليها، كانت الظروف فيها مهيَّأة لأن يتحرَّك فيها نبي الله إبراهيم 'عَلَيْهِ السَّلَامُ' برسالة الله، بالدعوة إلى الله، من دون مضايقة ومحاربة واضطهاد، أو مساعٍ لاستهداف حياتهم، أو منع له، وهذا أفق مهم للرسالة.
ولـذلك حتى في سيرة الأنبياء 'عَلَيْهِمُ السَّلَامُ'، هناك الكثير من الرسل والأنبياء ممن هاجروا، هاجروا وبعد هجرتهم فتح الله لهم آفاقاً جديدة لإقامة دين الله، لنشر رسالة الله، لهداية عباد الله، وانتقلوا إلى مجتمعات أكثر رشداً، وأكثر زكاءً، وأكثر تقبُّلاً لهدى الله ولرسالته ودينه، ذلك ما حدث حتى لرسول الله محمد 'صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ'، كان لهجرته من مكة إلى المدينة أهمية كبيرة جدًّا، وفتح أفق جديد لانتشار الإسلام، وإقامة الأُمَّة الإسلامية والدين الإسلامي، وانتصار أمر الإسلام، وما ترتب على ذلك، كانت ميلاداً للأُمَّة الإسلامية امتدَّت بركاته وتمتد إلى آخر أيام الدنيا.
استقر حال نبي الله إبراهيم 'عَلَيْهِ السَّلَامُ' بعدما وصل إلى الشام في (فلسطين)، وفي فلسطين فيما يعرف الآن بـ (الخليل)، منطقة الخليل هي سُمِّيت باسمه، باسم نبي الله إبراهيم (الخليل)؛ لأن من أوصافه المعروف بها: (خليل الرحمن)، فَسُمِّيَت باسمه، المنطقة تلك استقر فيها نبي الله إبراهيم 'عَلَيْهِ السَّلَامُ'، واستقر فيها حاله، في نشاطه التبليغي، وعمله على هداية الناس، وفي الاستقرار لحياته، حيث أنَّ الله 'سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى' أيضاً بارك له في رزقه، وفي شؤون حياته، يسَّر له شؤونه المعيشية في تلك البقعة، فاستقرَّت أوضاعه المعيشية، وبارك الله له أيضاً في رزقه، وفي ممتلكاته من الماشية، كان لديه عدد لا بأس به من الأبقار، يعني: في بعض الآثار، والروايات، والأخبار: المئات من الأبقار، إضافةً إلى الزراعة، فالله يَسَّر له كل شؤون حياته، وهذا مما وعد الله به المهاجرين في سبيله: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً}[النساء:100]؛ لأن من يهاجر في سبيل الله قد يكون من الهواجس ومشاعر القلق التي تنتابه، هو: مستقبله المعيشي، حينما يهاجر إلى بلد آخر ليس لديه فيه ممتلكات، ولا إمكانات اقتصادية؛ لكن حينما تكن المسألة من أجل الله، وفي سبيل الله، وتقتضيها الحالة الدينية، يقتضيها الالتزام الإيماني؛ فالله 'سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى' يهيِّئ هو سَعَةً في حياة الإنسان، يُسراً في أموره، وكذلك بركةً في رزقه ومعيشته… وهكذا، فأوضاعه المعيشية مع ظروف التبليغ، وظروف النشاط العملي، وأداء مهامه المقدَّسة في تبليغ رسالة الله 'سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى'، تيسَّرت له في هذا المجتمع، وفي هذه المنطقة، بخلاف ما كان عليه حاله في العراق في (بابل)، كان يواجه المشاكل حتى مع محيطه الأسري، مع قومه، المشاكل الكبيرة، والأوضاع المختلفة تماماً.
في ظل ذلك الاستقرار، كان أيضاً يرغب بأن يرزقه الله 'سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى' الذُّرِّيَّة الطَّيِّبَة، التي تكون امتداداً له:
في حمل دين الله.
في الالتزام بنهج الله 'سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى'.
في الاستقامة على هدى الله 'جَلَّ شَأنُهُ'.
في العمل على هداية الناس.
فهو يرغب في كيف تتوسَّع دائرة المؤمنين، ويرغب أن يكون له ذُرِّيَّة طَيِّبَة، وَذُرِّيَّة صالحة؛ تُعينه في أداء هذا الدور، وتلتزم معه على النهج الإيماني في طاعة الله 'سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى'، والعبادة لله 'سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى'.
كانت زوجته (سارة) عقيماً، لم تلد؛ ولـذلك فقد تزوَّج زوجةً أخرى هي (هاجر)، ودعا الله 'سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى': {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ}[الصافات:100]، يقول الله 'سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى': {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ}[الصافات:101]، هو يريد ذُرِّيَّةً طَيِّبَة.
أشمل عنوان (عنوان كامل) لما تريده في ولدك، إذا أردته أن يكون ولداً متكاملاً في المواصفات، التي هي مواصفات كمال، كمال في إنسانيته، في أخلاقه، في قيمه، في رشده، العنوان الذي يجمع كل ما تفرَّق من المواصفات المهمة والطيِّبة، هو: عنوان الصلاح؛ ولهـذا قال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ}[الصافات:100]، إذا كان ولداً صالحاً، يعني:
أن يكون راشداً.
أن يكون زاكي النفس.
أن تتكامل أوصافه وكمالاته الإنسانية، والإيمانية، والأخلاقية.
فهو العنوان الذي يجمع كل ما تفرَّق من الصفات الإيجابية والمهمة والراقية، التي تريدها في ولدك، عندما يكون الإنسان إنساناً صالحاً، يريد أن يكون ولده أيضاً صالحاً.
{فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ}[الصافات:101]، أتته البشارة من الله 'سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى'، بالاستجابة لدعائه، وأنَّ الله سيرزقه ولداً صالحاً، كما طلب من الله وسأل، ويتميِّز مع الصلاح، في خِلَالِ الصلاح، وصفات الصلاح، بميزة معيَّنة من بين مواصفاته كلها، هو ولدٌ صالح، تتكامل فيه كل مواصفات الصلاح، ولكن مع ذلك يتميَّز بميزة هي: الحلم.
الحلم هو من أهم المواصفات الأخلاقية الراقية، عندما نأتي إلى مكارم الأخلاق، فالحلم من أهمها، ومن أهم المواصفات القيادية، للإنسان الذي يمكن أن يكون له دورٌ رائدٌ في الحياة، يُصلح في واقع الناس، في واقع المجتمع، يُغَيِّر إلى الأفضل، يترك الأثر الإيجابي في الحياة، فهو من جانب: من المواصفات المهمة في مكارم الأخلاق، والصفات الطيِّبة والإيجابية؛ وهو على مستوى الأداء القيادي، ومؤهلات القيادة للمجتمع، والدور المؤثِّر في المجتمع، هو من أهم المواصفات.
الحلـــم، في شرحه، وتعريفه، والحديث عن مدلول هذه المفردة المهمة، يشمل جوانب متعددة: هو يشمل التوازن الفكري، والنفسي، والسلوكي لدى الإنسان، الذي يتجلَّى بشكلٍ كبير حتى في حالة الغضب، والظروف المستفزة جدًّا للإنسان، في موارد الغضب والاستفزاز، وكذلك في حالة الرضا؛ فالإنسان الحليم هو إنسانٌ في تكامله، وسيطرته على نفسه، ومستوى انضباطه، ورشده، وتماسكه، يبقى متعاملاً على أساس القيم والأخلاق في مختلف الأحوال:
فلا غضبه، وانفعاله، وما يستفزه، يدفعه إلى أن يتجاوز الأخلاق والقيم؛ فيتعامل بطيش، وجبروت، وظلم، وإساءة، وتجاوز للياقة والأخلاق.
ولا حالة الرضا، وانشراح الصدر، والارتياح والانبساط، تخرجه إلى حالة السفه، والعبث، والدناءة، والتصرفات غير الموزونة، غير المضبوطة بضابط الأخلاق، وضابط القيم.
ولذلك فالحلم- فعلاً– صفة مهمة جدًّا؛ لأنها تعني: أنَّ الإنسان لا يخضع في تصرفاته، وأعماله، ومواقفه، للحالة الغريزة لدى نفسه: حالة الغضب والانفعال، أو حالة الانبساط، والانشراح (انشراح الصدر)، والارتياح، والرضا؛ بل يحكم حالة الغضب، والانفعال، والاستفزاز؛ وحالة الرضا، والانبساط، والارتياح؛ يحكمها جميعاً بأخلاقه، بقيمه، بدينه، ويبقى فيها ملتزماً، ملتزماً بتعليمات الله 'سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى'، متحلياً بمكارم الأخلاق، لا يخرج عنها، ولا يتجاوزها.
وهي من أهم المواصفات (صفة الحلم) التي وصف الله بها نبيه إبراهيم 'عَلَيْهِ السَّلَامُ'، {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ}[هود:75]، {لَحَلِيمٌ} بالتأكيد، {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ}[هود:75]، وصفه الله بها مع صيغة التأكيد، التي تؤكِّد اتِّصافه بهذه الصفة على أرقى مستوى، على مستوى راقٍ جدًّا؛ لأن مختلف المواصفات بأنواعها يتفاضل الناس فيها، يتفاضلون في مستوى تحلِّيهم بها، والتزامهم بها، فنبي الله إبراهيم كان على درجة عالية جدًّا.
نبي الله إسماعيل 'عَلَيْهِ السَّلَامُ' كذلك، وهو نبي من أنبياء الله إسماعيل 'عَلَيْهِ السَّلَامُ'، وسيأتي الحديث عن ذلك- إن شاء الله- في المحاضرات القادمة، والدروس القادمة.
فالله بشَّره بغلامٍ حليم، يعني: مثل أبيه، يشابهه بهذه الصفة المميَّزة، مع بقية مواصفات مكارم الأخلاق، والمواصفات الكمالية المهمة. سيأتي الحديث عن قصة نبي الله إبراهيم 'عَلَيْهِ السَّلَامُ' في المحاضرات القادمة إن شاء الله.
نبي الله إبراهيم 'عَلَيْهِ السَّلَامُ' هو نقل هذا الفرع من أسرته: إسماعيل، وكذلك معه أُمَّهُ هاجر، بأمرٍ من الله 'سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى'، ولهدفٍ عظيمٍ ومقدَّسٍ، إلى مكة، ومع أنَّ نبي الله إبراهيم 'عَلَيْهِ السَّلَامُ' هو ذهب إلى مكة لمرَّات متعدِّدة، بقي فيها أيضاً لفترات معيَّنة زمنية، إلَّا أنَّ مُسْتَقَرَّهُ كان في الشام، المستقر في أغلب وقته كان في الشام، كان يذهب إلى مكة:
ذهب لأداء الحج.
ذهب لتأسيس البيت قبل ذلك.
ذهب ما قبل ذلك أيضاً بهذا الفرع من أسرته؛ ليستقر هناك…إلخ.
وهي محطات– إن شاء الله- سنتحدث عنها أيضاً في المحاضرات القادمة إن شاء الله.
نَسْألُ اللَّهَ 'سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى' أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإِيَّاكُم لِمَا يُرْضِيه عَنَّا، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهْدَاءَنَا الأَبْرَار، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّجَ عَنْ أَسْرَانَا، وَأَنْ يَنْصُرَنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيْعُ الدُّعَاء.
وَالسَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

القوات المسلحة اليمنية تعلن نجاح عملية استهداف مطار اللد بطائرتين مسيرتين
القوات المسلحة اليمنية تعلن نجاح عملية استهداف مطار اللد بطائرتين مسيرتين

المشهد اليمني الأول

timeمنذ 25 دقائق

  • المشهد اليمني الأول

القوات المسلحة اليمنية تعلن نجاح عملية استهداف مطار اللد بطائرتين مسيرتين

أخبار وتقارير المشهد العسكري مميزة أعلنت القوات المسلحة اليمنية، اليوم الأربعاء، تنفيذ عملية عسكرية ناجحة استهدفت مطار اللد 'بن غوريون' في منطقة يافا المحتلة، وذلك باستخدام طائرتين مسيرتين من نوع 'يافا'. وجاء في البيان الصادر عن القوات المسلحة: 'نفذ سلاح الجو المسير في القوات المسلحة اليمنية عملية عسكرية استهدفت مطار اللد بطائرتين مسيرتين نوع يافا، وقد حققت العملية هدفها بنجاح بفضل الله'. وأكد البيان أن هذه العملية تأتي 'انتصاراً لمظلومية الشعب الفلسطيني ومجاهديه، ورفضاً لجريمة الإبادة الجماعية التي يقترفها العدو الصهيوني بحق إخواننا في قطاع غزة'. كما أشار البيان إلى أن 'اليمن — بعون الله تعالى — مستمر في تأدية واجبه الديني والأخلاقي والإنساني تجاه الشعب الفلسطيني المظلوم'، داعياً 'شعوب وبلدان الأمة إلى تأدية هذا الواجب وترك التخاذل والتواكل والتقاعس'. واختتم البيان بالتأكيد على أن 'عملياتنا ضد العدو الصهيوني المجرم ستستمر حتى وقف العدوان على غزة ورفع الحصار عنها'، معبراً عن ثقته بأن 'الله حسبنا ونعم الوكيل'. يأتي هذا الإعلان في وقت يستعد فيه حجاج بيت الله الحرام لأداء مناسك الحج، بينما 'يستمر نزيف دم إخواننا في غزة الحبيبة دون نصير أو مغيث'، كما ورد في البيان.

قوات صنعاء تستهدف مطار بن غوريون في يافا المحتلة بطائرتين مسيرتين
قوات صنعاء تستهدف مطار بن غوريون في يافا المحتلة بطائرتين مسيرتين

وكالة الصحافة اليمنية

timeمنذ 35 دقائق

  • وكالة الصحافة اليمنية

قوات صنعاء تستهدف مطار بن غوريون في يافا المحتلة بطائرتين مسيرتين

قوات صنعاء تستهدف مطار بن غوريون في يافا المحتلة بطائرتين مسيرتين صنعاء/وكالة الصحافة اليمنية// أعلنت قوات صنعاء عن تنفيذ عملية عسكرية استهدفت مطار اللد في منطقة يافا المحتلة، وذلك انتصارا لمظلومية الشعب الفلسطيني، ورفضا لجريمة الإبادة الجماعية التي يقترفها العدو الصهيوني بحق الأشقاء في قطاع غزة. وأوضحت صنعاء في بيان صادر عنها اليوم، أن العملية العسكرية التي نفذها سلاح الجو المسير بطائرتين مسيرتين نوع يافا، حققت هدفها بنجاح بفضل الله. وأشارت إلى أنه 'وبينما حجاج بيت الله تعالى يستعدون للوقوف في عرفة مهللين ومكبرين، يستمر نزيف دم إخوانهم وإخواننا في غزة الحبيبة، دون نصير أو مغيث من أبناء الأمة الإسلامية، رغم القدرة والمقدرة على إيقاف هذه المجزرة التي لم يشهد لها العالم مثيلا'. وأكد البيان أن اليمن –بعون الله تعالى- مستمر في تأدية واجبه الديني والأخلاقي والإنساني تجاه الشعب الفلسطيني المظلوم، وعلى كافة شعوب وبلدان الأمة تأدية هذا الواجب وترك التخاذل والتواكل والتقاعس والعمالة، فلا بارك الله في أمة تركت واجباتها وتخلت عن مسؤولياتها واستسلمت لعدوها رغم ما تمتلكه من قدرات وما بحوزتها من إمكانات. كما أكدت قوات صنعاء استمرار عملياتها ضد العدو الصهيوني المجرم حتى وقف العدوان على غزة ورفع الحصار عنها.

يوم عرفة والقيم الانسانية
يوم عرفة والقيم الانسانية

الصحوة

timeمنذ 2 ساعات

  • الصحوة

يوم عرفة والقيم الانسانية

يجتمع الحجاج على صعيد عرفات لإنجاز ركن الوقوف بقلوبٍ واجفةٍ وأكفٍ مرفوعة، تسبقهم دموع الخشوع وترتجف أفئدتهم شوقاً إلى المغفرة ، وترتفع الأرواح إلى مقامات العفو والغفران والقبول ، وفي اجتماعهم في هذا المشعر وبتلك الكيفية معاني عميقة مرتبطة بجوهر العبادة ولبها ، ومن يعتقد أن ما يحدث هو محض شعائر محصورة في إطار العبادة الفردية فهو لا يعطي الحدث حقه ولا مستحقه . يوم عرفة هو يوم تجسيد القيم الإنسانية بامتياز ، ومناسبة تحمل في طياتها رسائل حضارية وأخلاقية تتجاوز الحدود إلى العالمية ، ففيها يقف الملايين في صعيد عرفات بلباس واحد موحد بلا زخرف ولا تمايز ، فلا عمائم العلماء تُعرف ، ولا تيجان الملوك تُميز ، ولا أزياء الأغنياء تُلمح ، والكل في رداء الإحرام الأبيض يعيدون تعريف ذواتهم على أساس ما هم عليه في الأصل ، بشرٌ من تراب عبيدٌ لرب واحد ، تتجسد فيهم أعظم صور المساواة لا مجرد شعار بل واقعاً حيّاً يعيشه الناس من كل القارات واللغات والأعراق والأنساب ، وكأن يوم عرفة تقول : إن أردتم بناء عالمٍ عادلٍ فابدؤوا من هنا حيث المساواة التي لا فرق فيها ولا تفرقة . الحرية قيمة إنسانية عظيمة تحضر يوم عرفة بشكل لامع مشرق ، وهي ليست حرية سياسية بالمعنى الشائع المستهلك ، بل حرية روحية داخلية يخلع فيها الإنسان عن نفسه أوزار الذنوب وأغلال العادات السيئة وأوهام التملك والسيطرة ، ثم يتجرد من كل تبعية لغير الله ، ومن كل قيد يصنعه الهوى ، ويقول في أعماقه قبل لسانه : "لبيك اللهم لبيك ،لبيك لا شريك لك" وهذا النداء هو إعلان تحرر من كل ما سوى الله ، تحرر من الجشع والكراهية والتمييز وعبودية النفس والهوى ، وفي كل ذلك استعادة لمعنى الحرية الحقيقية التي تحرر القلب والروح قبل أن تحرر الجسد . وفي عرفات تتجلى العدالة في أبهى صورها حين تتنزل الرحمة السماوية بلا حساب ، وتُوزع المغفرة بلا محاباة ولا تمييز ، فمن وقف على عرفات مستغفراً صادق النية نال حظه من العتق والصفح ، لا ينظر الله إلى شكله ولا تاريخه ولا ألقابه ولا حسبه ونسبه ، بل إلى صدقه وعمق توبته وإقبال قلبه على خالقه ، وهذا هو لب العدالة الإلهية والتي يحصل الانسان فيها على الإنصاف في أجمل صوره ، وإن كان مقصراً يعطى الفرصة للبدء من جديد ، ويفتح له باب الرجاء لا باب اليأس ، تلك عدالة يوم عرفة ، عدالة فائقة لا تعرف التفرقة ، بل تمنح كل طالبٍ للعفو فرصة عادلة للعودة إلى الطريق ، والتصالح مع ذاته وخالقه ومجتمعه . يوم عرفة هو يوم التسامح ، حيث لا يُطلب من الإنسان أن يتصالح مع خالقه فقط ، بل أن يُعيد النظر في علاقته بالناس ، فمن يطلب الصفح من خالقه لا بد أن يكون مستعداً لأن يغفر للآخرين ويتجاوز الأحقاد والضغائن ، ولأجل ذلك تسري روح التسامح الجماعي بين الحجيج ، وحين تتأمل سيرهم وسكونهم في عرفات تلمح مشاعر الصفاء تتسلل إلى القلوب ، وكأن الرحمة تسري من السماء إلى الأرض لتعيد ترتيب العلاقات على أساس الحب لا البغضاء ، والتسامح والعفو لا الانتقام . تلك بعض القيم الانسانية التي ترسيها يوم عرفة لتبدو موقفاً عالمياً إنسانياً لا محطة زمنية عابرة ، ولتظهر حقيقتها ليس كشعيرة فقط ، بل كيوم مشهود يُعيد تذكير البشرية بالقيم التي تجعل حياتها متوازنة ، وتضعهم أمام مرآة المنظومة القيمية الكبرى التي لا تزول بتغيّر الأزمان ولا تتلاشى مع تبدل الحضارات ، إنه يوم يحمل في مضمونه رسالة لكل إنسان مفادها إن أردت إنسانية كاملة فعِش يوم عرفة كل يوم .

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store