logo
هل للسينما أن تتفلسف؟

هل للسينما أن تتفلسف؟

الشرق الأوسط٠٣-٠٥-٢٠٢٥

هناك وجهان لعلاقة السينما بالفلسفة. الأول، أن تكون شارحة لفلسفة تاريخية، وقد استعرضنا نماذج من ذلك في صحيفتنا هذه. الثاني، أن تمارس السينما نفسها دور التفلسف. وهذا يعني أمرين على الأقل: استخدام الفيلم من أجل تسليط الضوء على المواقف والأفكار والأسئلة الفلسفية، وهذا بحد ذاته ممارسة للفلسفة، والفلسفة من خلال الفيلم ستتحول ببساطة إلى المزيد من الفلسفة. ويُمكن للسينما حرث قضايا فلسفية مثل الشك واليقين والمعرفة، بل حتى التعبير عن مواقف ووجهات نظر مُستنيرة فلسفياً.
الرأي الآخر هو أن الوجه الثاني غير ممكن، لأن السينما غامضة بطبيعتها، ولا تُقدم الدقة اللازمة لتوضيح الادعاءات الفلسفية والدفاع عنها. وهناك اعتراضات على تفلسف السينما بسبب التشابه المُتصوّر بينها وبين كهف أفلاطون. واعتراضات أخرى نشأت عن انتقادات أفلاطونية لقدرة الفن الروائي على كشف الحقيقة. غير أن نبذ أفلاطون للفنانين أمرٌ مُتناقض، نظراً لأن أفلاطون نفسه فنانٌ عظيم.
في مقابل هذه الاعتراضات، تُطرح آراء جريئة حول قدرة السينما على ممارسة التفلسف، مفادها أن الكثير مما يُمكن إنجازه باللفظ والكتابة يُمكن إنجازه أيضاً بالسينما. بل إن هناك نوعاً مُميّزاً من التفكير والتعبير السينمائي يختلف عن إعادة الصياغة بمصطلحات فلسفية تقليدية. سينما وودي آلن تفعل هذا، فهي أكثر من مجرد شرح لفكر سابق، بل تلعب التجارب الفكرية الجديدة دوراً في النقاشات، حيث يُطلق العنان للتأمل الفلسفي، وتُطرح الأسئلة، ويُشكك في الآراء القائمة، من خلال سياق أمثلة مُضادة، واستكشاف جوهر مفهوم ما، وتأكيد نظرية أو مساهمة في بنائها.
وقد تتفلسف السينما بشكل أفضل من الطرق الفلسفية التقليدية. لنا أن نتذكر كيف يصوّر تيرنس ماليك الوجود الزائف مع الآخرين والثرثرة، نظرية هايدغر، من خلال مشهد رجل يخدع امرأة بعبارات الحب، أو جندي في الحرب ينتظر العودة إلى الوطن فتفاجئه زوجته بطلب الطلاق قبل أن تنتهي الحرب، فيظهر في تلك المشاهد الجميلة الحزينة معنى العيش في الزيف، ويتعمق بطرائق جديدة.
تتناقض فكرة التفلسف من خلال السينما بشكل واضح مع الرأي القائل بأن الفيلم لا علاقة له بالفلسفة، وأن الفيلم في الواقع هو المقابل السيئ للفلسفة، إذ يحتوي على كل ما هو غريب أو مشكوك فيه من وجهة نظر العجوز الحكيمة، وأن السينما فتاة جميلة لكن بيّاعة وهم، ومُصمَمة فقط للتسلية. هذا الموقف يعتمد على وجود رؤية مُحددة لما يُشكّل الفلسفة، مع أن كل تعريفاتها موضع شك واختلاف... فعن أي سينما يتحدثون؟
رفض السينما لكونها غير فلسفية بطبيعتها هو جوهر «الاعتراض الأفلاطوني» على هذا التفلسف. ولكن ثمة تناقضات عديدة تقع عندما يجري التمييز بين الفلسفي وغير الفلسفي، بين التأمل والتجربة، والواقع والوهم، والشمولية والخصوصية، وكلها تجد مرجعيتها عند العجوز أفلاطون. ويمكن فهم سبب الاعتراض من «رمزية الكهف» في «الجمهورية».
أصحاب أفلاطون أخطأوا في اعتبار ما هو في الواقع مجرد ظلال مُسقطة على جدار الكهف، «حقيقة». وعند أفلاطون، كل الصور والتمثيلات المرئية غير كافية كمصدر للمعرفة. والتنوير الفلسفي يتطلب التفكير والتأمل النقدي، بدلاً من الاعتماد على الطريقة التي تظهر بها الأشياء لنا. رغم أن هذا الاعتماد هو مشروع هوسرل، الفينومنولوجيا. وأن كهف أفلاطون يتكرر كثيراً في سينما بيرناردو بيرتولوتشي للفت الانتباه إلى أسر الناس في أوهام الآيديولوجية الفاشية.
هناك أيضاً رفض ضمني أفلاطوني للفنون الخيالية بحجة متاجرتها بالتمثيلات غير الواقعية وتعزيز الوهم. وفقاً لهذا التصور يُعدّ الفيلم عالماً من الوهم والغواية، يختلط على الجمهور بالواقع. ويتجلى هذا الرأي، من بين مواضع أخرى، في النظرية السيميائية الماركسية أو التحليلية النفسية التي سادت في ستينات وسبعينات القرن الماضي، والتي ترى أن السينما السردية هي صورة من الأوهام البرجوازية، وكان ماركس يتشكك في كل علم وفن يأتي من الرأسماليين.
فيما رأي آخرون أن السينما قادرة على أكثر من أن تكون صدى للآيديولوجيات السائدة التي تُشوّه الواقع الاجتماعي وتُطمسه، ويُظهر الفحص الدقيق للأفلام الفردية كيف يُمكن تسليط الضوء على أساليب التفكير ونقد الممارسات الاجتماعية السائدة ضمن إطار سينمائي، من خلال السخرية، مثلاً. وهذا يعني أن الفيلم قادر على تبنّي موقف تأملي تجاه ما يستعرضه.
من جهة أخرى، إذا كانت رواية بيكون «أطلنطس الجديدة» قد تنبأت في القرن الـ16 بصناعة السيارات وأجهزة التكييف والهاتف والتلفزيون، فلا بأس أن نعدَّ أفلام الخيال العلمي نوعاً من التفلسف والوعد المستقبلي. السرديات والسيناريوهات الملموسة في صورة تجارب فكرية ليست غريبة على الفلسفة، وبالمثل، لا يوجد سبب يمنع أفلام الخيال من طرح أسئلة فلسفية. سينما الخيال العلمي لا تخضع للفلسفة القديمة. إنها تمارين فلسفية، أي الفيلم كفلسفة. ومن المنطقي القول إن بعض الأفلام تعمل مثلما تعمل التجارب الفكرية، وإلى الحد الذي يمكن اعتبارها فيه فلسفية.
ثمة اعتراض آخر يقول إن السينما مشغولة بالخيال بينما تُعنى الفلسفة بالحقائق الكونية. فكيف يُمكن للفيلم، وهو غارق في التفاصيل، أن تكون له أي علاقة بالفلسفة؟ هذا الاعتراض قُلب فوراً، رأساً على عقب عندما وجدنا أن السرديات الخيالية يُمكن العثور عليها بسهولة في النصوص الفلسفية نفسها، المشبعة بالميتافيزيقا. قصة كهف أفلاطون هي في حد ذاتها تجربة فكرية، سرد يجسد صورة وسيناريو لا يُنسيان، مصممان لإثارة أسئلة عامة حول دور التجربة الحسية، وطبيعة المعرفة، وطبيعة التنوير الفلسفي نفسه. ومن المفارقات أن أفلاطون يلجأ إلى «سرد» يجسد صورة لا تُنسى، من أجل القول بأن الصور ليس لها مكان في الخطاب الفلسفي! وحقاً، هو يستخدم سرداً يساعد في إنشاء سرد أكبر يُنظر فيه إلى الفلسفة نفسها، على أنها تنشأ من خلال رفض السرد لصالح خطاب عقلاني مكرّس للحقائق الكلية!

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

«النقد الأدبي» لأحمد أمين لا يزال صالحاً لإثارة الدهشة
«النقد الأدبي» لأحمد أمين لا يزال صالحاً لإثارة الدهشة

الشرق الأوسط

time٠٩-٠٥-٢٠٢٥

  • الشرق الأوسط

«النقد الأدبي» لأحمد أمين لا يزال صالحاً لإثارة الدهشة

للقاصّ المصري الراحل يحيى الطاهر عبد الله نصّ شهير يحمل عنوان «الحقائق القديمة لا تزال صالحة لإثارة الدهشة»، وهو تعبير مدهش يصلح لأن يكون مدخلاً للتعامل مع تلك الطبعة الجديدة من كتاب «النقد الأدبي» للمفكر أحمد أمين (1886 - 1954)، الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب. يروي أحمد أمين في مقدمة الكتاب أن السبب المباشر وراء تأليفه يعود إلى تكليفه بتدريس مادة البلاغة في كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول، القاهرة لاحقاً، سنة 1926، فاشتاق إذ ذاك أن يعرف ما كتبه الفرنج وما كتبه العرب في هذا الموضوع. وعندما قرأ كتب النقد الإنجليزية رأى فيها محاولة كبيرة لتحويل النقد إلى علم منظم له قواعد وأصول، على حين أن التراث العربي لم يؤصل الأصول، وإنما تضمن لمحات خاطفة في النقد لا تروي الغليل، فاقترح أن تتم دراسة علم النقد في كلية الآداب، على أن يطبق ذلك على الأدب العربي. وإذا كان النقد الأدبي فنّاً، وجب أن يخضع لكل قوانين الفنّ، فهناك قواعد أصلية تشترك فيها كل الفنون، ومنها الأدب، وهذه القواعد منها ما هو مستمد من علم النفس، ومنها ما هو مستمد من علم الجمال وغير ذلك، وكلما تقدم الناس في فهم علم الجمال زاد تقدمهم في التطبيق على النقد الأدبي. ويرى أحمد أمين، الذي يعدّ أحد أبرز الأسماء بالفكر العربي في النصف الأول من القرن العشرين، أنه يجب أن يعير الناقد عند تعامله مع النصّ الأدبي اهتماماً لما يسمونه «مبدأ الصدق». وقد كان أفلاطون أول من أعلنه، وهو أن أساس كل عمل جيد وخالد في الأدب هو الإخلاص التامّ لتجربته الخاصة في الحياة. وهذه الصفة من الإخلاص هي التي يعدّها الناقد الأسكوتلندي توماس كارليل العنصر الضروري لتكوين كل عظمة وبطولة. وهذا المعنى هو الذي عبّر عنه ألفريد دي موسيه بقوله: «إنني أنا الذي عشق»، وقد تبدو هذه العبارة عادية، لكن كم منا يستطيع أن يقولها في صدق. وكما قال جورج هنري لويس: «نحن لا نستطيع أن نطلب من كل إنسان أن يكون له عمق غير عادي في فطرته، ولا نستطيع أن نطلب منه تجربة غير عادية، ولكننا نطلب منه أن يعطينا أحسن ما يستطيع، ولن يكون هذا الأحسن شيئاً يملكه غيره». ويذكر أمين أنه كم من الناس فقدوا قيمتهم بكبتهم نفوسهم، وجريهم وراء غيرهم في الأسلوب والموضوع، وهذا هو الذي يفسر أننا نرى الرجل كبيراً في ملكاته الطبيعية واسع الثقافة كاملاً في الفنّ قد فاقه غيره، بسبب أن الأول أقل وأضعف جرأة في التعبير عن نفسه. ويشير إلى أنه أجمع النقاد تقريباً على أن الأدب يتكون من عناصر أربعة؛ العاطفة والمعنى والأسلوب والخيال. مع ملاحظة أن بعض الأنواع الأدبية قد تحتاج إلى حضور أكبر لبعض هذه العناصر أكثر من غيرها، فالشعر مثلاً يحتاج إلى مقدار من الخيال أكثر مما تحتاج إليه الفلسفة. أيضاً كتب التاريخ قد تعدّ أدباً وقد لا تعدّ، فإذا كان كتاب التاريخ لا يشتمل إلا على حقائق مجردة من العواطف ومستندة فقط إلى الوثائق والإحصاءات لم يعدّ أدباً. أما إذا مزج فيه المؤرخ حقائقه بعواطفه وضحك أحياناً وبكى أحياناً وأتبع الحادثة برأيه فيها، وأكمل بخياله ما نقص، وبعث عند القارئ ما حمّسه أو خذله كان أدباً بمقدار ما فيه من عاطفة. ويخلص أمين إلى أن العاطفة تعدّ كلمة السرّ التي تضمن للأدب الخلود، وهى السبب وراء حقيقة أنه حُبّبت إلينا قراءة الشعر مراراً، فنحن لا نملّ من إعادة قراءة المتنبي أو أبي العلاء، على حين أننا نملّ بسرعة من قراءة كتاب علمي متى كنا نعلم ما فيه، لأنه مرتبط بالعقل، لا بالعاطفة. ولفت إلى أنّ ابن رشيق القيرواني في كتابه «العمدة في محاسن الشعر وآدابه» حصر العاطفة الأدبية في أربعة: الرغبة والرهبة والطرب والغضب. فمع الرغبة يكون المدح والشكر، ومع الرهبة يكون الاعتذار والاستعطاف، ومع الطرب يكون الشوق ورقّة النسيب، ومع الغضب يكون الهجاء والوعيد والعتاب.

منزل فيلم "Vicky Cristina Barcelona" الشهير معروض للبيع مقابل 28.3 مليون دولار
منزل فيلم "Vicky Cristina Barcelona" الشهير معروض للبيع مقابل 28.3 مليون دولار

الرجل

time٠٦-٠٥-٢٠٢٥

  • الرجل

منزل فيلم "Vicky Cristina Barcelona" الشهير معروض للبيع مقابل 28.3 مليون دولار

طُرحت الفيلا الإسبانية الفاخرة التي ظهرت في فيلم "Vicky Cristina Barcelona" للمخرج "وودي آلن" للبيع مقابل 28.3 مليون دولار. تقع الفيلا على تلة "بوتشيت" في برشلونة، وتُعد واحدة من التحف المعمارية المميزة التي صممها المهندس الكتالوني الشهير "إنريك سانيير" عام 1917. تحفة معمارية من توقيع "إنريك سانيير" تقع الفيلا على ارتفاع استراتيجي يُطل على جبل "تيبيدابو"، وتُعد واحدة من أروع تصاميم المعماري "إنريك سانيير" الذي يُعد من رموز الفن المعماري الكتالوني، رغم أن شهرته لا تضاهي المصمم الشهير "غاودي". تتميز الفيلا بمزيج ساحر من الأساليب المعمارية، مثل الطراز العصري والكلاسيكي وعناصر "البلاتيريسك" المزخرفة، وتبرز فيها النوافذ المقوسة والحديد المشغول والمداخل الفخمة التي تُضفي عليها طابعًا سينمائيًا فريدًا. المصدر: Lucas Fox سحر السينما في تفاصيل الفيلا الفيلا، التي ظهرت في فيلم "Vicky Cristina Barcelona" عام 2008، جسّدت منزل شخصية "جودي" التي أدّتها "باتريشيا كلاركسون". وقد شكلت هذه الفيلا خلفية مثالية لمشاهد الحب والتأمل والدراما في الفيلم، وسط طراز معماري شاعري. تبلغ مساحة الفيلا الإجمالية حوالي 11 ألف قدم مربع، وتبدأ من مدخل رئيسي بباب خشبي مقوس يفتح على بهو شاهق الارتفاع، يتصل بغرفة معيشة وتناول طعام تبلغ مساحتها نحو 800 قدم مربع، وتضم مدفأة كلاسيكية ومعرضًا مضاءً بالشمس. تصميم داخلي فاخر ومرافق متكاملة تشمل الجناح المخصص للمطبخ منطقة إفطار، ومرافق خدمة مجهزة بالكامل. أما الطابق العلوي، فيضم الجناح الرئيسي الذي يمتد على معظم المساحة، ويشمل غرفة نوم واسعة بمساحة 550 قدم مربع تقريبًا، مع تراس خاص، وغرفتي ملابس، وحمام فاخر. ويضم العقار إجمالًا سبع غرف نوم وسبعة حمامات، كما يحتوي الطابق الثالث على عوارض خشبية مكشوفة وإطلالات بانورامية على مدينة برشلونة. المصدر: Lucas Fox مساحة خارجية مفعمة بالجمال واحدة من أبرز مزايا الفيلا هي التراس الواسع الذي يُطل على مسبح غائر يُشبه الكهف، تحيط به جدران جبل "بوتشيت" الصخرية. وتُوفر المساحات الخارجية للفيلا بيئة مثالية للاسترخاء أو تنظيم الحفلات، وسط حدائق خضراء ومناظر طبيعية تخطف الأنظار.

هل للسينما أن تتفلسف؟
هل للسينما أن تتفلسف؟

الشرق الأوسط

time٠٣-٠٥-٢٠٢٥

  • الشرق الأوسط

هل للسينما أن تتفلسف؟

هناك وجهان لعلاقة السينما بالفلسفة. الأول، أن تكون شارحة لفلسفة تاريخية، وقد استعرضنا نماذج من ذلك في صحيفتنا هذه. الثاني، أن تمارس السينما نفسها دور التفلسف. وهذا يعني أمرين على الأقل: استخدام الفيلم من أجل تسليط الضوء على المواقف والأفكار والأسئلة الفلسفية، وهذا بحد ذاته ممارسة للفلسفة، والفلسفة من خلال الفيلم ستتحول ببساطة إلى المزيد من الفلسفة. ويُمكن للسينما حرث قضايا فلسفية مثل الشك واليقين والمعرفة، بل حتى التعبير عن مواقف ووجهات نظر مُستنيرة فلسفياً. الرأي الآخر هو أن الوجه الثاني غير ممكن، لأن السينما غامضة بطبيعتها، ولا تُقدم الدقة اللازمة لتوضيح الادعاءات الفلسفية والدفاع عنها. وهناك اعتراضات على تفلسف السينما بسبب التشابه المُتصوّر بينها وبين كهف أفلاطون. واعتراضات أخرى نشأت عن انتقادات أفلاطونية لقدرة الفن الروائي على كشف الحقيقة. غير أن نبذ أفلاطون للفنانين أمرٌ مُتناقض، نظراً لأن أفلاطون نفسه فنانٌ عظيم. في مقابل هذه الاعتراضات، تُطرح آراء جريئة حول قدرة السينما على ممارسة التفلسف، مفادها أن الكثير مما يُمكن إنجازه باللفظ والكتابة يُمكن إنجازه أيضاً بالسينما. بل إن هناك نوعاً مُميّزاً من التفكير والتعبير السينمائي يختلف عن إعادة الصياغة بمصطلحات فلسفية تقليدية. سينما وودي آلن تفعل هذا، فهي أكثر من مجرد شرح لفكر سابق، بل تلعب التجارب الفكرية الجديدة دوراً في النقاشات، حيث يُطلق العنان للتأمل الفلسفي، وتُطرح الأسئلة، ويُشكك في الآراء القائمة، من خلال سياق أمثلة مُضادة، واستكشاف جوهر مفهوم ما، وتأكيد نظرية أو مساهمة في بنائها. وقد تتفلسف السينما بشكل أفضل من الطرق الفلسفية التقليدية. لنا أن نتذكر كيف يصوّر تيرنس ماليك الوجود الزائف مع الآخرين والثرثرة، نظرية هايدغر، من خلال مشهد رجل يخدع امرأة بعبارات الحب، أو جندي في الحرب ينتظر العودة إلى الوطن فتفاجئه زوجته بطلب الطلاق قبل أن تنتهي الحرب، فيظهر في تلك المشاهد الجميلة الحزينة معنى العيش في الزيف، ويتعمق بطرائق جديدة. تتناقض فكرة التفلسف من خلال السينما بشكل واضح مع الرأي القائل بأن الفيلم لا علاقة له بالفلسفة، وأن الفيلم في الواقع هو المقابل السيئ للفلسفة، إذ يحتوي على كل ما هو غريب أو مشكوك فيه من وجهة نظر العجوز الحكيمة، وأن السينما فتاة جميلة لكن بيّاعة وهم، ومُصمَمة فقط للتسلية. هذا الموقف يعتمد على وجود رؤية مُحددة لما يُشكّل الفلسفة، مع أن كل تعريفاتها موضع شك واختلاف... فعن أي سينما يتحدثون؟ رفض السينما لكونها غير فلسفية بطبيعتها هو جوهر «الاعتراض الأفلاطوني» على هذا التفلسف. ولكن ثمة تناقضات عديدة تقع عندما يجري التمييز بين الفلسفي وغير الفلسفي، بين التأمل والتجربة، والواقع والوهم، والشمولية والخصوصية، وكلها تجد مرجعيتها عند العجوز أفلاطون. ويمكن فهم سبب الاعتراض من «رمزية الكهف» في «الجمهورية». أصحاب أفلاطون أخطأوا في اعتبار ما هو في الواقع مجرد ظلال مُسقطة على جدار الكهف، «حقيقة». وعند أفلاطون، كل الصور والتمثيلات المرئية غير كافية كمصدر للمعرفة. والتنوير الفلسفي يتطلب التفكير والتأمل النقدي، بدلاً من الاعتماد على الطريقة التي تظهر بها الأشياء لنا. رغم أن هذا الاعتماد هو مشروع هوسرل، الفينومنولوجيا. وأن كهف أفلاطون يتكرر كثيراً في سينما بيرناردو بيرتولوتشي للفت الانتباه إلى أسر الناس في أوهام الآيديولوجية الفاشية. هناك أيضاً رفض ضمني أفلاطوني للفنون الخيالية بحجة متاجرتها بالتمثيلات غير الواقعية وتعزيز الوهم. وفقاً لهذا التصور يُعدّ الفيلم عالماً من الوهم والغواية، يختلط على الجمهور بالواقع. ويتجلى هذا الرأي، من بين مواضع أخرى، في النظرية السيميائية الماركسية أو التحليلية النفسية التي سادت في ستينات وسبعينات القرن الماضي، والتي ترى أن السينما السردية هي صورة من الأوهام البرجوازية، وكان ماركس يتشكك في كل علم وفن يأتي من الرأسماليين. فيما رأي آخرون أن السينما قادرة على أكثر من أن تكون صدى للآيديولوجيات السائدة التي تُشوّه الواقع الاجتماعي وتُطمسه، ويُظهر الفحص الدقيق للأفلام الفردية كيف يُمكن تسليط الضوء على أساليب التفكير ونقد الممارسات الاجتماعية السائدة ضمن إطار سينمائي، من خلال السخرية، مثلاً. وهذا يعني أن الفيلم قادر على تبنّي موقف تأملي تجاه ما يستعرضه. من جهة أخرى، إذا كانت رواية بيكون «أطلنطس الجديدة» قد تنبأت في القرن الـ16 بصناعة السيارات وأجهزة التكييف والهاتف والتلفزيون، فلا بأس أن نعدَّ أفلام الخيال العلمي نوعاً من التفلسف والوعد المستقبلي. السرديات والسيناريوهات الملموسة في صورة تجارب فكرية ليست غريبة على الفلسفة، وبالمثل، لا يوجد سبب يمنع أفلام الخيال من طرح أسئلة فلسفية. سينما الخيال العلمي لا تخضع للفلسفة القديمة. إنها تمارين فلسفية، أي الفيلم كفلسفة. ومن المنطقي القول إن بعض الأفلام تعمل مثلما تعمل التجارب الفكرية، وإلى الحد الذي يمكن اعتبارها فيه فلسفية. ثمة اعتراض آخر يقول إن السينما مشغولة بالخيال بينما تُعنى الفلسفة بالحقائق الكونية. فكيف يُمكن للفيلم، وهو غارق في التفاصيل، أن تكون له أي علاقة بالفلسفة؟ هذا الاعتراض قُلب فوراً، رأساً على عقب عندما وجدنا أن السرديات الخيالية يُمكن العثور عليها بسهولة في النصوص الفلسفية نفسها، المشبعة بالميتافيزيقا. قصة كهف أفلاطون هي في حد ذاتها تجربة فكرية، سرد يجسد صورة وسيناريو لا يُنسيان، مصممان لإثارة أسئلة عامة حول دور التجربة الحسية، وطبيعة المعرفة، وطبيعة التنوير الفلسفي نفسه. ومن المفارقات أن أفلاطون يلجأ إلى «سرد» يجسد صورة لا تُنسى، من أجل القول بأن الصور ليس لها مكان في الخطاب الفلسفي! وحقاً، هو يستخدم سرداً يساعد في إنشاء سرد أكبر يُنظر فيه إلى الفلسفة نفسها، على أنها تنشأ من خلال رفض السرد لصالح خطاب عقلاني مكرّس للحقائق الكلية!

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store