
رمضان والصوم الكبير… عندما تجمعنا اللغة وتجربة الصيام!
د. سارة ضاهر - رئيسة مجمع اللغة العربية في لبنان هذا العام، نشهد حدثًا نادرًا حيث يتزامن شهر رمضان المبارك مع الصوم الكبير المسيحي، ليعيش الملايين من المسلمين والمسيحيين تجربة الصيام في الفترة الزمنية نفسها. هذه الصدفة ليست مجرد تداخل في التقويم، بل هي فرصة للتأمل في القيم الروحية المشتركة، ودور اللغة في التعبير عن هذه التجربة بطرق مختلفة، لكنها تحمل معاني متقاربة في جوهرها.
1. الصيام في الإسلام والمسيحية… عبادة روحية واحدة بأساليب مختلفة
يعتبر الصيام ركنًا أساسيًا في الإسلام، حيث يمتنع المسلمون عن الطعام والشراب من الفجر حتى المغرب، مع تخصيص الشهر للعبادة، والتهجد، والتقرب من الله. في المقابل، يلتزم المسيحيون بالصوم الكبير، حيث يمتنعون عن أنواع محددة من الطعام، مثل اللحوم ومنتجات الألبان، مع تركيز على الصلاة والتوبة والتأمل في الفداء.
رغم اختلاف طريقة الصيام، فإن الهدف الأساسي واحد: ضبط النفس، تنقية الروح، وتعزيز العلاقة مع الله. الصيام في الديانتين هو رحلة داخلية تساعد الإنسان على التحرر من الشهوات المادية والتركيز على البُعد الروحي للحياة.
2. لغة الصيام… مفردات تجمعنا
تعكس اللغة العربية تجربة الصيام من خلال مفردات وتعبيرات تحمل دلالات روحية عميقة، سواء في رمضان أو الصوم الكبير. من العبارات الشائعة في رمضان: • 'اللهم إني صائم'، والتي يستخدمها المسلم للتذكير بنية الصيام. • 'رمضان كريم' و*'صيامًا مقبولًا وإفطارًا شهيًا'*، تعبيرات تُظهر روح المحبة والمشاركة. • 'الإفطار'، حيث يُفطر المسلم بعد أذان المغرب، وتتحول المائدة إلى رمز للتآخي والرحمة.
أما في الصوم المسيحي، فتظهر عبارات مشابهة: • 'صومًا مباركًا' و*'صومًا مقبولًا'*، تعبير عن التمني للآخرين بأن يكون صيامهم مقبولًا أمام الله. • 'كسر الصيام'، حيث يُفطر الصائم المسيحي بعد الصلوات المسائية، مما يعكس ذات الفكرة الموجودة في الإسلام.
رغم اختلاف المفردات، فإنها تعبّر عن روح الالتزام والسمو الروحي نفسه، ما يؤكد أن اللغة تعكس التجربة الإنسانية المشتركة في التعبير عن القيم الروحية.
3. عندما تلتقي الأذان مع أجراس الكنائس
مع تزامن الصيام هذا العام، نعيش مشهدًا فريدًا في بعض المدن العربية حيث يُرفع أذان المغرب معلنًا إفطار المسلمين، بينما تدق أجراس الكنائس إيذانًا بصلوات الصوم الكبير. هذه اللحظة تجسيد للتعايش الديني في المجتمعات العربية، حيث يعيش المسلم والمسيحي تجربة الصيام في الوقت نفسه، وتتوحد القلوب في لحظة خشوع واحدة.
4. مائدة واحدة… صائمون بطريقتين
في العديد من البيوت العربية، يعيش المسلمون والمسيحيون تحت سقف واحد، مما يجعل هذا التزامن فرصة لتعزيز روح التعايش والمودة. تخيّل عائلة يجتمع أفرادها حول مائدة واحدة: • المسلمون ينتظرون أذان المغرب للإفطار. • المسيحيون ينهون صيامهم بعد صلواتهم المسائية.
المشهد يحمل رسالة إنسانية عظيمة: رغم اختلاف الطقوس، فإن الصيام تجربة موحّدة تقرّب الناس من بعضهم البعض، وتؤكد أن المائدة ليست مجرد مكان لتناول الطعام، بل مساحة للمشاركة والتآلف.
5. الصيام في الأدب العربي… لغة الروح والجسد
لم يكن الصيام مجرد طقس ديني، بل كان أيضًا موضوعًا مهمًا في الأدب العربي، حيث تناوله الكتّاب والشعراء بوصفه تجربة روحية وجسدية تعكس التوازن بين المادي والمعنوي.
كتب المتصوفة عن الصيام باعتباره وسيلة للوصول إلى النقاء الروحي، حيث قال الحارث المحاسبي:'الصيام جُنةُ العارفين، به تُصفّى القلوب، وتستنير العقول.'
أما الشعراء، فقد أبدعوا في وصف مشاعر الصائم، كما قال أحمد شوقي في رمضان:'الصومُ حرمانٌ مشروعُ … وتأديبٌ وجُوعُوفيه صحَةٌ وقوةٌ … وصبرٌ ورضا وخُشوعُ'
وفي الأدب المسيحي العربي، نجد إشارات كثيرة للصوم كجزء من رحلة الإيمان، حيث يُنظر إليه على أنه جسر يصل الإنسان بالله، وكما جاء في الكتابات القديمة:'الصيام مدرسة التقوى، حيث تصمت الأجساد لتتحدث الأرواح.'
6. الصيام كجسر للتقارب بين الأديان
في زمن تتزايد فيه الحواجز بين الشعوب، يأتي هذا التزامن بين رمضان والصوم الكبير ليذكّرنا بأن الإيمان تجربة إنسانية عميقة تتجاوز الاختلافات الظاهرية. الصيام في الديانتين يعكس القيم نفسها: • التضحية وضبط النفس • التأمل والتقرب إلى الله • التضامن مع الفقراء والمحتاجين
هذه القواسم المشتركة تجعل من الصيام جسرًا للحوار والتفاهم بين الأديان، حيث يمكننا أن نرى كيف تلتقي العقائد في روحها رغم اختلافها في تفاصيلها.
7. لغة واحدة… روح واحدة
عندما نتأمل في هذا التزامن، نكتشف أن اللغة ليست مجرد وسيلة للتواصل، بل هي مرآة تعكس روح الإنسان وعلاقته بالإيمان. فسواء كان المسلم يقول: 'اللهم إني صائم'، أو المسيحي يردّد: 'صومًا مباركًا'، فإن كلاهما يعبران عن ذات الفكرة: الالتزام الروحي، والتعبير عن الإيمان بالكلمات والأفعال.
هذا الحدث الفريد هذا العام يدعونا للتفكير: هل يمكن للصيام أن يكون أكثر من مجرد طقس ديني؟ هل يمكن أن يكون مساحة للالتقاء والتفاهم؟
ختامًا… فرصة للحوار والتعايش
في النهاية، يقدّم هذا التزامن فرصة ذهبية لإعادة النظر في علاقتنا مع الآخر. عندما يصوم المسلم والمسيحي في الوقت نفسه، نرى بأعيننا أن الإيمان رحلة واحدة بأشكال مختلفة، وأن اللغة ليست فقط كلمات، بل جسور تصل بين القلوب.
فهل يمكن أن يكون هذا العام بداية لفهم جديد لدور اللغة في تعزيز التقارب بين الأديان؟ وهل يكون الصيام مناسبة لتذكيرنا بأن ما يجمعنا أكثر مما يفرقنا؟

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


صيدا أون لاين
منذ 11 ساعات
- صيدا أون لاين
جمعية رعاية اليتيم أطلقت حملة 'أضحى الخير 2025'
لمناسبة قرب حلول عيد الأضحى المبارك، أطلقت جمعية رعاية اليتيم في صيدا حملة " أضحى الخير 2025 " لإستقبال التبرعات والأضاحي وإيصالها الى مستحقيها. وتوجه رئيس الجمعية الدكتور سعيد مكاوي بكلمة بالمناسبة جاء فيها: "نتقدم من أهلنا الأحباء في مدينة صيدا ومن جميع الداعمين والمتبرعين الكرام وأسرة الدار بأسمى آيات التهنئة بقرب حلول عيد الأضحى المبارك سائلين الله تعالى ان يعيده بالخير واليمن والبركات ومتمنين لحجاج بيت الله الحرام حجاً مبروراً وسعياً مشكوراً ان شاء الله. منذ تأسيسها في العام 1952، تواصل جمعية رعاية اليتيم رسالتها الإنسانية والإجتماعية والتكافلية تحقيقاً لرؤية المؤسسين في خدمة الإنسان والمجتمع والتي تابعت ولا تزال تجسيد أهدافها من خلال ما أرسته بدعم الخيرين من مراكز ومدارس وما تنفذه من برامج متخصصة وما تحققه من نجاح وريادة وتميز في مجال العمل الاجتماعي. واستمراراً لهذه الرؤية ، وجرياً على عادتها في كل سنة، تطلق جمعية رعاية اليتيم حملة أضاحي العيد لهذا العام تحت عنوان " أضحى الخير" ، احياء وتجسيداً لسنّة الأضاحي بما هي تضحية وعطاء وتقرب الى الله تعالى.وبالمناسبة، تشكر الجمعية كل المتبرعين والمساهمين الكرام ، مؤسسات وأفراداً ، في لبنان وخارجه ، وتؤكد لهم ان استمرارها بأداء رسالتها التكافلية هو بعد فضل الله وبركته وتوفيقه، بفضل مساندتهم الدائمة لها، في كل برامجها في مجال الرعاية التخصصية التربوية والنفسية والإجتماعية لأبناء الفئات الأكثر حاجة ، وتمكينهم بالعلم والمعرفة وتزويدهم بشهادة أو مهنة ليشقوا طريقهم في الحياة العملية نحو مستقبل آمن ومشرق. وكل عام وأنتم بخير". حملة أضحى الخير وأعلنت الجمعية إطلاق حملة " أضحى الخير" لإستقبال التبرعات والأضاحي للعام 2025 . وجاء في بيان صادر عن الجمعية : قال الله تعالى: ﴿لَن يَنَالَ ٱللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ ٱلتَّقْوَىٰ مِنكُمْ﴾ ( سورة الحج: 37). جرياً على عادتها مع اقتراب عيد الأضحى المبارك من كل عام ، وتحقيقاً لرسالتها في رعاية ومساعدة الفئات الأكثر احتياجاً في المجتمع، وبهدف دعم الأطفال الأيتام والعائلات المتعففة، تعلن جمعية رعاية اليتيم في صيدا عن إطلاق حملتها السنوية " أضحى الخير" لإستقبال التبرعات والأضاحي للعام 2025 لإيصالها الى مستحقيها. ويتم ذبح الأضاحي بعد صلاة العيد ويتواصل طيلة أيامه ، وفقًا للضوابط الشرعية والمعايير الصحية. وحددت الجمعية ثمن الأضحية على الشكل التالي : * خروف عويس بلدي : 50-52 كيلو 350$ * عجل أوروبي كامل: 450 كيلو 1820$ * سبع العجل أوروبي: 260$ وبالمناسبة أيضاً ، تواصل الجمعية تنفيذ برنامجها " إدعم أمنيتي بصدقة"، بهدف تحقيق أمنيات أطفالها ، لزرع الفرحة في قلوبهم. فتحقيق حلم صغير يترك أثراً كبيراً . للحجز والتبرع للمشروعين وللمزيد من المعلومات، يُرجى الاتصال على رقم الهاتف: 07720788 / مقسم: 218 - 112 - 114 – 168 . او من خلال التبرع عبر تطبيق موقع الجمعية الإلكتروني وحساباتها على وسائل التواصل الإجتماعي. كما يُمكن للراغبين بالتبرع زيارة مكاتب جمعية رعاية اليتيم في مقرها: مبنى دار الفتاة - مستديرة السراي – صيدا . أضحى مبارك ، وكل عام وأنتم بخير".


النهار
منذ 14 ساعات
- النهار
إختفت سمة الحياء في مجتمعاتنا بعدما كانت دلالة على الوقار والاحترام والنبل، بل غدت أمراً معيباً ونظرة سفيهة لمن يتّصف ويتحلى بها
إختفت سمة الحياء في مجتمعاتنا بعدما كانت دلالة على الوقار والاحترام والنبل، بل غدت أمراً معيباً ونظرة سفيهة لمن يتّصف ويتحلى بها. في الماضي القريب كان الأهل يعلمون أولادهم القيم ومن بينها صفة الحياء والخجل، فعندما يصادفون أحداً يلقون عليه التحية وحينما يتواجدون في حفل مزدحم يتركون المقاعد للأكبر سناً فيبقون واقفين إلا إذا توفرت الأعداد للجميع. في صغرنا كنا كلما التقيت بجدي أقبل يده وأطلب بركته وحينما يتحدث أحدهم ونحن جالسون معه كنا نصغي بصمت وسكون مهيب، فلا نقاطعه أثناء مخاطبته للمجموعة إلا بعد انتهائه من الكلام، فهذه ميزة آداب الحديث بين الناس. كنا ننتظر والدي في المساء أثناء العشاء فلا نبدأ تناول الطعام قبل أن نتلو صلاة الشكر ويمد يده للقمة الأولى. في الماضي القريب كانت الصبية تخجل من الغزل والكلام المعسول ولا تخرج لوحدها في الليل مع رفيقها الشاب والذي كان واجباً عليه ان يزورها في بيت والديها ويطلب السماح منهم للتنزه معاً. بالأمس كان للوالدين الرهبة والاحترام من قبل أولادهما فلا يعلو صوتهم ولا يصرخون في وجه ألأهل، ليس خوفاً بل قناعة مقدسة فيهم بضرورة الرصانة والتقدير لمن ضحوا وتعبوا لأجلهم. في يومياتنا كانت هناك أمور كثيرة نحيا بها ونمارسها بحياء جميل مهذب تظهر فينا مدى الأخلاق والقيم التي تزين الإنسان في أعماقنا وتميزنا عن باقي المخلوقات في هذا العالم، هي سمات زرعها الخالق فينا لنكون من الصالحين والأخيار في هذه الدنيا فنلقى رضى الله والوالدين علينا ونجني كل ثواب ونِعم.


شبكة النبأ
منذ 17 ساعات
- شبكة النبأ
التديُّن الشكليّ.. هل أصبح الأكثر شيوعاً
التديُّن الانتقائي، الذي يظهر من خلال أداء العبادات مثل الصلاة والصوم والحج، وفي الوقت نفسه، هناك إهمال لقيم أخلاقية أساسية مثل النزاهة الاجتماعية أو الأمانة في العمل. وهكذا، فإن التديُّن الانتقائي، أو ما يُعرف أحياناً بـ التديُّن الشكلي، هو ظاهرة نفسية واجتماعية تتجلى في تبني جوانب معينة من الدين... الهوية الدينية أو المذهبية غالباً ما تُختزَل في الانتماء العائلي أو الاجتماعي (مثل الانتساب إلى مذهب أو طائفة دون دراسة وفهم)، والممارسات الشكلية (أداء الصلاة، والصوم، أو اتباع العادات دون حضور القلب)، وأيضاً التمسك بالرموز الخارجية (اللباس، والشعارات، أو الخطابات). بالتالي، هذه الهوية تتبلور الى تديُّن، الذي هو نهاية المطاف، تدين ناتج عن انتماء اجتماعي - ثقافي – تقاليدي أكثر منه تديُّن عَقَدي، وهو تديُّن شكلي أكثر منه إيماني. في المقابل، هناك الانتماء الديني الحقيقي أو التديُّن الحقيقي، وهو إنتماء/تديُّن ناتج عن فَهْم الغاية من الدين، والغاية من العبادة (كالصلاة سبيلٌ لتهذيب النفس، لا مجرد حركات جسدية)، وتحويل القيم الدينية إلى سلوكيات أخلاقية (كالصدق، والعدل، والرحمة، والأمانة، والاحترام)، ثم التفكر في الآيات الكونية والقرآنية لترسيخ الإيمان وصقله والارتقاء به. وهكذا، يجب التمييز بين الدين كـ "إيمان وتديُّن حقيقي" والدين كـ "هوية اجتماعية وتديُّن شكلي"، من خلال أمثلة تاريخية ومعاصرة عن التديُّن الشكلي أو التديُّن غير الحقيقي: أمثلة تاريخية - المنافقون في عصر النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، ذكر القرآن الكريم صفاتهم: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ)(البقرة: 9). كانوا يعلنون إيمانهم، ويشاركون المسلمين في عباداتهم، لكن قلوبهم فارغة من الإيمان، فانتقدهم القرآن الكريم لانفصالهم عن التديُّن الحقيقي أو جوهر الدين. - الخوارج في التاريخ الإسلامي، اشتهروا بالتمسك الحرفي بالنصوص والعبادات، لكنهم انحرفوا عن روح الإسلام حين سفكوا الدماء بحجة "التكفير". رُوي عن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) أنه قال في الخوارج: "أيها الناس إني سمعت رسول الله يقول: يخرج قوم من أمتي يقرؤن القرآن، ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشيء، ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء، ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء، يقرأون القرآن، يحسبون أنه لهم وهو عليهم، لا يجاوز قراءتهم تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية" (بحار الأنوار: ج 33 - ص 329). أي أن الخوارج كانوا يقرأون القرآن الكريم لكن لم يصل إلى قلوبهم ليُغيّر أخلاقهم، وكانوا يصلون ويصومون لكنهم كانوا في أبعد مكان عن الدين، فكان مآلهم أن يقاتلوا علياً بن أبي طالب الذي قال فيه نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله): "هذا أول مَنْ آمن بي، وأول مَنْ يصافحني يوم القيامة، وهذا الصدّيق الأكبر، وهذا فاروق هذه الأمة يفرق بين الحق والباطل، وهذا يعسوب المؤمنين" (*). وقال (صلى الله عليه وآله): "إن هذا أخي، ووصييّ، وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا" (**). فأي إيمان أو تدين لدى هؤلاء "المتدينين" وهو كفّروا وقاتلوا أمير المؤمنين. - تحوّل فقهاء أو علماء الدين إلى أدوات لتبرير سياسات الحكام الظالمين، متناسين وصايا وتحذيرات الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) وقد قال: "ألا إن شر الشر شرار العلماء" (منية المريد: ص 137). وقال (صلى الله عليه وآله): "ويل لامتي من علماء السوء" (الكافي: ج 2 – ص 319). وعنه (صلى الله عليه وآله) لما سئل عن شر الناس، قال: "العلماء إذا فسدوا" (تحف العقول: ص 35). وقال (صلى الله عليه وآله): "سيأتي على أمّتي زمان لا يبقى من القرآن إلّا رسمه، ولا من الإسلام إلّا اسمه، يسمّون به وهم أبعد الناس منه، مساجدهم عامرة وهي خراب من الهدى، فقهاء ذلك الزمان شرّ فقهاء تحت ظلّ السماء، منهم خرجت الفتنة وإليهم تعود" (بحار الأنوار. ج 2 – ص 109). أيضاً، قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) عن علماء الدين المنافقين: "وإنْ حكموا أسرفوا، قد أعدوا لكل حق باطلاً، ولكل قائم مائلاً، ولكل حي قاتلاً.. يقولون فيشبهون، ويصفون فيموهون.. فهم لمة الشيطان، وحمة النيران، أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون" (نهج البلاغة). لاشك، عند هذا النوع من العلماء، الانتماء الديني أو التديُّن "الشكلي" هو مجرد غطاء لتحقيق مصالح دنيوية، ولا شأن لها بقيم الدين ولا مبادئ التديُّن الحقيقي. أمثلة معاصرة - مجتمعات تهتم بالمظهر وتغفل عن الجوهر؛ مثل التركيز على "الحجاب الشكلي" دون مراعاة أخلاقيات التعامل كمن ترتدي الحجاب وتُسيء إلى جيرانها. أو الاهتمام ببناء المساجد الفاخرة بموازة إهمال القيم الإنسانية؛ مثل نصرة المظلوم، ومساعدة الفقراء، ونشر التسامح في المجتمع، وحُسْن التعامل مع الناس، أو مسؤول "متديِّن" يزعم أنه يدافع عن الدين أو الطائفة لكنه يسرق أموال الشعب، الذي أتباع ذلك الدين أو المذهب جزء منه، أو سياسي "متديِّن" يُقسِم على الحفاظ على حقوق شعبه لكنه يخون شعبه ويبيع وطنه. - الخطاب الديني أو الطائفي المُتعصِّب الذي يكرِّس انقسام المجتمع إلى طوائف متكارهة وفئات متناحرة وجماعات متنافرة، فيصبح الانتماء الديني أو المذهبي هوية عدائية تُبرِّر الكراهية، وتكرّس الضغينة، وتقصي قيم التسامح والتعايش والتعاون، بعيداً عن قوله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ (آل عمران: 103). مثال على ذلك، صراعات حول تفاصيل فقهية وتاريخية، بينما يتشاركون في الإهمال الأخلاقي (كترك السعي الى الإصلاح، أو السكوت عن الجور، أو عدم نصرة المظلوم، أو خذلان الفقير والمريض والمحروم، أو الكذب، أو الظلم). - التديُّن الانتقائي، الذي يظهر من خلال أداء العبادات مثل الصلاة والصوم والحج، وفي الوقت نفسه، هناك إهمال لقيم أخلاقية أساسية مثل النزاهة الاجتماعية أو الأمانة في العمل. وهكذا، فإن التديُّن الانتقائي، أو ما يُعرف أحياناً بـ التديُّن الشكلي، هو ظاهرة نفسية واجتماعية تتجلى في تبني جوانب معينة من الدين (غالباً الطقوسية أو المرئية) مع إهمال أو تجاهل القيم الأخلاقية والإنسانية الأساسية التي تشكل جوهر الدين. بالتالي، هو ممارسة الفرد أو الجماعة لبعض مظاهر التدين (كالصلاة، الصوم، الحجاب، الذهاب إلى الحج أو المسجد...) مع تجاهل أو تبرير السلوكيات غير الأخلاقية مثل الكذب، والغش، والظلم، والفساد. هذا النوع من التديُّن لا يُظهِر التزاماً متكاملاً بقيم الدين، بل يختار ما يناسبه، ويُهمّش ما يتطلب تضحية أو مراجعة للذات. - في جانب من كلمته الرمضانية السنوية، في العام الماضي 1445هـ، قال سماحة المرجع الديني السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله): "أتذكّر أنه قبل قرابة سبعين سنة كان الفساد نادراً. فمن يساوينا بالعمر، يتذكّرون ندرة وجود الفساد في ذلك الزمان بين الرجال والنساء. وعلى سبيل المثال: كان الطلاق في ذلك الزمان لا يقع إلاّ بالقليل والقليل، وكان مذموماً. وكذلك كان زواج الشباب والشابات في تلك الحقبة الماضية لا يواجه ما يواجهه اليوم من مشاكل وصعوبات، وكان الطلاق في كل شهر لا يتجاوز ثلاث حالات في كل محافظة كربلاء المقدّسة وحواليها وأطرافها، لكن إحصائيات الطلاق اليوم فاقت حدّ حتى التصوّر واتّسعت دائرته بشكل رهيب، فالكثير من حالات الطلاق تقع اليوم في أيّام الخطوبة والعقد بل وحتى في مراسيم إجراء عقد الزواج!" وأضاف سماحته: "الإحصائيات الكثيرة لعمليات الخطف والقتل والانتحار وتعاطي المخدرات والسرقات والرشاوى ازدادت في المجتمعات البشرية. وخلال ثلاثين سنة من وجودي في مدينة كربلاء المقدّسة لا أتذكّر وقوع حالة واحدة من الانتحار، ولكن نسمع في مجتمع اليوم دائماً انتحار فلان الشخص وآخر وآخر، ويخلقون بانتحارهم ويسبّبون تبعات مؤلمة لوالديهم أو لنسائهم أو لأبنائهم أو لأزواجهم ويتأثّروا به". والعراق من أبرز الأمثلة على التديُّن الشكلي. رغم أنه هذا البلد هو الأكثر بعدد العطل والمناسبات والفعاليات الدينية، على مستوى العالم، إلا أنه وبحسب المنظمات الدولية يحتل الصدارة في قائمة الفساد على مستوى العالم، فيما الفشل يدب في مفاصل الحكومة وعموم الحياة السياسية. بالإضافة الى الفساد في المجتمع من خلال الغش في بيع الأدوية والرشوة واختلاس المال العام، وصولاً إلى المحسوبية والتمييز في التعاملات الحكومية، على سبيل المثال. أيضاً تزايد خطير في تعاطي المخدرات، وارتفاع نسب انتحار الشباب. وبناءً على آخر تقرير لـ "منظمة الشفافية الدولية" عن مؤشر مدركات الفساد (CPI) لعام 2023، (على مقياس من "0 - شديد الفساد" إلى "100 - خالٍ من الفساد") كان الترتيب العالمي لـ: العراق (154 من 180 دولة)، لبنان (149 من 180 دولة)، مصر (130 من 180 دولة)، إيران (141 من 180 دولة)، وتركيا (101 من 180 دولة)، على سبيل المثال. بالتالي، فإن هذه الدول الخمس تعاني من مستويات فساد مرتفعة نسبياً، مع تفاوت في الأسباب، رغم وجود الحالة الدينية واضحة في مجتمعات هذه الدول. في الوقت أن لبنان والعراق من بين الأسوأ في المنطقة العربية، وفقاً لـ مؤشر مدركات الفساد (CPI). كيف يصبح التدين شكلياً؟ فَهْمُ الدين بمعزل عن العقل ما هو إلا تشويه للدين وانحراف في التدين، يقول الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): "مَنْ لا عقل له لا دين له." وهكذا، حين يغيب العقل فإن العبادات والطقوس الدينية تصبح جوفاء، ويصبح التدين مجرد ممارسات شكلية لا تؤثر في السلوك، ولا تضبط الجوارح. فترى الشخص يُصلي ويصوم ويحج ويدعو الناس الى الورع والفضيلة، لكنه يكذب، ويغش، ويظلم، ويرتكب الفساد، وأيضاً يخون شعبه ويخذل بلده. أيضاً، يصبح التديُّن شكلياً أو مزيَّفاً، عندما يتحول إلى مجرد عادات أو تقاليد اجتماعية؛ مثل توارث الأفكار دون بحث أو اقتناع. ويصبح التديُّن شكلياً، عندما يُستخدم لأغراض سياسية؛ كأن ترفع جماعة شعارات دينية للوصول إلى السلطة. كما، يصبح التديُّن شكلياً، عندما يفتقد المراجعة النقدية، ويتحول الى إنسياق بلا حجة وانقياد بلا بيّنة. يُروى أن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) قد وجَّه عتاباً أو نقداً أو توبيخاً لجماعة من شيعته حضروا عنده بأجسادهم دون عقولهم وقلوبهم، فكانوا ساهين ولاهين وغافلين عن إدراك ما كان يقوله (عليه السلام)، وهو ما أغاظ الإمام، حتى أطرق ملياً، ثم رفع رأسه، وقال لهم كلاماً؛ دعاهم فيه الى التمسك بطاعة الله سبحانه، ثم وعظهم ليستردوا عقولهم، ويعودوا الى الإيمان الحقيقي والتديُّن الواعي، ومما قاله (عليه السلام): "إن كلامي لو وقع طرف منه في قلب أحدكم لصار ميتاً. ألا يا أشباحاً بلا أرواح، وذباباً بلا مصباح، كأنكم خشب مسندة وأصنام مريدة" (تحف العقول: ص 291). إن نَقْدَ أو توبيخ الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) لجماعة من شيعته أو لمجتمعات الدينية غير ملتزمة بقيم الدين وروح الإسلام، هذا النقد أو التوبيخ إنما هو تذكير بأن الإيمان/التديُّن ليس هوية تُورَّث أو شكلاً يُقلَّد، بل حركة وعي تُحيي القلب وترتقي بالسلوك الإيماني؛ قولاً وعملاً. فكما أن الشجرة الميتة -وإنْ كانت ضخمة- لا تُثمِر، فإن الانتماء بلا وعي داخلي يصبح فكرة فارغة أو حركة خاوية، كما أن التديُّن بلا فهم لجوهر الدين يصبح بلا مضمون. يقول المرجع الديني المجدد السيد محمد الحسيني الشيرازي (قده): "صحة المبادئ شيء، وتطبيق تلك المبادئ على الواقع شيء آخر، وإذا لم يطبّق الإنسان أعماله على تلك المبادئ الصحيحة، عاش حالة الدروشة." ويقول: "لا الدين وحده، ولا الأخلاق وحدها، بل دين وأخلاق. وهكذا؛ فمَنْ لا فضيلة له، لا دين له، وإنْ صلّى وصام وزكّى وحج، ومَنْ لا دين له، لا فضيلة له، وإنْ جاد وأعطى، وواسى ووفى." بهذا النص، الإمام الشيرازي الراحل يعيد يؤكد أن التديُّن الحقيقي وحدة عضوية بين الإيمان والعمل، وبين الاعتقاد والسلوك، ويحذّر (قده) من اختزال الدين في طقوس أو مظاهر تفتقر إلى العمق الأخلاقي. وهو بذلك يتماهى مع الرؤية القرآنية التي تُعلي من شأن التقوى كمرادف للعمل الصالح؛ (لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ...)(البقرة: 177)، وأيضاً قوله سبحانه: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)(البيّنة: 5). في السياق، قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): "كم من صائمٍ ليس له من صيامه إلا الجوع، وكم من قائمٍ ليس له من قيامه إلا السهر والعناء" (غرر الحكم: ص 4763). وقال (عليه السلام): "إنَّ لأهل الدين علامات يُعرفون بها: صدق الحديث، وأداء الأمانة، والوفاء بالعهد، وصلة الأرحام، ورحمة الضعفاء، وقلة المؤاتاة للنساء، وبذل المعروف، وحسن الخلق، واتباع العلم، وما يقرّب إلى زلفى" (نهج البلاغة – الخطبة رقم 193). إن التديُّن الشكلي ليس جديداً، لكن تحوله إلى ظاهرة أو يصبح التديُّن الأكثر شيوعاً، يعكس أزمة في الفهم الصحيح للدين وتشوّه في التدين، في الوقت أنه يدل على أزمة في التديُّن الحقيقي، وهذه أزمة بالغة الخطورة، وإن هذه الخطورة لن تقف عند حد بل تشتد تداعياتها وتأثيراتها بمرور الأيام. وهكذا، فإن العلاج يبدأ بإعادة تعريف "التديُّن الحقيقي" كوحدة لا انفصام فيها بين العبادة والأخلاق، وبين القول والعمل، فإنما روح العبادة هي مكارم الأخلاق، وإن من التديُّن الحقيقي "احترام الذات"، يقول الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): "مَنْ كَرُمت عليه نفسه لم يهنها بالمعصية" (غرر الحكم: ص 8730)، كما أن من التديُّن الحقيقي "حُسْن السلوك" مع الأسرة والأهل والجيران والأصدقاء والمجتمع، بل مع الجميع، يقول الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): "ينبغي للمؤمن أن يكون فيه ثمان خصال: وقورٌ في الهزاهز، صبورٌ عند البلاء، شكورٌ عند الرخاء، قانعٌ بما رزقه الله، لا يظلم الأعداء، ولا يتحامل للأصدقاء، بدنه منه في نَصَب، والناس منه في راحة، وإن العلم خليل المؤمن، والحلم وزيره، والصبر أمير جنوده، والرفق أخوه، واللين والده" (الخصال: ص 406). وإن التديُّن الحقيقي هو الذي وصفه الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) حيث قال: "المؤمن مَنْ طاب كسبه، وحسنت خليقته، وصحَّت سريرته، وأنفق الفضل مِنْ ماله، وأمسك الفضل مِنْ قوله، وكفى الناس شره، وأنصف الناس مِنْ نفسه" (الكافي: ج 2 - ص 235). إذن؛ أين غالبية الناس مِنْ هذه الصفات؟! أو أين غالبية الناس مِْن بعض هذه الصفات؟!!! ..................................... (*) أخرجه الطبراني في الكبير، وأخرجه البيهقي في سننه، وابن عدي في الكامل، وهو الحديث 2608 من أحاديث الكنز: ص 156 ج 6. (**) راجع تاريخ الطبري ج 2 ص 217، وتاريخ ابن الأثير ج 2 ص 22، وتاريخ أبي الفداء ج 1 ص 116، مسند أحمد بن حنبل ج 1 ص 111، والمستدرك للحاكم ص 159 ج 1).